الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: في بيان الحجة في قوله تعالى:
.
هذا المثل ورد في سياق من سورة "النحل" نهى الله تعالى فيه عن ضرب الأمثال، معللاً النهي بقوله:{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . ثم ضرب سبحانه وتعالى هذا كمثل لتعليمهم أمراً يتعلق بالقضية التي ناقشها السياق، وهي إبطال الشرك، حيث قال سبحانه قبل ذلك:
نوع المثل:
هذا المثل من الأمثال الأنموذيجية، حيث جعلت نتيجة المقارنة بين المثلين - العبد المملوك، ومن رزقه الله رزقاً حسناً - أنموذجاً منصوباً أمام عقل السامع ليقيس عليه ما يناسبه ويعتبر به، فيسوي بين المتماثلات في الأحكام ويفرق بين المختلفات.
1 سورة النحل الآيتان (73-74) .
ونوع القياس:
القياس في هذا المثل من قياس الأولى الشمولي.
وقد تقدم أن قياس الأولى يكون شمولياً، ويكون تمثيلياً1.
وتقدم2 بيان أن القياس الشمولي يشتمل على قضايا وأحكامٍ عامة تشمل سائر الأفراد المماثلة لما جاء في المثل. وأنه يستند إلى مبدإ شمول الأحكام للمتماثلات الذي تقضي به أصول الحقائق، فينتج أحكاماً عامة تشمل سائر الأفراد المماثلة لما جاء في المثل.
ويختلف قياس الأولى الشمولي عن سائر أنواع القياس الشمولي في أن تسرية الحكم فيه للمضروب له المثل لا تكون بدخوله كفرد من أفراده، وإنما باستحقاقه ذلك عن طريق الأَوْلى، بالقاعدة التي تقدم إيضاحها قريباً.
والقياس في هذا المثل من قياس العكس، وهو القياس القائم على التفريق بين المختلفات.
قال ابن القيم رحمه الله مبيناً نوع القياس في هذا المثل والمثل الذي ذكره الله بعده: "وهذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس، وهو نفي الحكم
1 ص (118) .
2 ص (109) .
لنفي علته وموجبه.
فإن القياس نوعان: قياس طرد1 يقتضي إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه. وقياس عكس يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه2".
بيان المضروب له المثل:
للمفسرين في المراد بالمضروب له المثل قولان:
الأول: أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر.
وقال به من السلف: ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة رحمه الله وغيرهما3.
الثاني: أنه مثل ضربه الله لنفسه - تعالى - والآلهة التي تُعبد من دونه. وقال به مجاهد رحمه الله وغيره4.
قال ابن القيم رحمه الله: "فالمثل الأول: ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان، فإن الله سبحانه هو المالك لكل شيء، ينفق كيف يشاء على عبيده سراً وجهراً،
1 قياس الطرد: يقوم على مبدإ التسوية بين المتماثلات.
2 الأمثال في القرآن الكريم، ص (204) .
3 انظر: جامع البيان، لابن جرير (7/622) ، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير (2/578) ، والأمثال في القرآن الكريم ص (205)
4 المصادر السابقة نفسها.
ليلاً ونهاراً، يمينه ملأى لا تغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار. والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف تجعلونها شركاء لي تعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين. هذا قول مجاهد وغيره.
وقال ابن عباس: وهو مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده، ثم رزقه منه رزقاً حسناً فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سراً وجهراً، والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز، لا يقدر على شيء لأنه لا خير عنده، فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟ والقول الأول أشبه بالمراد. فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسباً بقوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ".1
تحرير المضروب له المثل:
في النقل المتقدم رجح ابن القيم رحمه الله أن المثل ضربه الله تعالى لنفسه وللأوثان. وذكر أهم الأدلة على هذا الترجيح، وهي:
1-
اتفاقه مع الموضوع الذي يعالجه السياق، وهو بيان تفرد الله بالألوهية، وإبطال الشرك. عبّر عنه بقوله:
1 الأمثال في القرآن الكريم، ص (205) .
"فإنه أظهر في بطلان الشرك". وقد ورد قبل المثل قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا} الآية، فناسب أن يذكر مثلاً يبين فيه عدم صحة مساواة من لا يقدر على شيء بمن بيده ملك كل شيء في الألوهية.
2-
أن الله نهى المشركين والجاهلين عن ضرب الأمثال له سبحانه معللاً ذلك بأنه يعلم وهم لا يعلمون، فناسب أن يضرب لهم مثلاً يعلمهم وينبه به عقولهم إلى صحة التوحيد وبطلان الشرك.
3-
في قوله: "وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة"، إشارة إلى أن اعتبار المراد بالمثل المؤمن والكافر، خروج من كون المثل حجة على المشركين إلى كونه خبراً لا يسلّم به إلا المؤمنون. وذلك يتبين في وجهين:
الأول: أن المثل يصبح المقصود به بيان حال المؤمن بتشبيهه بمن رزقه الله رزقاً حسناً، وبيان حال الكافر بتشبيهه بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء. ولا يكون هناك حجة يلزم بها المشركون.
الثاني: أن المشركين لا يقرون بهذا وينكرون أن تكون حالهم - وهم الكفار - مثل الذي لا يقدر على شيء. ويستدلون لإبطال هذا الخبر بحالهم وحال أغلب المسلمين في مكة حيث إن الغالب أن المال والجاه والزعامة بأيدي المشركين، والغالب على المسلمين الرق والضعف والفقر.
لذلك قال ابن القيم رحمه الله: "وأوضح عند المخاطب".
فلهذه الاعتبارات يكون المراد بالمثل هو: إقامة حجة لإثبات تفرد الله بالألوهية واستحقاقه وحده للعبادة، وبطلان الشرك، وعدم صحة المساواة بينه وبين الأصنام أو غيرها من المخلوقات في الألوهية.
بيان الحجة التي دل عليها المثل:
تدور أقوال أهل العلم في تفسير هذا المثل على أنه يدل على إلزام المشركين ببطلان التسوية بين الله المتصف بالكمال والغنى والقدرة التامة، وبين الأصنام ونحوها المتصفة بالنقص والعجز، في الألوهية واستحقاق العبادة. ومن أقوالهم في ذلك:
قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فبيّن أن كونه مملوكاً عاجزاً صفة نقص، وأن القدرة والملك والإحسان صفة كمال، وأنه ليس هذا مثل هذا. وهذا لله وذاك لما يُعبد من دونه1".
قوله: "وهذا لله": يشير إلى صفة الكمال. وقوله: "وذاك لما يُعبد من دونه": يشير إلى صفة النقص.
وتقدم كلام ابن القيم رحمه الله حول المثل، ومنه قوله: "فإن الله سبحانه هو المالك لكل شيء
…
والأوثان مملوكة عاجزة،
1 انظر: الرسالة الأكملية، ص (16) ، ومجموع الفتاوى (6/80)
لا تقدر على شيء، فكيف تجعلونها شركاء لي تعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟ "1.
وقال الشوكاني رحمه الله: "قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} لما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} : أي بالمعلومات التي من جملتها كيف تُضرب الأمثال، {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
علّمهم الله سبحانه وتعالى كيف تُضرب الأمثال فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} ، أي: ذكر شيئاً يستدل به على تباين الحال بين جناب الخالق سبحانه وبين ما جعلوه شريكاً له من الأصنام.." إلى أن قال: "أي هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بتلك الصفات مع كون كلا الفريقين مخلوقين لله سبحانه من جملة البشر؟ ومن المعلوم أنهم لا يستوون عندهم. فكيف يجعلون لله سبحانه شركاء لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً، ويجعلونهم مستحقين للعبادة مع الله سبحانه؟ "2.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "يخبر تعالى عن جهل المشركين وظلمهم، أنهم يعبدون من دونه آلهة اتخذوها شركاء لله.
1 الأمثال في القرآن الكريم، ص (205) .
2 فتح القدير (3/181) .
والحال أنهم لا يملكون لهم رزقاً من السموات والأرض
…
فهذه صفة آلهتهم كيف جعلوها مع الله، وشبهوها بمالك الأرض والسموات، الذي له الملك كله، والحمد كله، والقوة كلها؟!.
ولهذا قال: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} المتضمنة للتسوية بينه وبين خلقه. {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فعلينا أن لا نقول عليه بلا علم، وأن نسمع ما ضربه العليم من الأمثال، فلهذا ضرب تعالى مثلين له ولمن يُعبد من دونه.
أحدهما: عبد مملوك، أي رقيق لا يملك نفسه، ولا يملك من المال والدنيا شيئاً.
والثاني: حر غني قد رزقه الله منه رزقاً حسناً، من جميع أصناف المال، وهو كريم محب للإحسان، فهو ينفق منه سراً وجهراً. هل يستوي هذا وذاك؟! مع أنهما مخلوقان، وغير محال استواؤهما.
فإذا كانا لا يستويان، فكيف يستوي المخلوق والعبد، الذي ليس له ملك ولا قدرة، ولا استطاعه، بل هو فقير من جميع الوجوه، بالرب المالك لجميع الممالك، القادر على كل شيء؟!.
ولهذا حمد نفسه، واختص بالحمد بأنواعه، فقال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ} .
فكأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك، فَلِمَ سوَّى المشركون آلهتهم بالله؟ قال:{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فلو علموا حقيقة العلم، لم يتجرؤوا على
الشرك العظيم"1.
وقال صاحب "صفوة التفاسير": "هذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام التي أشركوها مع الله جلّ وعلا. أي مثل هؤلاء في إشراكهم مثل من سوَّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حر مالك يتصرف في أمره كيف يشاء، مع أنهما سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى، فما الظن برب العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات؟ "2.
إيضاح الحجة على قاعدة قياس الأولى:
تقدم أن قاعدة قياس الأولى تقوم على خطوات يُلزم بها المخاطبون بالقضية التي ضُرب لها المثل. أذكر فيما يلي تلك الخطوات وما يمثل كلَّ خطوة في المثل المذكور في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا
…
} الآية.
أولاً: تقدم أنه يذكر في المثل صفة أو حال قائمة بالمخلوق متفق على حكمها بين المتحاجين.
وهي هنا: المقارنة بين حال رجل عبد مملوك لا يملك أمر نفسه، ولا
1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (4/221، 222) .
2 محمد علي الصابوني، (2/136) ، دار القرآن الكريم، بيروت، الطبعة الثالثة، 1402هـ.
يملك من المال والدنيا شيئاً، وحال رجل حر غني أعطاه الله رزقاً حسناً يتصرف فيه كما يشاء. ونتيجة المقارنة وهي: عدم استوائهم مسلمة عند المخاطبين.
ثانياً: الحكم وهو نتيجة المقارنة الذي تقطع به العقول وهو: عدم استوائهما في الحقوق والمنزلة بين الناس، وأن التسوية بينهما جهل وسفه.
ثالثاً: إقرار المخاطبين بأن تحقق وصف الكمال الثابت لذلك المخلوق في الله تعالى أتم وأكمل، وأنّ تحقق وصف النقص والعجز الثابت للآخر في الأصنام أتم.
رابعاً: إلزامهم بوجوب الحكم لله بهذا الحكم، وهو عدم التسوية بينه وبين الأصنام ونحوها في الحقوق. وأن الله أَوْلَى بأن لا تُجعل تلك الأصنام مساوية له في الألوهية واستحقاق العبادة، وذلك يبطل الشرك الذي هم متلبسون به.
خامساً: يُنقَلون بعد هذا - إذا أقروا به - إلى إثبات "المثل الأعلى" وهو أن الله أعلى وأكمل من كل مخلوق، فلا يوجد من يساويه في الكمال، وعليه فلا يوجد من يساويه فيكون نداً له في الألوهية واستحقاق العبادة. والله أعلم.