الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مثال التفريق بين المختلفات في قاعدة قياس الأولى:
مما ورد في ذلك قول الله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} 1.
ففي هذه الآية الكريمة ينكر سبحانه على من ساوى بينه وبين تلك الآلهة المزعومة في الألوهية والعبادة، مبيناً أن مقتضى النظر العقلي هو عدم التسوية. وذلك أن الله تعالى هو الخالق لكل شيء، والذين يدعون من دونه لا يخلقون شيئاً، وهذا بإقرارهم، فيلزمهم التفريق بين الله وهذه الآلهة الباطلة إذ لا يجوز أن يُسوَّى بين الخالق لكل شيء وبين من لا يخلق شيئاً في الألوهية واستحقاق العبادة؛ والتسوية بينهما ظلم وجهل.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وقد بين أن الخلق صفة كمال، وأن الذي يخلق أفضل من الذي لا يخلق، وأن من عدل هذا بهذا فقد ظلم"2.
وهذا المعنى - هو جريان الأمثال والحجج العقلية على مبدإ التفريق بين المختلفات - كثير في أمثال القرآن الكريم.
وسوف يأتي مزيد تطبيقات على قاعدة قياس الأولى في المبحث القادم إن شاء الله تعالى.
1 سورة النحل (17)
2 الرسالة الأكملية، ص (16) .
المطلب الثالث: في بيان الحجة في قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
1.
نوع المثل:
نوع المثل والقياس مثل الأمثال المتقدمة. وقد تقدم بيان ذلك في المطلب الأول2.
دلالة السياق:
تقدم3 بيان أن سورة "الروم" تتحدث عن قضيتين هامتين:
الأولى: إثبات البعث بعد الموت. وقد جرى بيانها في النصف الأول من السورة.
الثانية: إثبات التوحيد، وإبطال الشرك وعبادة الأصنام الذي كان عليه مشركو العرب. وتولى بيانها النصف الثاني من السورة.
وأن الآية التي ورد فيها إثبات المثل الأعلى لله تعالى جاءت في وسط
1 سورة الروم (28) .
2 ص (1049) .
3 ص (889) .
السورة. وهي تشتمل على دليل من أوضح الأدلة العقلية على إثبات البعث بعد الموت. وجاء بعدها مباشرة هذا المثل، الذي هو من أوضح الأدلة العقلية على بطلان الشرك، ووجوب توحيد الله وإفراده بالعبادة.
الغرض من ضرب المثل:
هذا المثل مضروب لإبطال الشرك، ببيان الفرق العظيم بين الله تعالى المتصف بالكمال والغنى، وبين تلك الأصنام وغيرها من المخلوقات الناقصة، وبطلان التسوية بينها وبين الله تعالى في الألوهية، والعبادة.
قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا دليل قياس، احتج الله سبحانه به على المشركين، حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء، فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم، ولا يحتاجون فيها إلى غيرهم. ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ
1 سورة الروم (27، 28) .
الإنسان من نفسه، ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها معلوم لها"1.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "هذا مثل ضربه الله لقبح الشرك وتهجينه، مثلاً من أنفسكم، لا يحتاج إلى حل وترحال، وإعمال الجمال"2.
وقال الشوكاني رحمه الله: "أي مثلاً منتزعاً ومأخوذاً من أنفسكم، فإنها أقرب شيء منكم، وأبين من غيرها عندكم، فإذا ضرب لكم المثل بها في بطلان الشرك، كان أظهر دلالة وأعظم وضوحاً"3.
بيان الحجة التي دل عليها المثل:
هذا المثل يتضمن حجة لإبطال الشرك من وجهين:
الأول: إبطال التسوية بين السيد والعبد في الاستحقاق في دلالة العقول السليمة، مما يلزمهم بالحكم بعدم التسوية بين الله وتلك الآلهة الباطلة التي هي من جملة عبيده، وأنه أولى بهذا الحكم.
الثاني: أنهم إذا كانوا يعدون مشاركة عبيدهم لهم نقصاً يتنزهون منه، فإن الله أولى بالتنزه من هذا النقص، وأولى بأن لا يكون له من عبيده شريكاً إذ هو سبحانه أولى بكل كمال وأبعد من كل نقص.
1 الأمثال في القرآن الكريم، ص (202) .
2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (6/123)
3 فتح القدير، (4/223) .
فهذا المثل مع إيجاز لفظه تضمن حجتين عظيمتين في إبطال الشرك. لذلك ذكر الله أنه من الأمثال التي يفصّل بها آياته لهداية الناس، فقال سبحانه معقباً على المثل:{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
وأقوال المفسرين لا تخرج عن هاتين الحجتين، وأكثرهم يكتفي بذكر الحجة الثانية - وهي أن الله أولى منهم بالتنزه من مشاركة العبيد - لأنها تتضمن الحجة الأولى - وهي إبطال المساواة بين العبد وسيده في الحقوق.
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: مثَّل لكم أيها القوم ربكم مثلاً من أنفسكم، هل لكم مما ملكت أيمانكم، يقول: من مماليككم، من شركاء فيما رزقناكم من مال، فأنتم فيه سواء وهم. يقول: فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء في عبادتكم إياي، وأنتم وهم عبيدي ومماليكي، وأنا مالك جميعكم"1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يقول تعالى: إذا كنتم أنتم لا ترضون بأن المملوك يشارك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم، فكيف ترضون ذلك لي وأنا أحق بالكمال
1 جامع البيان، (10/181) .
والغنى منكم؟ وهذا يبين أنه تعالى أحق بكل كمال من كل أحد"1.
قوله: "لما في ذلك من النقص والظلم" فيه إشارة إلى تضمن المثل للحجتين.
فالنقص: إنما يكون من نسبة الشركاء لله وهم عبيده، وذلك ما يعتبره المشركون أنفسهم نقصاً يتنزهون منه.
والظلم: يكون في التسوية بين الله، وبين عبيده في الألوهية.
وقال ابن القيم رحمه الله: "والمعنى: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك
…
؟ فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم لي من خلقي من هو مملوك لي، فإن كان هذا الحكم باطلاً في خاطركم وعقولكم
…
فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي؟ مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي. فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول"2.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "أي: هل أحد من عبيدكم وإمائكم الأرقاء، يشارككم في رزقكم، وترون أنكم وهم فيه على حد سواء
…
؟
1 مجموع الفتاوى، (6/80) .
2 الأمثال في القرآن الكريم، ص (203) .
ليس الأمر كذلك، فإنه ليس أحد مما ملكت أيمانكم، شريكاً لكم فيما رزقكم الله تعالى
…
فكيف ترضون أن تجعلوا لله شريكاً من خلقه وتجعلونه بمنزلته، وعديلاً له في العبادة، وأنتم لا ترضون مساواة مماليككم لكم؟ "1.
وقال الشيخ محمد الشوكاني رحمه الله: "والمراد: إقامة الحجة على المشركين. فإنهم لا بد أن يقولوا لا نرضى بذلك. فيقال لهم: فكيف تنزهون أنفسكم عن مشاركة المملوكين لكم وهم أمثالكم في البشرية، وتجعلون عبيد الله شركاء له؟
فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة، بطلت الشركة بين الله وبين أحد من خلقه، والخلق كلهم عبيد الله، ولم يبقَ إلا أنه الرب وحده لا شريك له"2.
إيضاح الحجة على قاعدة قياس الأولى:
أولاً: تضمن هذا المثل العظيم حجة ترتكز على حال يعرفها المشركون من أنفسهم هي:
- عدم تسويتهم بين أنفسهم وعبيدهم في الحقوق.
- وعدم قبولهم ورضاهم أن يشاركوا عبيدهم فيما رزقهم الله من
1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (6/124) .
2 فتح القدير، (4/223) .
الأموال والممتلكات.
ثانياً: الحكم - وهو النتيجة المستفادة من الاعتبار بالمثل. والحكم المستفاد من هذا المثل له شقان:
الأول: حكمهم بعدم استواء السادة مع العبيد في الحقوق. ومن ذلك حق التملك والمشاركة.
الثاني: حكمهم بأن مشاركة العبد لسيده فيما يملك نقص، وعدم قبولهم ورضاهم بذلك.
ثالثاً: إقرار المحتج عليهم بأن الله هو المالك السيد لكل شيء، وأن كل ما سواه فهم مماليكه وعبيده، ومن ذلك الأصنام التي عبدوها من دون الله تعالى.
رابعاً: إلزام المشركين بأن يحكموا لله بتلك الأحكام المستفادة من الاعتبار بصورة المثل.
فالحكم الأول: أنه لا يجوز أن يسوى بين الله وبين تلك الأصنام - التي هي من عبيده ومماليكه في حقه سبحانه، فيجعلون شركاء له في الألوهية والعبادة. وذلك أنه - سبحانه - أولى بهذا الحكم لأن ملكه وسيادته أتم، فهو الذي كمل سؤدده، ولأن تحقق العبودية في الأصنام أتم. فالفرق بينها وبين الله تعالى أعظم من الفرق بين السادة وعبيدهم.
والحكم الثاني: أن الله تعالى أولى بالتنزه من هذا النقص الذي لا يرضاه المشركون لأنفسهم، وهو مشاركة عبيدهم لهم في أموالهم
وممتلكاتهم، فالله أعلى وأجل منهم وأولى بالتنزه من كل نقص، وأولى بأن لا يكون له شريك من عبيده ومماليكه في الألوهية والعبادة.
خامساً: يتعدى مدى المثل هذا - وهو إبطال صحة اتخاذ الأصنام شركاء لله في العبادة - إلى إثبات (المثل الأعلى) لله تعالى بإثبات تفرده بالألوهية. وذلك أن كل ما سوى الله فهو عبد لله مملوك له، سواء في ذلك الملائكة والأنبياء وصالحو المؤمنين وغيرهم. فلا يوجد من يساويه في الألوهية، لعدم جواز مساواة العبد لسيده، ولأن إشراك أحد من خلق الله وعبيده في الألوهية نقص يتعالى ويتنزه الله عنه.
وقد تقدم قريباً كلام الشوكاني رحمه الله الذي أشار فيه إلى هذا المعنى، حيث قال:"فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة، بطلت الشركة بين الله وبين أحد من خلقه، والخلق كلهم عبيد لله، ولم يبق إلا أنه الرب وحده لا شريك له"1.
1 فتح القدير (4/223) .
2الأمثال القرآنية القياسية للدكتور عبد الله الجربوع