المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: دلالة السياق من سورة "الروم" الذي ورد فيه إثبات المثل الأعلى لله تعالى - الأمثال القرآنية القياسية المضروبة للإيمان بالله - جـ ٣

[عبد الله بن عبد الرحمن الجربوع]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌الباب الثالث: الأمثال المضافة إلى الله تعالى

- ‌الفصل الأول: في النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى

- ‌المبحث الأول: في دلالة السياق الذي ورد فيه النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى

- ‌المبحث الثاني: المراد بالأمثال التي نهي عن ضربها لله عز وجل

- ‌المبحث الثالث: في أهم الفوائد المستفادة من النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى

-

- ‌الفصل الثاني: في ثبوت تفرد الله بالمثل الأعلى ونماذج مما جرى على قياس الأولى من الأمثال

- ‌المبحث الأول: في دلالة السياق الذي ورد فيه إثبات المثل الأعلى لله تعالى

- ‌المطلب الأول: في دلالة السياق من سورة "النحل" الذي ورد فيه ثبوت المثل الأعلى لله تعالى

- ‌المطلب الثاني: دلالة السياق من سورة "الروم" الذي ورد فيه إثبات المثل الأعْلَى لله تعالى

- ‌المبحث الثاني: في المراد بالمثل الأعلى ومعنى الآيات الدالة على ذلك

- ‌المطلب الأول: في المراد بالمثل الأعلى لله تعالى

- ‌المطلب الثاني: في معنى قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}

- ‌المطلب الثالث: في معنى قوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعِيده وهو أهون عليه وله المثل الأَعلى في السماوات والأرض وهو العزِيز الحكيم}

- ‌المبحث الثالث: في دلالة ثبوت المثل الأعلى لله تعالى على قاعدة قياس الأولي

- ‌المطلب الأول: في بيان المطلبين اللذين يمكن إثباتهما بقاعدة قياس الأولى، ويدل عليهما ثبوت المثل الأعلى لله تعالى

- ‌المطلب الثاني: بيان المراد بالكمال الذي يثبت لله بهذه القاعدة

- ‌المطلب الثالث: كيفية تطبيق قاعدة قياس الأولى على الأمثال القرآنية

-

- ‌المبحث الرابع: نماذج من الامثال الجارية على قياس الاولى

- ‌المطلب الأول: في بيان الحجة في قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}

- ‌المطلب الثاني: في بيان الحجة في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}

- ‌المطلب الثالث: في بيان الحجة في قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

- ‌المبحث الخامس: أهم الفوائد التي دل عليها ثبوت المثل الأعلى لله تعالى

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المطلب الثاني: دلالة السياق من سورة "الروم" الذي ورد فيه إثبات المثل الأعلى لله تعالى

‌المطلب الثاني: دلالة السياق من سورة "الروم" الذي ورد فيه إثبات المثل الأعْلَى لله تعالى

.

إن النظرة العامة لسورة "الروم" التي ورد فيها قول الله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، تبين أنه يمكن تقسيم السورة إلى قسمين باعتبار القضايا التي تطرقت لها السورة، وأن الحد الفاصل بين القسمين هو الآية التي ورد فيها إثبات المثَلِ الأعْلَى لله تعالى، والتي تقع في منتصف السورة تقريبا.

وذلك أن السورة ركزت على قضيتين هامتين وما يتصل بهما، وهما:

(الأولى) قضية البعث بعد الموت، وذكر أدلته.

(الثانية) قضية التوحيد، والأمر بإقامة الدين الخالص والاجتماع عليه، والتحذير من الشرك، وإبطاله.

وركز القسم الأول من السورة على القضية الأولى، والقسم الثاني على القضية الثانية، وإن كان كل قسم لا يخلو من الإشارة إلى كلا القضيتين، وجاءت آية الوسط التي ورد فيها قوله:{وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} لتربط بين القضيتين بأسلوب عظيم، ومعان دقيقة تبرز عظمة القرآن وبديع نظمه وإعجازه.

ص: 889

وسأستعرض فيما يلي دلالة الأسلوب في كل من القسمين، وعلاقة الآية التي ورد فيها إثبات المثَلِ الأعْلَى لله بكل منهما. والله المستعان.

أولا: دلالة القسم الأول من السورة:

سورة "الروم" من السور المكية التي غلب عليها مجادلة مشركي قريش خاصة في أمر توحيد الألوهية، والبعث بعد الموت، ووجوب إخلاص الدين لله ومن الله، ونحوها من قضايا الاعتقاد.

وقد بدأ السياق في التعرض لذلك بذكر مجمل للقضيتين المشار إليهما قريبا: قضية البعث بعد الموت وما يتصل بها، وقضية التوحيد والنهي عن الشرك وما يتصل بها، وهما القضيتان اللتان أنكرهما كفار قريش وغيرهم من العرب أشد الإنكار.

قَال تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ المُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ} 1.

ثم ذكر سبحانه مصير الفريقين من المؤمنين والمشركين يوم القيامة.

1 سورة الروم آية (11-13) .

ص: 890

مبيناً أن الذين وحدوا الله وعبدوه وآمنوا بالبعث بعد الموت جزاؤهم الجنة، وأن الكافرين الذين أشركوا بالله، وكذبوا بالبعث ولقاء الله جزاؤهم النار. ثم أخذت الآيات تناقش القضية الأولى، قضية البعث بعد الموت، حيث ذكر الله دلائل إمكان البعث العقلية.

ومضمار الاستدلال هي آيات الربوبية، وما يشاهده الناس من آثار أفعاله سبحانه، وقد كثر ذكر دلائل الربوبية في القسم الأول من السورة بغرض الاستدلال على قدرة الله على البعث.

فقد ذكر الله ما يدل على شمول ربوبيته، وأهم خصائصها من الملك، والخلق، والأمر الكوني التي يتم بها تدبير الكون وما فيه.1

أشار سبحانه إلى تفرده بالملك بقوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 2.

وإلى الأمر الكوني بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الأَرْضِ إِذَآ أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} 3.

1 انْظر: ص (834) . وما بعدها.

2 سورة الروم آية (26) .

3 سورة الروم آية (25)

ص: 891

وقبل ذلك بقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} 1.

أما حديث الآيات عن صفة الخلق، ومظاهرها في الكون، فقد كان واسعا في ذلك السياق لأمرين:

الأول: أن البعث بعد الموت - الذي يستدل له بتلك الآيات - من آحاد تلك الصفة.

الثاني: ما تقدم من أن جميع صفات الله الفعلية المتعلقة بربوبية الله وتدبيره للخلائق تعود إلى صفة الخلق.2

وقد بدأ - سبحانه - السياق للاستدلال للبعث بعد الموت بما يشاهد من آثار خلقه بقوله: {اللَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3.

وختمه بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} 4.

وقد تقدم بيان ما يدل عليه مثل هذا الأسلوب. وخلاصته:

1 سورة الروم آية (4) .

2 انْظر: ص (835) .

3 سورة الروم آية (11) .

4 سورة الروم آية (27) .

ص: 892

"وهذه الطريقة: وهي أن يبدأ السياق الذي يضم جملة من الآيات: ويختم بنفس المعنى مع التقارب في الألفاظ، له دلالة هامة، حيث يدل على أن ما بين الآيتين - المبدوء والمختوم بها - يتكلم عن قضية واحدة أو أن ما يذكر في ذلك السياق له علاقة بالمعنى المشترك بين آيتي البدء والختام.

وهذه الطريقة من روائع البيان القرآني. وقد تكررت في القرآن في مواضع لبيان قضايا هامة"1.

"وهذا الأسلوب جدير بأن يراعى في التفسير على أساس أن ما بين الآيتين - المبدوء والمختوم بهما - يتكلم عن قضية واحدة، أو له علاقة بالمعنى الذي دلت عليه آيتا البدء والختام"2.

وسوف يتكرر هذا الأسلوب في هذه السورة - سورة الروم - في القسم الثاني من السياق، في بيان قضية هامة أخرى، هي قضية التوحيد، والأمر بالاستمساك بها، وبما تستلزمه من الأعمال الصالحة، والتحذير من الشرك والعصيان، وبيان عاقبة التوحيد الحسنة في الدنيا والآخرة، وعاقبة الشرك والعصيان السيئة في الدنيا والآخرة.

وقد تضمنت الآيات المحصورة بين آيتي البدء والختام في القسم الأول من السورة، ذكر الأدلة العقلية على البعث بعد الموت، بما يشاهد

1 تقدم، ص (454) .

2 تقدم، ص (456) .

ص: 893

من آثار ربوبية الله وخلقه.

واشتمل هذا المقطع من السياق على ثلاثة أنواع من الأدلة العقلية هي:

الأول: القياس التمثيلي، المتمثل بتشبيه بعث الناس بعد موتهم بحياة الأرض بعد موتها. قال الله تعالى:{يُخْرِجُ الحَيَّ مِنْ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنْ الحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} 1.

الثاني: قياس الأولى، المتمثل في أن من كان قادرا على خلق الأعظم فقدرته على ما دونه في الخلق تكون من باب أولى.

وذلك أن الله ذكر خلق السموات والأرض وما فيهما من المخلوقات العظيمة - التي هي أعظم من إعادة خلق الناس، وبعثهم من قبورهم - وذكر قيامهما بأمره - سبحانه - فتكون إعادة خلق الناس، وقيامهم بأمره واقع من باب أولى.

قَال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

} إلى قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ

1 سورة الروم آية (19) .

ص: 894

تَخْرُجُونَ} 1.

الثالث: قياس الأولى. المتمثل فيما استقر في العقول، مِنْ أنّ مَنْ صنع شيئاً، فإنه يكون قادراً على إعادة صنعه من باب أولى وهي أهون عليه.

فلو طبقوا هذه القاعدة المستقرة في عقولهم لتوصلوا إلى إثبات إمكان البعث، إذ أن المعيد للخلائق هو الذي خلقهم أول مرة، فعلى ذلك الحكم عندهم يكون أهون عليه، وإن كان الله تعالى كل شيء عنده هين.2

قَال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 3.

نوع القضيتين المستدل بها ولها:

لقد جرى الاستدلال في الأدلة العقلية القياسية المتقدمة من أجل إثبات قضية مشتركة هي البعث بعد الموت، أو إعادة خلق الناس يوم

1 سورة الروم آية (22-25) .

2 انْظر: جامع البيان، لابن جرير، (10/179، 180) .

3 سورة الروم آية (27) .

ص: 895

القيامة.

أما القضايا المستدل بها، فهي مختلفة.

ففي الدليل الأول هي: إعادة خلق النبات بعد موته.

وفي الثاني: قدرة الله على خلق السموات والأرض ومن فيهن وتدبير أمورهم بأمره الكوني.

وفي الثالث: خلق الناس أول مرة.

ويلاحظ - وهذا أمر هام - أن كلّ القضايا المستدل لها والمستدل بها هي آحاد لصفتي الخلق والقدرة لله تعالى.

وهذا يدل على أن مشركي العرب يثبتون لله صفة الخلق، لكنهم لا يثبتون له كمالها وشمول قدرة الله وخلقه لكل شيء.

وهذا المعنى قد بينه الله من حالهم في صفة أخرى، هي صفة العلم، حيث قَال:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلآ أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُون َ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الخَاسِرِينَ} 1.

وهذا هو السر - والله أعلم - في كثرة الآيات التي تبين إحاطة

1 سورة فصلت الآيتان (22-23) .

ص: 896

علمه بكل شيء، وخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، كما في قوله تعالى:{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1.

وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3.

وتكررت بلفظها ومعناها كثيرا جداً.

وهذه حالهم في كثير مما أقروا به لله تعالى؛ حيث يقرون بربوبية الله لكن يجادلون في البعث بعد الموت مثلا وهو من آحادها.

ويقرّون بألوهية الله، ويصرفون له أنواعاً من العبادة، لكنهم يجعلون له الشركاء في العبادة.

ويقرون بصفة العلم، لكنهم يظنون أنه لا يعلم كثيراً مما يعملون. ولذلك ونحوه قَال الله عنهم:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 4.

وهذا القصور في معرفة الله وحقه، كان من أهم أسباب ضلالهم

1 سورة البقرة آية (282) وغيرها.

2 سورة الزمر آية (62) .

3 سورة البقرة آية (20) وما بعدها.

4 سورة الأنعام آية (91) ، الحج آية (74) ، الزمر آية (67) .

ص: 897

وترديهم.

{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الخَاسِرِينَ} 1.

ونتيجة هذا الاعتبار هي:

دلالة السياق على أن مشركي العرب ونحوهم يصفون الله بصفات موافقة في أصلها لما هو ثابت لله تعالى، إلاّ أنهم لا يبلغون في إثباتها ما يليق بالله تعالى.

فهم يثبتون لله من تلك الصفات أدنى مما هو ثابت له سبحانه، والله تعالى يبين لهم أن له المثَلَ الأعْلَى وأن له من تلك الصفات كمالها الذي لا يدانيه فيها غيره سبحانه، ولا يعجزه معه شيء. فقال سبحانه:{وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم} .

كما يستنتج من دلالة السياق: أنه نتج عن جهلهم بالله وما تولد عنه من ظنون سيئة، تكذيبهم بالبعث بعد الموت، بسبب الأقيسة الفاسدة التي قاسوا بها صفات الله تعالى على صفاتهم أو على ما يشاهدونه ويعقلونه، فزعموا بذلك أن لا أحد يقدر على إعادتهم إذا أرموا.

والله تعالى يبين لهم في مقابل ذلك، الأقيسة الصحيحة، الدالة على البعث، وتوجب لمن تأملها استشعار عظمة الله وعظمة صفاته. ويلفت

1 سورة فصلت آية (23) .

ص: 898

الانتباه بتلك الأمثال، وبقوله تعالى:{وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} : إلى أن كل مثل صحيح يوافق ما هو ثابت له سبحانه من الكمال الأعلى في صفاته وأفعاله، مما دل عليها الكتاب والسنة، فهو له سبحانه، منسوب إليه، وهو أولى به.

ومما تقدم تبين علاقة قوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} بما تقدمها من بيان صفات الله، وعظمتها، وآثار ربوبيته المستدل بها على البعث بعد الموت، وما ورد من الأقيسة المضروبة لذلك الجارية على قياس الأولى. ويؤكد هذه العلاقة ذكر واحد من أحد تلك الأدلة العقلية في نفس الآية التي أثبت الله فيها لنفسه المثَل الأعْلَى وهي قوله:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} .

خلاصة ما دل عليه هذا الجزء من السياق:

تبين أن القسم الأول من سياق سورة "الروم" ناقش قضية البعث بعد الموت التي أنكرها مشركو العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتركيز على ذكر الدلائل العقلية على إمكان البعث. وكان محور الاستدلال على ذلك هو مظاهر ربوبية الله، وآثار أفعاله التي يشاهدها الناس، وذكر أهم خصائص الربوبية من تفرد الله بالملك، والأمر الكوني، والخلق والتدبير،

ص: 899

التي توجب لمن تأملها القطع بقدرة الله العظيمة على كل شيء، وأنه لا يعجزه شيء، ومن ذلك البعث بعد الموت.

وقد ذكر في هذا السياق ثلاثة أدلة عقلية على إمكان البعث بعد الموت هي:

1-

القياس التمثيلي: بقياس إمكان إحياء الناس بعد موتهم على ما يشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها.

2-

قياس الأَولى: المتمثل بكون القادر على خلق العظيم وتدبيره كالسموات والأرض وما فيهما، قادر على خلق ما دون ذلك كبعث الناس من باب أولى.

3-

قياس الأَولى: المتمثل في أن الذي خلق الناس أول مرة يكون قادراً على إعادة خلقهم مرة أخرى من باب أولى.

واستنتج من هذه الأدلة أن القضية المستدل لها، والقضايا المستدل بها جميعها من آثار صفة الخلق. مما يدل على أن المشركين يثبتون لله أصل صفة الخلق، لكن لا يثبتون له كمالها وشمولها، وأن الله قادر على خلق كل شيء يريده سبحانه. وهذه حالهم في كثير مما يثبتونه لله كالألوهية والعلم، ونحوها. فهم يثبتون لله من تلك الصفات أدنى مما هو ثابت له - سبحانه -. والله تعالى يبين لهم أن له المثل الأعْلَى، وأن له من تلك الصفات وغيرها من صفات الكمال كمالها الذي لا يدانيه فيها غيره، ولا يعجزه معها شيء.

ص: 900

كما يستنتج من السياق: أن الله تعالى ضرب لهم تلك الأدلة العقلية المتضمنة للقياس الصحيح ليبطل تلك الأقيسة الفاسدة التي توصلوا بها إلى التكذيب بالبعث حيث قاسوا قدرة الله على الخلق على أنفسهم، وما يشاهدونه من أن من مات لا يعود.

ويوجب لهم تأمل تلك الأدلة القطع بأن الله على كل شيء قدير، وأن البعث عليه يسير.

كما يلفت الانتباه - سبحانه - بتلك الأمثال المضروبة، والأدلة المعقولة إلى أن كل مثل صحيح يوافق ما هو ثابت له سبحانه من الكمال فهو له، ينسب إليه، ويجوز أن يضرب له وهو أولى به. والله أعلم.

ص: 901

ثانيا: دلالة القسم الثاني من سياق سورة "الروم":

تقدم أن سورة "الروم" خصصت للكلام على قضيتين وما يتصل بهما، هما:

1-

قضية البعث بعد الموت، وتطرق لها السياق في القسم الأول من السورة، وتقدم الكلام عليه.

2-

قضية التوحيد، والأمر بإقامة الدين الخالص والاجتماع عليه، والتحذير من الشرك وإبطاله، وجرى بيان ذلك في القسم الثاني من سياق السورة.

وهذا القِسم من السياق يبدأ من الآية التي انتهى بها القِسم الأول من السورة وهي قوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم} .

وتقدم في الكلام على القسم الأول أن قوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} لها علاقة بالقضية التي جرى بيانها في أول السورة، قضية البعث بعد الموت، كما لها علاقة بالقضية التي جرى بيانها في القسم الثاني من السورة قضية التوحيد وإبطال الشرك، وتقدم في الكلام على القسم الأول بيان شيء من علاقتها بقضيته.

ومن ذلك ما ختمتُ به التأمل في القسم الأول من السياق، فإنه

ص: 902

صالح أن يبدأ به تأمل القسم الثاني منه.

وهو ما يستنتج من السياق من: "أن الله تعالى ضرب لهم تلك الأدلة العقلية المتضمنة للقياس الصحيح، ليبطل تلك الأقيسة الفاسدة التي توصلوا بها إلى التكذيب بالبعث، حيث قاسوا قدرة الله على الخلق على أنفسهم أو ما يشاهدونه من أن من مات لا يعود.

وتوجب لهم تلك الأدلة القطع بأن الله على كل شيء قدير وأن البعث عليه يسير.

كما يلفت الانتباه - سبحانه - بتلك الأمثال المضروبة، والأدلة المعقولة، إلى أن كل مثل صحيح يوافق ما هو ثابت له - سبحانه - من الكمال فهو له، ينسب إليه، ويضرب له، وهو أولى به".

وكما ضرب - سبحانه - أمثلة وأدلة عقلية على إمكان البعث - القضية الأولى - قبل قوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} ، ضرب مثالا ودليلا على بطلان الشرك ووجوب التوحيد - القضية الثانية – بعده، مما يؤكد تلك العلاقة المتقدمة بين ضرب الأمثال العليا المثبتة لله الكمال، والمتضمنة للقياس الصحيح، وبين قوله تعالى:{وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} .

قَال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ

ص: 903

هَلْ لَكُمْ مِّنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1.

وفي قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ

} الآية، شرع سبحانه في مناقشة القضية الثانية التي يجادل لها المشركون، وهي تجويزهم الشركاء لله في العبادة، وإنكارهم التوحيد.

وهذا المثل يتضمن دليلا عقليا على بطلان الشرك بقياس الأولى.

وخلاصة هذا الدليل:

إن من المقرر لدى المخاطبين وجميع العقلاء كراهية السيد الغني مشاركة عبده له، ونفوره من ذلك، حيث لا يقبل أن يشارك إلا من كان كفُؤاً له. فإذا تقررت هذه القاعدة فيجب أن يحكم له بها. بل هو أولى بهذا الحكم لكمال سؤدده وغناه، فيعتقد كراهته لأن يكون أحد من عبيده شريكا له في العبادة. واستحالة أن يتخذ أحدا منهم شريكا، ولكونه ليس له كفُؤٌ ولا ند فيبطل بذلك الشرك من أساسه.

ولهذا الاعتبار نجد أن الله تعالى ذكر آثار ربوبيته وتدبيره لخلقه، ليبين تفرده بخصائص الربوبية والألوهية، وليقطع بذلك شبهة أن يكون له ند يكافِئُه، وبذلك ينقطع أساس الشرك، ويدل على هذا - وهو نفي

1 سورة الروم آية (27-28) .

ص: 904

المماثل - قول الله تعالى في السورة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَآئِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.

وبعد أن أدحض الشرك بهذا المثل، بين - سبحانه - أن المشركين ليس لهم مستند على شركهم إلا اتباع الهوى بغير علم. وأن الله أضلهم لضلالهم واتباعهم الهوى وإعراضهم عن الهدى. قَال تعالى:{بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوآ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 2.

ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه بإقامة الدين لله وحده، والإخلاص في عبادته، والإعراض عن طريق المشركين الضالين المختلفينَ. قَال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 3.

وفي مجيء قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا

} الآيات، بعد

1 سورة الروم آية (40) .

2 سورة الروم آية (29) .

3 سورة الروم آية (30) .

ص: 905

إثبات المثل الأعْلَى له وحده سبحانه مناسبة هامة هي: بيان أن إقامة الدين، وإخلاص العبادة لله هي ثمرة العلم، وإثبات المثَلِ الأعْلَى لله وحده. فمن أثبت لله المثل الأعْلَى، عمر قلبه بالتوحيد، وعندها يقيم دينه، وحياته، وكل أحواله لله، وعلى منهج الله.

والدين القيم هو: الإخلاص في عبادة الله، وعدم صرف أي شيء من العبادة لغيره سبحانه، كما يبين ذلك بقوله:{وَمَآ أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} 1.

وبقوله تعالى: {إِنْ الحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوآ إِلآَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 2

وقد بيّن الله هذا المعنى فيما تلا ذلك من السياق حيث أمر بجملة من العبادات، واشترط لقبولها والانتفاع بها الإخلاص عائباً في أثناء ذلك على المشركين الذين يعبدون معه غيره، قَال تعالى:{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنْ المُشْرِكِينَ} 3.

1 سورة البينة آية (5) .

2 سورة يوسف آية (40) .

3 سورة الروم آية (31) .

ص: 906

ففي قوله: {وَلَا تَكُونُوا مِنْ المُشْرِكِينَ} أمْرٌ بالإخلاص في تلك العبادات ونهْيٌ عن الشرك.

وقال تعالى: {فَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ المُفْلِحُونَ} 1.

فقوله: {خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ

} الآية، بيان أن الفلاح والانتفاع بتلك الأعمال موقوف على الإخلاص وإرادة وجه الله بها.

وقال تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ المُضْعِفُونَ} 2.

قوله: {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} ، فيه بيان أن الإخلاص وإرادة وجه الله بهذه العبادة العظيمة شرط في قبولها وحصول المضاعفة لصاحبها.

ثم ذكر سبحانه دليلا على تفرده بالألوهية لتفرده بالربوبية ذاكراً أن كل من جعل إلها من دونه ليس له شيء من الربوبية فعبادته باطلة، ونزه نفسه سبحانه أن يكون له شريك.

قَال تعالى:

1 سورة الروم آية (38) .

2 سورة الروم آية (39) .

ص: 907

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَآئِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.

ثم بيّن - سبحانه - أن كل ما يحصل من فساد في البر أو البحر إنما هو بسبب التفريط بهذا الأصل، ويكون ذلك: بعدم الإخلاص له في العبادة، أو بعدم إخلاص تلقي العبادات والتشريعات من وحيه، أو بترك عبادته أصلاً، قَال تعالى:{ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2.

ثم ختم السياق الذي بدأه بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا

} بمثل ما بدأه به، حيث قَال:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} 3.

وتقدمت الإشارة إلى هذا النوع من الأسلوب عند الكلام على

1 سورة الروم آية (40) .

2 سورة الروم آية (41) .

3 سورة الروم آية (43) .

ص: 908

القسم الأول من سياق سورة "الروم".

والقضية التي يتحدث عنها السياق بين آيتي البدء والختام هي الأمر بملازمة الدين القيم، وبيان أن الدين القيم هو الذي يقوم على عبادة الله والإخلاص له فيها، ومجانبة الشرك، وذكر بعض ما يتصل بذلك.

ثم استمر السياق يناقش القضيتين اللتين وقع فيهما مشركو العرب وجادلوا فيهما النبي صلى الله عليه وسلم واللتين ركزت عليهما السورة، وهما:

1-

اتخاذهم الأنداد والشركاء لله في العبادة.

2-

إنكارهم البعث بعد الموت.

وذلك بذكر وعيد شديدٍ لهؤلاء المشركين يوم القيامة، وذكر مزيد من الأدلة على قبح الشرك.

فتفرد الله بالربوبية والإنعام، ومقابلة ذلك بعبادة غيره قبيح في العقول السليمة.

ثم أعاد أول دليل ذكره في أول السورة على إمكان البعث وهو الجاري على قياس التمثيل حيث إنه أسهل القياس، ويشاهده كل الناس.

وقد جمع الله بين دليل البعث والذي قبله في آيات بديعة، حيث قَال- سبحانه -: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا

ص: 909

هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنْتَ بِهَادِي العُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} 1.

وختم الله السورة ببيان أنه سبحانه ضرب للناس في القرآن الكريم من كل مثل يحتاجه الناس لبيان ما أراده منهم وشرعه لهم من الدين، ومن ذلك ما ورد في هذه السورة من الأمثال التي فصل فيها البراهين الدالة على البعث بعد الموت، وبطلان الشرك، وتفرد الله بالألوهية.

وهذه الأمثال إنما ضربت ليستدلوا بها على عظمة الله وعظمة صفاته، فهي أمثال عالية حسنة لما تدل عليه من إثبات المثل الأعْلَى لله تعالى.

وبإثباته لله تنقطع كل شبهة مماثلة بين الله تعالى وغيره ممن عبد من دونه، ويثبت كمال أفعاله وقدرته على كل شيء ومن ذلك بعث الناس بعد الموت.

1 سورة الروم آية (48-53) .

ص: 910

ثم بيّن السياق حال الكفار مع تلك الأمثال، وأنهم يصدون عن تدبرها ويكذبون بها، وفعلهم ذلك من أسباب طبع الله على قلوبهم.

قَال الله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوآ إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ مُبْطِلُونَ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} 1.

خلاصة دلالة هذا المقطع من السياق:

تبيّن مما تقدم أن القسم الثاني من سورة الروم - الذي بدأ من قوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم} إلى آخر السورة، دل على أمور كثيرة من أهمها:

1-

دلالة قوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} على أن لله من صفات الربوبية والألوهية وسائر صفاته، أكملها وأعلاها، بكيفية كائن بها متفرداً لا يشاركه غيره في شيء منها.

2-

إيراد مثال يدل على بطلان الشرك، وعبادة غير الله، جار على قياس الأولى في قوله تعالى:{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ....} الآية.

3-

بناء على ما تقدم من قيام الدليل على تفرد الله بالألوهية، وعلى

1 سورة الروم آية (58 - 59) .

ص: 911

بطلان الشرك واتخاذ الآلهة مع الله، تكون ثمرة العلم بذلك إقامة الدين وإخلاص العبادة لله وحده، والإعراض عن المشركين ودعاويهم الباطلة، فهذه حقيقة حال من قام المثل الأعلى في قلوبهم لله تعالى.

قَال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا

} الآية.

4-

بيان حقيقة دين الله، وأنه الدين القيم، القائم على التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، إذ هي ثمرة اعتقاد تفرد الله بالمثل الأعلى.

وذكر بعض الأدلة العقلية على تفرد الله بالربوبية مما يدل على وجوب إفراده بالألوهية والتعبد.

5-

قوله تعالى في آخر السورة: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَل ٍ

} الآية، إشارة إلى ما ورد في هذه السورة من البراهين والحجج على إمكان البعث بعد الموت، وعلى تفرد الله بالربوبية والألوهية، والمثل الأعلى.

وفيه أيضا إشارة إلى ما ضرب في السورة من الأمثال الحسنة التي يستدل بها على عظمة الله وعظمة صفاته، وثبوت المثل الأعْلَى له سبحانه.

ص: 912