الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: المراد بالأمثال التي نهي عن ضربها لله عز وجل
.
اختلف المفسرون في المراد بالأمثال التي نُهي عن ضربها لله تعالى، في قوله:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} . وتبعا لذلك اختلفت أقوالهم في المراد بقوله تعالى في ختام الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، التي هي تعليل للنهي.
وحاصل أقوالهم يرجع إلى قولين:
أولاً: أن المراد بالأمثال جمع مِثْل. وهو المماثل، والمكافئ، والند والشريك، والنهي عن ضرب الأمثال، المراد به: النهي عن الشرك واتخاذ الأنداد. سواء في ذلك:
أن يُجعل له أندادٌ مماثلون له في الذات أو الصفات.
أو أن يُعتقد أن له أندادا يماثلونه في شيء من الربوبية والأفعال.
أو أن يُتخذ معه أندادٌ يماثلونه في الألوهية واستحقاق العبادة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية: "يعني اتخاذهم الأصنام، يقول: لا تجعلوا معي إلها غيري، فإنه لا إله غيري"1.
وقال قتادة رحمه الله في الآية:
1 انْظر: جامع البيان، لابن جرير، (7/621) .
"فإنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد"1.
وقال ابن جرير رحمه الله: "فلا تمثلوا له الأمثال، ولا تشبهوا له الأشباه، فإنه لا مثل له ولا شبه"2.
واختار هذا المعنى كثير من المفسرين.3
وتقدم في دلالة السياق ما يدل على هذا المعنى. حيث إن السورة ناقشت قضية الشرك في عبادة الله، واعتقادهم أن الملائكة بنات الله ونحو ذلك. ويؤكد هذه الدلالة الآية التي قبل النهي عن ضرب الأمثال لله، والتي يعيب الله فيها على من يشرك في عبادته، حيث قال:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 4.
ويكون معنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، على هذا القول:
1 جامع البيان (7/621) .
2 المرجع السابق.
3 انْظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير، (2/578) ومعالم التنزيل للبغوي، (5/32) ، وأضواء البيان للشنقيطي، (3/296) وغيرهم.
4 سورة النحل الآيتان (73-74) .
إن الله يعلم حقيقة الأمر وأنه لا شريك له ولا ند ولا مثيل، ويعلم بطلان ما هم عليه وأنهم ليسوا على شيء، كما قال سبحانه في موضع آخر:{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1.
{وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} : أي والمشركون لا يعرفون الله حق معرفته، لذلك أشركوا معه غيره وجعلوا له أنداداً وضربوا له أمثالا، وفعلهم هذا عن توهم فاسد، وخاطر باطل، وخيال مختل. كما أنهم لا يعلمون ما في عبادتهم من سوء العاقبة، والتعرض لعذاب الله.2
ثانياً: من قال إن المراد بها الأمثال القولية، التي تورد للتعريف بالله، التي تقوم على المقايسة والاستدلال بحال على حال.3
ويشهد لهذا المعنى ما يلي:
1-
ما تقدم في دلالة السياق أنه معلوم من حال المشركين - الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم عارضوا الدعوة واستدلوا على صحة الشرك بأمثال اخترعوها.
1 سورة العنكبوت آية (42) .
2 فتح القدير للشوكاني، (3/179) .
3 انْظر: فتح القدير للشوكاني، (3/179) ، وروح المعاني للألوسي (14/195) ، والتفسير الكبير للرازي، (19/83) .
2-
أن الله ضرب مثلين بعد النهي عن ضرب الأمثال له سبحانه، فهو - سبحانه - جاء بمثلين من الحق بعد أن نهاهم عن الأمثال الباطلة ففيه دلالة لمن قال: إن المراد من النهي هي الأمثال القولية التي تضرب للبيان أو المحاجة.
واختلفوا في المراد بالنهي عن ضربها، وأشهر أقوالهم في ذلك قولان:
(الأول) من قال إن الله نهى عن ضرب الأمثال له مطلقاً.
وقالوا إن النهي معلل بعدم علم الناس، حيث قال:{وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فمن ضرب لله مثلا فإنه يكون عن غير علم.
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: "وقد منع الله تعالى عن ضرب الأمثال بقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} ثم نبه أنه قد يضرب لنفسه المثَل ولا يجوز أن نقتدي به"1.
وقال أبو بكر بن العربي رحمه الله: "وقد ضرب الله الأمثال لنفسه على وجه بديع.... ولم يأذن لأحد من الخلق فيه، وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} "2.
1 المفردات في غريب القرآن، (ص 462) .
2 أحكام القرآن، (3/1164) .
وعلل بعضهم النهي عن ضربها بأن ضربها لله يكون بمثابة تعليم الله بما له من الأوصاف أو الشركاء، أو ما ينبغي له من الدين.. وهذا باطل.
"فإن ضرب المثَل إنما يستعمل من العالم لغير العالم، ليبين له ما خفي عنه، والله تعالى هو العالم وأنتم لا تعلمون. فتمثيل غير العالم للعالم عكس للحقيقة"1.
فتكون على هذا بمعنى قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلآءِ شُفَعَآؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2.
"فالعباد يحتاجون إلى ضرب الأمثال لمَّا خفيت عليهم الأشياء
…
فأما من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فلا يحتاج إلى الأمثال، تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً"3.
(الثاني) من قال: إن المراد النهي عن ضرب الأمثال الفاسدة التي تقتضي المساواة بين الله وخلقه، والتي تكون بغير علم. أما الأمثال التي لا
1 انْظر: روح المعاني للألوسي، (14/194) .
2 سورة يونس آية (18) .
3 الأمثال من الكتاب والسنة، لمحمد بن علي الحكيم الترمذي، ت: مصطفى عبد القادر عطا، ص11.
تقتضي ذلك، وتكون من العلماء العالمين بالله وما يجوز وما لا يجوز له فإنها مشروعة.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: "ولهذا قال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} المتضمنة للتسوية بينه وبين خلقه. {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فعلينا أن لا نقول عليه بلا علم"1
وهذا القول يدل على أن الأمثال القولية المضروبة لله تعالى منها ما هو ممنوع وما هو مشروع.
فالممنوع هي: الأمثال التي يضربها الجاهلون، ويكونون بضربها بمثابة من يُعلم الله، أو لمعارضة دينه، أو لتصحيح الشرك واتخاذ الأنداد والأمثال له - سبحانه - المتضمنة للقياس الإبليسي المعارض للنص. أو القياس الفاسد كالقياس التمثيلي، أو القياس الشمولي في حق الله تعالى التي تقتضي مساواة الله بغيره من خلقه.
أما المشروع ضربه من الأمثال القولية لله تعالى فهي: التي تصدر عن العالمين بالله، والتي لا تتضمن شيئا من المحذورات، وتؤدي إلى الاستدلال على إثبات ما أثبت الله لنفسه من الصفات، ونفي ما لا يليق به من النقص، والتي ضرب الله جنسها لنفسه في كتابه معلماً عباده كيف
1 تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (4/221) .
يستدلون عليه.
ويكون ذلك بالأمثال الجارية على قياس الأولى، التي لا تتضمن التسوية بين الله وبين خلقه في شيء من خصائصه، فهي جائزة في حق الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا كانت طريقة الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - الاستدلال على الرب تعالى بذكر آياته.
وإن استعملوا في ذلك (القياس) استعملوا قياس الأولى، لم يستعملوا قياس شمول تستوي أفراده، ولا قياس تمثيل محض، فإن الرب تعالى لا مثيل له، ولا يجتمع هو وغيره تحت كلي تستوي أفراده، بل ما ثبت لغيره من كمال لا نقص فيه، فثبوته له بطريق الأولى، ولهذا كانت الأقيسة العقلية البرهانية المذكورة في القرآن من هذا الباب. كما يذكره في دلائل ربوبيته وإلهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته، وإمكان المعاد إلى غير ذلك من المطالب العالية السنية، والمعالم الإلهية التي هي أشرف العلوم وأعظم ما تكمل به النفوس من المعارف"1.
وقد اقتدى بعض أهل العلم الراسخين بالأنبياء في استعمال قياس
1 مجموع الفتاوى، (9/141) .
الأولى في التعريف بالله عز وجل، وتأييد ما دل عليه الكتاب والسنة، منهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأحمد أشهر وأكثر كلاما في أصول الدين بالأدلة القطعية: نقلِها وعقلها من سائر الأئمة، لأنه ابتلي بمخالفي السنة، فاحتاج إلى ذلك.
والموجود في كلامه، من الاحتجاج بالأدلة العقلية على ما يوافق السنة، لم يوجد مثله في كلام سائر الأئمة، ولكن قياس التمثيل في حق الله تعالى لم يسلكه أحمد، لم يسلك فيه إلا قياس الأولى، وهو الذي جاء به الكتاب والسنة، فإن الله لا يماثل غيره في شيء من الأشياء حتى يتساويا في حكم القياس، بل هو سبحانه أحق بكل حمد، وأبعد عن كل ذم، فما كان من صفات الكمال المحضة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فهو أحق به من كل ما سواه، وما كان من صفات النقص فهو أحق بتنزيهه عنه من كل ما سواه.... وكذلك أحمد سلك هذا المسلك
…
مثل بيانه لإمكان كونه عالماً بجميع المخلوقات، مع كونه بائناً عن العالم فوق العرش، بقياسين عقليين: أحدهما أن الإنسان قد يكون معه قدح صاف فيرى ما فيه مع مباينته له، فالرب سبحانه قدرته على العالم ومباينته له، أعظم من قدرة هذا على ما في يديه، فلا تمتنع رؤيته لما فيه وإحاطته به مع مباينته له.
والقياس الثاني: من بنى داراً وخرج منها فهو يعلم ما فيها، لكونه فعلها، وإن لم يكن فيها. فالرب الذي خلق كل شيء وأبدعه، هو أحق بأن يعلم ما خلق، وهو اللطيف الخبير، وإن لم يكن حالاً في المخلوقات.
والمقصود أن أحمد يستدل بالأدلة العقلية على المطالب الإلهية إذا كانت صحيحة، إنما يذم ما خالف الكتاب والسنة، أو الكلام بلا علم والكلام المبتدع في الدين"1.
والقول بالتفريق في ضرب الأمثال بين الممنوع والمشروع، هو الصواب، لما تقدم من وجود أمثال مضروبة لله، جارية على قياس الأولى في القرآن الكريم، وأن ضربها من منهج الأنبياء، واستخدمها بعض أهل العلم الراسخين، فهي من الأمثال الصحيحة التي تؤيد ما ورد عن الله في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
تحرير المراد بالنهي عن ضرب الأمثال لله تعالى:
مما تقدم تبين أن النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى يشمل أمرين:
الأول: النهي عن اتخاذ الشركاء والأنداد، في الذات أو الصفات، أو الألوهية أو الربوبية ونحو ذلك مما تفرد به سبحانه.
الثاني: النهي عن ضرب الأمثال القولية الفاسدة له سبحانه.
1 درء تعارض العقل والنقل، ت: د. محمد رشاد سالم، (7/154، 155) .
والأمر الأول - النهي عن الشرك واتخاذ الأنداد واعتقاد مماثلة أحد من الخلق له سبحانه - هو المعنيُّ أصلا بالنهي عن ضرب الأمثال لله تعالى. وذلك أن أساس الرسالة قائم على الدعوة إلى توحيد الله، والتحذير من الشرك ومحاربته ووسائله.
أما الأمثال القولية الفاسدة التي يضربها الجاهلون لله، فإنها داخلة في النهي تبعاً، لأنها من وسائل الشرك وأسبابه.
فالنهي إذاً يشمل الأمرين. إلا أنه في اتخاذ الأمثال من الشركاء والأنداد أصلا، وفي ضرب الأمثال القولية تبعاً. والله أعلم.
وخلاصة هذا المبحث:
تبين مما تقدم أن الأمثال المنهي عن ضربها لله تعالى تشمل: اتخاذ الشركاء والأنداد، واعتقاد مماثلة أحد من الخلق لله في ذاته وأسمائه وصفاته، أو ألوهيته واستحقاق العبادة، أو ربوبيته وأفعاله.
كما يشمل النهيُ الأمثال القولية الفاسدة التي يضربها لله المشركون الجاهلون بالله ومن في حكمهم في الجهل.
وتبين أن الأمثال القولية المضروبة لله، منها ما هو ممنوع ومنها ما هو مشروع. فالممنوعة: هي الأمثال التي يضربها لله المشركون أو غيرهم من الجاهلين لمعارضة دين الله وتوحيده، أو لتصحيح الشرك، أو المتضمنة للتسوية بين الله وبين أحد من الخلق. ويدخل في ذلك الأمثال التمثيلية، والأمثال الشمولية.
والمشروع منها: التي تصدر عن العالمين بالله، ولا تتضمن التسوية بين الله وخلقه، أو معارضة الدين، وإنما تؤيد ما أثبت الله لنفسه من الصفات، وتنفي عنه ما لا يليق به من النقص والعيب. وهي الأمثال الجارية على قياس الأولى. والله أعلم.