الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: في بيان الحجة في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
1.
هذا المثل ورد في سورة "النحل" بعد المثل الذي تم بيان الحجة التي يدل عليها في المطلب السابق.
والقول في: دلالة السياق، ونوع المثل والقياس الذي تضمنه، والغرض الذي ضرب من أجله، كالقول في المثل قبله.
فهذا المثل هو حجة أخرى بيّنها الله تعالى لإبطال الشرك، وأن التسوية بين الكامل والناقص غير صحيحة في دلالة العقول.
بيان الحجة التي دل عليها المثل:
تدور تفاسير أهل العلم لهذا المثل على أنه يتضمن الاحتجاج على المشركين بنظر العقول الصحيحة التي تحكم ببطلان التسوية بين الكامل الذي يتكلم ويدل على الخير وهو مستقيم على الحق لا يزول عنه، وبين الناقص الأبكم الذي لا يأتي بخير. وبذلك يبطل ما يزعمه المشركون من
1 سورة النحل (76)
التسوية بين الله تعالى والأصنام حيث جعلوها آلهة مع الله تعالى عن ذلك.
قال ابن جرير رحمه الله: "وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه، والآلهة التي تُعبد من دونه، فقال تعالى ذكره:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} يعني بذلك الصنم أنه لا يسمع شيئاً، ولا ينطق، لأنه إما خشب منحوت، وإما نحاس مصنوع، لا يقدر على نفع لمن خدمه، ولا دفع ضر عنه
…
{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ} يعني: هل يستوي هذا الأبكم الكَلّ على مولاه، الذي لا يأتي بخير حيث توجه، ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحق، ويدعو إليه، وهو الله الواحد القهار، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته؟ يقول: لا يستوي هو تعالى ذكره، والصنم الذي صفته ما وصف"1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذا مثل آخر. فالأول: مثل العاجز عن الكلام وعن الفعل، الذي لا يقدر على شيء، والآخر المتكلم الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم، فهو عادل في أمره، مستقيم في فعله
…
فلا يستوي هذا، والعاجز عن الكلام والفعل"2.
1 جامع البيان، (7/622، 623) .
2 مجموع الفتاوى، (6/80) .
وقال الشوكاني رحمه الله ما معناه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} أي مثلاً آخر أوضح مما قبله، وأظهر منه
…
لأن حاصل أوصاف الأول عدم استحقاقه لشيء، وحاصل أوصاف الثاني أنه مستحق أكمل استحقاق. والمقصود الاستدلال بعدم تساوي هذين المذكورين على امتناع التساوي بينه سبحانه وما يجعلونه شريكاً له1.
وقال محمد بن علي الصابوني: "هذا هو المثل الثاني للتفريق بين الإله الحق والأصنام الباطلة، قال مجاهد: هذا مثل مضروب للوثن والحق تعالى: فالوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير، ولا يقدر على شيء بالكلية، لأنه إما حجر أو شجر. {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} أي ثقيل عالة على وليه، {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ} أي حيثما أرسله سيده لم ينجح في مسعاه لأنه أخرس، بليد ضعيف. {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي هل يستوي هذا الأخرس، وذلك الرجل البليغ المتكلم بأفصح بيان، وهو على طريق الحق والاستقامة، مستنير بنور القرآن؟ وإذا كان العاقل لا يسوِّي بين هذين الرجلين، فكيف تمكن التسوية بين صنم أو حجر، وبين الله سبحانه وهو
1 انظر: فتح التقدير، (3/182) .
القادر العليم، الهادي إلى الصراط المستقيم"1.
إيضاح الحجة على قاعدة قياس الأولى:
أولاً: تضمن المثل ذكر حال رجلين: أحدهما: أبكم لا يقدر على شيء، ولا يستفاد منه خير. والآخر: متكلم فصيح عادل في أمره، مستقيم في فعله. والمراد لفت عقول المخاطبين إلى المقارنة بينهما. ونتيجة المقارنة مسلمة عندهم.
ثانياً: الحكم وهو نتيجة المقارنة، حيث تقطع بعدم استوائهما وأن التسوية بينهما جهل وضلال.
ثالثاً: إقرار المخاطبين بالمثل - وهم المشركون من كفار العرب - بأن تحقق الوصف الكامل في الله تعالى أتم، وأنه أعلى وأجل، وتحقق الوصف الناقص في الأصنام أتم، وهي أعجز من ذلك الرجل الأبكم الموصوف في المثل.
رابعاً: إلزام المشركين بوجوب الحكم لله بهذا الحكم. وهو عدم التسوية بينه وبين الأصنام في الألوهية واستحقاق العبادة. وأنه أولى بهذا الحكم، لأن الفرق بينه وبين تلك الأصنام أعظم مما بين المخلوق والمخلوق ممن ذكرت أوصافهم.
وبذلك يبطل الشرك الذي يتلبسون به.
1 صفوة التفاسير، (2/136) .
خامساً: ينقلون بعد هذا - إذا أقروا به - إلى إثبات "المثل الأعلى" لله تعالى، وهو أن الله أعلى وأكمل من كل مخلوق، فلا يوجد من يساويه في الكمال، وعليه فلا يوجد من يساويه فيكون نداً له في الألوهية واستحقاق العبادة.