الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: في المراد بالمثل الأعلى ومعنى الآيات الدالة على ذلك
المطلب الأول: في المراد بالمثل الأعلى لله تعالى
…
المطلب الأول: في المراد بالمثَلِ الأعْلَى لله تعالى.
لقد تعددت عبارات السلف ومن بعدهم من العلماء في تفسير المثل الأعلى، واستشكل بعضهم قول بعض في ذلك1، وذلك يدل على الحاجة لتحرير المراد بالمثَلِ الأعْلَى لله تعالى
…
وفق اعتبارات واضحة تستبين من خلالها المعاني الصحيحة لما أثبت الله لنفسه سبحانه من المثل الأعلى، ويزول الإشكال بإذن الله تعالى، وأهم هذه الاعتبارات ما يلي:
1-
اتفاق المعنى الذي يفسر به "المثل الأعْلَى" مع الدلالة اللغوية للفظ "مثل" وما يدل عليه وصف الأعلى.
2-
اتفاقه مع دلالة السياق.
3-
أن يكون قد قال به بعض السلف أو العلماء السائرين على طريقهم، أو تؤول أقوالهم إليه.
4-
أن لا يتعارض مع الأصول المقررة المعلومة، والنصوص المحكمة، واتفاقه مع الحقائق الإيمانية وما كان عليه سلف الأمة في باب الأسماء والصفات.
وقبل البدء بالكلام على معاني قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، أقدم
1 انْظر: الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، للإمام ابن القيم، تَحْقِيْق / أ. د. أحمد بن
عطية الغامدي، (2/685، 686) .
النظر في أي المعاني اللغوية للفظ "مثَل" المناسب لتفسير "المثَل" في الآية به، وذكر ما يدل عليه وصف "الأعلى".
أولاً: بيان المعاني اللغوية للفظ "مثل" الصالحة لتفسير "المثل الأعلى" بها:
تقدم1 الكلام على المعاني اللغوية للفظ "مثل" وأنها أربعة معان رئيسة، أذكرها وأذكر مدى مناسبة كل منها لتفسير الآية به، فيما يلي:
المعنى الأول: المثل السائر.
هذا المعنى وإن كان صحيحا باعتبار أن قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، أصبح مثلا يتمثل به من أورد مثلا لبيان صفات الله ونحوها، فيقول مثلا:
رؤية الله ثابتة يوم القيامة، ومثال ذلك {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} : الشمس ترى دون أن يحاط بها. فكذلك الله تعالى يرى ولا يحاط به علما.
إلا أن المثل في الآية لا يفسر به، فلا يقال: إن مراد الله بقوله: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، هو: أن كل مثل سائر أعلى فهو لله. فلم يقل به أحد من أهل العلم. ولكن بعض أفراده يدخل في المعاني التي يصح تفسيره بها نظراً
1 انْظر: ص (42) وما بعدها.
لمعناها لا لكونها أمثالا سارية.
المعنى الثاني: المثل بمعنى الشبيه والنظير.
وهذا المعنى لا يجوز تفسير المثل به، في قوله:{وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، بإجماع أهل الإسلام، إذ إن مؤدى ذلك الشرك الذي أرسل الأنبياء وأنزلت الكتب لإبطاله والتحذير منه.
ويدخل في ذلك الأمثال التمثيلية التي يقاس فيها معين بمعين.
المعنى الثالث: المثل بمعنى الوصف.
وهذا المعنى يصح تفسير المثل به، في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} . إذ إن الله وصف نفسه، وصفاته هي الأعلى والأكمل. فيطلق {المَثَلُ الأَعْلَى} على مجموع الصفات والحقائق القائمة به سبحانه.
ولا يوجد ما يعكر على ذلك، وسيأتي إيضاح ذلك في محله إن شاء الله.
المعنى الرابع: المثل بمعنى مثال - وهي الأمثال الأنموذجية القياسية -
وهذه أيضا لا يصح تفسير المثل الأعلى بها، فلا يوجد لله مثال تقاس عليه أسماؤه وصفاته تعالى الله عن ذلك.
ويدخل في ذلك الأمثال القولية الأنموذجية القائمة على قياس الشمول، فلا يجوز أن يشرك الله هو والمخلوق في قياس شمول تستوي فيه
أفراده، ولا يجوز من ذلك إلا ما كان جاريا على قياس الأولى. فإن الله له المثَلُ الأعْلَى. "وهو أنّ كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما يُنزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزه عنه"1.
والحاصل من ذلك: أن معاني المثل التي يصح أن يفسر بها "المثل الأعْلَى" لله تعالى هي:
1-
المثل بمعنى الوصف، ومن ذلك إطلاق لفظ "مثل" على مجموع حقائق الشيء وصفاته.
2-
الأمثال القولية الجارية على قياس الأولى.
وكل معنى صحيح فُسِّر به المثل في الآية فهو راجع إلى أحدهما.
ثانيا: معنى الأعلى في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} :
قَال الراغب الأصفهاني رحمه الله: "وأما قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} 2، فمعناه: أعلى من أن يقاس به، أو أن يعتبر بغيره"3.
وهذا التفسير يدل على تفرده - سبحانه - بالعلو علو الذات والصفات فلا يدانيه في ذلك أحد.
1 الرسالة التدمرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص (17) .
2 سورة الأعلى آية (1) .
3 المفردات، ص (345)
قَال ابن تيمية رحمه الله مبينا هذا المعنى: "وقد تضمن العلو الذي ينعت به نفسه في كتابه أنه متعال عما لا يليق به من الشركاء والأولاد فليس كمثله شيء، وهذا يقتضي ثبوت صفات الكمال له دون سواه، وأنه لا يماثله غيره في شيء من صفات الكمال، بل هو متعال عن أن يماثله شيء"1.
وقال رحمه الله مبينا دلالة اسم الله "الأعلى" على جميع معاني العلو: " و {الأَعْلَى} يجمع معاني العلو جميعها، وأنه الأعلى بجميع معاني العلو"2.
وقد بيّن الشيخ عبد الرحمن السعدي تلك المعاني، بقوله: "العلي الأعلى: وهو الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه، علو الذات، وعلو القدر والصفات، وعلو القهر.
فهو الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى.
وبجميع صفات العظمة والكبرياء والجلال والجمال وغاية الكمال
1 مجموع الفتاوى، (16/123) .
2 المصدر السابق، ص (119) .
اتصف وإليه فيها المنتهى"1.
وبيّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن صفة العلو لله تعالى تدل على ثلاثة أمور هي: تفرده بالربوبية، وتفرده بصفات الكمال، وتفرده بالألوهية، بين ذلك بقوله: "وإثبات علوه - علوه على ما سواه، وقدرته عليه وقهره - يقتضي ربوبيته له، وخلقه له....
وعلوه عن الأمثال يقتضي أنه لا مثل له في صفات الكمال
…
.
وتعاليه عن الشركاء يقتضي اختصاصه بالإلهية، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو وحده
…
"2.
ثم لخص ذلك بقوله: "فقد تبين أن اسمه "الأعلى"، يتضمن اتصافه بجميع صفات الكمال، وتنزيهه عما ينافيها من صفات النقص، وعن أن يكون له مثل، وأنه لا إله إلا هو، ولا رب سواه".
وإذا نسب شيء إلى الله، ووصف بأنه الأعلى، فإنه لا يخرج عن هذه المعاني.
1 تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، فصل في شرح أسماء الله الحسنى (5/623)
2 مجموع الفتاوى، (16/123) .
والمثل في قوله: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} منسوب إلى الله بقوله: "له"، وقوله:{َلِلَّهِ} .
وهذه النسبة إلى الله فيها ثلاثة احتمالات:
الأول: أن تكون نسبة تشريف، ويكون "المثل" غير الله. وهذا باطل، إذ أن مدلول المثل على هذا يقتضي أن يكون مماثلا لله ندا له، والله تعالى منزه عن الأمثال.
الثاني: أن يكون "المثل" معنى قائما بالله، وهذا جائز.
ولا بدّ في هذه الحالة أن يكون منحصرا في بعض المعاني التي دل عليها وصف "الأعلى" المتقدمة، إذ إنه موصوف بأنه الأعلى في قوله:{المَثَلُ الأَعْلَى} .
ومدلول الأعلى محصور في ثلاثة معان:
الأول: علو الذات.
الثاني: علو الصفات والأفعال، ومنها الألوهية والربوبية.
الثالث: علو القهر والسلطان.
والمعنى الأول والثالث يعودان إلى الثاني، حيث إن الله متصف بصفة العلو والقهر.
فيكون تفسير المثل الأعلى: بالمعاني الحقيقية القائمة بذات الله تعالى،
وهي صفات الكمال، هو الأنسب ويشمل المعاني التي يدل عليها وصف المثل بأنه الأعلى.
الثالث: المثل بمعنى الأمثال القولية التي ضربها الله لعباده.
وهذا المعنى جائز تفسير المثل به في قوله: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، لأن الأمثال التي ضربها الله لنفسه، والأمثال الصحيحة التي يضربها العالمون بالله، تدل على ما هو ثابت لله حقا من المعاني العليا.
ووصف "المثل" - على هذا المعنى - بأنه الأعلى من جهتين:
الأولى: أن ضاربه هو الله تعالى.
الثانية: لدلالته على الحق، والمعاني العالية، التي يدل عليها وصف الأعلى، والتي تقدم بيانها.
والمراد بنسبة المثل إلى الله على هذا المعنى: أي صحة ضربها له. ودلالتها على ما هو ثابت له سبحانه، واختصاصه بها وعدم جواز ضربها لغيره.
وخلاصة ما دل عليه وصف "الأعلى":
تبين مما تقدم أن وصف الله بأنه "الأعلى" يدل على ثلاثة معان:
الأول: علو الذات.
الثاني: علو الصفات والأفعال - ومن ذلك صفة الألوهية والربوبية - عن الشريك والمماثل..
الثالث: علو القهر والسلطان.
وأن نسبة المثل إلى الله ووصفه بأنه الأعلى يمكن تفسيره بأمرين:
الأول: المعاني الحقيقية القائمة بذات الله تعالى وهي صفات الكمال.
الثاني: الأمثال القولية الدالة عليها. والله أعلم.
تحرير المراد "بالمثَلِ الأعْلَى":
إن دلالة السياق الذي ورد فيه قول الله تعالى {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، وقوله:{وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} ، وما يستفاد من النظر فيما يمكن تفسير "المثل" به فيهما من المعاني اللغوية، وما يفيده وصف الله أو ما نسب إليه بالأعلى، كل ذلك يدل على أن "المثل الأعلى" يفسر بأكثر من معنى صحيح.
وهذه المعاني منها معنى هو الأساس والأصل وهو ثبوت المثل الأعلى لله تعالى وقيامه بذاته كما سيأتي بيانه، والمعاني الأخرى دالة عليه أو نتيجة له، فهي توصف بأنها الأعلى باعتبار موافقتها له ودلالتها عليه. فليست معاني متضادة، وإنما يطلق "المثل الأعْلَى" على كل منها باعتبار صحيح.
وقد دل على ذلك - أيضا - أقوال أهل العلم.
وأشمل قول حصر معظم المعاني الصحيحة التي يفسر بها "المثل الأعْلَى" هو ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله:
"المثَلُ الأعْلَى يتضمن الصفة العليا، وعلم العالمين بها، ووجودها العلمي، والخبر عنها وذكرها، وعبادة الرب سبحانه بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه.
فها هنا أربعة أمور: ثبوت الصفات العليا لله سبحانه في نفس الأمر، عَلِمها العباد أو جهلوها، وهذا معنى قول مَن فسره بالصفة.
الثاني: وجودها في العلم والتصور، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وجلاله وتعظيمه.
وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه بل يختص به في قلوبهم كما اختص به في ذاته، وهذا معنى قول من قال من المفسرين: أهل السماء يعظمونه ويحبونه ويعبدونه، وأهل الأرض يعظمونه ويجلونه، وإن أشرك به من أشرك، وعصاه من عصاه، وجحد صفاته من جحدها، فكل أهل الأرض معظمون له مجلون له خاشعون لعظمته مستكينون لعزته وجبروته، قَال تعالى:{بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} 1 فلست تجد أحدا من أوليائه وأعدائه إلا والله أكبر في صدره
1 سورة البقرة آية (116) .
وأكمل وأعظم من كل ما سواه.
الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والتمثيل.
الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده والإخلاص له والتوكل عليه والإنابة إليه، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى.
فعبارات السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها"1.
وهذا التلخيص من الإمام ابن القيم رحمه الله عظيم الفائدة، يدل على عمق فهمه لمدلول المثل الأعلى.
وفيما يلي بعض الوقفات التي لا بدّ منها مع هذا النقل الهام:
الوقفة الأولى: مع قوله: "المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا
…
"، مراده - والله أعلم - أن قول الله تعالى:{وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} يتضمن تفسيره أربعة معان، هي التي ذكرها بعد ذلك.
ويدل على هذا أنه ذكر قبله طائفة من أقوال المفسرين في تفسير الآية، كما يؤيده قوله في الأمر الأول:"وهذا معنى قول من فسره بالصفة"، وقوله في المعنى الثاني: "وهذا معنى قول من قَال من السلف
1 الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، (2/686، 687) .
والخلف: إنه ما في قلوب عابديه
…
"، وقوله بعد إيراد الأمور الأربعة: "فعبارات السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها".
الوقفة الثانية: مع ترتيب الأمور الأربعة.
حيث إن الأنسب تقديم ما ذكره في الأمر الثالث على الأمر الثاني، وذلك:"أن وجودها العلمي والخبر عنها وذكرها"، الحاصل في نصوص الوحي، مقدم على "علم العالمين بها"، وهو سبب له متقدم عليه.
الوقفة الثالثة: مع قوله: "فكل أهل الأرض معظمون له مجلون خاشعون لعظمته مستكينون لعزته وجبروته.... فلست تجد أحدا من أوليائه وأعدائه إلا والله أكبر في صدره وأكمل وأعظم من كل ما سواه".
هذا الاستطراد في بيان الأمر الثاني فيه نظر من جهتين:
الأولى: أنه لا يقال أن المثل الأعلى هو ما في قلوب أوليائه وأعدائه من كون الله أعظم وأكمل من كل ما سواه. فهذا الحد المشترك ليس هو المثَل الأعْلَى فإن أعداء الله المشركين يجعلون معه الشركاء مع اعتقادهم أنه الإله الأعظم. وإنما الحد المشترك هو الإقرار الفطري، وهو أساس مهم في الاستدلال عليهم بالأمثال والحجج الجارية على قاعدة قياس الأولى.
والمثَلُ الأعْلَى - كما دل عليه السياق والدلائل الأخرى - هو اعتقاد تفرد الله بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال.
فهو خاص بالمؤمنين الموحدين، وليس بكل أهل الأرض مسلمهم وكافرهم.
الثانية: أنه متعارض مع ما تقدم من قوله: "وهذا معنى قول من قَال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وجلاله وتعظيمه.
وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه، بل يخص به في قلوبهم كما اختص به في ذاته".
فالأولى لو أضاف التوحيد إلى هذا المعنى - الأمر الثاني - فيكون تفسيره بأنه: ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وتوحيده، ومحبته وذكره وجلاله وتعظيمه
…
ونحو ذلك.
فيكون هذا المعنى هو: ما يقوم في القلوب من إثبات المثل الأعلى لله تعالى من اعتقاد تفرده بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال، وما ينتج عن هذا من أعمال القلوب من محبة الله وتعظيمه وإجلاله وخشيته ونحو ذلك.
الوقفة الرابعة: مع قوله: "الرابع محبة الموصوف بها وتوحيده
…
"
قوله: "وتوحيده"، تقدم أن الأولى أن يضاف التوحيد إلى الأمر الثاني، الذي هو المثل العلمي الاعتقادي الأعلى القائم في قلوب العباد.
أما محبة الله تعالى - المتصف بالمثَلِ الأعْلَى - ونحوها مما يقوم في قلوب المؤمنين العالمين بالله فليست من الأمور التي يفسر بها قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} .
ولا يدل السياق والدلائل الأخرى على أن المثل الأعلى يفسر بالمحبة
ونحوها. ولم يقل بتفسيره بذلك أهل العلم.
لكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هناك تلازماً بين قيام المعرفة بأسماء الله وصفاته في قلوب المؤمنين ومحبته. وأن المحب يتمثل صفات محبوبه وأسماءه. هذا التمثل هو علمه بها، وتذكرها أو ذكره بها. قَال رحمه الله: "وهو أن المؤمن لا بدّ أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له، ما يوجب أن يكون للمعروف المحبوب في قلبه من الآثار ما يشبه الحلول من بعض الوجوه، لا أنه حلول ذات المعروف المحبوب، لكن هو الإيمان به ومعرفة أسمائه وصفاته
…
وهذا قد يسمى المثل والمثال، لأنه قد يقال: إن العلم مثال المعلوم في العالِم، وكذلك الحب فيه تمثيل المحبوب في المحب
…
والتحقيق: أنه قد يحصل تمثل وتخيل لبعض العالمين والمحبين، حتى يتخيل صورة المحبوب وقد لا يحصل تخيل حسي
…
" إلى أن قَال: "وقد قيل في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1 وقوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 2 أنه هذا"3.
1 سورة الشورى آية (11) .
2 سورة الروم آية (27) .
3 مجموع الفتاوى، (2/383، 384) .
وهذا التمثل الَّذِي يقوم بقلوب المؤمنين المحبين لصفات رب العالمين - الَّذِي هو: بمعنى معرفة الصفات وإثباتها وتذكرها، لا التمثيل الحسي، أو هو: ذكره بها مع استحضار معانيها - راجع إلى العلم بها. بمعنى أنه قد يكون صحيحاً موافقاً لما هو ثابت لله حقاً، وقد يكون غير صحيح. وذلك متوقف على صحة العلم والإدراك وليس على المحبة المجردة.
قال ابن تيمية رحمه الله: "والعلم قبل العمل. والإدراك قبل الحركة، والتصديق قبل الإسلام والمعرفة قبل المحبة، وإن كانا يتلازمان؛ لكن علم القلب موجب لعمله، ما لم يوجد معارض راجح، وعمله يستلزم تصديقه، إذ لا تكون حركة إرادية ولا محبة إلا عن شعور، لكن قد تكون الحركة والمحبة فيها فساد إذا لم يكن الشعور والإدراك صحيحا"1.
وقال: "فإن وجود الفروع الصحيحة مستلزم لوجود الأصول"2.
فالمحبة لا تستقل في إثبات المثل الأعلى لله تعالى في قلب المؤمن. وإنما أساس ذلك المعرفة بأسمائه وصفاته وهي فرع عنه، وناتج منه.
وقد توجد المحبة لله عن غير علم صحيح، أو مع علم قاصر، وعندها يكون تمثل القلب لأسماء الله وصفاته خاطئاً، وإثباته لها غير موافق للمثل
1 مجموع الفتاوى، (2/382) .
2 نفس المصدر والصفحة.
الأعلى القائم بذات الله تعالى.
وعليه فإن هذا الأمر الذي أفرده الإمام ابن القيم رحمه الله ناتج وفرع عن الأمر الثاني الذي هو: "وجودها في العلم والتصور
…
"، فينبغي إلحاقه به. وهو قد أشار إلى دخول المحبة فيه حيث قال: "الثاني: وجودها في العلم والتصور. وهذا معنى من قال من السلف والخلف: إنها ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وجلاله وتعظيمه".
وبناء عليه يكون الأمر الثاني - المثل الأعلى العلمي الاعتقادي - شاملاً لما يقوم في قلب المؤمن من حقائق التوحيد، من معرفة الله باعتقاد تفرده بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال، وما ينتج عن ذلك من أعمال القلوب كالمحبة ونحوها.
الوقفة الخامسة: لم يذكر رحمه الله من ضمن الأمور الأربعة أمرا يسوغ تفسير المثل الأعلى به، ودل عليه السياق، ومعنى المثل في اللغة، وقال به طائفة من أهل العلم ألا وهو: الأمثال القولية التي ضربها الله تعالى لبيان تفرده سبحانه بالمثل الأعْلَى.
إلا أن ابن القيم رحمه الله وإن لم يذكره في الأمور الأربعة، فقد أشار إليه بعد ذلك بقوله: "وقد ضرب الله سبحانه مثل السوء للأصنام بأنها لا تخلق شيئا وهي مخلوقة، ولا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ
رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.
فهذان مثلان ضربهما لنفسه وللأصنام فللأصنام مثل السوء وله المثَلُ الأعْلَى.
فهذا المثل الأعْلَى الَّذِي له سبحانه، والأول مثل السوء للصنم وعابديه، وقد ضرب الله سبحانه للمعارضين بين الوحي وعقولهم مثل السوء بالكلب تارة، وبالحمر تارة، وبالأنعام تارة، وبأهل القبور تارة، وبالعُمي الصم تارة، وغير ذلك من الأمثال السوء التي ضربها لهم
1 سورة النحل الآيتان (75- 76) .
2 سورة الحج الآيتان (73-74) .
ولأوثانهم، وأخبر عن مثَله الأعلى بما ذكره من أسمائه وصفاته وأفعاله وضرب لأوليائه وعابديه أحسن الأمثال"1.
ولعل ابن القيم رحمه الله اكتفى بدخول هذا المعنى - وهو الأمثال القولية التي ضربها الله للدلالة على اتصافه بالمثَلِ الأعْلَى -في الأمر الثالث الَّذِي عبر عنه بقوله: "الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والتمثيل" حيث إنه من ذكرها والخبر عنها.
خلاصة ما تقدم:
يستخلص مما تقدم أن المعاني الصحيحة التي يفسر بها المثل الأعْلَى أربعة أمور هي:
الأول: المثَلُ الأعْلَى الحقيقي القائم بذات الله تعالى. وهو: تفرده سبحانه بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال.
ومعنى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} على هذا أي: الوصف الأعلى من كل كمال مطلق ثابت لله تعالى وحده حقيقة على ما يليق به سبحانه.
الثاني: المثَلُ الأعْلَى العلمي. وهو: وجود صفات الله تعالى العلمي الَّذِي هو: الخبر عنها وذكرها في نصوص الكتاب والسنة. حيث تضمنت النصوص بيان تفرد الله بالألوهية والربوبية. وفصلت القول في إيضاح
1 الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، (2/688) .
أسماء الله وأفعاله وصفاته.
ومعنى "المثل الأعلى" على هذا: أي ولله الوصف الأعلى المذكور في نصوص الكتاب والسنة، لا لغيره. فهو الخبر الصحيح عن الله الذي لا يجوز أن يخبر به عن غيره.
الثالث: الأمثال القولية التي تضرب للاستدلال على ما لله من المثل والوصف الأعلى.
وهذا المعنى داخل في الَّذِي قبله.
والفرق بينهما: أن الأمر الثاني - المثل الأعلى العلمي المتمثل بالخبر عن اتصاف الله بصفات الكمال وذكرها - المراد به ذكر الأوصاف نفسها، أما هذا المعنى فالمراد به ذكر الحجج والبراهين على ثبوت صفات الله تعالى بضرب الأمثال.
فكل منهما مثل علمي، لذلك فالأنسب الكلام عليهما كشيء واحد، عند الكلام عليها بالتفصيل - إن شاء الله -.
ومعنى {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} على هذا: أي أن كل مثل يورد للاستدلال به يوافق ما هو ثابت لله من الوصف الأكمل، فهو مثل أعلى مضروب لله، أي مخبر به بحق عن الله، ولا يجوز الإخبار به عن غيره.
الرابع: المثَلُ الأعْلَى العلمي الاعتقادي القائم في قلب المؤمن.
وهو توحيد الله وإثبات المثل الأعلى له سبحانه، باعتقاد تفرده بالألوهية والربوبية وغيرها من صفات الكمال، وما ينتج عن ذلك من
محبة الله، وإجلاله وتعظيمه، وذكره وعبادته.
والمراد بالمثَلِ الأعْلَى على هذا المعنى: أي إن الوصف الأكمل ثابت لله وحده في قلوب المؤمنين، حيث يعتقدون تفرد الله بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال، وما نتج عن ذلك من أعمال القلوب، ولا يشركون غيره معه في شيء من ذلك.
ملاحظات على هذه الأمور الأربعة:
يلاحظ من التأمل في المعاني الأربعة التي يفسر بها المثل الأعْلَى ما يلي:
أولاً: إن الأمور الثلاثة الأخيرة ترتكز على المعنى الأول الَّذِي هو: المثَلُ الأعْلَى الحقيقي القائم بذات الله تعالى، وأنه سبحانه متفرد بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال.
فهذا المعنى هو الأصل والمعاني الأخرى تابعة له، إما بالخبر عنه وبيانه وذكر براهينه، أو بالعلم به واعتقاد ثبوته لله وتفرده به.
ثانياً: يلاحظ أن "المثل الأعلى" الثابت لله في جميع تلك المعاني أساسه تفرد الله تعالى بالألوهية. وكل الصفات الأخرى هي من خصائص الإله الحق تبارك وتعالى.
فالربوبية وأفعال الرب تعالى، هي من أخص أوصافه، وآثارها الظاهرة في الكون هي أكبر دليل على تفرده بالألوهية، وذلك مراد أهل
العلم بقولهم:
إن الإقرار بتفرد الله بالربوبية يستلزم الإقرار بتفرده بالألوهية.
وكذلك سائر صفات الكمال هي من خصائص الإله الحق، ويخبر بها عن اسمه "الله" الدال على اتصافه بالألوهية، وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى الهام في الفوائد إن شاء الله.
ثالثاً: إن ثمرة معرفة ثبوت المثل الأعلى لله تعالى هي: توحيد الله وإقامة الدين له.
وذلك أن العلم بتفرد الله بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال يستلزم توحيده وإقامة الدين له، وما يتصل بذلك، وقد دل على هذا المعنى سياق سورة " الروم " في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَلَا تَكُونُوا مِنْ المُشْرِكِينَ} 1. الآيات
"والمثَلُ الأعْلَى" - الثابت لله تعالى - يدل على أنواع التوحيد الثلاثة حيث يستلزم الإقرار بتفرد الله بالألوهية والربوبية، وأنه متصف بصفات الكمال متفرد بها.
رابعاً: أن تلك المعاني كلها تعود إلى معنى الوصف.
فالأول: ثبوت أوصاف الكمال لله.
والثاني: ذكرها والخبر عنها في النصوص.
والثالث: الأمثال المضروبة للاستدلال عليها.
والرابع: معرفة العبد لأوصاف الله تعالى، وإثباتها، والعمل بموجبها.
وعلى هذا يكون معنى {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} :
أي أن أوصاف الكمال ثابتة لله وحده باعتبارات هي:
- باعتبار اتصافه بها في نفس الأمر.
- وباعتبار ذكرها والخبر عنها في النصوص.
- وباعتبار وجودها في دلالة الأمثال والحجج المبينة لها.
1 سورة الروم آية (27-31) .
- وباعتبار علم المؤمن بها وإثباتها له.
ويؤيد تفسير " المثل " بالوصف في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} أمور من أهمها:
1-
ما تقدم في المعاني اللغوية للفظ " مثل " من أن المثل يأتي بمعنى الوصف1. وأن الوصف هو الغرض الأساس من إيراد المثل2.
وأن المثل يطلق على ما كان جامعا لصفات الشيء وحقائقه3، أو على مجموع صفات الشيء.
2-
ما يستفاد من وصفه بالأعلى من أنه لا يستقيم إلا بتفسيره بشيء قائم بذات الله، وهي صفات الكمال. إذ لو فسر بغير ذلك لأدى إلى إثبات ند لله مماثل له تعالى عن ذلك كما تقدم في دلالة الوصف بالأعلى.4
3-
دلالة السياق على ذلك حيث إن سياق سورتي "النحل" و"الروم" تدور حول إبطال الصفات السيئة التي وصف المشركون بها رب العالمين، حيث وصفوه بأن له أندادا وشركاء، أو أولادا، أو أنه لا
1 انْظر: ما تقدم ص (50) وما بعدها.
2 انْظر: ص (57) .
3 انْظر: ص (72) .
4 انْظر: ص (920) . وما بعدها.
يقدر على إحياء الموتى، ونحوها.
والصفات التي أثبتوها لله، إثباتهم لها أدنى مما لله من الوصف الأعلى.
والله تعالى يبين لهم دلائل تفرده بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال.
كما يبيّن أن له من تلك الصفات التي أثبتوها وغيرها من صفات الكمال كمالها الَّذِي لا يدانيه فيها غيره، ولا يعجزه معها شيء.1
4-
تفسير كثير من أهل العلم للمثل الأعلى بمعنى الوصف.2
5-
إمكان إرجاع تفاسير السلف الصالح للمثل الأعلى إليه.
خامساً: أن القرآن الكريم الَّذِي اشتمل على بيان تلك المعاني التي يفسر بها المثل الأعْلَى - من بيان تفرد الله بالألوهية والربوبية وأوصاف الكمال، ودعا إلى توحيد الله وإقام الدين له، وبين الحجج والبراهين على ذلك، وما يتصل بذلك من صفات الموحدين وعواقبهم الحميدة، وصفات المشركين والكافرين والمنافقين وعواقبهم السيئة، ونحو ذلك - هو الدال على المثل الأعْلَى العلمي.
لذلك قَال تعالى:
1 انْظر: ص (898) .
2 سيأتي بيان هذا والذي بعده عند تفصيل القول على المعنى الأول قريبا إن شاء الله.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} 1، ونحوها.
وهذا المعنى يبين مراد ابن القيم رحمه الله بقوله: "وقد ضرب الله سبحانه للمعارضين بين الوحي وعقولهم مثل السوء بالكلب تارة، وبالعُمي والصم تارة، وغير ذلك من الأمثال السوء التي ضربها لهم ولأوثانهم. وأخبر عن مثله الأعلى بما ذكره من أسمائه وصفاته وأفعاله. وضرب لأوليائه وعابديه أحسن الأمثال.
ومن تدبر القرآن فهم المراد بالمثَلِ الأعْلَى ومثل السوء"2.
سادساً: تفرد الله تعالى بالمثَلِ الأعْلَى في سائر المعاني التي يفسر بها.
وذلك أن:
- صفات الكمال من الألوهية والربوبية وغيرها من الصفات
1 سورة الإسراء آية (89) .
2 الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، تحقيق: د. علي بن محمد الدخيل الله، (3/1036) ، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1408 هـ. والصواعق المنزلة، تحقيق: أ. د/أحمد عطية الغامدي، (2/688) .
وقد وقع في الكتاب الأخير خطأ مطبعي في قوله:"ومن تدبر القرآن فهو
…
" بدل "فهم". وهو يؤدي إلى معنى سيئ مفاده: أن القرآن هو المثل الأعلى، ومثل السوء. ويتعالى كلام الله من أن يكون مثلا للسوء.
ويدل على أن الخطأ مطبعي، أن كلا المحققين لم يشر إلى وجود اختلاف بين النسخ في هذا اللفظ.
ثابتة لله وحده.
- والخبر عنها كائن على أنها خاصة بالله لا يشاركه فيها غيره سبحانه.
- والمؤمنون يثبتونها لله معتقدين تفرده بها.
وقد دل على تفرد الله بها في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} وقوله {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} ، أمران:
الأول: تقديم ما حقه التأخير. فإن تقديم الخبر - حرف الجر وما اتصل به من لفظ الجلالة أو الضمير الدال عليه - في قوله {لِلَّهِ} ، وقوله:{لَهُ} يفيد الاختصاص.
والمعنى: أن المثل الأعلى لله - تعالى شأنه - خاصة 1.
الثاني: وصفه بأنه {الأَعْلَى} .
وقد تقدم ذكر دلالة وصف {الأَعْلَى} على التفرد 2.
قال ابن القيم رحمه الله: "المثَلُ الأعْلَى وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني
1 روح المعاني للألوسي (21/37) .
2 تقدم ص (917) . وما بعدها.
الثبوتية التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره، ولما كان الرب تعالى هو الأعلى ووجهه الأعلى وكلامه الأعلى وسمعه الأعلى وبصره الأعلى وسائر صفاته عليا، كان له المثل الأعْلَى وكان أحق به من كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان، لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف بالمثَلِ الأعْلَى أحدهما وحده، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعْلَى مثل أو نظير، وهذا برهان قاطع من إثبات صفات الكمال على استحالة التمثيل والتشبيه، فتأمله فإنه في غاية الظهور والقوة"1.
وقال: "وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه، بل يختص به في قلوبهم كما اختص به في ذاته"2.
وبعد هذه الوقفات والملاحظات أعود إلى الأمور التي يُفسَّر بها "المثَلُ الأعْلَى" لأبين لكل أمر: دلائله من السياق، والمعاني اللغوية، وأقوال أهل العلم التي فسرت المثل الأعْلَى به، ونحو ذلك.
ويكون في الفروع الآتية:
الفرع الأول: المثَلُ الأعْلَى الحقيقي القائم بذات الله.
الفرع الثاني: المثَلُ الأعْلَى العلمي الخبري.
1 الصواعق المنزله، (2/685) .
2 نفس المصدر ص (2/687) .
الفرع الثالث: المثَلُ الأعْلَى العلمي الاعتقادي القائم في قلوب المؤمنين لله رب العالمين.
والفرع الثاني يشتمل على: ذكر صفات الله تعالى والخبر عنها، ويشمل الأمثال القولية والحجج الدالة عليها، إذ إنها من جنس واحد.
وإلى الكلام على هذه الفروع بشيء من التفصيل والله المستعان.
الفرع الأول: المثَلُ الأعْلَى الحقيقي القائم بذات الله تعالى.
وهو: تفرد الله تعالى بالألوهية، والربوبية وخصائصهما من جميع صفات الكمال.
وتقدم أن معناه: أن الوصف الأكمل من كل كمال مطلق ثابت لله تعالى وحده حقيقة على ما يليق به سبحانه.1
تفسير بعض المفردات الواردة في تعريفه:
معنى المثل هنا: المعنى الجامع لصفات الشيء وحقائقه.
ويراد به قيام جميع أوصاف الكمال بذات الله تعالى.
والمراد بالأعلى: أنه لما كان قيام أوصاف الكمال بمن يتصف بها متفاوتا، كان لله أعلى ذلك الكمال وأكمله وأجله الَّذِي لا يتطرق إليه نقص بحال، اختص به - سبحانه - وتفرد، فلا يشاركه فيه أحد.
المراد بوصف المثل بأنه " الحقيقي " أو قولنا: "أن الوصف الأكمل ثابت لله تعالى حقيقة": أي أن قيام المثل الأعلى - مجموع صفات الكمال - بذات الله سبحانه قيام حقيقي. وأن لكل منها معنى حقيقيا يتصف الله به.
المراد بالكمال المطلق: أي الوصف الأكمل الَّذِي لا يعتريه النقص بحال، بخلاف الكمال النسبي، الَّذِي يكون كمالا في الإنسان مثلا لكن
1 ص: (962)
حقيقته النقص، كالأكل، فالَّذِي يأكل أكمل من الَّذِي لا يأكل، ولكن حقيقته نقص، إذ إن الدافع إليه الحاجة والافتقار.
قَال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما.... قولنا: الكمال الَّذِي لا يتضمن نقصا
…
فاحتراز عما هو لبعض المخلوقات كمال دون بعض، وهو نقص بالإضافة إلى الخالق لاستلزامه نقصاً. كالأكل والشرب مثلا
…
يستلزم حاجة الآكل والشارب إلى غيره. وهو ما يدخل فيه من الطعام والشراب. وهو مستلزم لخروج شيء منه كالفضلات
…
ولهذا كان من الكمالات ما هو كمال للمخلوق، وهو نقص بالنسبة إلى الخالق، وهو كل ما كان مستلزما لإمكان العدم عليه المنافي لوجوبه وقيوميته، أو مستلزما للحدوث المنافي لقدمه، أو مستلزما لفقره المنافي لغناه"1.
المراد بالقيد: "على ما يليق به سبحانه" إفادة أن حقائق الصفات الثابتة لله لا تماثل حقائق صفات المخلوقين، وذلك أن لكل ذات ما يناسبها من الصفات، والله تعالى له الوصف الأكمل والأعلى الَّذِي لا يشاركه فيه غيره.
قَال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
1 مجموع الفتاوى، (6/87) .
"القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فإذا كان له ذات حقيقية لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات"1.
دلالة السياق على هذا المعنى:
تقدم2 أن السياق من سورة "النحل" الَّذِي ورد فيه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، ركز على تقرير تفرد الله بالألوهية، وإبطال الشرك، ونفي أن يكون لله ند أو مماثل من أي نوع كان، والنهي عن ذلك بقوله:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
فالمشركون وصفوا الله بأوصاف سيئة، حيث نسبوا له الشركاء والأنداد، ووصفوه بالتوالد، ومردّ ذلك إلى أنهم ما قدروا الله حق قدره، وما أثبتوا له المثل الأعلى والوصف الأكمل اللائق به سبحانه.
إنهم يقرون بأنه إله، ويعبدونه. وهذا وصف صحيح وكمال.
لكنه لا يكفي لصحة الإيمان حتى يأتوا بالوصف الأكمل، وهو التوحيد باعتقاد أنه لا إله غيره، ولا معبود سواه، ويخلصوا له العبادة.
فالوصف بالألوهية وصف عال، لكنه لا يكفي ولا ينفع حتى يثبت الوصف الأعلى، وهو أن الله وحده المتصف بالألوهية وجميع خصائصها.
1 الرسالة التدمرية، ص 15.
2 انْظر: ص (770) . وما بعدها.
فهم وجميع البشر بحاجة إلى أن يدركوا أن لله الوصف الأعلى الَّذِي لا يقبل المشاركة في الألوهية وغيرها من صفات الكمال.
وهذا أمر هام وفارق بين أولياء الله وأعدائه.
وقد ورد هذا المعنى - وهو بيان علو صفات الله تعالى - في سورة "الإسراء"، في قضية تشابه القضية التي ورد في سياقها إثبات المثل الأعلى لله تعالى في سورة "النحل".
وذلك أنه في سورة "النحل" ذكر أنواعا من الشرك، وأن المشركين جعلوا له البنات. ثم أبطل ذلك، وقابله ببيان أنه سبحانه له المثل الأعْلَى.1
وفي سورة "الإسراء" ذكر سبحانه اتخاذ المشركين الآلهة معه، وزعمهم أن الملائكة بنات الله. وأبطل ذلك سبحانه، وقابله ببيان علو ذاته وصفاته علوا كبيرا، يستحيل معه أن يكون له شريك أو ولد، حيث قَال سبحانه:
{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنْ المَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ نُفُورًا قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ
1 انْظر: ما تقدم ص (887) وما بعدها.
عُلُوًّا كَبِيرًا} 1.
ومن جهة أخرى، وفي نفس الموضوع تضمن السياق النهي عن ضرب الأمثال لله، وهم الشركاء والأنداد - وتلك أوصاف سيئة - وجاء قوله تعالى:{وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ليكون علة حاسمة للنهي.
"فلا يوجد في حقيقة الحال من يكون مماثلا لله فيُضرب مثلاً له، لا في ذاته وصفاته، ولا في ربوبيته وأفعاله، ولا في ألوهيته وحقه على عباده، ولا في علمه وشرعه وهديه"2.
والسياق في أثناء ذلك يَذكر ويُذَكّر بأوصاف الله التي يدبر بها أمر الخلائق، من تفرده بالملك والأمر والخلق ونحوها من صفات الربوبية، والتي آثارها أكبر دليل على تفرده بالألوهية.
فدلالة السياق من سورة "النحل" على هذا المعنى ظاهرة في أن القضية هي في أوصاف الله تعالى. وتدور على وصفهم الله بأن له أولادا وشركاء في الألوهية، مع إثباتهم أنه إله يُعبد.
والسورة ترشد إلى أن إثبات ألوهية الله، مع التلبس بما يناقضه من الشرك لا ينفع. بل يجب إثبات المثل الأعلى لله تعالى في ألوهيته إلى الغاية الأعلى والأكمل التي لا يُتصور معها لله شريك. كما تذكر السورة
1 سورة الإسراء آية (40 - 43) .
2 تقدم ص (772) .
براهين ذلك من دلائل الربوبية.
أما دلالة السياق من سورة "الروم" على هذا المعنى فقد تقدم1 أن القسم الأول منه في قضية من قضايا الربوبية. حيث إن المشركين يقرون بربوبية الله وخلقه، إلا أنهم ينكرون البعث بعد الموت وهو داخل في ربوبية الله وخلقه. فهم إذاً لا يثبتون لله كمال تلك الصفات.
والسورة تبين لهم بالأدلة العقلية وغيرها ثبوتَ المثل الأعلى لله في أوصاف الربوبية. إذ لا يكفي إثبات أنه سبحانه رب خالق مدبر، بل لابد أن يثبتوا له المثل والوصف الأعلى في ذلك، باعتقاد أنه متفرد بالربوبية والخلق، وأنه على كل شيء قدير، فعال لما يريد، لا يعجزه شيء، عندها يعلموا أن البعث عليه يسير.
وخلاصة دلالة السياق من سورتي "النحل" و"الروم" على هذا المعنى:
أن السورتين تناقشان جانبا من اعتقاد المشركين، المتمثل في إثباتهم لله صفة الألوهية والربوبية وغيرها، إثباتا هو أدنى مما يجب لله تعالى. ذلك الإثبات الَّذِي لم يقطع عنهم الظنون السيئة من إثبات الشركاء لله في العبادة، أو ظنهم أن الله لا يقدر على بعث الناس، أو أن الله لا يعلم كثيرا مما يعملون.
1 انْظر: ما تقدم ص (889) وما بعدها.
والسورتان تبينان بدلائل الربوبية المشاهدة، وذكر صفات الرب تبارك وتعالى، وأمثال الحق، أنه لا يكفي ذلك الإثبات في صحة الإيمان حتى يثبتوا لله المثل والوصف الأعلى في تلك الصفات إلى الغاية الأكمل التي لا يُجعل معها لله شريك في ألوهيته، وأنه متفرد بالربوبية، قادر على كل شيء، فعال لما يريد، وسع سمعه الأصوات وأحاط علمه بكل شيء، وهو العزيز الحكيم.
دلالة المعنى اللغوي على هذا المعنى:
تقدمت1 الإشارة إلى دلالة المعنى اللغوي على تفسير المثل في قوله تعالى: {وَللهِ المثَلُ الأعْلَى} ونحوها، بمعنى الوصف الأعلى، وذلك في الملاحظات التي قدمت بها الكلام على هذه المعاني، وفي ذلك كفاية عن الإعادة.
أقوال العلماء في تفسير " المثل الأعلى " بهذا المعنى:
فسر بعض السلف " المثل الأعلى " بأنه بمعنى: لا إله إلا الله ولا رب سواه.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قَال: "مثل السوء: النار، والمثل الأعلى: شهادة أن لا إله إلا الله".2
1 انظر: ص (916) .
2 انظر: معالم التنزيل للإمام الحسين بن مسعود البغوي، تَحْقِيْق/ محمد النمر وآخرين، (14/25) دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1411 هـ.
والصواعق المنزلة، لابن القيم (2/685) .
وقَال قتادة رحمه الله: "مثله أنه لا إله إلا هو، ولا رب غيره".1
وقَال محمد بن المنكدر2 رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} قَال: "لا إله إلا الله".3
واختار هذا ابن جرير رحمه الله في تفسير المثل الأعلى، حيث قَال:"وهو أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فذلك المثل الأعلى تعالى ربنا وتقدس".4
وهذا المعنى عظيم، وهو راجع إلى معنى الوصف.
1 انظر: جامع البيان، لابن جرير، (10/181) ، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/431) .
2 أبو عبد الله محمد بن المنكدر بن عبد الله، القرشي، التيمي، المدني، ولد سنة (30) هـ، وكان من القراء المحدثين، أهل الحفظ والإتقان والزهد، توفي سنة (130) هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (8/378) ، وتهذيب التهذيب (5/382) .
3 انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/431) .
4 جامع البيان، لابن جرير، (10/181) .
فالمثل الأعلى - على هذا المعنى - هو: ثبوت وحدانية الله في وصف الألوهية والربوبية.
والوصف بالألوهية والربوبية يتضمن اتصافه بخصائصهما من صفات الكمال الأخرى، وقد أشار إلى هذا بعض المفسرين حيث قَال:"وقيل: (المثل الأعلى) أي الصفة العليا وهي: لا إله إلا الله"1.
وقَال صاحب روح المعاني: "وعن قتادة ومجاهد أن المثل الأعلى: لا إله إلا الله. ولعلهما أرادا بذلك الوحدانية في ذاته تعالى وصفاته سبحانه"2.
وهذا التفسير وإن كان أشار إلى معنى الوصف بقوله: "ولعلهما أرادا بذلك الوحدانية"، إلا أنه لم يشر إلى تفرده بالألوهية التي هي معنى لا إله إلا الله، والتي هي أساس ثبوت المثل الأعلى، وهي شرط صحة الإيمان. إذ لو أقر شخص بتفرد الله بالذات وصفات الكمال، لكنه لم يقر بأن الألوهية خالصة لله، لم يكن بذلك مؤمنا الإيمان الشرعي.
ولذلك جمع الله بين تفرده بالذات المقدسة، وبوصف الألوهية
1 معالم التنزيل، للبغوي (14/25) ، والتفسير الكبير للرازي، (25/117) .
2 روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للسيد محمود الألوسي (21/37) ، إحياء التراث العربي، بيروت.
بقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لآ إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1.
والحق أن السياق في سورتي "النحل" و"الروم" يشهد لهذا المعنى، حيث إن السورتين في تقرير تفرد الله بالألوهية، واستحقاقه وحده للعبادة، وبيان كمال ربوبيته وقدرته على الخلق ومن ذلك البعث بعد الموت الَّذِي كذب به المشركون.
وتقدم في الملاحظات: "أن المثل الأعلى الثابت لله تعالى في جميع تلك المعاني أساسه تفرد الله سبحانه بالألوهية. وكل الصفات الأخرى هي من خصائص الإله الحق تبارك وتعالى"2.
وقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} وإن سيقت في الدرجة الأولى لذلك، إلا أن الآية جاءت على شكل قاعدة عامة لكل الصفات والمعاني الثابتة لله تعالى، لتدل على أن لله من كل كمال أعلاه، حيث عبر بلفظ المثل الَّذِي يدل على مجموع الصفات.
ومن المعاني التي فسر بها "المثل الأعلى": ما يدل عليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
1 سورة البقرة آية (163) .
2 تقدم ص (933) .
روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.1
وتقدم ذكر تفسير ابن جرير رحمه الله للمثل الأعلى، بما يتضمن معنى قَوْله تَعَالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . 2
وهذا التفسير - أيضا - يرجع إلى معنى ثبوت أوصاف الكمال لله تعالى، وتفرده بها، وأنه ليس كأوصافه شيء سبحانه.
وقد بيّن الإمام ابن القيم رحمه الله ذلك بقوله: "أنه سبحانه وصف نفسه بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وأنه لا سميّ له ولا كفؤ له، وهذا يستلزم وصفه بصفات الكمال التي فات بها شبه المخلوقين، واستحق بقيامها به أن يكون {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وهكذا كونه ليس له سميّ، أي مثيل يساميه في صفاته وأفعاله، ولا من يكافيه فيها"3.
وقَال: "فهذا النفي واقع على العدم المحض وعلى من كثرت أوصاف كماله ونعوت جلاله وأسماؤه الحسنى حتى تفرد بذلك الكمال،
1 انظر: جامع البيان، لابن جرير، (10/181) ، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/431) .
2 تقدم ص (949) .
3 الصواعق المنزلة (2/676) .
فلم يكن له شبه في كماله ولا سميّ ولا كفؤ"1.
وقَال: "فهذا هو الَّذِي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لكثرة نعوته وأوصافه وأسمائه وأفعاله، وثبوتها له على وجه الكمال الَّذِي لا يماثله فيه شيء، فالمثبت للصفات والعلو والكلام والأفعال وحقائق الأسماء هو الَّذِي يصفه سبحانه بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} "2.
إلى أن قَال: "فتأمل كيف كان قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} من أعظم الأدلة على ثبوت صفات كماله سبحانه"3.
وعلى هذا فقَوْله تَعَالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، وقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} كلاهما يُثْبِتُ اتصاف الله تعالى بأوصاف الكمال، وتفرده بها، مع اختلافهما في الأسلوب. حيث إن الآية الأولى بأسلوب الإثبات، والأخرى بأسلوب النفي.
أما العلماء الَّذِين ذكروا تفسير المثل الأعلى بمعنى الوصف الأكمل فكثيرون، ويكاد أن يكون اتفاق على اعتباره.
1 الصواعق المنزلة (2/677) .
2 نفس المصدر (2/683) .
3 نفس المصدر (2/685) .
قَال الإمام الحسين البغوي1 رحمه الله: " {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} : الصفة العليا، وهي التوحيد وأنه لا إله إلا هو، وقيل: جميع صفات الجلال والكمال...."2.
وقَال الراغب الأصفهاني رحمه الله في قَوْله تَعَالى: " {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} : أي لهم الصفات الذميمة وله الصفات العلى"3.
وقَال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "
…
الكمال ثابت لله، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى، يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه. فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وأن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية،
1 الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي، الحافظ الفقيه المفسر. ألف: معالم التنزيل في التفسير، ومصابيح السنة، وشرح السنة، والتهذيب في الفقه الشافعي. توفي سنة (516 هـ) .
انظر: سير أعلام النبلاء (19/439) ، والبداية والنهاية (12/206) .
2 معالم التنزيل (14/25) .
3 المفردات في غريب القرآن ص (462) .
والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع على ذلك
…
".
إلى أن قَال: "وثبوت معنى الكمال قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة، دالة على معانٍ متضمنة لهذا المعنى. فما في القرآن من إثبات الحمد له، وتفصيل محامده، وأن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه، ونحو ذلك، كله دال على هذا المعنى"1.
وقَال ابن كثير رحمه الله: " {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} أي الكمال المطلق من كل وجه، وهو منسوب إليه"2.
وتقدم قريبا ذكر بعض أقوال ابن القيم رحمه الله في هذا المعنى.
وقَال عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسير المثل الأعلى: "وهو كل صفة كمال، وكل كمال في الوجود، فالله أحق به من غير أن يستلزم ذلك نقصا بوجه من الوجوه"3.
وقَال الزركشي رحمه الله في قَوْله تَعَالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} :
1 مجموع الفتاوى (6/71، 72) .
2 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (2/573) .
3 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (4/213) .
"أي الوصف الَّذِي له شأن"1.
وقد فسره بمثل هذا التفسير جمع من المفسرين.2
وأكتفي بهذه النماذج من أقوال أهل العلم، الدالة على هذا المعنى. إذ إن ما ورد من ذلك كثير، وحصره ليس باليسير، وما ذكر فيه وفاء بالغرض - إن شاء الله -.
شواهد هذا المعنى في النصوص:
والمقصود ذكر بعض النصوص التي تبين ثبوت المثل الأعلى لله تعالى متضمنة المعاني التي دل عليها قَوْله تَعَالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} وقوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} ، والتي جرى بيانها في هذا المعنى، وقبل إيراد النصوص أرى أنه من المفيد أن ألخص أهم معالم "المثل الأعلى" القائم بذات الله، ليتبين مدى التوافق بينها وبين ما يتم إيراده من الشواهد، وذلك فيما يلي:
1-
قيام جميع صفات الكمال بذات الله تعالى وأن له من كل كمال أكمله وأعلاه.
2-
تفرده بها سبحانه.
3-
أن المثل الأعلى أساسه تفرد الله بالألوهية، وكل الصفات
1 البرهان في علوم القرآن (1/489) .
2 انظر: تفسير أبي السعود (5/122) وروح المعاني للألوسي (13/170) ، وصفوة التفاسير للصابوني (2/131) وغيرهم.
الأخرى من خصائص الإله الحق سبحانه.
4-
أن صفة الربوبية المتضمنة لأفعال الله التي يخلق ويدبر بها، هي من أخص صفات الإله الحق تبارك وتعالى، وآثارها الظاهرة في الكون هي أكبر دليل على تفرده بالألوهية.
وبعد هذا التلخيص لأهم معالم "المَثَل الأَعْلَى" أعود إلى ذكر النصوص التي تبين ثبوته لله، وتشهد لهذا المعنى. وذلك أن اتفاق ما فُسر به المثل الأعلى، مع دلالة نصوص أخرى، دليل على مناسبة ذلك التفسير وقوته، يضاف إلى الدلائل الأخرى.
وسأذكر النصوص القرآنية مرتبة حسب ورودها في المصحف فيما يلي:
أولاً: آية الكرسي.
1 سورة البقرة آية (255) .
فقد دلت هذه الآية العظيمة على ثبوت المثل الأعلى لله تعالى لاشتمالها على المعاني التي دل عليها.
فقَوْله تَعَالى: {اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} دل على تفرده سبحانه بالألوهية، وتقديمها يدل على أنها الأساس في التعريف بالله، وإثبات أوصاف الكمال له.
قَوْله تَعَالى: {الحَيُّ القَيُّومُ} : هذان الاسمان يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن.
قَال شارح العقيدة الطحاوية رحمه الله في الكلام على هذين الاسمين: "وهما من أعظم أسماء الله الحسنى، حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم. فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه
…
ولهذا كان قوله: {اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.1
1 يشير إلى ما رواه الإمام مسلم رحمه الله عن أبي بن كعب رضي الله عنه قَال: قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ " قَال: قلت: الله ورسوله أعلم. قَال: يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قَال: قلت: {اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} قَال: فضرب في صدري وقال: "والله ليهنك العلم أبا المنذر". كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي (ح 810) ، (1/556) .
فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها. وإليهما ترجع معانيها. فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها، استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة.
أما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته. فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام"1.
وحاصل هذا الكلام القيم أن اسمي (الحي) و (القيوم) قد دلا على جميع أوصاف الكمال. "فانتظمت الصفات الذاتية تحت اسم (الحي) ، والصفات الفعلية تحت (القيوم") 2.
ومعلوم أن الصفات الفعلية هي الأوصاف الدالة على ربوبية الله تعالى، التي يرب ويدبر بها الخلائق.
1 شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، ص 124، 125، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1392 هـ.
2 تقريب وترتيب شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، إعداد: خالد فوزي عبد الحميد. (1/437) ، دار التربية والتراث، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1417 هـ.
ومن دلالة آية الكرسي على تفرد الله بأوصاف الكمال ما دل عليه ختام الآية بقوله: {وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} .
وقد بيّن الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله المعاني التي يدل عليها هذان الاسمان، فذكر من دلالة اسم الله (العلي) علو القدر فقال:"وله علو القدر وهو علو صفاته وعظمتها فلا يماثله صفة مخلوق".1
وذكر من معاني اسم الله (العظيم) معنى: "أنه موصوف بكل صفة كمال، وله من ذلك الكمال أكمله وأعظمه وأوسعه".2
وهذان المعنيان المستفادان من اسمي (العلي) و (العظيم) - من أن صفاته - سبحانه - عالية إلى الكمال الأعظم الَّذِي لا يدانيه فيه غيره. وأن له من كل كمال أكمله وأعلاه - يلتقيان مع معنى الوصف بالأعلى، حيث تقدم أنه يدل على: تفرد الله بأوصاف الكمال، وأنه له من كل كمال أكمله وأعلاه.
فيكون قَوْله تَعَالى: {العَلِيُّ العَظِيمُ} بمعنى (الأعلى) والله أعلم.
1 الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية، ص (26) .
2 نفس المصدر، ص (27) .
ويتبين مما تقدم أن آية الكرسي دلت على المعاني التي دل عليها قَوْله تَعَالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} .
حيث دل قَوْله تَعَالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} على تفرد الله بالألوهية.
وتقديم ذكرها دليل على أنها الأساس في صفات الله تعالى.
ودل قَوْله تَعَالى: {الحَيُّ القَيُّومُ} : على ثبوت جميع صفات الكمال لله تعالى.
ودل اسم الله تعالى: (القيوم) على أوصاف الربوبية. وأفعاله تعالى التي يقيم ويدبر بها الخلائق.
ودل قَوْله تَعَالى: {العَلِيُّ العَظِيمُ} . على تفرد الله بأوصاف الكمال وأن له من كل كمال أكمله وأعلاه وأعظمه.
وأكتفي بهذا القدر من الكلام على آية الكرسي، إذ إن المقصود هو بيان دلالتها على ما دل عليه (المثل الأعلى) من المعاني.
ثانياً: الآيات الأُول من سورة "طه":
قَال الله تعالى {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ العُلا الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} 1.
فهذه الآيات المباركة شاملة للمعاني التي دل عليها: (المثل الأعلى) وبيان ذلك فيما يلي:
في قَوْله تَعَالى: {تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ
…
} الآية، وقوله:{لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ....} الآية ذكر للخلق، والملك، وهما من أعظم أوصاف الربوبية.
في قَوْله تَعَالى: {اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} ذكر لتفرده بالألوهية.
في قَوْله تَعَالى: {لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} ذكر لاتصافه بجميع صفات الكمال، تلك المعاني الحسنة التي دلت عليها أسماؤه.
قَال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "هذا بيان لعظيم جلاله، وسعة أوصافه، بأن له الأسماء الحسنى أي كل اسم حسن.
وضابطه: أنه كل اسم دال على صفة كمال عظيمة. وبذلك كانت حسنى.
فإنها لو دلت على غير صفة، بل كانت علما محضا، لم تكن حسنى.
1 سورة طه آية (1- 8) .
وكذلك لو دلت على صفة ليست بصفة كمال، بل إما صفة نقص، أو صفة منقسمة إلى المدح والقدح، لم تكن حسنى.
فكل اسم من أسمائه، دال على جميع الصفة التي اشتق منها، مستغرق لجميع معناها"1.
أما دلائل تفرده فهي كثيرة في هذه الآيات، من ذلك:
دل على تفرده بالربوبية تقديم ما حقه التأخير في قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ
…
} والمَلِكُ يخلق ويدبر في ملكه كيف يشاء.
ودل على تفرده بالألوهية: أسلوب النفي والإثبات في قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} .
ودل على تفرده بالأسماء الحسنى، الدالة على صفات الكمال: تقديم ما حقه التأخير، في قوله:{لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} .
وظاهر أن هذه المعاني هي المعاني التي دل عليها (المثل الأعلى) .
ثالثاً: الآيات من آخر سورة (الحشر) :
قَال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ
1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (3/120) .
اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1.
هذه الآيات العظيمة من سورة (الحشر) هي أشمل الآيات التي فصلت المعاني التي دل عليها (المثل الأعلى) لله تعالى، حيث بينت الحقائق الآتية:
1-
تفرد الله تعالى بالألوهية، واستحقاقه وحده للعبادة في قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ
…
} .
2-
تقديم ما يدل على اتصاف الله بالألوهية، وتفرده بها، في قَوْله تَعَالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} ، ثم الإخبار عن ذلك بذكر أسمائه سبحانه بقوله: {المَلِكُ القُدُّوسُ
…
} الآية، يدل على أن وصف الألوهية هو المعنى الأساس الَّذِي ترجع إليه كل صفات الكمال.
وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى في الفوائد إن شاء الله تعالى.
3-
ذكر عدد كبير من أسماء الله الحسنى الدالة على صفات الكمال، وهي تدخل في تفصيل ما دل عليه المثل الأعلى من اتصافه تعالى
1 سورة الحشر آية (22-24) .
بصفات الكمال، ومنها تلك الصفات التي دلت عليها الأسماء المذكورة.
4-
قوله بعد ذلك: {لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} إجمال بعد التفصيل يدل على أن ما ذكر هي بعض أسمائه، وأنه سبحانه له من كل كمال أكمله وأعلاه. فكل اسم حسن دال على كمال فهو من أسمائه تبارك وتعالى. وهذا الإجمال بعد التفصيل يدل تماما على ما دل عليه المثل الأعلى من أن لله من كل كمال مطلق أكمله وأعلاه.
5-
في قوله: {هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ} ذكر لربوبية الله تعالى. حيث إنه سبحانه يَرُب الكون ويدبر أمور الخلائق بما يخلقه فيهم ومنهم. فصفة الخلق ترجع إليها جميع الصفات الفعلية التي يحدث بها أثر في المخلوق.
6-
أنه لما كانت هذه الآيات شاملة للمعاني التي دل عليها (المثل الأعلى) ختمها سبحانه بالاسمين اللَّذَيْن ختم بهما الآيات التي ورد فيها إثبات المثل الأعلى لله تعالى، وهما:(العزيز الحكيم) .
حيث قَال في سورة "الحشر": {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} .
وقال في سورة "النحل": {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} .
وقال في سورة "الروم": {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ
بصفات الكمال، ومنها تلك الصفات التي دلت عليها الأسماء المذكورة.
4-
قوله بعد ذلك: {لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} إجمال بعد التفصيل يدل على أن ما ذكر هي بعض أسمائه، وأنه سبحانه له من كل كمال أكمله وأعلاه. فكل اسم حسن دال على كمال فهو من أسمائه تبارك وتعالى. وهذا الإجمال بعد التفصيل يدل تماما على ما دل عليه المثل الأعلى من أن لله من كل كمال مطلق أكمله وأعلاه.
5-
في قوله: {هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ} ذكر لربوبية الله تعالى. حيث إنه سبحانه يَرُب الكون ويدبر أمور الخلائق بما يخلقه فيهم ومنهم. فصفة الخلق ترجع إليها جميع الصفات الفعلية التي يحدث بها أثر في المخلوق.
6-
أنه لما كانت هذه الآيات شاملة للمعاني التي دل عليها (المثل الأعلى) ختمها سبحانه بالاسمين اللَّذَيْن ختم بهما الآيات التي ورد فيها إثبات المثل الأعلى لله تعالى، وهما:(العزيز الحكيم) .
حيث قَال في سورة "الحشر": {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} .
وقال في سورة "النحل": {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} .
وقال في سورة "الروم": {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ
وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله يحبه"1.
وورد في فضلها أنها تعدل ثلث القرآن.
دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن".2
وبيان دلالة السورة على المعاني التي دل عليها (المثل الأعلى) فيما يلي:
1-
دلالة السورة على تفرد الله بالألوهية، واستحقاقه وحده للعبادة في قوله:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
قَال ابن جرير رحمه الله في تفسيرها: "قل يا محمد لهؤلاء السائلين عن نسب ربك
…
: الرب الَّذِي سألتموني عنه، هو الله الَّذِي له عبادة كل شيء، لا تنبغي العبادة إلا له، ولا تصلح لشيء سواه"3.
2-
دلالة السورة على اتصاف الله بجميع أوصاف الكمال، وذلك في دلالة اسم الله (الصمد) .
وقد اختلف أهل العلم في معنى اسم الله (الصمد) ، وليس المقصود تحرير معناه، وإنما بيان دلالته على المطلوب، من اتصاف الله بجميع صفات
1 رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تعالى (ح 7375)(13/347) .
2 رواه البخاري كسابقه، ح (7373) .
3 جامع البيان، لابن جرير، (12/741) .
الكمال. وهو المعنى الَّذِي يرجع إليه أغلب تلك الأقوال.1
وممن نص على أن اسم الله (الصمد) ، يدل على اتصاف الله بصفات الكمال وأن له من كل كمال أكمله، ابن عباس رضي الله عنهما حيث قَال في تفسيره:"السيد الَّذِي قد كمل في سؤدده، والشريف الَّذِي قد كمل في شرفه، والعظيم الَّذِي قد عظم في عظمته، والحليم الَّذِي قد كمل في حلمه، والغني الَّذِي قد كمل في حكمته، وهو الَّذِي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه هذه صفته، لا تنبغي إلا له"2.
فهذا التفسير من ابن عباس رضي الله عنهما يدل على أن اسم الله (الصمد) يدل على أن لله من كل كمال أكمله وأعلاه. وضرب أمثلة على ذلك.
وقال أحمد بن عمر القرطبي3 رحمه الله:
1 انظر: جامع البيان، لابن جرير، (12/741-744) ، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (17/214) وما بعدها.
2 انظر: جامع البيان، لابن جرير، (12/744) ، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (4/570) .
3 أبو العباس، ضياء الدين، أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، ولد سنة (578 هـ) ، في قرطبة بالأندلس، كان فقيها محدثا، له مواقف في الإنكار على الصوفية والمبتدعة. ولم يسلم من بدعة الأشاعرة في العقيدة. له مصنفات عديدة منها: مختصر البخاري، وتلخيص صحيح مسلم، والمفهم في شرح ما أشكل من تلخيص مسلم، وكتاب في أصول الفقه، وغيرها. توفي سنة (656 هـ) .
انظر: البداية والنهاية (13/213) . وشذرات الذهب (7/473) .
"و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تشتمل على ذكر أوصاف الحق سبحانه وتعالى، فكانت ثلثا من هذه الجهة".1
وقال عنها: "اشتملت على اسمين من أسمائه تعالى، يتضمنان جميع أوصاف كماله تعالى، لم يوجدا في غيرها من جميع السور، وهما: الأحد، والصمد، فإنهما يدلان: على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع صفات الكمال المعظمة"2.
إلى أن قَال: ".. وأما الصمد: فهو المتضمن لجميع أوصاف الكمال، فإن الصمد هو الَّذِي انتهى سؤدده بحيث يُصْمد إليه في الحوائج كلها، أي يقصد، ولا يصح ذلك تحقيقا إلا ممن حاز جميع خصال الكمال حقيقة، وذلك لا
1 المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم، لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، ت: محي الدين ديب وآخرين، (2/441) دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب، بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ.
2 نفس المصدر (2/441) .
يكمل إلا لله تعالى، فهو الأحد، الصمد، الَّذِي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . فقد ظهر أن لهذين الاسمين من شمول الدلالة على الله تعالى وصفاته ما ليس لغيرهما من الأسماء، وأنهما ليسا موجودين في شيء من سور القرآن فظهرت خصوصية هذه السورة: بأنها ثلث القرآن"1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقوله {الصَّمَدُ} يتضمن جميع صفات الكمال، فالنقائص جنسها منفي عن الله تعالى. وكل ما اختص به المخلوق فهو من النقائص التي يجب تنزيه الرب عنها. بخلاف ما يوصف به الرب، ويوصف العبد بما يليق به: مثل العلم، والقدرة، والرحمة، ونحو ذلك فإن هذه ليست نقائص، بل ما ثبت لله من هذه المعاني فإنه يثبت لله على وجه لا يقاربه فيه أحد من المخلوقات، فضلا عن أن يماثله"2.
وقال ابن القيم رحمه الله: "فإن الصمد: من تصمد نحوه القلوب بالرغبة والرهبة، وذلك لكثرة خصال الخير فيه، وكثرة الأوصاف الحميدة له.... فهو الَّذِي اجتمعت
1 المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم، (2/441) .
2 مجموع الفتاوى (17/325) .
فيه صفات الكمال"1.
3-
دلالة السورة على تفرده بالكمال المطلق.
وذلك في دلالة قَوْله تَعَالى: {أَحَدٌ} وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .
قَال القرطبي رحمه الله: "فالأحد في أسمائه تعالى مشعر بوجوده الخاص به الَّذِي لا يشاركه فيه غيره"2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فقوله: {أَحَدٌ} مع قوله: {لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ينفي المماثلة والمشاركة"3.
4-
دلالة السورة على تفرده سبحانه بالربوبية، وذلك مستفاد من تفسير من فسر {الصَّمَد} بأنه:"السيد الَّذِي يصمد إليه في الحوائج"4.
وإنما صمد إليه الناس في حوائجهم، واتجهت إليه قلوبهم لما استقر فيها من أنه الرب المدبر الخالق الرازق المتصرف وهذا
1 الصواعق المنزلة، تحقيق/د. أحمد عطية الغامدي (2/681) .
2 المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم، لأحمد بن عمر القرطبي، (2/442) .
3 مجموع الفتاوى (17/325) .
4 مجموع الفتاوى (17/214) .
إقرارهم بربوبية الله تعالى.
كما أن المعنى المتقدم من كون اسم الله (الصمد) يدل على اتصاف الله تعالى بجميع صفات الكمال، يشمل في عمومه الصفات الفعلية التي يدل عليها وصف الربوبية.
ومما تقدم يتضح أن سورة الإخلاص تدل على المعاني العظيمة التي فسر بها المثل الأعلى الثابت لله تعالى من:
تفرده سبحانه بالألوهية، والربوبية، وسائر صفات الكمال وأن له من كل كمال أكمله وأعلاه.
وأكتفي بهذه النصوص التي تدل على أن لله المثل الأعلى من تفرده بالألوهية، والربوبية، وسائر صفات الكمال، وأن له من كل كمال أكمله وأعلاه. وفي ذلك دلالة على قوة تفسير المثل الأعلى بهذه المعاني.
وذلك أن تفسير ألفاظ القرآن بالمعاني المقررة فيه هو الأولى، بل هو المتعين إذا تبين. والله أعلم.
وخلاصة هذا الفرع:
تبين مما تقدم أن المعنى الأساس الَّذِي يفسر به (المثل الأعلى) هو: المثل الأعلى الحقيقي القائم بذات الله تعالى الَّذِي يدل على:
تفرد الله تعالى بالألوهية، والربوبية، وخصائصهما من صفات الكمال.
وحقيقته: أن الوصف الأكمل من كل كمال مطلق، ثابت لله تعالى
وحده حقيقة على ما يليق به سبحانه.
وتبين دلالة السياق، والمعاني اللغوية على صحة هذا التفسير - كما دل على ذلك كثير من أقوال أهل العلم. وتبين أن هذا المعنى ورد في نصوص كثيرة مهمة.
وذلك يشهد لقوة تفسير (المثل الأعلى) بهذه المعاني. والله تعالى أعلم.
الفرع الثاني: المثل الأعلى لله تعالى العلمي الخبري.
تقدم1 تعريفه بأنه: وجود صفات الله تعالى العلمي، الَّذِي هو: الخبر عنها وذكرها في نصوص الكتاب والسنة.
حيث تضمنت النصوص بيان تفرد الله بالألوهية، والربوبية، وفصلت التعريف بأسماء الله وأفعاله وصفاته.
كما تقدم هناك بيان المراد بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} على هذا المعنى، وأنه بمعنى: ولله الوصف الأعلى المذكور في نصوص الكتاب والسنة، لا لغيره. فهو الخبر الصحيح عن الله، الَّذِي لا يجوز أن يخبر به عن غيره.
وتقدم2 أن هذا النوع يشتمل على الأمثال القولية التي ضربها الله في كتابه لبيان الحجج والبراهين على تفرده بالألوهية والربوبية وصفات الكمال.
دلالة السياق على هذا المعنى:
لا يقال إن سياق سورة "النحل" أو سورة "الروم" التي ورد فيها إثبات المثل لله تعالى يدل على هذا المعنى فحسب، بل إن جميع سور
1 ص (962) .
2 ص (962) .
القرآن الكريم توضح ذلك، ويتكامل فيها البيان لما هو ثابت لله تعالى من الأسماء والصفات، والأفعال، والتي تدل بمجموعها على المثل الأعلى لله تعالى.
وكذلك السنة المطهرة تدل على كثير من أسماء الله وصفاته وأفعاله.
وقد تقدم1 ذكر نماذج من دلالة القرآن الكريم على المثل الأعلى لله تعالى، في المعنى السابق.
أما النوع الثاني: وهو الأمثال العلمية القولية التي ضربها الله تعالى لبيان تفرده بالمثل الأعلى، فقد ورد طائفة منها في سورتي "النحل" و "الروم" اللتين ورد فيهما إثبات المثل الأعلى لله تعالى. ومما ورد في سورة "النحل" قوله عز وجل:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2.
1 ص (956) وما بعدها.
2 سورة النحل آية (74-76) .
ومن سورة الروم قوله تعالى:
وهذا يدل على أن قضية ضرب الأمثال لله تعالى من القضايا الهامة التي تطرقت لها السورتان. وأن الله تعالى نهى الجاهلين عن ضرب الأمثال له. وضرب الأمثال العالية لنفسه سبحانه.
وبيّن أن له الأمثال العليا التي تدل على اتصافه بالمثل الأعلى. والله أعلم.
1 سورة النحل آية (112)
2 سورة الروم آية (28) .
3 سورة الروم آية (58) .
دلالة المعنى اللغوي:
تقدم1 أن لفظ "مثَل" من معانيه في اللغة: الدلالة على: مجموع صفات الشيء وحقائقه. أو على الأنموذج الجامع لها.
والقرآن الكريم والسنة المطهرة جامعان لذكر صفات الله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وحقه على عباده، وأفعاله، وسننه.
فهما مشتملان على ذكر المثل الأعلى لله تعالى.
فيقال: إن جميع صفات الله تعالى - التي أخبر بها عباده - والمعاني الثابتة له حقيقة، موجود ذكرها في الكتاب والسنة، ففيهما المثل الأعلى العلمي.
أما دلالته على الأمثال القولية فهي ظاهرة حيث إنها من المعاني الرئيسة التي يطلق عليها لفظ "مثل".
أقوال العلماء الدالة على هذا المعنى:
تقدم كلام ابن القيم رحمه الله وهو يذكر عبارات السلف في تفسيرهم للمثل الأعلى، حيث قَال:"الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والتمثيل"2.
1 ص (72) .
2 الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، ت: أ. د/أحمد الغامدي، (2/687) .
وقال: "وأخبر عن مثَله الأعلى بما ذكره من أسمائه وصفاته وأفعاله. وضرب لأوليائه وعابديه أحسن الأمثال.
ومن تدبر القرآن فهم المراد بالمثل الأعلى"1.
وقال عن إطلاق الأمثال القولية التي ضربها الله لعباده:"فهذان مثلان ضربهما الله لنفسه وللأصنام. فللأصنام مثل السوء، وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى"2.
وقال الزجاج3 رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} :
"المثل قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، قد ضربه الله تعالى مثلا فيما يسهل ويصعب عندكم، وينقاس على أصولكم، فاللام في المثل للعهد، وهو محمول على ظاهره"4.
أهمية المثل الأعلى الخبري:
إن وجود ذكر المثل الأعلى - الدال على تفرد الله بالألوهية
1 الصواعق المرسلة، ت: د. علي الدخيل الله، (3/1036) ، وانظر التعليق، ص () .
2 الصواعق المنزلة 2/688.
3 أبو إسحاق، إبراهيم بن السري بن سهل، الزجاج، كان إماما في العربية، من أهل الدين. ألف عددا من الكتب منها:
معاني القرآن، والاشتقاق، وخلق الإنسان. توفي سنة 311 هـ. انظر: إشارة التعيين، وتراجم النحاة واللغويين ص (12) ، والأعلام (1/40) .
4 انظر: روح المعاني للألوسي 21/37، وأشار إلى هذا المعنى الرازي صاحب التفسير الكبير (25/117) .
والربوبية، وسائر صفات الكمال - في نصوص الكتاب والسنة مهم جداً، إذ هو الطريق لعلم العالمين، وقيام المعرفة الصحيحة في قلوب العباد بالله رب العالمين ولولاه لما استطاع أحد أن يعرف ربه معرفة صحيحة. فهذا مضمار لا مجال للعقول للوصول إليه، ولذلك ورد بيانه وتفصيله في الكتاب العزيز والسنة المطهرة.
الفرع الثالث: المثل الأعلى العلمي الاعتقادي القائم في قلوب المؤمنين لرب العالمين.
تقدم1 أن المراد به هو: توحيد الله باعتقاد تفرده بالألوهية والربوبية، وأن له الأسماء الحسنى وله من كل كمال مطلق أكمله وأعلاه، وما ينتج عن ذلك من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وذكره وعبادته.
فالوصف الأكمل من كل كمال ثابت لله وحده في قلوب المؤمنين على الوجه الذي دل عليه المثل الأعلى الخبري، الثابت في نصوص الكتاب والسنة.
دلالة السياق على هذا المعنى:
لقد تضمن كلا السياقين اللذيْن ورد فيهما إثبات المثل الأعلى لله تعالى، الدعوة إلى التوحيد والاستقامة على الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام وذكر أهم صفات الموحدين العارفين بالله.
فختمت سورة "النحل" بقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ
1 ص (932) .
الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ المُشْرِكِينَ} 1.
فذكر تعالى صفات إبراهيم عليه السلام إمام الموحدين، ثم أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم باتباعه في ذلك، بالتزام التوحيد الخالص ومفارقه طريقة المشركين الظانين به ظن السوء، الضاربين له الأمثال.
وفي سورة الروم بعد قوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى..} الآية، ورد قوله سبحانه:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنْ المُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 2.
وتقدم3 في دلالة السياق أن: "في مجيء قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا
…
} الآيات، بعد إثبات المثل الأعلى له وحده سبحانه،
1 سورة النحل آية (120 - 123) .
2 سورة الروم آية (30 - 32) .
3 ص (905) وما بعدها.
مناسبة هامة هي: بيان أن إقامة الدين وإخلاص العبادة لله هي ثمرة العلم وإثبات المثل الأعلى لله وحده. فمن أثبت لله المثل الأعلى، عمر قلبه بالتوحيد. وعندها يقيم دينه وحياته وكل أحواله لله، وعلى منهج الله".
دلالة المعنى اللغوي:
تقدم في الفرعين السابقين أن ثبوت المثل الأعلى لله تعالى موافق للمعنى اللغوي للمثل الدال على: مجموع صفات الشيء وحقائقه، أو الجامع لها.
والمثل الأعلى القائم في قلوب المؤمنين لرب العالمين مطابق لذلك، حيث إن المراد: وجود العلم وثبوت الاعتقاد بجميع أوصاف الله تعالى، والمعاني التي أخبر بها عن نفسه في قلوب المؤمن.
قَال ابن تيمية رحمه الله: "لأنه قد يقال: إن العلم مثال المعلوم في العَالِم"1
أقوال العلماء في تفسير "المثل الأعلى" بهذا المعنى:
فسر بعض العلماء من السلف وغيرهم "المثل الأعلى" بما يدل على التوحيد، والتوحيد فعل العبيد.
ومن أولئك قتادة رحمه الله في تفسير {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ،
1 مجموع الفتاوى 2/383.
حيث قَال: "شهادة أن لا إله إلا الله"1.
وقصده بذلك ما دلت عليه من التوحيد، كما يدل عليه ما روي عنه من تفسير "المثل الأعلى" بالإخلاص والتوحيد2.
وقال ابن جرير رحمه الله: "يقول: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} : وهو الأفضل والأطيب، والأحسن، والأجمل، وهو التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره"3.
وقال الشوكاني رحمه الله: " {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} : وهو أضداد صفة المخلوقين، من الغنى الكامل، والجود الشامل، والعلم الواسع، أو التوحيد وإخلاص العبادة"4.
وقد بيّن الإمام ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى، بقوله: "وأما قرب الرب من قلوب المؤمنين وقرب قلوبهم منه: فهذا أمر معروف لا يجهل، فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة، والذكر والخشية والتوكل. وهذا متفق عليه بين الناس كلهم
…
وهذا القرب الَّذِي في القلب - المتفق عليه - هو قرب المثال العلمي
1 جامع البيان، لابن جرير، (7/600) .
2 نفس المصدر، (7/600) .
3 نفس المصدر، (7/600) .
4 فتح القدير، لمحمد بن علي الشوكاني (3/170، 171) .
في الحقيقة، وذلك مستلزم لمحبته، فإن من أحب شخصا تمثل في قلبه ووجده قريبا إلى قلبه، وإذا ذكره حضر في قلبه
…
وهذا هو "المثل الأعلى" الَّذِي قَال الله فيه: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} .... وهو "المثل" في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فإنه سبحانه لا يماثله شيء أصلا. فنفسه المقدسة لا يماثلها شيء من الموجودات، وصفاته لا يماثلها شيء من الصفات. وما في القلوب من معرفته لا يماثله شيء من المعارف. ومحبته لا يماثلها شيء. فله {المَثَلُ الأَعْلَى} كما أنه في نفسه الأعلى"1.
وتقدم2 أن ابن القيم رحمه الله ذكر هذا المعنى في المعاني التي تدور عليها عبارات السلف في تفسير المثل الأعلى، حيث قَال: "الثاني: وجودها في العلم والتصور وهذا معنى قول من قَال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وجلاله وتعظيمه.
وهذا الَّذِي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه، بل يختص به في قلوبهم، كما اختص به في ذاته"3.
1 مجموع الفتاوى (5/249، 250) .
2 ص (923) .
3 الصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة (2/687) .
وقال: "الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده، والإخلاص له والتوكل عليه، والإنابة إليه، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى"1.
كما تقدم2 أن الأولى دمج هذين الأمرين في أمر واحد يشمل ما يقوم في قلب المؤمن من حقائق التوحيد من معرفة الله باعتقاد تفرد الله بالألوهية والربوبية، وسائر صفات الكمال، وما ينتج عن ذلك من محبة الله، والتوكل عليه
…
ونحوها.
وقال أيضاً رحمه الله: "وخلق الله القلوب، وجعلها محلا لمعرفته ومحبته وإرادته، فهي عرش المثل الأعلى الَّذِي هو معرفته ومحبته وإرادته. قَال تعالى:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 3. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 4. وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 5.
1 الصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة (2/687) .
2 ص (926) .
3 سورة النحل آية (60) .
4 سورة الروم آية (27) .
5 سورة الشورى آية (11) .
فهذا من المثل الأعلى وهو مستو على قلب المؤمن فهو عرشه، وإن لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها وأبعدها من كل دنس وخبث لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه معرفة ومحبة وإرادة"1.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "وله المثل الأعلى في قلوب أوليائه، وهو التعظيم والإجلال، والمحبة والإنابة والمعرفة"2.
وأكتفي بهذه الأقوال المبينة لهذا المعنى، ففيها الكفاية إن شاء الله.
وخلاصة هذا المطلب:
أن الدلائل المختلفة - المتحصلة من دلالة السياق، والمعنى اللغوي للفظ مثل، ووصف المثل بالأعلى، وأقوال أهل العلم - تدل على أن المثل الأعلى الثابت لله تعالى يفسر بأكثر من معنى صحيح.
وهذه المعاني منها معنى هو الأساس والأصل. وهو ثبوت المثل الأعلى الحقيقي لله تعالى وقيامه بذاته المقدسة كما تقدم بيانه. والمعاني الأخرى دالة عليه، أو نتيجة له. فهي توصف بأنها الأعلى باعتبار موافقتها له، ودلالتها عليه. فليست معان متضادة، وإنما يطلق "المثل الأعلى" على كل منها باعتبار صحيح.
وهذه المعاني الصحيحة هي:
1 الفوائد، لابن القيم، ص (41)، ت: أحمد راتب عرموش، دار النفائس، بيروت، الطبعة السابعة، 1406 هـ.
2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (4/213) .
الأول: المثل الأعلى الحقيقي القائم بذات الله تعالى.
وهو تفرد الله تعالى بالألوهية والربوبية، وخصائصهما من جميع صفات الكمال.
وأن الوصف الأكمل من كل كمال مطلق ثابت لله تعالى وحده حقيقة على ما يليق به سبحانه.
الثاني: المثل الأعلى لله تعالى العلمي الخبري.
وهو: وجود صفات الله تعالى العلمي، الَّذِي هو الخبر عنها وذكرها في نصوص الكتاب والسنة، حيث تضمنت النصوص بيان تفرد الله تعالى بالألوهية، والربوبية، وفصلت التعريف بأسمائه وأفعاله وصفاته.
كما اشتملت على البراهين والأمثال المضروبة للاستدلال على ذلك.
الثالث: المثل الأعلى العلمي الاعتقادي القائم في قلوب المؤمنين لله رب العالمين.
وهو توحيد الله باعتقاد تفرده بالألوهية والربوبية، وأن له الأسماء الحسنى، وله من كل كمال مطلق أكمله وأعلاه، وما ينتج عن ذلك من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وعبادته وذكره.
كما تبين أن الله متفرد بالمثل الأعلى في سائر المعاني التي يفسر بها، والدلائل على ذلك. والله أعلم.