الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: كيفية تطبيق قاعدة قياس الأولى على الأمثال القرآنية
.
الأمثال التي تضرب لله على قاعدة قياس الأولى، لا تتضمن تشبيهاً لله بأحد من خلقه، ولا الجمع بين الله تعالى وأحد من خلقه في حكم كلي يستوي فيه أفراده1.
وإنما المراد بها تقرير قاعدة تستنبط من المثل، يقرّ بها من ضُربت له الحجة، تتضمن حكماً ثابتاً لوصف، ومن ثم إلزامهم بالحكم لله بذلك الحكم لكون اتصافه بالوصف أكمل، فهو أحق بذلك الحكم.
ويتم ذلك بالخطوات الآتية:
1-
ضرب مثل يدل على صفة أو حال قائمة بالمخلوق، مع حكم لهذه الحال.
2-
يكون ثبوت الحكم لذلك الوصف أو الحال القائمة بالمخلوق متفقاً عليه من كلا المتحاجين.
3-
اتفاق المتحاجين أيضاً على أن ثبوت ذلك الوصف لله أكمل من ثبوته للمخلوق.
4-
إلزامهم بأن الله أحق بذلك الحكم لما استقر لديهم من أن ثبوت الوصف - المناط به الحكم - لله أكمل.
1 انظر: الرسالة التدمرية، ص (17) ، وما تقدم ص (120) .
5-
الترقي بهم إلى إثبات الكمال الأعلى لله تعالى من ذلك الوصف الذي لا يشاركه فيه أحد. كما في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} .
تشابه مسمى الوصف بين الله والمخلوق لا يعني تماثلهما في حقيقته:
أساس قاعدة قياس الأولى هو ثبوت الكمال للمخلوق والتوصل به إلى ثبوت ذلك الكمال لله تعالى. وأن له سبحانه أقصى ما يمكن من ذلك الكمال على ما يليق به، على ما تقدم من ضوابط الكمال الذي يثبت لله بهذه القاعدة.
وهذا الأمر يقود إلى تساؤل مفاده: هل التشابه في مسمى الكمال بين الله تعالى والمخلوق يعني المماثلة في حقيقته، وأن صفة الخالق تعالى مثل صفة المخلوق؟
ولبيان إجابة هذا التساؤل أورد مقتطفات من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرسالة التدمرية التي بسط فيها القول في إيضاح هذا الأمر. فمن ذلك قوله: "واتفاقهما [يعني الخالق والمخلوق] في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد، ولا في غيره
…
ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره، وسمي بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة
والتخصيص. ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماهما واتحاده - عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص - اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص1".
وقال مستدلاً لهذا المعنى: "فإن الله سبحانه وتعالى أخبر عما في الجنة من المخلوقات من إضافة المطاعم والملابس والمناكح والمساكن: فأخبر أن فيها لبناً وعسلاً وخمراً، وماء ولحماً، وحريراً، وذهباً وفضة، وفاكهة وحوراً وقصوراً، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء"، وإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا، وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق. ومباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا، إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق2".
وقال رحمه الله في موضع آخر:
1 الرسالة التدمرية، ص (8) .
2 المصدر السابق ص (16) .
"وهذا1يقتضي أن الرب تعالى متصف بكمال لا يصلح للمخلوق، وهذا لا ينافي أن ما كان كمالاً للموجود من حيث هو موجود فالخالق أحق به. ولكن يفيد أن الكمال الذي يوصف به المخلوق بما هو منه، إذا وصف الخالق بما هو منه، فالذي للخالق لا يماثله ما للمخلوق ولا يقاربه. وهذا حق، فالرب تعالى مستحق للكمال مختص به على وجه لا يماثله فيه شيء. فليس له سمي ولا كفؤ، سواء كان الكمال مما لا يثبت منه شيء للمخلوق كربوبية العباد، والغنى المطلق ونحو ذلك، أو كان مما يثبت منه نوع للمخلوق.
فالذي يثبت للخالق منه نوع هو أعظم مما يثبت من ذلك للمخلوق، عظمة هي أعظم من فضل أعلى المخلوقات على أدناها2".
قاعدة قياس الأولى.. والميزان العقلي:
قياس الأولى: كغيره من البراهين العقلية "لا بد أن يبدأ من مقدمات يقرّ بها المخالف، ينقل منها عن طريق الإلزام إلى الإقرار بما ينكره، على مبدإ المساواة بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات، وتسرية الحكم إلى المماثل الذي تحقق فيه الوصف المؤثر، وكون الأكمل في الوصف هو
1 إشارة إلى صفات الكمال التي يستحقها الله دون سواه.
انظر: الرسالة الأكملية، ص (71) .
2 الرسالة الأكملية، ص (73) .
الأولى بالحكم1".
مثال المساواة بين المتماثلات في قاعدة قياس الأولى:
تقدم2 عند بيان الحجة التي يتضمنها قول الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أن في ذلك إلزاماً للمشركين، الذين يقرون بأن الله هو الذي خلق الإنسان، ويقرون بأن من صنع شيئاً فإعادة صنعه عليه أهون، بأن يحكموا لله بهذا الحكم ويُثبتوا أن إعادة خلق الناس وبعثهم أهون وأيسر عليه من خلقهم أول مرة، وأنه أولى بذلك لكونه أقدر وأعلم، ولكونه أولى بالكمال.
وهذا من باب التسوية بين المتماثلات.
والتساوي هذا بين الله تعالى والمخلوق في المعنى العام للوصف وهو أن كلاً منهما صانع. مع الاختلاف الكبير بين حقيقة صنع الله وصنع المخلوق، كما تقدم قريباً.
والواجب التسوية بينهما في أصل الحكم وهو أن كل صانع أقدر على إعادة صنعه وهو أهون عليه.
1 تقدم ص (1022) .
2 ص (1022) .