الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: في معنى قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}
1 قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} ، يشتمل على اللام التي للاختصاص، والاسم الموصول {الَّذِين} وجملة الصلة {لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} . والاسم الموصول {الَّذِين} اسم مبهم لا يظهر معناه إلا بجملة الصلة2.
وجملة الصلة {لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} وصف عام يدخل تحته أفراد كثيرون. ومنهم كفار العرب الَّذِين يكذبون بالبعث واليوم الآخر، وينسبون البنات إلى الله تعالى. والَّذِين تقدم ذكرهم قبل هذه الآية، في قوله تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 3.
{مَثَلُ السَّوْءِ} :
اختلفت أقوال أهل العلم في المراد بمثل السوء. وقد حصر أهمها الإمام الشوكاني بقوله:
1 سورة النحل آية (60) .
2 انظر: النحو الوافي، لعباس حسن (1/340) .
3 سورة النحل آية (57) .
"مثل السوء: أي صفة السوء من الجهل والكفر بالله. وقيل هو: وصفهم لله بالصاحبة والولد، وقيل: هو حاجتهم للولد ليقوم مقامهم، ووأد البنات لدفع العار وخشية الإملاق، وقيل هو: العذاب والنار"1.
مناقشة هذه الأقوال:
القول الأول: أن مثل السوء: هو الجهل والكفر القائم في قلوب الَّذِين لا يؤمنون بالآخرة المتضمن للشرك ووصف الله بخلاف ما يليق به سبحانه، وصرف العبادة لغيره.
وهذا التفسير هو الراجح لذلك ذكره الشوكاني رحمه الله أولاً، ودلائل رجحانه ما يلي:
أولا: دلالة السياق.
إن الآيات التي سبقت قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} الآية. تضمنت النهي عن الشرك في قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2.
وبيان أن فريقاً من الناس يقابلون نعمة الله بالشرك بالله حال
1 فتح القدير، للشوكاني (3/170) .
2 سورة النحل آية (51) .
الرخاء، فقال:{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} 1.
ثم بيّن جانباً من شركهم بقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} 2.
وجانباً آخر بقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 3.
ثم أبطل الله ذلك بقوله: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 4.
فظاهر أن السياق يتكلم عن قضية الشرك، ووصف الله بما لا يليق به، ونسبة الولد والشركاء له سبحانه. وذلك يؤيد تفسير مثل السوء بالكفر والجهل الَّذِي أساسه الشرك القائم في قلوب الَّذِين لا يؤمنون بالآخرة، وأقوالهم.
فيكون الشرك هو أساس مثل السوء. كما أن تفرد الله بالألوهية، واعتقاد المؤمنين لذلك هو أساس المثل الأعلى الثابت لله تعالى. ويدل على
1 سورة النحل آية (54) .
2 سورة النحل آية (56) .
3 سورة النحل آية (57) .
4 سورة النحل آية (60) .
أن هذا الصنف من الناس الَّذِين جمعوا بين الكفر باليوم الآخر، والشرك بالله هم مجمع السوء والشر والرذائل، إذ إن المراد بالمثل ما كان جامعا لصفات الشيء وحقائقه وكماله، فهم مثل السوء بهذا الاعتبار الَّذِين اجتمعت فيهم الشرور والضلالات والجهالات إذ ليس لديهم رادع يردعهم عنها، فهم لا يؤمنون بالله إيمانا صحيحا يثمر الخير في قلوبهم وأعمالهم، ولا يؤمنون بالبعث والحساب فيخافون ويرتدعون.
ثانياً: رجوع أغلب التفاسير إلى هذا المعنى.
فتفسير {مَثَلُ السَّوْءِ} بأنه: وصفهم الله بالصاحبة والولد. أو: بوأدهم البنات. وهو من جهلهم وكفرهم. فهو راجع إلى التفسير الأول.
وتفسيره بالعذاب والنار هو نتيجة كفرهم وجهلهم.
وتقدم1 أن هذا التفسير منسوب إلى ابن عباس رضي الله عنهما وأنه وإن كان له وجه في اللغة، إلا أن تفسير {مَثَلُ السَّوْءِ} في الآية به بعيد، لأن السياق في ذكر كفرهم وشركهم وإبطاله، وليس في بيان ما أعده الله لهم من العذاب2.
ثالثاً: ضعف التفاسير الأخرى التي لا ترجع إلى القول الأول.
1 تقدم ص (73) .
2 انظر: روح المعاني للألوسي (13/170) ، وتفسير أبي السعود (5/122) .
وذلك أن كثيراً من المفسرين فسر {مَثَلُ السَّوْءِ} : بحاجتهم إلى الولد ليقوم مقامهم.
وهذا التفسير بعيد جداً، لأن الحاجة إلى الولد غير خاصة بالذين لا يؤمنون بالآخرة. ويستوي فيها الكافر والمؤمن. والله قد خص الَّذِين لا يؤمنون بالآخرة بمثل السوء.
المعاني التي يصدق عليها مثل السوء:
إذا كان {المَثَلُ الأَعْلَى} الثابت لله تعالى يفسر بأكثر من معنى صحيح باعتبارات صحيحة. فكذلك {مَثَلُ السَّوْءِ} الَّذِي يقابل {المَثَلُ الأَعْلَى} يفسر بمعان تقابل المعاني التي فسر بها المثل الأعلى.
والمعنى المشترك بين المعاني التي يفسر بها مثل السوء هو: اجتماع صفات السوء والنقص والفساد وحقائقها في كل منها باعتبار.
وهي ثلاثة معان رئيسية:
المعنى الأول: مثل السوء الطاغوتي. وهم الشيطان والطواغيت الَّذِين يدعون الناس إلى عبادتهم واتخاذهم أربابا. فكل من ادعى شيئا مما تفرد الله به من الألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات ونحوها، فهو {مَثَلُ السَّوْءِ} الأحقر. كفرعون الَّذِي حشر فنادى:
{فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} 1 وقال: {يَآ أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 2.
ومثل السوء الطاغوتي: المراد به اجتماع صفات السوء والشر وحقائقه في هؤلاء من الطغيان، والكبر والشر والفساد. وقيامها في نفوسهم وأعمالهم وسائر أحوالهم، ومنهم الذين يدعون الألوهية، أو الربوبية، ومنهم دعاة الشرك وسدنة الطواغيت.
وهذا المعنى هو الأساس للمعاني الأخرى، وهو المادة المغذية لها.
المعنى الثاني: مثل السوء الكفري الاعتقادي، المتمثل في عقائد وأعمال المشركين الَّذِين استجابوا للشيطان والطواغيت فعبدوهم من دون الله. واتخذوا مع الله آلهة وأربابا، فشاركوا أولئك في السوء والشر والفساد، وخبث الاعتقاد وضلال الأعمال.
المعنى الثالث: مثل السوء العلمي.
وهي العلوم الفاسدة التي تستند إليها أديان المشركين، والشبهات التي يحتجون بها، والجهالات التي تضمنتها كتبهم، ومدارسهم.
فإن هذه العلوم والجهالات هي المستنقعات التي تمد الكفر والشر والسوء، وينبثق عنها كل ضلال وفساد، وهي وحي الشياطين، قَال
1 سورة النازعات آية (24) .
2 سورة القصص آية (38) .
ومن أمثال السوء ما بثه فرعون في قومه في معارضة رسل الله، قَال الله تعالى:{قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلَاّ مَآ أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} 2.
هكذا يوهم أن ما يدعوهم إليه رشاد، وهو عين الفساد {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} 3.
تضمن الآية حجة لإبطال الشرك:
هذه الحجة متمثلة في مقابلة أحكامهم السيئة، وما نسبوه إلى الله من الشرك والولد، بقوله تعالى:{وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} .
وذلك: أن من هذه الأمور التي نسبوها إلى الله تعالى - وتقدم ذكرها في الآيات - أموراً هم ينفرون منها، ولا يرضونها لأنفسهم، فكيف ينسبونها إلى الله، وهو أعز وأجل وأعلى منهم.
1 سورة الأنعام آية (112، 113) .
2 سورة غافر آية (29) .
3 سورة الزخرف آية (54) .
وأشار السياق إلى أمرين من هذه الأمور:
الأمر الأول: في قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} 1.
قَال ابن جرير رحمه الله في قوله تعالى: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} : "يعني: تختلقون من الإفك على الله بدعواكم له شريكاً، وتصييركم لأوثانكم فيما رزقكم نصيباً، ثم ليعقابكم عقوبة تكون جزاء لكفرانكم نعمه، وافترائكم عليه"2.
وهم مع ذلك لا يرضون ذلك لأنفسهم، فقوله تعالى:{وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، يبطل ذلك الادعاء، إذ كيف يرضون له ما لا يرضونه لأنفسهم، وهو سبحانه أعظم وأجل وأعلى وأغنى عن الشركاء منهم.
وقد فصّل الله هذه الحجة في سورة "الروم" بعد أن بيّن تفرده بالمثل الأعلى بقوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا
1 سورة النحل آية (56) .
2 جامع البيان، لابن جرير، (7/598) .
رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1.
وسيأتي بيان هذا المثل - إن شاء الله - في المطلب القادم.
الأمر الثاني: في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} 2.
قَال ابن جرير رحمه الله:
"ومن جهل هؤلاء المشركين وخبث فعلهم، وقبح فريتهم على ربهم، أنهم يجعلون لمن خلقهم، ودبَّرهم وأنعم عليهم
…
البنات، ولا ينبغي أن يكون لله ولد ذكر أو أنثى سبحانه، ولكنهم أضافوا إليه ما يكرهونه لأنفسهم، ولا يرضونه لها من البنات، ما يقتلونها إذا كانت لهم"3.
ومقابلة زعمهم بأن لله بنات، وزعمهم أن له شركاء في ما خلقه من الرزق، بقوله تعالى:{وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، يدل على قاعدة هامة في الحجة والقياس، تتمثل في:
أن كل نقص تنزه عنه المخلوق فالله أولى بالتنزه عنه، لأنه
1 سورة الروم آية (27، 28) .
2 سورة النحل آية (57، 58) .
3 جامع البيان، لابن جرير، (7/599) .
سبحانه أعلى وأجل، وأبعد عن النقص والعيب.
وإذا كان متقرراً في حكمهم: قبح الإناث وكراهتهم لهنّ، وقبح إشراك السيد عبده في ملكه، فليحكموا بذلك لله تعالى: وليثبتوا قبح نسبة الإناث إليه، ثم يثبتوا لله المثل الأعلى في ذلك، وهو كمال غناه عن الولد مطلقا ذكرا كان أو أنثى.
وليحكموا بقبح جعل الشريك له في الرزق لكونه كامل السؤدد والغنى. وليثبتوا له المثل الأعلى في ذلك، وهو كمال غناه عن الشركاء مطلقاً في الربوبية والألوهية وغيرها من خصائصه.
وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الحجة بقوله: "ولهذا لما كانت طريقة القرآن فيما يثبته للرب تعالى، وينفيه عنه، مبنيّة على برهان الأولى - لا على البرهان الَّذِي تستوي أفراده، أو يماثل فرعه أصله - قَال تعالى:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} 1، بعد قوله:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} 2، وقال تعالى في الآية الأخرى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} 3، أي
1 سورة النحل آية (60) .
2 سورة النحل آية (58)
3 سورة الزخرف آية (17)
بما ضربوه للرحمن مثلا. والمثل الَّذِي ضربوه له هو البنات. وهو عندهم مثل سوء مذموم معيب، فقال تعالى:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} ، ومن قَال: إنه ولد الملائكة، أو قال: إنه ولد العقول أو النفوس، فإنه لا يؤمن بالآخرة فله مثل السوء.
والله تعالى له المثل الأعلى، فلا يضرب له المثل المساوي، إذ لا كفؤ له ولا ند، فضلا عن أن يضرب له المثل الناقص
…
ونظير ما ذكره سبحانه في الأولاد، ما ذكره في الشركاء، في قوله تعالى:{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} 1.
يقول تعالى: إذا كان الواحد منكم ليس له من مماليكه شريك في ما رزقه الله، بحيث يخاف ذلك المملوك كما يخاف السادة بعضهم بعضا، فكيف تجعلون لي شريكا هو مملوكي، وتجعلونه شريكا فيما يختص بي من العبادة والمخافة والرجاء، حتى تخافوه كما تخافوني"2.
إلى أن قَال: "وإذا كان جعل المملوك شريكا في الملك الناقص - بحيث يرغب إليه كما يرغب إلى المالك، ويرهب منه كما يرهب من
1 سورة الروم آية (28)
2 درء تعارض العقل والنقل، ت: د. محمد رشاد سالم، (7/388، 389) .
المالك - ممتنعا يوجب الفساد، فجعل المملوك المخلوق شريكا لمالكه الخالق أولى بالامتناع ولزوم الفساد"1.
دلالة ختام الآية بقوله: {وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} .
العزيز: اسم من أسماء الله الحسنى. ويدل على ثبوت صفة العزة له سبحانه. قال تعالى: {إِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} 2 وصفة العزة تدل على ثلاثة معان.
قَال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "فمعاني العزة الثلاثة كلها ثابتة لله العظيم:
عزة القوة: الدال عليها من أسمائه القوي المتين. وهي وصفه العظيم الَّذِي لا تنسب إليه قوة المخلوقات وإن عظمت.
وعزة الامتناع: لأنه هو الغني بذاته، فلا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العباد ضره فيضرونه، ولا نفعه فينفعونه، بل هو الضار النافع المعطي المانع.
وعزة القهر: والغلبة لكل الكائنات، فهي كلها مقهورة لله خاضعة لعظمته، منقادة لإرادته، فجميع نواصي المخلوقات بيده، لا يتحرك منها متحرك، ولا يتصرف إلا بحوله وقوته وإذنه، فما شاء الله كان، وما لم
1 درء تعارض العقل والنقل، (7/392) .
2 سورة يونس آية (65) .
يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به"1.
فاسم الله العزيز يدل على كمال قوة الله تعالى، وامتناعه بنفسه سبحانه، وخضوع جميع المخلوقات لقهره، وتدبيره، يفعل فيها ما يشاء ويختار لا يعجزه شيء، ولا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه، فهو سبحانه يُدبِّر ولا يُدَبر، يُجري ما شاء على من شاء ولا يمتنع من أمره، ولا يتعقبه في حكمه أحد، فسبحانه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
الحكيم: اسم من أسماء الله الحسنى، يدل على اتصاف الله تعالى بالحكمة في شرعه وقدره، والحكم بين المخلوقات.
قَال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "أي هو تعالى {الحَكِيمُ} : الموصوف بكمال الحكمة، وبكمال الحكم بين المخلوقات. فالحكيم هو واسع العلم والاطلاع على مبادئ الأمور وعواقبها. واسع الحمد تام القدرة عزيز الرحمة. فهو الَّذِي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها في خلقه وأمره. فلا يتوجه إليه سؤال، ولا يقدح في حكمته مقال.
وحكمته نوعان: أحدهما الحكمة في خلقه. فإنه خلق الخلق بالحق ومشتملاً على الحق. وكان غايته والمقصود به الحق. خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام، ورتبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق
1 الحق الواضح المبين، في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين، ص (44) .
به، بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات، وكل عضو من أعضاء الحيوانات خِلقته وهيئته. فلا يرى أحد في خلقه خللا ولا نقصا ولا فطورا، فلو اجتمعت عقول الخلق من أولهم إلى آخرهم ليقترحوا مثل خلق الرحمن، أو يقارب ما أودعه في الكائنات من الحسن والانتظام والإتقان لم يقدروا، وأنى لهم القدرة على شيء من ذلك وحسب العقلاء منهم أن يعرفوا كثيرا من حكمه....
النوع الثاني: الحكمة في شرعه وأمره، فإنه تعالى شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل ليعرفه العباد ويعبدوه، فأي حكمة أجل من هذا؟....
فلو لم يكن في أمره وشرعه إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل الخيرات، وأكمل اللذات، ولأجلها خلقت الخليقة، وحق الجزاء، وخلقت الجنة والنار، لكانت كافية شافية.
هذا وقد اشتمل شرعه ودينه على كل خير، فأخباره تملأ القلوب علما ويقيناً وإيماناً وعقائد صحيحة، وتستقيم بها القلوب ويزول انحرافها، وتثمر كل خُلُق جميل، وعمل صالح وهدى ورشد. وأوامره ونواهيه محتوية على غاية الحكمة والصلاح والإصلاح للدين والدنيا. فإنه لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مضرته خالصة أو راجحة....
وبالجملة فالحكيم متعلقاته: المخلوقات والشرائع. وكلها في غاية
الإحكام. فهو الحكيم في أحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية، وأحكامه الجزائية. والفرق بين أحكام القدر وأحكام الشرع، أن القدر متعلق بما أوجده وكونه وقدره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وأحكام الشرع متعلقة بما شرعه"1.
ما يدل عليه اجتماع الاسمين "العزيز الحكيم":
إن اسم الله (العزيز) من الأسماء التي تبعث في قلب من فقه معناها الخوف والوجل الشديد. إذ إن له سبحانه وتعالى القوة العليا فلا يوجد من يستدرك عليه، أو يسأله عن فعله. وهو المهيمن المتصرف في الكون والعباد بما شاء من أمره. فيُضل من شاء ويهدي من شاء، ويعذب من شاء ويرحم من شاء، ويُجري ما شاء على من شاء، دون خوف من عاقبة أو من متعقب. ومن جرى عليه شيء من ذلك فلن يجد من دون الله ناصراً أو معيناً. وهذا المعنى يصيب القلب بالفَرَق والخوف الشديد. إذ يقول: إذاً قد يعذبني أو يضلني ولا يبالي.
وهنا يأتي اسم الله (الحكيم) ، ليذهب ذلك الخوف الَّذِي انبعث في القلب من معرفة اسم الله العزيز، ويوازن القلب ويطمئنه.
فالله سبحانه مع عزته وكمال قوته، وتفرده بالملك والتدبير، حكيم
1 الحق الواضح المبين، في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية، ص (50-54) .
يضع الأمور في مواضعها. يتولى المؤمن فيهديه ويكرمه، ويسخط على الكافر فيضله ويعاقبه. ويُجري المقادير على عباده بموجب علمه وحكمته، فضلاً أو عدلاً منه تبارك وتعالى.
ولهذا كثر اقتران اسم الله (العزيز) الباعث على الخوف والوجل، بأسماء أخرى باعثه على الرجاء والمحبة والأمل.
فقد ورد مقترناً باسم الله (الحكيم) في أكثر من أربعين موضعا في القرآن الكريم1.
واقترن كثيراً باسم الله (الرحيم) ، واسم الله (العليم) واسم الله (الغفار) و (الغفور) ونحوها2.
وما ذلك إلا لتعرف القلوب ربها معرفة متكاملة، تجعلها بين الخوف والرجاء في حالة تبعث فيها بوادر الخير والإقبال على الله، وتردعها عن نوازع الشر والانحياز إلى حزب الشيطان.
مناسبة ختم الآية بهذين الاسمين:
إن المعاني العظيمة التي يدل عليها كل اسم من اسم الله (العزيز) واسمه (الحكيم) ، وتعلقهما بأمر الله الكوني، وأمره الشرعي، كل ذلك جعل لاقترانهما مدلولات واسعة، إلا أنني سأقتصر من ذلك على أربعة
1 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص (584، 585) دار المعرفة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1414 هـ.
2 المرجع السابق.
معان يدل عليها ختم الآية بهذين الاسمين، لما لها من علاقة بالقضايا التي وردت في سياق الآية، ومناسبتها لمدلول قوله تعالى:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} .
المعنى الأول:
تقدم أن السياق الَّذِي ورد فيه إثبات المثل الأعلى من سورة "النحل" ركز على قضية التوحيد، ببيان تفرد الله بالألوهية، ووجوب إفراده بالعبادة، وبين أن ذلك هو الغاية التي أنزل من أجلها كتبه، وأرسل رسله، مع بيان جانب من دلائل التوحيد، وفضل أهله، وعاقبتهم الحميدة في الدنيا والآخرة.
كما تضمن ذم الشرك وإبطاله، وبيان سوء عاقبته في الدنيا والآخرة.
وتقدم - أيضا - أن المثل الأعلى لله تعالى أساسه تفرد الله بالألوهية، وكل الصفات الأخرى فهي من خصائص الإله الحق تبارك وتعالى.
وعلى هذا يكون قوله تعالى: {وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} دليل على استحقاقه وحده للألوهية، والمثل الأعلى، ويكون قوله تعالى:{وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} : تتضمن الدعوى ودليلها.
فالذي كملت عزته، وحكمته، هو المستحق للألوهية، ودلائل عزة الله، وحكمته على الوجه الأكمل مشاهدة في الكون قاطعة بكمال قوته، وعظيم حكمته.
وهذا المعنى دلت عليه نصوص أخرى، ختم الله بها الحديث عن تفرده بالألوهية واستحقاقه للعبادة، بهذين الاسمين.
فمن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1.
وقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَاّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 3. ونحوها.
1 سورة آل عمران آية (6) .
2 نفس السورة آية (18) .
3 نفس السورة آية (62) .
المعنى الثاني:
أنه لما كانت ربوبية الله - وما يشاهد من آثار أفعاله تبارك وتعالى أكبر دليل على تفرد الله بالألوهية والمثل الأعلى، ولما اشتملت عليه السورة من ذكر ذلك في مواضع متعددة منها، ناسب أن يذكر سبحانه ما يدل على كمال قوته وتدبيره، وأن ذلك يجري بموجب حكمته، فختم الآية التي ورد فيها إثبات المثل الأعلى بقوله:{وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} .
وأشمل ما دل على هذا المعنى - وهو ختم الآيات التي تتحدث عن ربوبية الله وأفعاله بهذين الاسمين الكريمين - ما ورد في سورة "الجاثية" حيث بدأت السورة بذكر هذين الاسمين في قوله تعالى: {حم تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنْ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} 1، ثم ذكر الله جملة من آيات ربوبيته فقال:{إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآ يَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَآءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2.
ثم ختم السورة بذكر ربوبيته وبهذين الاسمين، حيث قَال تبارك
1 سورة الجاثية آية (1، 2) .
2 سورة الجاثية آية (3- 5) .
المعنى الثالث:
ما يدل عليه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} من وجود فريقين: أهل مثل السوء الَّذِين أشركوا بالله، وكفروا باليوم الآخر، والَّذِين هم مجمع السوء والشر.
وأهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الَّذِين يثبتون لله المثل الأعلى، والَّذِين هم مصدر الخير والعدل في الأرض.
وهذا يولد سؤالاً مفاده: كيف يُعصى الله في ملكه؟ وكيف يتمرد عليه عبيده، مع كمال ملكه وقوته، وإحاطة علمه؟
فيأتي قوله تعالى: {وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} ليدل على أن ذلك واقع بعلمه، وإذنه، ولا يكون في ملكه ما لا يريده. وأن له في تقدير ذلك والإذن به الحكمة البالغة.
فهو العزيز سبحانه لا يراعي أحدا، ولا يعجزه أحد، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب ولا قرابة، إلا الإيمان والتقوى وقد جعل
1 نفس السورة آية (36، 37) .
للهداية أسباباً، مَن سلكها وأتى بها هداه ولو كان حقيراً عند الناس، وجعل للضلال أسباباً، مَن تلبَّس بها وأعرض عن الهدى أضله وأرداه، ولو كان من كان شرفاً وعزاً.
فهو {العَزِيزُ الحَكِيمُ} سبحانه يُجري مقتضى حكمته على عباده دون مبالاة أو مراعاة لأحد من الخلق.
فهو سبحانه الَّذِي أجرى مقتضى حكمته في إضلال الضالين من أبناء الأنبياء وأقربائهم، كوالد إبراهيم، وابن نوح، وزوج لوط، وعم محمد صلوات الله وسلامه على أنبيائه ورسله.
وهو الَّذِي يُجري ما شاء من أمره على العباد، من العذاب أو الرحمة، أو النصر أو الهزيمة أو غير ذلك من الأحوال على مقتضى حكمته الدائرة بين العدل والفضل، وسنة الابتلاء
…
واختصاصه برحمته وفضله وهدايته من شاء من عباده.
وهذا المعنى - وهو ختام الآيات التي تتحدث عن الهداية، والإضلال وما يجري على العباد من الأحوال - كثير في القرآن الكريم. فمن ذلك قوله تعالى:{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَآءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَآءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1.
1 سورة إبراهيم آية (4) .
وقال: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2.
وقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} 3. ونحوها كثير.
ويدخل في هذا المعنى الحديث عن الوحي إلى الأنبياء، وإنزال القرآن الكريم، لأن ذلك هو الطريق إلى الهداية، والتكذيب به والإعراض عنه هو سبب الضلال.
ومما ورد في هذا المعنى، قوله تعالى:{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 4.
1 سورة البقرة آية (208- 209) .
2 سورة البقرة آية (220) .
3 سورة آل عمران آية (126) .
4 سورة الشورى آية (3) .
وقوله تعالى في أكثر من سورة: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 1. ونحوها.
المعنى الرابع:
ما يدل عليه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} من استحقاق الله وحده للتسبيح والتنزيه عن الولد والصاحبة والشريك.
ففيه إشارة إلى وجوب تنزيه الله عن ذلك وتسبيحه مع ذكر موجبه وهو كونه (العزيز الحميد) ، وشواهد عزته وحكمته قائمة فيما يشاهَد في خلقه، وما يتجدد من أمره سبحانه.
وهذا المعنى - وهو ختام الآيات التي تتحدث عن تسبيح الله تعالى بهذين الاسمين - كثير في القرآن الكريم. فمن ذلك قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 2.
وقوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} 3.
1 سورة الزمر آية (1) ، وسورة الجاثية آية (2) ، وسورة الأحقاف آية (2) .
2 سورة الحديد آية (1) .
3 سورة الجمعة آية (1) .
وأشمل ما يدل على هذا المعنى ما ورد في سورة "الحشر"، حيث بدأت بقوله تعالى:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1.
ثم ذكر في آخرها المعاني التي دل عليها المثل الأعلى لله تعالى، من قوله تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} إلى آخر السورة2.
ثم ختم تلك الآيات بقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 3.
خلاصة القول في معنى قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} :
أن الله تعالى بين أن الكفار الَّذِين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وجمعوا بين الشرك بالله، والكفر باليوم الآخر هم مجمع السوء ومثله.
1 سورة الحشر آية (1) .
2 انظر ما تقدم من ص (638)
3 نفس السورة آية (24) .