المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: في أهم الفوائد المستفادة من النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى - الأمثال القرآنية القياسية المضروبة للإيمان بالله - جـ ٣

[عبد الله بن عبد الرحمن الجربوع]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌الباب الثالث: الأمثال المضافة إلى الله تعالى

- ‌الفصل الأول: في النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى

- ‌المبحث الأول: في دلالة السياق الذي ورد فيه النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى

- ‌المبحث الثاني: المراد بالأمثال التي نهي عن ضربها لله عز وجل

- ‌المبحث الثالث: في أهم الفوائد المستفادة من النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى

-

- ‌الفصل الثاني: في ثبوت تفرد الله بالمثل الأعلى ونماذج مما جرى على قياس الأولى من الأمثال

- ‌المبحث الأول: في دلالة السياق الذي ورد فيه إثبات المثل الأعلى لله تعالى

- ‌المطلب الأول: في دلالة السياق من سورة "النحل" الذي ورد فيه ثبوت المثل الأعلى لله تعالى

- ‌المطلب الثاني: دلالة السياق من سورة "الروم" الذي ورد فيه إثبات المثل الأعْلَى لله تعالى

- ‌المبحث الثاني: في المراد بالمثل الأعلى ومعنى الآيات الدالة على ذلك

- ‌المطلب الأول: في المراد بالمثل الأعلى لله تعالى

- ‌المطلب الثاني: في معنى قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}

- ‌المطلب الثالث: في معنى قوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعِيده وهو أهون عليه وله المثل الأَعلى في السماوات والأرض وهو العزِيز الحكيم}

- ‌المبحث الثالث: في دلالة ثبوت المثل الأعلى لله تعالى على قاعدة قياس الأولي

- ‌المطلب الأول: في بيان المطلبين اللذين يمكن إثباتهما بقاعدة قياس الأولى، ويدل عليهما ثبوت المثل الأعلى لله تعالى

- ‌المطلب الثاني: بيان المراد بالكمال الذي يثبت لله بهذه القاعدة

- ‌المطلب الثالث: كيفية تطبيق قاعدة قياس الأولى على الأمثال القرآنية

-

- ‌المبحث الرابع: نماذج من الامثال الجارية على قياس الاولى

- ‌المطلب الأول: في بيان الحجة في قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}

- ‌المطلب الثاني: في بيان الحجة في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}

- ‌المطلب الثالث: في بيان الحجة في قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

- ‌المبحث الخامس: أهم الفوائد التي دل عليها ثبوت المثل الأعلى لله تعالى

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثالث: في أهم الفوائد المستفادة من النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى

‌المبحث الثالث: في أهم الفوائد المستفادة من النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى

.

لقد تضمن النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى في قوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، فوائد هامة، منها:

الفائدة الأولى: النهي عن الشرك في عبادة الله.

الفائدة الثانية: النهي عن اتخاذ الأمثال لله، واعتقاد أن لله مماثلا في ذاته أو أسمائه وصفاته.

الفائدة الثالثة: النهي عن ضرب الأمثال القولية القياسية الفاسدة لله تعالى.

وإلى الكلام على هذه الفوائد بشيء من التفصيل. والله المستعان.

ص: 787

الفائدة الأولى: النهي عن الشرك في عبادة الله.

إن مَنْ صرف شيئا من العبادة لغير الله، فقد جعل ذلك المعبود مع الله ندا له، مماثلا له في الألوهية واستحقاق العبادة.

ويكون بذلك قد ضرب في حُكمِه واعتقاده لله مثلا، حيث جعل له مماثلا في الألوهية يُعبد كما يُعبد الله. فهو داخل في النهي عن ضرب الأمثال لله.

وحقيقة العبادة أنها: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة: فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضى بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك، هي من العبادات لله.

وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة لله والمرضية له، التي خلق

ص: 788

الخلق لها كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} 1.

وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2، وكذلك قال هود، وصالح، وشعيب وغيرهم لقومهم.

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} 3.

وقال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلآَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4") . 5

"فالدين كله داخل في العبادة"6.

"وهذه العبادة متعلقة بإلهيته تعالى، ولهذا كان عنوان التوحيد لا إله

1 سورة الذاريات آية (56) .

2 سورة الأعراف آية (59) .

3 سورة النحل آية (36) .

4 سورة الأنبياء آية (25) .

5 كتاب العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية، (ص4) ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1401 هـ.

6 المصدر السابق، (ص 5) .

ص: 789

إلا الله، بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبدهُ، أو يعبد معه إلها آخر.

فالإله الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء، ونحو ذلك. وهذه العبادة هي التي يحبها الله ويرضاها، وبها وصف المصطفيْن من عباده، وبها بعث رسله"1.

"والعبادة والطاعة والاستقامة، ولزوم الصراط المستقيم، ونحو ذلك من الأسماء، مقصودها واحد، ولها أصلان:

أحدهما: أن لا يعبد إلا الله.

والثاني: أن يعبده بما أمر وشرع، لا بغير ذلك من الأهواء والبدع"2.

وحقيقة الشرك في العبادة:

أن يؤمن بالله ويشرك معه غيره في ألوهيته، وذلك بأن يجعل لله ندا يعتقد أن له شيئا من الألوهية، أو يصرف له العبادة أو شيئا منها.

قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 3.

قال عكرمة رحمه الله في الآية:

1 كتاب العبودية، (ص 8، 9) .

2 نفس المصدر، (ص 17) . وقد تقدم الكلام على شروط صحة العبادة، ص (541) وما بعدها.

3 سورة يوسف آية (106) .

ص: 790

"ولئن سألتهم من خلقهم وخلق السماوات والأرض ليقولن الله، فذلك إيمانهم، وهم يعبدون غيره"1.

وحق الله تعالى على عباده أن يخلصوا له العبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه:"حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا"2.

وصرف حق الله لغيره شرك، وظلم عظيم، كما قال تعالى حاكيا وصية لقمان عليه السلام لابنه:{يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3.

فكل عبادة ثبتت لله فهي من حقه، لا يجوز أن تُصرف لغيره، أو أن يُشرَك فيها معه غيره.

والشرك أعظم الذنوب وأقبحها. سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك "4.

1 الجامع الصحيح للبخاري، كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} (13/491) .

2 تقدم تخريج الحديث ص (263)

3 سورة لقمان آية (13) .

4 متفق عليه، البخاري كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} ، (ح 4477) ، الصحيح مع الفتح، (8/163) .

ومسلم: كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب، (ح 86) ، (1/90) .

ص: 791

وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " - ثلاثا، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين - وجلس وكان متكئا فقال -: ألا وقولُ الزور". قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.1

والشرك محبط للعمل، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ} 2.

وهو سبب للخلود في النار، كما قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} 3.

وضرب الأمثال لله بهذا المعنى - اتخاذ الشركاء لله في العبادة - هو من باب جعل الأنداد له سبحانه.

1 متفق عليه واللفظ للبخاري، البخاري: كتاب الشهادات، باب: ما قيل في شهادة الزور (ح2654)، الصحيح مع الفتح (5/261) . ومسلم: كتاب الإيمان، باب: بيان الكبائر، (ح 87) ، (1/91) .

2 سورة الزمر الآيتان (65، 66) .

3 سورة المائدة آية (72) .

ص: 792

وقد نهى الله عن ذلك وأنكر على مَنْ فعله أشد الإنكار.

فأول أمر في المصحف هو الأمر بعبادة الله، وأول نهي هو النهي عن اتخاذ الأنداد مع الله سبحانه. قال الله تعالى:{يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1.

فأمر - سبحانه - بعبادته، ثم ذكر بعض آيات ربوبيته التي تستدل بها العقول على استحقاقه وحده للعبادة، ثم نهى عن أن يُجعل له أندادٌ تُصرَف لهم العبادة، ويُشرَكون معه فيها.

قال ابن جرير رحمه الله: "فنهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئا، وأن يعبدوا معه غيره، أو يتخذوا له نداً وعِدْلاً في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم، ونِعَمِي التي أنعمتها عليكم، فكذلك فأفردوا لي الطاعة، وأخلصوا لي العبادة، ولا تجعلوا لي شريكا ونِدّاً مِن خلقي، فإنكم تعلمون أن كل نعمة عليكم فمني"2.

1 سورة البقرة آية (21، 22) .

2 جامع البيان، (1/199) .

ص: 793

ومثل هذا الأسلوب ورد في موضع آخر من سورة (البقرة)، في قوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1.

ثم ذكر أصول الآيات الدالة على ربوبيته الدالة على استحقاقه وحده للعبادة. بقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} 2 الآية.

ثم عاب - سبحانه - على من خالف تلك الدلالة، واتخذ أنداداً من دون الله يحبهم كحب الله، ويصرف لهم العبادة.

قَال ابن جرير رحمه الله: "وأما قوله {لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} ، فإنه خبر منه تعالى ذكره أنه لا رب للعالمين غيره ولا يستوجب على العباد العبادة سواه، وأن كل ما سواه فهم خلقه، والواجب على جميعهم طاعته والانقياد لأمره، وترك عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، وهجر الأوثان والأصنام، لأن جميع ذلك خلقه، وعلى جميعهم الدينونة له بالوحدانية والألوهة، ولا تنبغي الألوهة إلا له، إذ كان ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه، دون ما يعبدونه من الأوثان ويشركون معه من الإشراك، وما يصيرون إليه من نعمة في الآخرة فمنه،

1 سورة البقرة آية (163) .

2 سورة البقرة آية (164) .

ص: 794

وأن ما أشركوا معه من الإشراك لا يضر ولا ينفع في عاجل ولا في آجل، ولا في دنيا ولا في آخرة.

وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره أهل الشرك به على ضلالهم، ودعاء منه لهم إلى الأوبة من كفرهم، والإنابة من شركهم.

ثم عرفهم تعالى بذكره - بالآية التي تتلوها - موضعَ استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبههم عليه من توحيده وحججه الواضحة القاطعة عُذرَهم، فقال تعالى ذكره أيها المشركون، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر: من أن إلهكم إله واحد، دون ما تدَّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان، فتدبروا حججي وفكروا فيها، فإن من حججي خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها، وما بثثت فيها من كل دابة، والسحاب الذي سخرته بين السماء والأرض. فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به، إذا اجتمع جميعه فتظاهر أو انفرد بعضه دون بعض، يقدر على أن يخلق نظير شيء من خلقي الذي سميت لكم، فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذر، وإلا فلا عذر لكم في اتخاذ إله سواي، ولا إله لكم ولما تعبدون غيري.

فليتدبر أولو الألباب إيجاز الله احتجاجه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده، في هذه الآية وفي التي بعدها، بأوجز كلام،

ص: 795

وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على معرفة فضل حكمة الله وبيانه"1.

أهم صفات الإله الحق:

لقد تضمن السياق الذي ورد فيه النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى من سورة (النحل) بيان أهم الصفات التي من اتصف بها كان مستحقا للعبادة، كما ذُكِرَت بقية الصفات في مواضع أخرى من القرآن.

فالله - سبحانه - عندما نهى عن اتخاذ الأنداد، بين أن اتخاذ الإله المعبود ليس خاضعا لهوى النفوس، والظنون والأوهام، وإنما هو أمر عظيم حيث يجب أن يتصف الإله بصفات تؤهله لهذا الأمر؛ مَن توفرت فيه تلك الصفات فهو الإله الحق، ومن كان متجردا منها فإنه أقل وأحقر من أن تُصرف له العبادة، ويقصده الناس برغباتهم ورهباتهم.

فبإدراك العبد لهذه الصفات تستشعر نفسه ذلك الفرق العظيم بين الإله الحق، وبين تلك الأنداد الباطلة التي سميت آلهة وهي لا تملك من الألوهية شيئا.

{إِنْ هِيَ إِلآَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى} 2.

1 جامع البيان، (2/64، 65) .

2 سورة النجم آية (23) .

ص: 796

وسأذكر أهم الصفات التي دل عليها السياق، متبعا ذلك بالآيات من السور الأخرى الدالة على نفس المعنى.

أولاً: أن يكون خالقاً.

قال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} 1.

وقال - سبحانه -: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 2.

"فهذه الآيات تبين أن الذي يستحق أن يُعبد هو من يخلق الخلق ويبرزهم من العدم إلى الوجود، أما غيره فهو مخلوق مربوب، محتاج إلى من يخلقه ويدبر شئونه"3.

وذكر - سبحانه - أن عدم القدرة على الخلق دليل ظاهر على بطلان ألوهية تلك الآلهة التي زعمها المشركون، منكراً على مَنْ عبدها مع قيام هذه الحجة عليها، حيث قَال:

{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 4.

1 سورة النحل آية (17) .

2 سورة النحل الآيتان (20، 21) .

3 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، (3/193) .

4 سورة الأعراف آية (191) .

ص: 797

وقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 1.

ثانياً: أن يكون رباً مدبِّراً، قائما بنفسه، مقيما لغيره، مالكا للأمر، والرزق، والنفع والضر.

إذ أن هذا هو المعنى الذي يريده العابد من المعبود، فالعابد يعبد رغبا ورهبا، يرغب في ما عند معبوده من الخير، ويرهب ما عنده من الضر.

فبيّن سبحانه أن تلك الأمثال التي جعلت له أندادا وشركاء، إنما هي مخلوقة مُدبَّرة لا تملك لنفسها شيئاً فضلاً عن غيرها.

بيّن أنهم مُدبَّرون بقوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 2، وقوله:{وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 3 وقوله: {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} 4.

وقد عاب الله تعالى على مَنْ يعبد مَنْ أمرُه بيد غيره، ولا يملك له رزقا ولا نفعا ولا ضرا فقال سبحانه:

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً

1 سورة الفرقان آية (3) .

2 جزء من عدة آيات منها الآيتان بعده، آية سورة الأعراف (191) ، والفرقان (3) .

3 سورة النحل آية (21) .

4 سورة الفرقان آية (3) .

ص: 798

وَلَا يَسْتَطِيعُونَ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 1.

"ويفهم من الآية الكريمة: أنه لا يصح أن يُعبد إلا من يرزق الخلق، لأن أكلهم رزقه، وعبادتهم غيره كفر ظاهر لكل عاقل"2.

ومن الآيات الدالة على هذا المعنى قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} 3.

وقد جمع الله هذه المعاني: من كون هذه الآلهة المزعومة لا تخلق شيئاً، وأنها مخلوقة مُدبَّرة، وأنها لا تملك لنفسها ولا لعابدها خيراً، في قوله تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} 4.

1 سورة النحل الآيتان (73، 74) .

2 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، (3/294) .

3 سورة الأعراف آية (191-194) .

4 سورة الفرقان آية (3) .

ص: 799

والعباد كلهم بما فيهم الملائكة، والأنبياء والأولياء، وكافة الجن والإنس، لا يملكون شيئا من أمر الله الكوني، وهم مُدبَّرون عاجزون عن جلب النفع، ودفع الضر عن أنفسهم، وهم عن فعله لغيرهم أعجز.

بين ذلك الله تبارك وتعالى في حال أفضل أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم ليدلل على أن غيره ممن هو مثله في الرسالة أو دونه من الأنبياء والأولياء والصالحين، أولى منه بالعجز عن أن يملك لنفسه ضرا ورشدا، فضلا عن أن يملكه لغيره ممن يدعوه.

قَال تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلآ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لآ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَاّ بَلَاغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} 1.

وقد بين الله تعالى مظاهر ربوبيته، وأفعاله العظيمة في مواضع كثيرة من القرآن، ليدرك الناس عظم صفاته، والفرق العظيم بينه وبين غيره من الخلق، فيقدروه حق قدره، وتشمئز قلوبهم من أن يجعلوا له أمثالا وأندادا

1 سورة الجن آية (18-23) .

ص: 800

من الخلق الذين لا يفعلون شيئا من ذلك.

ثالثاً: من صفات المعبود الحق أنه حي لا يجري عليه الموت:

أشار إلى هذه الصفة في السياق قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 1.

ويؤيد هذا المعنى قول الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} 2.

فدل على أن من يجري عليه الموت لا يصلح للألوهية والعبادة.

وقد بين - سبحانه - أن كل حي سيهلك حاشاه سبحانه، قَال تعالى:{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3.

وهذه الآية جامعة للدلالة على هذه الفائدة: من بيان أن من صفات الإله الحق أن يكون حيا لا يجري عليه الموت.

وذلك أن الله - تعالى - نهى عن اتخاذ الأنداد والشركاء في عبادته،

1 سورة النحل آية (21) .

2 سورة الفرقان آية (58) .

3 سورة القصص آية (88) .

ص: 801

فقال: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} وبين علة ذلك النهي، وهي: تفرده بالألوهية: فقال: {لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} .

ثم ذكر دليلا على ذلك، وهو كون كل من سواه سيموت ويهلك ولو كان إلها لما هلك، فقال:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} ، ثم ذكر دليلا آخر وهو تفرده بالحكم المتضمن لتدبير العباد، وتصريف أمورهم، وإماتة من شاء، وإحياء من شاء، وأنه سيرجع إليه العابد والمعبود، والمخلص والمشرك ويحكم بينهم بحكمه، فقال:{لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

رابعاً: أن الإله الحق متصف بالكمال والغنى المطلق.

وأن النقص والعجز والحاجة علامات على عدم أهلية من قامت به للألوهية، وأن تُصرف له العبادة.

دل على ذلك في السياق قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المثَل الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1.

قَال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "أي الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه"2.

1 سورة النحل آية (60) .

2 تفسير القرآن العظيم، (2/572) .

ص: 802

وهذا المعنى كثير في القرآن الكريم، حيث يلفت الله عقول الناس إلى ما في تلك الآلهة المزعومة من نقص وعيب، وأنها مُدبَّرة، مقهورة عاجزة، مما يوجب للعقول السليمة القطع بعدم أهليتها لما زعم لها من الألوهية.

والذين أُلهوا وعُبدوا مِن دون الله إما أن يكونوا من الأحياء كالملائكة والأنبياء والصالحين ونحوهم، وإما أن يكونوا من الجمادات؛ وكلا هذين الصنفين ورد له ما يناسبه من الآيات التي تبين ما فيه من النقص والعيب.

فما ورد فيمن عُبِدَ مِن دون الله من الأنبياء، قوله تعالى في حق عيسى بن مريم عليه السلام:{مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} 1.

قال ابن جرير رحمه الله: "خبر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمه أنهما كانا أهل حاجة إلى ما يغذوهما، وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب، كسائر البشر من بني آدم. فإن من كان كذلك غير كائن إلها، لأن المحتاج إلى الغذاء قوامه بغيره، وفي قوامه بغيره، وحاجته إلى ما يقيمه دليل واضح على عجزه،

1 سورة المائدة آية (75) .

ص: 803

والعاجز لا يكون إلا مربوبا لا رباً"1.

ومما ورد في حق من عُبِدَ مِن دون الله من الجمادات، قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلَا تُنظِرُونِ} 2.

فبين سبحانه أن في تلك الآلهة التي عبدها المشركون من الأوثان ونحوها نقصا ظاهرا، وهو أنها ليس لها أرجل ولا تستطيع المشي، وليس لها أيد، ولا تسمع ولا تبصر، وهذا يجعلها أنقص في الخلق من الذين يعبدونها، وكل عاقل يعلم أن توجه الإنسان لعبادة من هو أقل منه سفه وضلال.

طبيعة جعل هذا الصنف الأنداد لله:

هذا النوع من المشركين يقرون بربوبية الله، بأنه الخالق الرازق المدبر، إلا أنهم أشركوا معه في العبادة.

قال ابن جرير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3.

1 جامع البيان، (4/654) .

2 سورة الأعراف آية (194، 195) .

3 سورة البقرة آية (22) .

ص: 804

"ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر في كتابه عنها1 أنها كانت تقر بوحدانيته2، غير أنها تشرك في عبادته ما كانت تشرك منها. فقال جل ثناؤه:{وَلَئِنْ سَأَلتَْهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3، وقال:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنْ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنْ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} 4.

فالذي هو أولى بتأويل قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، إذ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانية الله، وأنه مبدع الخلق وخالقهم، ورازقهم نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين

أن يكون تأويله ما قاله ابن عباس وقتادة، من أنه يعني بذلك كل مكلف، عالم بوحدانية الله، وأنه لا شريك له في خلقه، يشرك معه في عبادته غيره، كائنا من كان من الناس عربيا كان أو أعجميا، كاتبا كان أو أميا....."5.

1 عن العرب كما تقدم في كلامه.

2 يعني توحيد الربوبية، كما بينه بعد ذلك بقوله: (عالم بوحدانية الله، وأنه لا شريك له في خلقه

) .

3 سورة الزخرف آية (87) .

4 سورة يونس آية (31) .

5 جامع البيان، (1/200) .

ص: 805

فهؤلاء المشركون لا يعبدون من ألَّهوه مع الله لاعتقادهم أنه خالق متصرف، يرزق ويجلب النفع ويدفع الضر، فهم يقرون أن ذلك بيد الله، وإنما عبدوهم ليتوسلوا ويستشفعوا بهم إلى الله تعالى.

بين الله هذه الحقيقة من حالهم في سياق بدأه بالأمر بإخلاص العبادة له، حيث قال:{إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ} 1.

ثم بيّن - سبحانه - طبيعة شرك هذا الصنف من المشركين من قريش وغيرهم من كفار العرب فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 2.

ثم بيّن - سبحانه - أن زعمهم أن تلك الآلهة شفعاء لله ووسائط بينه وبين خلقه كذب وقول على الله بلا علم، وكفر، حيث قَال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 3.

1 سورة الزمر الآيتان (2، 3) .

2 سورة الزمر آية (3) .

3 سورة الزمر آية (3) .

ص: 806

قَال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} : "أي إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين- في زعمهم - فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمور الدنيا. فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به

ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه. وجاءتهم الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - بردها والنهي عنها. والدعوة إلى إفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له. وأن ذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه، ولا رضيه. بل أبغضه ونهى عنه:

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلآَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2.

1 سورة النحل آية (36) .

2 سورة الأنبياء آية (25) .

ص: 807

وأخبر أن الملائكة التي في السموات - من الملائكة المقربين وغيرهم - كلهم عبيد خاضعون لله. لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى؛ وليسوا كالأمراء عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبَوْه. {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالََ} 1، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً"2.

وقال - سبحانه - مبينا هذا المعنى وأنهم إنما عبدوا تلك الآلهة ليستشفعوا بها إلى الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلآءِ شُفَعَآؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3.

قَال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: ويعبد هؤلاء المشركون الذين وصفْتُ لك، يا محمد صفتهم، من دون الله، الذي لا يضرهم شيئاً ولا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها، {وَيَقُولُونَ

1 سورة النحل آية (74) .

2 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (4/45) .

3 سورة يونس آية (18) .

ص: 808

هَؤُلآءِ شُفَعَآؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، يعني أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله. قَال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ} لهم:{أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} ، يقول: أتخبرون الله بما لايكون في السموات ولا في الأرض؟ وذلك أن الآلهة لاتشفع لهم عند الله في السموات ولا في الأرض. وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السموات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما؟ وذلك باطل

بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون، وأنها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضر، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، يقول: تنزيها لله وعُلُواً عما يفعله هؤلاء المشركون، من إشراكهم في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، وافترائهم عليه الكذب"1.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: " {وَيَقُولُونَ} قولاً خالياً من البرهان: {هَؤُلآءِ شُفَعَآؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} أي: يعبدونهم، ليقربوهم إلى الله، ويشفعوا لهم عنده.

وهذا قول من تلقاء أنفسهم، وكلام ابتكروه هم، ولهذا قَال تعالى

1 جامع البيان، (6/542) .

ص: 809

- مبطلا لهذا القول -: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} أي الله تعالى هو العالم، الذي أحاط علما بجميع ما في السموات والأرض، وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ولا إله معه. أفأنتم - يا معشر المشركين - تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟ أفتخبرونه بأمر خفي عليه، وعلمتموه؟ أأنتم أعلم أم الله؟ فهل يوجد قول أبطل من هذا القول، المتضمن أن هؤلاء الضُّلاّل الجهال السفهاء، أعلم من رب العالمين؟ "1.

وهذا التعليم الرباني للنبي صلى الله عليه وسلم المستفاد من قوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْض} ، يُقال لكل مَن زعم وسيلة أو شفيعا يقصده بالدعاء والقربات ليشفع له عند الله، كالذين يقصدون الأنبياء والأولياء ونحوهم من الأحياء أو الأموات، فيقال لهم:

هاتوا برهانكم على ذلك من آية محكمة، أو حديث صحيح.

فإذا لم يأتوا بذلك، ولن يأتوا به، فإن حالهم كالذي يخبر اللهَ بما له من الشركاء والأنداد، وما يجوز في دينه، وما هو كائن في ملكه مما لا يعلمه. وهذا باطل ومنكر، أنكره الله بقوله:

1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (3/337) .

ص: 810

{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} . وزعمهم بأن لله شفعاء ووسطاء من الافتراء والكذب على الله، لذلك قَال سبحانه في الآية التي قبلها:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ المُجْرِمُونَ} 1.

وزعمهم هذا تولد من ظنون سيئة قامت في أنفسهم، لا تفيدهم ولا تغني عنهم شيئا، لذلك قال الله تعالى في نفس السورة:

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَاّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} 2.

1 سورة يونس آية (17) .

2 سورة يونس آية (36) .

ص: 811

وقوع هذا الشرك في المنتسبين للإسلام:

على الرغم من أن الله تعالى نهى عن ضرب الأمثال، واتخاذ الشركاء والأنداد له. وبين تفرده بالألوهية، واستحقاقه وحده للعبادة، مع بيان لحقيقة العبادة وأنواعها، وبيان لطبيعة الشرك وخطره، وإيضاح لحال الملائكة والجن، وصالحي الإنس، وأنهم عبيد لا يملكون شيئا من الألوهية، ولا يستحقون شيئا من العبادة، وأن غيرهم من الجمادات أولى بأن لا يكون لهم شيء من ذلك، وبيانه سبحانه للصفات التي من اتصف بها كان إلها حقا، مستحقا للعبادة، ودلائل تفرده بها، ولفته أنظار العقول إلى عجز غير الله، وحاجته وافتقاره، وغير ذلك من صفات النقص التي تدل على عدم صلاحيته للألوهية، وأن يقصد للعبادة، ويتوكل عليه.

ومع ورود بيان هذه الأمور بوضوح تام، وتصريف القول في ذلك بمختلف الأساليب، مع ذلك كله، نجح شياطين الإنس والجن في صرف فئام ممن ينتسب إلى الإسلام عن التوحيد أساس الحنيفية، إلى الشرك والوثنية مع تلفظهم بالشهادتين، وإظهارهم الإسلام.

وأعظم مظاهر الشرك في عبادة الله، ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية من تعظيم الصالحين، والفتنة بقبورهم الذي أدى إلى تأليههم واتخاذهم أربابا، وصرف أنواع العبادة لهم.

وممن كتب عن هذا الداء الخطير الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه المبارك: "إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان" مبيناً المظاهر الشركية

ص: 812

التي نتجت عن الغلو في الأنبياء والصالحين، والفتنة بقبورهم. أنقل منه ما أرى أنه يفي بالغرض من بيان وقوع ما نهى الله عنه من ضرب الأمثال واتخاذ الشركاء والأنداد له في العبادة ممن ينتسب إلى الإسلام.

قَال رحمه الله: "ومِن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا إلا من لم يرد الله فتنته: ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور حتى آل الأمر فيها إلى أن عُبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم، واتُخذت أوثانا، وبُنيت عليها الهياكل، وصُوِّرت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل، ثم جعلت أصناما، وعُبدت مع الله.

وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح، كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه، حيث يقول:{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَاّ خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} 1".2

ثم ذكر ما نقله ابن جرير رحمه الله عن بعض السلف3 من:

1 سورة نوح آية (21-24) .

2 إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان، لابن القيم، (1/286) المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1407 هـ.

3 أورده بسنده عن محمد بن قيس. انْظر: جامع البيان، (12/254) .

ص: 813

"أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم. وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقَون المطر، فعبدوهم"1.

وقال: "فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل. وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته

"2.

ثم ذكر الحديث، ونصه كما في بعض الروايات عند الإمام مسلم رحمه الله:"ذكرن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كنيسة بأرض الحبشة يقال لها مارية. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة"3.

1 إغاثة اللهفان (1/286) . وروى البخاري نحوه عن ابن عباس- رضي الله عنهما انْظر: الجامع الصحيح، كتاب التفسير، (ح4920) ، مع الفتح (8/667) .

2 نفس المصدر، (1/287) .

3 متفق عليه، واللفظ لمسلم. البخاري، كتاب الجنائز، باب بناء المسجد على القبر (ح1341) الصحيح مع الفتح (3/208) ، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور

، (ح 528) ، (1/376) .

ص: 814

وقال: "قال شيخنا1: وهذه العلة - التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور - هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك. فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم للكواكب ونحو ذلك. فإن الشرك بقبر الرجل الذي يُعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا نجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السحر. ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد"2.

ثم بيّن رحمه الله أن مما لَبَس الشيطان به على المشركين ممن ينتسب إلى دين الإسلام، اتخاذ القبور عيدا، مشابهة للمشركين قبل الإسلام.3

ثم بين ما يجري في تلك الأعياد من المفاسد العظيمة، فقال: "ثم إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كلّ مَن في قلبه وقار، وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك

1 هو شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله.

2 إغاثة اللهفان، (1/288) .

3 نفس المرجع، (1/298-300) .

ص: 815

فمن مفاسد اتخاذها أعيادا: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفان، وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عبَّاد الأوثان يسألونها أوثانهم.

فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا، وقد نزلوا عن الأكوار1 والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلا من الميت ورضواناً، وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسراناً، فلغير الله، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويُطلب من الميت من الحاجات ويُسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام،

1 جمع كور، وهو الرّحل، وقيل: الرحل بأداته. وهو للناقة كالسرج وآلته للفرس. انظر: لسان العرب (5/154) .

ص: 816

الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ 1 ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله مِن خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين.

فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضا ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً وحظا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولو بحجك كل عام"2.

هذا ما كان على عهد ابن القيم رحمه الله في القرن الثامن الهجري، أما في هذا الزمان، فقد استفحل الأمر واستقر على غير ما يرضي الله، حيث اختارت كل طريقة وليا لها فعلوا عند قبره من جنس ما ذكره ابن القيم، وتميزوا باسم لطريقتهم. وجعلوا لها - مما ابتدعوه - أعمالا وأذكارا تخصهم، ومناسك لحج مشاهدهم. وألفوا الكتب لبيان

1 إذا ورد الاستفهام بهل رأيت؟ ونحوها في أثناء الوصف، فإنما يراد به التمثيل والتشبيه، وتقدير الكلام: هل رأيت كذا وكذا؟ فهم كذلك.

2 إغاثة اللهفان، (1/304، 305) .

ص: 817

طريقتهم، وفضائلها. وقامت لكل طريقة مدارس وعلماء ومراكز، وانتسب إليها خلق كثير من الناس. وأصبح الدين لا يعرف إلا بها عند من ابتلي بها - إلا من رحم الله -.

وأكثر تلك الطرق تشترك في الزعم بأن الأولياء أرباب يدبرون، وآلهة يعبدون، واختراع القصص والشبهات لترسيخ ذلك عند الناس، والدعوة إلى قصد قبورهم ومشاهدهم للعكوف عندها، وعبادتهم، ودعائهم والاستغاثة بهم، وذكر الفضائل لذلك. كما تشترك تلك الطرق بالتعبد لله بالبدع والمحرمات، ونحو ذلك من الأعمال الشركية، والأحوال الخرافية.

فبعدت الشقة كثيرا بينهم وبين هدي النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح، ومع ذلك فهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ويعادون دعاة التوحيد والسنة، الذين ينصحون الأمة أفرادا وجماعات إلى الرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح.

قَال ابن القيم رحمه الله: "ومن أعظم كيد الشيطان: أنه ينصب لأهل الشرك قَبْرَ مُعظّم يعظمه الناس، ثم يجعله وثناً يُعبد من دون الله، ثم يُوحي إلى أوليائه: أن من نهى عن عبادته، واتخاذه عيداً، وجعله وثناً فقدْ تَنَقَّصَه، وهضم حقه، فيسعى الجاهلون المشركون في قتله وعقوبته ويكفّرونه. وذنبه عند أهل الشرك: أمره بما أمر الله به ورسوله، ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله: من

ص: 818

جعله وثناً وعيداً، وإيقاد السرج عليه، وبناء المساجد والقباب عليه وتجصيصه، وإشادته وتقبيله، واستلامه، ودعائه، أو الدعاء به، أو السفر إليه، أو الاستعانة به من دون الله، مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله: من تجريد التوحيد به، وأن لا يُعبد إلا الله. فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، وقالوا: قد تنقص أهل الرتب العالية. وزعم أنهم لا حرمة لهم، ولا قدر. وسرى ذلك في نفوس الجهال والطغام، وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين، حتى عادَوْا أهل التوحيد، ورَمَوْهم بالعظائم، ونفّروا الناس عنهم. ووالَوْا أهل الشرك وعظموهم. وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله. ويأبى الله ذلك فما كانوا أولياءه، إنْ أولياؤه إلا المتبعون له الموافقون له، العارفون بما جاء به، الداعون إليه، لا المتشبعون بما لم يعطوا، لابسو ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم، ويبغونها عوجا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"1.

أسباب الشرك في عبادة الله:

إن ضرب الأمثال لله باتخاذ الشركاء والأنداد له بالعبادة، له أسباب متعددة، من أهمها:

1 إغاثة اللهفان، (1/330) .

ص: 819

ما تقدمت الإشارة إليه في كلام ابن القيم رحمه الله من الغلو في الصالحين وتعظيمهم، وجعل الصور لهم، والبناء على قبورهم واتخاذها مساجد، مما أدى إلى عبادتهم، بقصد التقرب بهم إلى الله، ثم نسبوا إليهم التدبير، واتخذوهم أرباباً يستغيثون بهم، ويتوكلون عليهم، وهذا النوع كان به ابتداء الشرك كما حصل من قوم نوح، ولا يزال هو الأخطر في استمالة قلوب الجهال إلى الإشراك بالله.

ومن ذلك جهود شياطين الإنس والجن في التلبيس على الجهال بنشر الشبهات، وضرب الأمثال القائمة على المقايسات الفاسدة، لتسويغ الشرك، والاستدلال له. وإدخاله تحت أسماء إسلامية من باب لَبْس الحق بالباطل.

وهذا السبب جعل كثيراً من المنتسبين إلى العلم والعبادة من المتصوفة ونحوهم يقبلونه، ويتعبدون لله به، فانخدع بهم العامة، لما يرون عليهم من سيما العلماء والعباد.

وسيأتي الكلام على هذا المعنى في الفائدة القادمة.

ومن أسباب الشرك ما ذكره ابن القيم رحمه الله بعد أن مهد لذلك بسؤال، فقال:"فإن قيل: فما الذي أوقع عبّاد القبور في الافتتان بها، مع العلم بأن ساكنيها أموات، لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟

قيل: أوقعهم في ذلك أمور:

ص: 820

منها: الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل: من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك، فقل نصيبهم جدا من ذلك، ودعاهم الشيطان إلى الفتنة، ولم يكن عندهم من العلم ما يبطل دعوته، واستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا بقدر ما معهم من العلم.

ومنها: أحاديث مكذوبة مختلقة، وضعها أشباه عبّاد الأصنام: من المقابرية، على رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض دينه، وما جاء به كحديث "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نَفَعَه"، وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام، وضعَها المشركون، وراجت على أشباههم من الجهال والضلال....

ومنها: حكايات حُكيت لهم عن تلك القبور: أن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلان دعاه أو دعا به في حاجة، فقُضيت له، وفلان نزل به ضُر فاستوحى صاحب ذلك القبر، فكشف ضره. وعند السدنة والمقابرية من ذلك شيء يطول ذكره، وهم من أكذب خلق الله على الأحياء والأموات"1.

وخلاصة هذه الفائدة:

أن النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى، في قوله تعالى {فَلَا تَضْرِبُوا

1 إغاثة اللهفان، (1/323، 333) .

ص: 821

لِلَّهِ الأَمْثَالَ} المراد به: النهي عن اتخاذ الشركاء، والأنداد معه - سبحانه - في العبادة، الذين يصرف لهم مثل ما لله من العبادة، فيُدعَوْن ويُعبدون بقصد الاستشفاع والتقرب بهم إلى الله تعالى. وذلك هو أصل الشرك وحقيقته.

ويستوي في ذلك الأصنام والأوثان الجامدة، والأحياء من الملائكة والأنبياء والأولياء والجن وغيرهم.

ودل السياق - الذي ورد فيه النهي عن ضرب الأمثال لله في سورة النحل على الصفات التي من توفرت فيه كان إلهاً مستحقاً للعبادة، ومن خلا منها فهو غير جدير بها أياً كان نوعه أو قربه من الله. وأهم تلك الصفات، هي:

1-

أن يكون قادراً على الخلق.

2-

أن يكون رباً مدبراً قائماً بنفسه مقيماً لغيره، مالكاً للأمر، والرزق والنفع والضر.

3-

أن يكون حياً لا يجري عليه الموت.

4-

أن يكون متصفا بالكمال والغنى المطلق.

وأن من اتصف بأضداد تلك الصفات فذلك علامة على عدم صلاحيته للألوهية والعبادة.

كما تبين أن هذا النوع من ضرب الأمثال لله باتخاذ الشركاء لله في العبادة، قد وقع عند كثير ممن ينتسب إلى الإسلام قديماً وحديثاً، ونجح

ص: 822

الشيطان في اجتيالهم إليه. وصرفهم عن حق الله تعالى وإفراده بالعبادة.

وتمثل ذلك: في عبّاد القبور والأولياء من جهال المتصوفة وغيرهم، ممن يقصدون المشاهد والقبور الطاغوتية في أعيادها وغيرها فيعبدونها، ويتقربون بالمقبور فيها إلى الله زلفى، كما كان مشركو العرب يفعلونه عند أصنامهم.

كما تطرق الكلام في هذه الفائدة إلى أهم الأسباب التي أوقعت كثيرا من الناس في هذا النوع من الشرك، وهي:

1-

الغلو في الصالحين، وتعظيمهم، واتخاذ الصور والتماثيل لهم، واتخاذ قبورهم مساجد، والبناء عليها، ونحو ذلك.

2-

جهود شياطين الإنس والجن في نشر الشبهات، وضرب الأمثال القائمة على الأقيسة الفاسدة، للاستدلال على الشرك، والتغرير بالجهال.

3-

الجهل بحقيقة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الدعوة للتوحيد، والكفر بالطاغوت، وقطع أسباب الشرك.

4-

الأحاديث المكذوبة التي يضعها دعاة الشرك.

5-

الحكايات والقصص التي ينشرها سدنة الطاغوت، من القائمين على القبور وغيرهم التي تنسب كشف الضر وجلب النفع إلى الأولياء الأحياء منهم والأموات، وتعلق قلوب الجهال بهم.

وغير ذلك من الأسباب.

ص: 823

الفائدة الثانية: النهي عن اتخاذ الأمثال لله، باعتقاد أن أحداً يماثل الله في ذاته أو أسمائه وصفاته.

والفرق بين هذا النوع من اتخاذ الأمثال والنوع الذي تقدم في الفائدة الأولى، أن أهل هذا النوع يزعمون أن لله نداً مماثلاً في الذات أو الصفات والأفعال. أما المشركون في النوع الأول فقد جعلوا له أنداداً في الألوهية دون اعتقاد مماثلة الله في الصفات أو الربوبية والأفعال.

وقد بين بعض المفسرين أن النهي عن ضرب الأمثال لله عز وجل يشمل اتخاذ هذا النوع من الأنداد لله تعالى، فقال عند تفسيره لقوله تعالى:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} : "نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة خلقه أن يضربوا له الأمثال، أي يجعلوا له أشباها ونظراء من خلقه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

وبين هذا في غير هذا الموضع، كقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 2"3

1 سورة الشورى آية (11) .

2 سورة الإخلاص آية (4) .

3 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، (3/296) .

ص: 824

وتقدم1 في دلالة السياق أنه دل على أن المشركين من كفار قريش وغيرهم جعلوا لله مماثلا في الذات والصفة عندما زعموا أن الملائكة بنات الله.

وهذا النوع من الإلحاد والشرك قديم في الناس. ويدخل فيه أنواع كثيرة، منها:

كل من نسب لله - سبحانه - ولدا أو صاحبة، فهو جاعل لله ندا مكافئاً بالذات والصفات، كالنصارى الذين قَال الله فيهم:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوآ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلآَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2 وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوآ إِنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 3.

ومثلهم من زعم أن الملائكة بنات الله.

قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} 4.

1 انْظر: ص: (766) وما بعدها.

2 سورة المائدة آية (73) .

3 سورة المائدة الآية (17، 72) .

4 سورة مريم آية (88-92) .

ص: 825

وقال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 1.

ومن هذا النوع مَنْ زَعَم وجود إلهين، كما تزعم المجوس وجود إله هو النور يخلق الخير، وإله هو الظلمة يخلق الشر.

قَال الله تعالى في نفس السورة: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوآ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 2.

ومن هذا الصنف: المشبهة الذي يشبهون صفات الخالق تبارك وتعالى بصفات المخلوق، ويزعمون أن حقيقة صفاته كصفات الإنسان، تعالى الله عن ذلك.

ومثلهم الذين يشبهون أحدا من المخلوقين بالخالق - سبحانه - كالقائلين بالحلول، وأن الله تعالى يحل ويتجلى في بعض خلقه، والقائلين بوحدة الوجود الذين يزعمون أن الله هو عين الأشياء - تعالى الله عن قول المبطلين علواً كبيراً.

ومن هذا النوع: اعتقاد أن أحدا من الخلق من نبي أو ولي أو جن أو

1 سورة الأنبياء آية (25-27) .

2 سورة النحل آية (51) .

ص: 826

كوكب، أو غيره له شيء من التدبير والتصرف في الكون أو في شيء من المخلوقات، فقد جعل لله ندا مساويا له في أفعاله - سبحانه - التي دلت عليها أسماؤه وصفاته الفعلية.

بيان أن هذا الشرك يؤدي إلى الشرك في الألوهية:

إن المتقرر في دلالة العقول أن المساواة في الذات والصفات تعني المساواة في الاستحقاق العام والأحكام.

فكل من أثبت مشابها ونظيرا لله في ذاته أو شيء من صفاته وأفعاله، فقد جعل له شيئا من الألوهية، وأوجب له العبادة تعالى الله عن ذلك.

وعلى هذه القاعدة جاء قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ} 1.

ومعنى الآية:

"قل يا محمد إن ثبت لله ولد، فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته. ولكنه يستحيل أن يكون له ولد. وفيه نفي للولد على أبلغ وجه، وأتم عبارة، وأحسن أسلوب.

وهذا هو الظاهر من النظم القرآني

ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره: إن ثبت ما تقول بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به"2.

1 سورة الزخرف آية (81) .

2 فتح القدير للشوكاني، (4/566) .

ص: 827

فهذا النوع من الإلحاد - باعتقاد الأنداد لله المماثلين له بالذات أو شيء من الصفات - يؤدي إلى جعلهم أندادا له في الألوهية، وشركاء في العبادة.

ولهذا الاعتبار - وهو اقتناع الكثير من الناس أنه لا يعبد إلا من كانت له الربوبية، أو شيء منها، ويملك النفع، ودفع الضر لعابديه- لجأ شياطين الجن والإنس إلى الافتراء على الله، زاعمين أن بعض الخلق لهم تصرف في الكون، وأنهم خلفاء عن الله في تدبير ملكه وعباده، وأن بعض الأولياء هم مظهر صفات الله الأزلية، أو نور من نور ذاته، وأنهم ينفعون من شاؤوا ممن يتقرب إليهم ويعبدهم، ويضرون من شاؤوا، وأنهم يعلمون الغيب. وأن النجوم أرواح فعالة لها تأثير على الأرض ومن فيها؛ وغير ذلك من الأباطيل التي نسجوا لها القصص، وزخرفوها بالشبهات، ليغرروا بها الجهال.

قَال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}

إلى قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ

ص: 828

هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} 1.

وهذه المزاعم الباطلة والشبهات المزخرفة هي التي اجتالت كثيرا ممن ينتسب إلى الإسلام وغيرهم إلى الشرك وعبادة غير الله.

إبطال الله مزاعم المشركين:

وهذه القضية لم يبلغها كفار العرب الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الله يعلم ما سيحدثه المجرمون من شياطين الإنس والجن من ذلك؛ فضمن كتابه إبطال تلك المزاعم من أساسها.

فبيّن - سبحانه - أمور أساسية مَن تفرد بها كان متفرداً بالربوبية.

فأول هذه الأمور: أن ملك الكون بيده وحده.

وثانيها: أنه الخالق وحده.

وثالثها: أن الأمر الكوني - قوله للشيء كن فيكون - له وحده.

وبالخلق والأمر يتم تدبير الملك وتصريف شئون الكون وما فيه.

وإذا كان مالكاً لهذه الأمور وحده، وأن غيره ليس له شيء منها، استقام تبعا لذلك تفرده بالألوهية واستحقاق العبادة.

وبيّن - سبحانه - تفرده بهذه الأمور بأساليب مختلفة أذكر بعضها فيما يلي:

1 سورة الأنعام آية (112-116) .

ص: 829

أدلة تفرد الله بالملك:

قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1.

دل على تفرده بالملك تقديم ما حقه التأخير، حيث قدم الجار والمجرور {بِيَدِهِ} ليفيد اختصاصه بالملك.

وقال تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 2.

دل على اختصاصه بالملك - سبحانه - تقديم ما حقه التأخير {لَهُ} وهذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ} 3.

ثم أتبعها سبحانه بإقرارهم بتفرده بالخلق في قوله: {وَلَئِنْ سَألتَْهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 4 فهذه ثلاثة أدلة

1 سورة الملك آية (1) .

2 سورة الزخرف آية (85) .

3 سورة الزخرف آية (81) .

4 سورة الزخرف آية (87) .

ص: 830

على بطلان ألوهية غير الله، وإثبات تفرد الله بها:

(الأول) أن الله - تعالى - ليس له ولد.

(الثاني) أنه متفرد بالملك.

(الثالث) أنه متفرد بالخلق.

وقد جمع الله بين هذه الأمور التي تدل على ربوبية من اتصف بها، واستحقاقه وحده للعبادة المستلزمة أن من خلا منها ليس له شيء من الربوبية، فلا يستحق أن يُعبد. فهي قاطعة لمادة الشرك، لذلك عاب الله من يعبد من لا يتصف بهذه الأوصاف وليس له شيء من الربوبية، ورد هذا في قوله تعالى:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} 1.

لذلك قال: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2: أي كيف يُصرَفون عن الاعتبار بهذه

1 سورة الفرقان آية (2-3) .

2 سورة الزخرف آية (87) .

ص: 831

الأدلة المانعة للشرك في عبادة الله، الموجبة له العبادة وحده لتفرده بالملك والخلق والربوبية.

ومن أدلة تفرده سبحانه بالملك قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1.

دل على تفرده بالملك تقديم ما حقه التأخير {لِلَّهِ} .

ومن ذلك قوله تعالى: {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} 2، دل على تفرده بالملك نفي الشريك.

ومن ذلك أنه سبحانه نفى أن يكون لأحد ممن زعم أنه إله أو يستحق أن يعبد شيء من الملك فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}

3

1 سورة المائدة آية (120) .

2 سورة الإسراء آية (111) .

3 سورة سبأ آية (22-23) .

ص: 832

أما قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَآءُ} 1 وقوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَآءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ} 2 فالمراد ملك الدنيا من الرئاسة والزعامة على بعض البلاد والعباد، وليس المراد ملك التصرف وتدبير الكون، ويدل على ذلك سياق آية سورة البقرة حيث قال سبحانه:{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوآ أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ المَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 3.

وبهذا تستقر الخطوة الأولى في قطع الطريق على من يزعم أن الله أعطى ملك التصرف في الكون لأحد من الخلق، بإثبات تفرده بالملك بأساليب كثيرة متنوعة قاطعة، وأنه لا يشرك في ملكه أحدا، وأن كل من عُبد من دونه فهو لا يملك من ملك الله شيئا، فليس له شيء من الربوبية، فلا يستحق شيئا من العبادة.

1 سورة البقرة آية (247) .

2 سورة آل عمران آية (26) .

3 سورة البقرة آية (247) .

ص: 833

أدلة تفرد الله بالخلق والأمر:

إن هاتين الصفتين لله تعالى هما أهم خصائص الربوبية، فمن كان خالقا، يوجد من العدم، ويبرأ الخلق، ويصرف شؤون الكون، وكان مالكا للأمر الكوني، يقول للشيء كن فيكون كما شاء، فهو الرب الحق، المستحق للعبادة.

فالتدبير وتصريف أمور الكون والعباد يجري بأمر الله وخلقه، لذا جمع الله بينهما في نحو قوله تعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1.

فذكر سبحانه تفرده بالخلق والأمر، وذكر ربوبيته للعالمين، ليدل على أنه يرب العالمين ويدبرهم بأمره وخلقه.

كما جمع - تعالى - بين الخلق والأمر والتدبير في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنْ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنْ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَاّ الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 2.

1 سورة الأعراف آية (54) .

2 سورة يونس الآيتان (31-32) .

ص: 834

وفي قوله: {فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الحَقُّ} ، بيان لهذا المعنى، من أن من كان الملك بيده، وهو الخالق الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وتدبير الأمر له وحده، فهو الرب حقا. ومن ليس له ذلك فغير كائن رباً بل مربوباً.

وكل أفعال الله تعالى التي يرب بها العالمين، ويصرف بها شؤون الخلق أجمعين راجعة إلى هاتين الصفتين: يأمر بما أراد من ذلك، ويخلقه كما أراد؛ وأمره وخلقه هو تدبيره للأمر.

وعلى هذا فليس غريبا أن يأتي بيان تفرد الله بالخلق والأمر كثيرا في القرآن الكريم، وبمختلف الأساليب الدالة عليه، إذ أن مَن مَلَكَ شيئاً منها كان له حظ من الربوبية، واستحق لذلك العبادة. لذا جاء البيان قوياً وحاسماً بشتى صروف القول، التي تختلف في أسلوبها وتتفق في دلالتها على تفرد الله بالخلق والأمر، وبذلك يكون هو الرب وحده، والإله المعبود وحده.

أدلة تفرد الله بالخلق:

قال الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 1 دل على تفرد الله بالخلق لفظ {كُلِّ} فكل شيء

1 سورة الأنعام آية (102) .

ص: 835

مخلوق فالله خالقه، فما بقي شيء لغير الله يخلقه.

وهذه الآية وردت في سياق ذكر الله فيه أن المشركين ضربوا له هذا النوع من الأمثال: حيث جعلوا له شركاء الجن، وزعموا أن له بنين وبنات، وردّ الله هذه المزاعم بتنزيه نفسه عن ذلك، وبيان أن كل من سواه فهو مخلوق وهو خالقه، بما في ذلك من زعموا أنه شريك أو ابن له، فهو متفرد بالخلق، والتدبير، فهو إذاً الرب حقاً. وهو المستحق للعبادة وحده. قال تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 1.

ومن أدلة تفرده بالخلق قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} 2 دل على تفرده بالخلق لفظ "جميع" الذي يعم كل ما في الأرض.

1 سورة الأنعام آية (100-102)

2 سورة البقرة آية (29) .

ص: 836

ومن ذلك قوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} 1.

دل على التفرد أسلوب التحدي المتضمن لنفي أن يكون أحد ممن عبد من دون الله خالقاً لشيء، وتعجيز من يعبدهم، أن يثبت خلاف ذلك.

ومن الأساليب الدالة على تفرد الله بالخلق ما تقدم في قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} حيث دل على التفرد تقديم ما حقه التأخير {لَهُ} .

ومن ذلك قوله تعالى: {يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 2 دل على تفرد الله بالخلق: الاستفهام الإنكاري الذي يفيد نفي وجود خالق غير الله يرزق العباد، وهذه القضية مسلّمة عند المخاطب، فالاستفهام هو بداية الحجة من أمر يسلم به الطرفان. فإقرار المخاطب بتفرد الله بالخلق والرزق يلزمه بإفراده بالألوهية وعبادته وحده، لذلك قَال في ختام الآية: {لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ

1 سورة لقمان آية (11) .

2 سورة فاطر آية (3) .

ص: 837

فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} .

ومن أدلة تفرد الله بالخلق ما ورد من نفي القدرة على الخلق عن من أُلِّه أو عبد من دون الله. كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 1.

وقوله: {يَآ أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ} 2.

وهذا الخبر في قوله {لَنْ يَخْلُقُوا} يتضمن التحدي، لأنه يفيد عدم قدرتهم في وقت مخاطبتهم به، وبعده طالما يوجد من يزعم أو يُزعَم له أنه رب أو إله. وهو معجزة دالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا القرآن من عند الله، وذلك أن تحقق موجب هذا الخبر واتضاح عجزهم شاهد على ذلك.

ولذلك سمى الله هذا الخبر مثلاً، حيث نصبه للعقول لتستدل به على

1 سورة النحل آية (20) .

2 سورة الحج آية (73) .

ص: 838

تفرد الله بالخلق، واستحقاقه للعبادة، وعلى ضعف تلك الآلهة المزعومة، وعجزها عن الخلق، وعدم صلاحيتها للألوهية، وتستدل به على صدق الرسالة، وأن القرآن حق من عند الله.

وأدلة تفرد الله بالخلق كثيرة، وليس القصد استقصاءها، وإنما بيان أن الله تعالى أولى هذا الأمر أهمية بالغة ليقطع الطريق على دعاة الشرك الذين يزخرفون الشبهات لنسبة التدبير والتصرف لغير الله تعالى، فالمسلم الذي يستقر مدلول هذه الآيات ونحوها في قلبه، يكتسب اعتقادا راسخا بتفرد الله بالخلق فلا يغتر بتلك الشبهات الباطلة.

أدلة تفرد الله بالأمر الكوني:

أمر الله الكوني1 هو كلامه الذي يأمر به المخلوقات بما أراد خلقه وإيجاده. قَال تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2.

فأمره هو قوله الذي يخلق به كما قَال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3.

1 انْظر ما تقدم ص (672) وما بعدها في الهامش.

2 سورة يس آية (82) .

3 سورة النحل آية (40) .

ص: 839

فأمر الله الكوني له علاقة وطيدة بالخلق والربوبية فمن كان مالكا للأمر الكوني، يقول للشيء كن فيكون، فهو المالك للتدبير وهو الرب حقاً.

لذلك جاءت أدلة تفرد الله بالأمر كثيرة، وبأساليب متنوعة، فمن ذلك، قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} 1.

دل على التفرد لفظ "كل" الدال على استغراق ملك الله لجميع أفراد الأمر، ومثله قول الله تعالى:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 2 دل على تفرد الله بالأمر أمران:

(الأول) تقديم ما حقه التأخير {إِلَيْهِ} الذي يدل على اختصاص الله بملك الأمر الكوني، وما يحدث به.

(الثاني) لفظ "كل".

وفي قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} دليل على أن من كان مالكا للأمر

1 سورة آل عمران آية (154) .

2 سورة هود آية (123) .

ص: 840

الكوني هو المستحق للعبادة، وأن يتوكل عليه العبد، وذلك أنه هو الرب المدبر.

ومن أدلة تفرد الله بالأمر الكوني قوله سبحانه: {بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} 1.

فتقديم ما حقه التأخير {لِّلّهِ} ولفظ {جَمِيعًا} يدل على تفرد الله بالأمر الكوني وأن كل ما يحدث في الكون من الحوادث والنوازل والمصائب السارة أو الضارة إنما هو بأمر الله تعالى، كما قَال سبحانه:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2.

ومن ذلك ما تقدم في قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 3.

ومن ذلك قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ} 4.

قال ابن كثير رحمه الله مبينا دلالة هذه الآية على تفرد الله بالأمر:"ثم اعترض بجملة دلت على أن الحكمة في الدنيا والآخرة له

1 سورة الرعد آية (31) .

2 سورة البقرة آية (117) .

3 سورة الأعراف آية (54) .

4 سورة آل عمران آية (128) .

ص: 841

وحده لا شريك له، فقال تعالى:{لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ} ، أي بل الأمر كله إليَّ"1.

وهذه الآية مع دلالتها على تفرد الله بالأمر تبطل مزاعم المشركين بأن الله أعطى أولياءه والمقربين إليه شيء من الأمر والتدبير.

وذلك: أن الآية دلت على أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وأفضل الخلق وأقربهم من الله منزلة، ليس له شيء من أمر الله الكوني، الذي يدبر به المخلوقات، فدل على أن غيره من الأنبياء والأولياء ونحوهم - الذين هم دونه - ليس لهم شيء من أمر الله من باب أولى.

وفيما تقدم من الآيات كفاية في بيان تفرد الله بالأمر، وأهمية معرفة ذلك في رسوخ التوحيد.

وهذا البيان لتفرد الله بالملك والخلق والتدبير يُردّ به على كل من يزعم أن الله يعطي ملكه من يشاء، وأنه أعطى بعض أوليائه والمقربين إليه الخلق والتصرف في الكون أو بعضه.

كما يرد بأدلة تفرد الله بالأمر على كل من يقول: إن الله هو مالك الملك والخالق المتصرف، ويزعم أن الله يخلق ويوجد بأمر المقرَّب منه من ولي أو نبي أو نحوه، فهو يأمر بما أراد، والله يخلق لأمره.

1 تفسير القرآن العظيم، (1/402) .

ص: 842

خلاصة هذه الفائدة:

أن النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى، في قوله:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} يتضمن بالدرجة الأولى النهي عن إثبات المماثل لله عز وجل في ذاته أو شيء من صفاته وأفعاله، وأن اعتقاد شيء من ذلك يؤدي إلى اتخاذ الشركاء مع الله في العبادة.

كما تبين أن شياطين الإنس يغرون الناس، حيث يوهمونهم أن لبعض الخلق من الأنبياء أو الأولياء أو غيرهم شيئاً من الربوبية، أو المماثلة لصفات الله تعالى، ليؤلهوهم لأجل ذلك الاعتقاد ويصرفوا لهم العبادة.

لذلك كان البيان الواضح المتكرر لاستقلال الله وتفرده بالربوبية، وتفرده بأهم خصائصها من الملك والأمر، والخلق وإبطال أي زعم يسند أي شيء من ذلك لغير الله، كي يستقر اعتقاد تفرد الله بالألوهية، واستحقاقه وحده للعبادة في قلوب العباد، ويقطع الطريق على المجرمين دعاة الشرك.

ص: 843

الفائدة الثالثة: النهي عن ضرب الأمثال القولية الفاسدة لله تعالى.

تقدم1 عند دراسة المراد بالنهي عن ضرب الأمثال لله تعالى، في قوله {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} ، أن النهي يشمل ما يضربه المشركون من الأمثال القولية ليستدلوا بها على شركهم، وما هم عليه من الدين الباطل، وليعارضوا بها ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

وتلك الأمثال التي يستدل بها المشركون، وعامة الجاهلين التي تقوم على القياس الفاسد، يقتدون فيها بإمام الضلال إبليس - لعنه الله - حيث إنه أول من قاس معارضا أمر الله تعالى.

قَال محمد بن سيرين2 رحمه الله: "القياس شؤم، وأول من قاس إبليس فهلك، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس"3.

1 ص (767) .

2 أبو بكر محمد بن سيرين الأنصاري البصري، مولى أنس بن مالك، كان من الأئمة الحفاظ الفقهاء. توفي سنة 110 هـ.

انْظر: سير أعلام النبلاء (4/606) ، والبداية والنهاية (9/267) .

3 انْظر: إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/254) .

ص: 844

والقياس الإبليسي الفاسد المهلك، هو الذي يكون مع وجود النص. "مثل قياس إبليس نفسه على عنصره الذي هو النار، وقياسه آدم على عنصره الذي هو الطين، واستنتاجه من ذلك أنه خير من آدم ولا ينبغي أن يؤمر بالسجود لمن هو خير منه، مع وجود النص الصريح الذي هو قوله: {اسْجُدُواْ لآدَمَ} ، يسمى في اصطلاح الأصوليين فاسد الاعتبار"1.

قَال ابن القيم رحمه الله: "إن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مرة [إبليس لعنه الله] ، فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدّمه عليه، فإن الله لما أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياس عقلي"2.

وهو "قياس في مقابلة النص، والقياس إذا صادم النص وقابله كان قياساً باطلاً، ويسمى قياساً إبليسياً"3.

"ولما علم الشيخ [إبليس أعاذنا الله منه] أنه قد أصيب من معارضة الوحي بالعقل، وعلم أنه لا شيء أبلغ في مناقضة الوحي والشرع وإبطاله من معارضته بالمعقول، أوحى إلى تلامذته، وإخوانه من الشبهات الخيالية

1 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، (1/62) .

2 الصواعق المنزلة، لابن القيم، ت: أ. د. أحمد بن عطية الغامدي، (2/663) .

3 نفس المصدر، ص (663) .

ص: 845

ما يُعارَض به الوحي، وأوهم أصحابه وتلاميذه أنها قواطع عقلية، وقال: إن قدمتم الوحي عليها فسدت عقولكم.

قَال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1.

ومن المعلوم أن وحيهم إنما هو شُبَه عقلية"2.

نماذج من الأمثال الفاسدة المضروبة لله:

تقدمت3 الإشارة - عند الكلام على دلالة السياق - إلى بعض الأمثال التي ضربها المشركون الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم مما يغني عن إعادتها.

ومن الأمثال الفاسدة التي ضربها الفلاسفة ودعاة الشرك للاستدلال على جواز اتخاذ الآلهة للتوسل والتقرب بها إلى الله:

أولاً: قولهم: "إن إله العالم أَجَلّ من أن يعبده الواحد منا، فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك"4.

1 سورة الأنعام آية (121) .

2 الصواعق المنزلة، (2/662) .

3 ص (768) وما بعدها.

4 فتح القدير للشوكاني، (3/179) .

ص: 846

قَال ابن كثير رحمه الله: "وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءت الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - بردّها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه، ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه. {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلآَّ أَنَا فَاعْبُدُون} 2.

وأخبر أن الملائكة التي في السماوات - من الملائكة المقربين وغيرهم - كلهم عبيد خاضعون لله، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم، يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبَوْه، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} 3، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً"4.

1 سورة النحل آية (36) .

2 سورة الأنبياء آية (25) .

3 سورة النحل آية (74) .

4 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (4/4) .

ص: 847

ثانياً: ومن الأقيسة الخبيثة، ذلك المثَل الذي ضربه أبو حامد الغزالي ليستدل به على تأليه البشر، وحلول نور الله في الإنسان، وأنه يكون بذلك النور رباً مدبراً، يعلم الغيب.

وذلك أنه ضرب نور القمر- الذي ينتشر على الأرض، وينفذ من كوة في الدار وينعكس على مرآة - مثلا لنور ذات الله الذي ينفذ إلى القلب، فيكون في الإنسان شيء من الألوهية، تنكشف له به المغيبات، ويملك التصرف بما شاء من الكون.

قَال محقق كتاب "مشكاة الأنوار" للغزالي: "هذه هي الخطوة الثالثة في تجريد النور، إذ نحن الآن بإزاء نور ليس من أنوار هذا العالم، بل من أنوار عالم الملكوت الذي منه القرآن....

ثم إن أنوار عالم الملكوت التي تقتبس منها الأنوار الأرضية بحسب قربها وبعدها من منبع النور الأول الذي يمثله الغزالي بضوء القمر عندما يدخل في كوة بيت فيقع على مرآة منصوبة على حائط، ثم ينعكس على مرآة على حائط آخر، ثم ينعطف على الأرض فينيرها....

وهذا النور الحق هو الذي بيده الخلق والأمر"1.

"وبالنور الإنساني السفلي ظهر نظام عالم السفل، كما بالنور الملكي

1 مشكاة الأنوار لأبي حامد الغزالي، مقدمة المحقق د. أبو العلاء عفيفي ص (13) .

ص: 848

ظهر نظام عالم العلو"1.

فهو يزعم أن العالم السفلي - الأرض ومن عليها - يظهر نظامها بنور الإنسان.

ويؤيد هذا قوله - المتقدم2- الذي أفضى به إلى الإمام أبي بكر بن العربي حيث قَال له: "فإن للنفس قوة تأثير موجدة

وقد تزيد بصفائها واستعدادها، فتعتقد إنزال الغيث وإنبات النبات، ونحو ذلك من معجزات خارقات للعادة، فإذا نطقت به كان على نحوه"3.

فهو يزعم - وأقبح به من زعم - أن الإنسان يدبر الخلق والأمر بما هو أسفل منه بما معه من نور إلهي، فالخالق إذاً هو الله وحده! إذ إن نوره المتجلي في الإنسان هو الذي تم به الخلق!

وهذا كفر لم يصل إليه كفر إبليس الذي أُمر للسجود لآدم فأبى، فهو وإن شابهه في كون كلا القياسين فاسداً معارضاً للأمر الصريح، والبيان الواضح من الله تعالى، إلا أن قياس الغزالي، أشد منه ضلالاً من وجوه، من أهمها:

1 مشكاة الأنوار لأبي حامد الغزالي، ص (59) .

2 انْظر: ص (435) .

3 آراء أبو بكر بن العربي الكلامية، (2/33) ، وانظر التعليق على هذا الكلام ص (435) من هذا البحث.

ص: 849

(الأول) أن الغزالي ضرب مثل "نور القمر" ليستدل به على الشرك، وتأليه البشر، وإبطال دين الله من أساسه بينما الشيطان قاس ليتهرب من التكليف بدافع الاستكبار.

(الثاني) أن الغزالي زخرف قوله ولبسه ليكون أقوى في التغرير بالناس، وإخراجهم من النور إلى الظلمات.

وهذه النتيجة التي رتبها الغزالي على هذا المثَل وغيره هي أشد كفرا وأبعد في الضلال من كفر النصارى، الذين زعموا أن اللاهوت (الجزء الإلهي) حل في الناسوت (الإنسان) ، وذلك أن النصارى زعموا ذلك في عيسى عليه السلام، وهو جعله متاحا لكل إنسان غير محجوب بزعمه.

وهذا الزعم الفاسد مردود بالأدلة التي لا تحصى المبينة لتفرد الله بالأمر، والخلق، والملك، والألوهية، وأن غيره مهما كانت منزلته عند الله فهو لا يملك من ذلك من شيء، وقد تقدم بعض تلك الأدلة في المبحث السابق.1

ثالثاً: من الأمثال الفاسدة التي يضربها أهل الضلال لمعارضة دين الله ومخالفة ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، ذلك المثَل الذي ضربه أبو حامد الغزالي - أيضا - ليدلل به على أمور خطيرة، منها:

1 ص (829) وما بعده.

ص: 850

1-

أن الحقائق والمعارف الحق التي يستفيدها الأنبياء والأولياء وغيرهم من أهل التصوف لا تكون بتعلم العلم، وإنما بالكشف والفيض. وأن طريق المعرفة الصحيح هو ترك العلم والإقبال على تحصيل ذلك.

2-

أن النبوة تحصل بهذا الطريق، وليست خاصة بالأنبياء، بل هي متاحة لكل من سلك الطريق الذي زخرفه.

3-

أن الأنبياء والأولياء الذين وصلوا حد المكاشفة يعلمون الغيب، وينكشف لهم كل ما في اللوح المحفوظ.

وقد قدم للمثل الذي ضربه لذلك بتمهيدات، منها قوله وهو يتكلم عن طريقة الصوفية:

"فلذلك لا يشتغلون بدراسة العلم، بل يشتغلون بتصفية القلب، وقطع العلائق

ثم تفويض الأمر إليه، فهو أعلم بما يكشف لقلوبهم من الأنوار والألطاف، وهو طريق الأنبياء والأولياء، فإنهم لم يحصلوا العلوم والحقائق بالمدارسة

"1.

وزعم أنهم بهذه الطريقة ينكشف لهم ما في اللوح المحفوظ حيث قَال: "واعلم أن القلب إذا كان كالمرآة الصقيلة المجلوة، وقد علمت قبل ذلك أن حقائق الأشياء منقوشة في اللوح المحفوظ، فمهما ارتفع الحجاب،

1 مختصر إحياء علوم الدين للغزالي، اختصار المؤلف، ص (148) .

ص: 851

وكانت المرآة في محاذاة اللوح المحفوظ انكشف فيه حقائق العلوم

"1.

وهذه المزاعم الخبيثة الباطلة، المعارضة لدين الله، والمؤيدة لدين الشيطان، لم يجد عليها دليلا صحيحا - وأنى له ذلك - فعمد إلى إيراد مثل مزخرف يستدل به لهذه الأباطيل فقال:

"ونحن نبين الفرق بين التعلم والتصوف بمثال في حكاية: قد حُكي أن أهل الصين وأهل الروم، تباهوْا بين يدي بعض الملوك بحسن النقش والصور، فاستقر رأي الملك على أن يسلم إليهم صفة، تنقش أهل الصين منها جانبا، وأهل الروم جانبا، ويرخى بينهما حجاب يمنع اطلاع كل فريق منهم على صاحبه، ففعل ذلك، وجمع أهل الروم غرائب الأصباغ، ودخل أهل الصين يصقلون جانبهم، فلما فرغ أهل الروم ادعى أهل الصين أنهم أيضا قد فرغوا، فتعجب الملك منهم! وقال: كيف الفراغ ولم تأتوا بشيء من الأصباغ؟

فقيل: ما عليكم من ذلك، ارفعوا الحجاب وتأملوا. ففعلوا ورفع الحجاب، فإذا عجائب الأصباغ والألوان والنقوش، تزهر وتتلألأ بزيادة بريق وصفاء. إذ كانوا هم يصقلون ما دام غيرهم ينقش.

فالصوفية يصقلون، والعلماء ينقشون، فما ينكشف لهم بزيادة، ووراء ما يحصله العلماء، ينكشف لهم أمور لا يتصور إليها بتكلف

1 مختصر إحياء علوم الدين للغزالي، ص (147) .

ص: 852

التعلم"1.

وإن الإنسان ليعجب من عالم يريد بيان الدين للناس، يعرض عن كتاب الله وآياته البينات، وأمثاله المفصلات، إلى حكايات وتخرصات، لا تعدو كونها من زخرف القول الذي تلقيه شياطين الجن على من أعرض عن هدي الله.

قَال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا} 2.

وقد جمع بأمثاله وزخرف قوله بين القول على الله بلا علم، والكذب عليه، ومعارضة دينه، والصد عن سبيله.

قَال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 3، وقال:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} 4.

1 مختصر إحياء علوم الدين للغزالي، ص (148) .

2 سورة الأنعام آية (112) .

3 سورة الأنعام آية (21) .

4 سورة الأنعام آية (157) .

ص: 853

وهذه الأباطيل أفضل ما يُردّ عليها به، ذكر النصوص الثابتة المحكمة التي تدل على خلاف ما قرره بتلك الأمثال الباطلة والدعاوي العارية عن البرهان.

وليس المقصود حصر تلك الأدلة، وإنما ذكر بعضها مما يفي بالغرض - إن شاء الله - من بيان بُعد الضاربين لتلك الأمثال عن هدي الكتاب والسنة، ومعارضتهم لما دلا عليه من الحق. ويكون فيما يلي:

أ- زعمه أن الحقائق لا تعرف بالتعلم، وأن الأنبياء كذلك.

فيرد عليه بالأدلة التي تدل على أن النور والهداية، والعلم، والخروج من الضلال، ومعرفة سبل السلامة إنما هي بتعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن من تمسك بالكتاب والسنة فلن يضل أبدا.

وقد تقدم ذكر بعضها عند دراسة مثل النور.1

ومن أشملها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 2.

وقوله: {قَدْ جَآءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ

1 انْظر: ص (420) وما بعدها.

2 سورة الجمعة آية (2) .

ص: 854

سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. ونحوها كثير.

ب - أما زعمه أن الأنبياء لم يعرفوا الحقائق بالتعلم فيرده قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} 2.

وقوله سبحانه في حق عيسى بن مريم عليه السلام: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} 3.

وقال تعالى مبينا أن جميع الأنبياء يدعون الناس إلى توحيد الله في ربوبيته، وألوهيته، ويأمرونهم أن يكونوا ربانيين يدرسون كتب الله

1 سورة المائدة الآيتان (15، 16) .

2 سورة النساء آية (113) .

3 سورة المائدة آية (110) .

ص: 855

- تعالى - ويعملون بها، ويخلصون في عبادته:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلآئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1.

وقد بين الله تعالى أن ما نزل من العلم في القرآن الكريم بصائر للناس، وأنه يهدي للطريق القويم والصراط المستقيم، حيث قَال:{هَذَا بَصَآئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 2.

وقال: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 3.

وعلّم الله نبيه القرآن وبينه له، كما قَال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 4.

وأمره الله باتباعه والعمل به فقال:

1 سورة آل عمران الآيتان (79، 80) .

2 سورة الجاثية آية (20) .

3 سورة الإسراء آية (9) .

4 سورة القيامة الآيتان (18، 19) .

ص: 856

{قَدْ جَآءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ المُشْرِكِينَ} 1.

فبيّن سبحانه أن القرآن الذي أنزله قد جاء يبصر الناس ببيان الحق وحججه وبراهينه، وأنه تعالى صَرَّف الآيات وبيّن مراده في كتابه ليتعلمه قوم فيعملون به ويتبعونه أسوة بنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي أمر باتباع ما أنزل عليه من الكتاب والحكمة.

أما المشركون المعاندون فيزعمون أنه ليس وحياً من الله وإنما تعلمه الرسول ودرسه ودارس به الأمم السابقة من اليهود والنصارى.2

فهم ينكرون الوحي وأن يكون القرآن من عند الله.

وليس بعيداً عنهم من ينكر أن العلم يكون بما أنزل على الرسول من الوحي من الكتاب والسنة. فالمقصود من إنزال القرآن وتعليم السنة هو العلم الدال على الصراط المستقيم.

وهذا الأمر - وهو أن العلوم والحقائق الدينية إنما تؤخذ من الكتاب والسنة - أمر معلوم من الدين بالضرورة، لا يختلف فيه أحد من أهل

1 سورة الأنعام آية (104، 106) .

2 انْظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (2/162) .

ص: 857

السنة، وإنما دعت الحاجة إلى الاستدلال له لوجود هذه الأباطيل المزخرفة لإبطاله.

جـ- زعمه أن النبوة مكتسبة متاحة لكل من سلك الطريق الذي زخرفه.

وهذا يرد عليه بالنصوص الدالة على اصطفاء الله من شاء من عباده فآتاهم الكتاب والحكمة والنبوة، ومن أجمع ما دل على ذلك قول الله تعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلآءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوآ أَنْتُمْ وَلآ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} 1.

ومن فوائد هذه الآيات وما بعدها مما يردّ هذه المزاعم الباطلة ما يلي:

1 سورة الأنعام آية (89 -91) .

ص: 858

1-

أن الله بين أن أولئك الذين هداهم واجتباهم للنبوة آتاهم كتباً فيها هدى ونور، وأنهم بتعلمها وتعليمها حصل لهم من العلوم ما لم يكونوا يعرفونه هم ولا آباؤهم.

2-

قوله {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} .

يدخل فيه من زعم أن النبوة يكتسبها الأنبياء وغيرهم بنور ينفذ إلى قلوبهم دون أن يتعلموا كتابا من الله، فهم يزعمون أن لا حاجة إلى ما أنزله الله، وأن الهداية تحصل بدونه "فما قدروا الله حق قدره".

3-

قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} ، وقوله بعد ذلك:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} 1 فيه دلالة على أن الله ينزل على أنبيائه كتباً هي نور وهداية لما فيها من العلم الذي يهتدون به ويهدون، وليس الذي ينزل على الأنبياء نوراً من نور ذات الله، يفيض عليهم كما يفيض نور القمر على ما يقابله، وتكون النبوة بذلك النور كما يزعمه هذا الضال.

4-

قوله تعالى بعد ذلك: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ

1 سورة الأنعام آية (92) .

ص: 859

أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} 1.

يدخل فيها الضاربون لهذا المثَل ونحوه والقابلون له، من جهتين:

(الأولى) أنهم كذبوا على الله حيث قَرَّروا ما يعارض دينه بأمثال فاسدة، وأقوال مزخرفة.

(الثانية) أنهم زعموا لأنفسهم أو لغيرهم أنهم يتلقون بالفيض والكشف من جنس ما يتلقى الأنبياء، فيشملهم قوله تعالى:{أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} .

ويرد أيضا على هذا الزعم - أنه يحصل بالكشف لأهله من جنس ما يحصل للأنبياء - ما ورد من أن الله ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 2.

قَال ابن كثر رحمه الله: "وهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة،

1 سورة الأنعام آية (93) .

2 سورة الأحزاب آية (40) .

ص: 860

فإن كل رسول نبي ولا ينعكس"1.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قَال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"2.

قَال ابن حجر رحمه الله وهو يذكر ما يستفاد من الحديث: "وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للأفهام، وفضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر النبيين، وأن الله ختم به المرسلين، وأكمل به شرائع الدين"3.

د- أما زعمه أن الأنبياء والأولياء يعلمون الغيب المكنون في اللوح المحفوظ، فهذا باطل مردود بنصوص الوحي المحكمة، كقوله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ} 4.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا

1 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/493) .

2 متفق عليه. واللفظ للبخاري، البخاري كتاب المناقب، باب خاتم النبيين (ح3535)، الصحيح مع الفتح (6/558) ومسلم: كتاب الفضائل، باب كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين (ح2286)(4/1791) .

3 فتح الباري، شرح صحيح البخاري، (6/559) .

4 سورة الأنعام آية (59) .

ص: 861

تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1.

وقال صلى الله عليه وسلم مبينا أن هذه الأمور المذكورة في الآية من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله: ".... في خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله"، ثم تلا صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ

} الآية.2

وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ} 3.

وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ} 4.

وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لآ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلآ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلآ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} 5.

1 سورة لقمان آية (34) .

2 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإسلام والإيمان

، (ح 9) ، (1/39) .

3 سورة النمل آية (65) .

4 سورة آل عمران آية (179) .

5 سورة الأنعام آية (50) .

ص: 862

وقال سبحانه مبينا حال رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لآ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَاّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1.

فهذا البيان من الله تعالى عن حال أفضل رسله وأقربهم منه منزلة وأفضل البشر وأصفاهم قلبا وأكملهم تقوى ونوراً، وأنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ولا يعلم الغيب.

وذلك المفتري على الله يزعم بأمثاله الإبليسية أن في قلوب الأنبياء والأولياء نوراً يدبرون به الأرض ومن فيها ويعلمون به الغيب، وأن قلوبهم ينطبع فيها ما في اللوح المحفوظ!!

فيا لها من جسارة على معارضة كتاب الله، والقول على الله بلا علم.

وليس الغرض إيراد هذه الأمثال الفاسدة للرد عليها، وإنما ذكر نماذج تدل على مخالفة بعض من انتسب للإسلام والعلم للنهي الإلهي عن ضرب الأمثال، واختراعهم لتلك الأمثال التي ضل بها كثير من الناس.

خطورة الأمثال الفاسدة:

إن الأمثال القياسية الفاسدة من أسباب ضلال الناس وانحرافهم عما

1 سورة الأعراف آية (188) .

ص: 863

جاء به الأنبياء من الدين الحق.1

قَال شارح العقيدة الطحاوية2: "وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق. كما قَال عبد الله بن المبارك3- رحمة الله عليه -:

رأيت الذنوب تميت القلوب

وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب

وخير لنفسك عصيانها

وهل أفسد الدين إلا الملوك

وأحبار سوء ورهبانها

فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة، ويعارضونها بها، ويقدمونها على حكم الله ورسوله. وأحبار السوء وهم العلماء الخارجون على الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة، المتضمنة تحليل

1 انظر لمعرفة تفاصيل الأقيسة الفاسدة، وأثرها في الانحراف عن الدين الحق: رسالة دكتوراه، بعنوان القياس الفاسد وأثره في الانحراف في العقيدة، لأحمد بن شاكر الحذيفي، المقدمة لقسم العقيدة، بكلية الدعوة، الجامعة الإسلامية عام 1417 هـ.

2 العلامة: علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي.

3 شيخ الإسلام، أبو عبد الرحمن، عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي المروزي، كان معروفا بالزهد والحفظ والجهاد والصدقة. له مؤلفات نافعة منها: كتاب الزهد، وكتاب البر والصلة، وكتاب الجهاد، وغيرها. توفي سنة 181 هـ.

انْظر: سير أعلام النبلاء (8/378) ، وتَهْذِيب التهذِيب (5/382) .

ص: 864

ما حرم الله ورسوله، وتحريم ما أباحه، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده، وتقييد ما أطلقه، ونحو ذلك.

والرهبان، وهم جهال المتصوفة، المعترضون على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق، والمواجيد، والخيالات، والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان، وحظوظ النفس"1.

وقال ابن تيمية رحمه الله مبينا وقوع بعض من يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان في أنواع من الضلال بسبب القياس الفاسد: "والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات، لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه

والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة، وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات، حتى آل الأمر بمن يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود.

فظنوا أنه هو، فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء - أو أن يكون إياه، أو متحدا به، أو حالا

1 شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، ص (222) ، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1391 هـ.

ص: 865

فيه - من الخالق مع المخلوق. فمن اشتبه عليه وجود الخالق بوجود المخلوقات كلها، حتى ظنوا وجودها وجوده، فهم أعظم الناس ضلالا من جهة الاشتباه"1.

والأمثال الضالة القائمة على القياس الفاسد - التي أشرت إلى طرف منها - أثرت في التلبيس على كثير من المنتسبين إلى العلم والعبادة والزهد من المتصوفة وغيرهم، فسوغت لهم الشرك، وتأليه البشر، وعبادتهم.

وكانت تلك الأمثال وزخرف القول وما أضيف إليها، وما بني عليها بمثابة الأدلة على تلك الأحوال الشركية، والجسور لربطها ونسبتها إلى الإسلام.

قَال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد أحدث قوم من ملاحدة الفلاسفة الدهرية للشرك شيئا آخر ذكروه في زيارة القبور كما ذكر ذلك ابن سينا2 ومن أخذ عنه

1 الرسالة التدمرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص (33) .

2 أبو علي الحسن بن عبد الله بن سينا البلخي، كان فاسد الديانة على دين الفلاسفة، يسمي أفكارهم وعقائدهم بأسماء إسلامية تلبيسا وتضليلا، قَال عنه الذهبي رحمه الله:"فلسفي النحلة ضال لا رضي الله عنه" وكان والده من دعاة الإسماعيلية، ولابن سينا مؤلفات كثيرة أغلبها في الفلسفة والطب. توفي سنة 428 هـ.

انْظر: سير أعلام النبلاء (17/531) ، والبداية والنهاية (12/45) .

ص: 866

كصاحب1 الكتب المضنون بها وغيرها، ذكروا معنى الشهادة على أصلهم فإنهم لا يقرون، بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ولا أنه يعلم الجزئيات ويسمع أصوات عباده ويجيب دعاءَهم. فشفاعة الأنبياء والصالحين على أصلهم ليست كما يعرف أهل الإيمان من أنها دعاء يدعو به الرجل الصالح فيستجيب الله دعاءه، كما أن ما يكون من إنزال المطر باستسقائهم ليس سببه عندهم إجابة دعائهم، بل هم يزعمون أن المؤثر في حوادث العالم هو قوى النفس أو الحركات الفلكية أو القوى الطبيعية فيقولون: إن الإنسان إذا أحب رجلا صالحا قد مات لا سيما إن زار قبره، فإنه يحصل لروحه اتصال بروح ذلك الميت فيما يفيض على تلك الروح المفارقة من العقل الفعال عندهم أو النفس الفلكية، يفيض على هذه الروح الزائرة المستشفعة من غير أن يعلم الله بشيء من ذلك - بل وقد لا يعلم الروح المستشفعة بها بذلك.

ومثلوا ذلك بالشمس إذا قابلها مرآة فإنه يفيض على المرآة من شعاع الشمس، ثم إذا قابل المرآة مرآة أخرى فاض عليها من تلك المرآة، وإذا قابل تلك المرآة حائط أو ماء فاض عليها من شعاع تلك المرآة، فهكذا الشفاعة عندهم، وعلى هذا الوجه ينتفع الزائر عندهم.

1 أبو حامد الغزالي.

ص: 867

وفي هذا القول من أنواع الكفر ما لا يخفى على من تدبره"1.

قوله رحمه الله: "كما ذكر ذلك ابن سينا ومن أخذ عنه كصاحب الكتب المضنون بها وغيرها"، يشير إلى أن أبا حامد الغزالي أخذ عن ابن سينا هذه الزخارف الجاهلية، وقد تقدم ذكر مزاعم الغزالي2، وبالمقارنة بينها وبين ما ذكره شيخ الإسلام عن ابن سينا يتبين أن الغزالي اقتبس الفكرة والمثَل، وغَيَّر في ذلك أن جعل النور الفائض هو نور الله - تعالى عن ذلك - على النفوس العلوية المقابلة له، حتى يصل إلى الإنسان، كما غَيَّر في المثَل حيث ضرب مثلاً بنور القمر بينما ابن سينا ضرب مثلا بنور الشمس {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا} 3.

ويدل - أيضا - على أن هذه الأفكار والمزاعم مأخوذة عن الفلاسفة الملاحدة4، وهي أبعد ما تكون عن هدي الأنبياء، وذلك يدل

1 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ص (24، 25) ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، الطبعة الأولى، 1404 هـ.

2 انْظر: ص (431) وما بعدها.

3 سورة الأنعام آية (112) .

4 ما قاله ابن تيمية رحمه الله من أن الغزالي أخذ نظرية فيض الأنوار من ملاحدة الفلاسفة الدهرية يؤيده ما توصل إليه المستشرق " فنسك" في مقال له نشر عام 1941 م. ذهب فيه إلى أن الغزالي استمد تلك النظرية من "أفلوطين".

ويرى د. عبد الرحمن بدوي - المتخصص - بدراسة الفلاسفة - أن الغزالي ربما يكون أخذها من بعض كتب الفارابي التي لخص فيها نظرية " أفلوطين ". انْظر: مشكاة الأنوار للغزالي، تصدير عام للمؤلف الدكتور: أبو العلاء عفيفي، ص (16) .

وتتفق هذه الأقوال على أن الغزالي استفاد هذه النظرية من الأفلاطونية الحديثة، وتختلف في الواسطة هل كان ابن سينا، أو الفارابي، أو الاطلاع مباشرة على كتب أفلوطين.

ص: 868

على شناعة ما فعله الغزالي وغيره، من نسبتها إلى الدين، ومحاولة ربطها بمثل النور1 وغيره من الآيات.

قوله: "فيقولون: إن الإنسان إذا أحب رجلا صالحا قد مات لاسيما إن زار قبره فإنه يحصل لروحه اتصال بروح ذلك الميت فيما يفيض على تلك الروح المفارقة من العقل الفعال عندهم، أو النفس الفلكية، يفيض على هذه الروح الزائرة المستشفعة

".

هذه الدعوى المزخرفة المدعومة بمثل انعكاس الضوء في المرآة - العارية من البرهان إلا مجرد الظن، والرجم بالغيب - أضافت مستمسكا آخر لعباد القبور، ودعاة الشرك، الناسبين الربوبية والألوهية إلى البشر من الأولياء وغيرهم، وسهلت عليهم اقتناص كثير من العباد،

1 انْظر: ما تقدم ص (333) وما بعدها.

ص: 869

والمتعلمين الذين تلقوا علومهم من كتب أولئك المعظَّمِين الضُّلال، فانخدعوا بهم وانخدع بهؤلاء المنتسبين إلى العلم والعبادة خلق كثير من جهال العوام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فقصدت القبور - بهذه الشبهة - لكي تفيض على زائريها من أنوار وبركات المقبور، وتنال حظها مما ينعكس عليها من أنوار النفوس أو العقول العلوية – بزعمهم - ويظنون أن ذلك نوع من أنواع الشفاعة.

وما أقرب حال هؤلاء إلى من وصفهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} 1.

ولاشك أن هذه الأمثال الباطلة - التي يضربها المجرمون لمعارضة التوحيد الذي هو أساس الدين، ويرسخوا بها الفتنة بالشرك وعبادة الأموات من أعظم المحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهي داخلة في النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى، بقوله:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} .

لذلك قَال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وفي هذا القول من أنواع الكفر ما لا يخفى على مَنْ تدبَّره".

1 سورة النور آية (39) .

ص: 870

نفاة الصفات، وضرب الأمثال لله:

إن نفاة صفات الله تعالى من سائر طوائف المتكلمين ارتكزوا في نفيها عن الله تعالى على شبهة أن إثباتها يؤدي إلى مشابهة المخلوق، إذ إنهم زعموا أن ظاهر نصوص الصفات حقيقته هي صفة المخلوق. فضلالهم نشأ من قياسهم صفات الله تعالى على صفات المخلوق، وهذا قياس فاسد.

وجعلوا صفات المخلوق مماثلة لما تدل عليه ظواهر النصوص المثبتة لصفات الله. فنفوا الصفات عن الله تعالى خوفا من إثبات ما يماثل صفة المخلوق. فهم كما قال عنهم أهل العلم: مثلوا ثم عطلوا.

قَال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل:

أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات. فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل: مثلوا أولاً، وعطلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى"1.

1 الفتوى الحموية الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص (17) .

ص: 871

فهؤلاء المعطلة لصفات الباري تبارك وتعالى ضربوا لصفات الله أمثالا في عقولهم، هي صفات المخلوقين، وأخذوا يقايسون ما وردت به النصوص من صفات الله على تلك الأمثال، فأدى بهم ذلك إلى رد تلك النصوص بعدم قبول ما دلت عليه، وتأويلها تأويلات باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وكان عليهم من البداية أن يستجيبوا لقول الله تعالى:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فيقبلوا ما أثبت الله لنفسه على ما يليق به، دون اعتقاد مشابهة الخلق، على حد قوله - سبحانه - {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1.

وهذا المنهج - المتمثل في مقايسة صفات الله بصفات المخلوقين مما يؤدي إلى استحالتها ونفيها عن الله - قد حصل جنسه عند المشركين من كفار قريش.

وذلك أنهم أحالوا البعث بعد الموت بناء على اعتقادهم أن لا أحد يستطيع إعادة الحياة إلى العظام البالية بالقياس إلى مقدرتهم.

قَال الله تعالى مبينا ذلك منهم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا

1 سورة الشورى آية (11) .

ص: 872

الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 1.

وقال - سبحانه -: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 2.

قَال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبينا ما يتضمنه هذا المنهج من المفاسد: "وهو أن كثيرا من الناس يتوهم في بعض الصفات - أو كثيرٍ منها أو أكثرها أو كلها - أنها تماثل صفات المخلوقين. ثم يريد أن ينفي ذلك الَّذِي فهمه، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:

(أحدها) : كونه مثَّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.

(الثاني) أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله، بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السّيّئ الذي ظنه بالله ورسوله - حيث ظن أن الذي يفهمه من كلامهما هو التمثيل الباطل - قد عطّل ما أودع الله

1 سورة يس الآيتان (78-79) .

2 سورة الإسراء آية (49-51) .

ص: 873

ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى.

(الثالث) أن ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بلا علم، فيكون معطلا لما يستحقه الرب.

(الرابع) أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات، من صفات الأموات والجمادات، أو صفات المعدومات. فيكون قد عطّل به صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثّله بالمنقوصات والمعدومات. وعطّل النصوص عما دلت عليه من الصفات. وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع - في كلام الله وفي الله - بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحدا في أسماء الله وآياته"1.

طريقة العلماء الراسخين في إثبات الصفات:

العلماء الراسخون هم الذين يتبعون ما أنزل الله من البينات والهدى، وينتهجون نهج سلف الأمة في الاستمساك بما دل عليه الكتاب والسنة في أمور الدين، ومن ذلك باب الأسماء والصفات.

قَال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبينا الأصل الذي يسيرون عليه في باب الأسماء والصفات: "فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما

1 الرسالة التدمرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص (25، 26) .

ص: 874

وصفه به رسله نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، ويَنفي عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد، لا في أسمائه ولا في آياته. فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته. كما قَال تعالى:{وَلِلَّهِ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ القِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 2. .. الآية.

فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات، إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قَال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 3. ففي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ

1 سورة الأعراف آية (180) .

2 سورة فصلت آية (40) .

3 سورة الشورى آية (11)

ص: 875

شَيْءٌ} رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله:{السَّمِيعُ البَصِيرُ} : رد للإلحاد والتعطيل"1.

وعلى هذا فالألفاظ المثبتة لصفات الله في نصوص الكتاب والسنة، تدل على ثبوت الصفات على ما يليق بالله، بحقائق لا تماثل صفات المخلوقين.

ومن فهم منها ما يماثل صفة المخلوق فهو مخطئ، ومن زعم أنها لا تدل إلا على ذلك فهو ضال.

قَال الإمام نعيم بن حماد2 رحمه الله: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها"3.

فطريقة أهل العلم الراسخين - المقتدين بالسلف الصالح والأئمة المهديين - أنهم يثبتون ما أثبت الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق به، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقات، ولا يضربون له الأمثال

1 الرسالة التدمرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص (4) .

2 الإمام أبو عبد الله نعيم بن حماد بن معاوية المروزي، إمام في السنة. ألف كتاب الفتن، ثبت في محنة القول بخلق القرآن، ومات في السجن سنة 229 هـ.

انْظر: سير أعلام النبلاء (10/595) ، والبداية والنهاية (10/315) .

3 نقلا عن: الفتوى الحموية الكبرى، لابن تيمية، ص (64) .

ص: 876

ليعارضوا بها ما دل عليه كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ليقايسوا صفاته بصفات المخلوقين، وإذا أوردوا الأمثال فإنما يوردونها ليؤيدوا ما دل عليه الكتاب والسنة، وما ثبت لله من أوصاف الكمال، ويستخدمون في ذلك قياس الأولى.

قَال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "فإذا أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات - كما دلت على ذلك الآيات البينات - كان ذلك هو الحق الذي يوافق المعقول والمنقول، ويهدم أساس الإلحاد والضلالات. والله سبحانه لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثيل له، بل له المثَل الأعلى، فلا يجوز أن يشرك هو والمخلوقات في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يستعمل في حقه المثَل الأعلى. وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه"1.

وخلاصة هذه الفائدة:

أن النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى في قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} ، يشمل النهي عن ضرب الأمثال القياسية الفاسدة، التي يضربها

1 الرسالة التدمرية، ص (17) .

ص: 877

المشركون الجاهلون، التي تؤدي إلى جعل أنداد لله من خلقه، في ربوبيته، أو ألوهيته، أو أي شيء من خصائصه، مما يؤدي إلى تأليه البشر أو غيرهم من المخلوقات، واتخاذهم أربابا.

ويشمل النهي - أيضا - كل مثل باطل أورده المشركون لتسويغ ما هم عليه من الشرك، أو لمعارضة شيء مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور.

كما يشمل النهي: طريقة المتكلمين نفاة الصفات الذين جعلوا صفات المخلوقين أمثالا تقاس عليها صفات الباري عز وجل، فلذلك عطلوا الصفات خوفا من التشبيه.

ولا يشمل ذلك الأمثال الصحيحة التي يوردها أهل العلم، الجارية على قاعدة إثبات المثَل الأعلى لله تعالى، وقياس الأولى: من أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالله أولى به، وكل ما تنزه عنه المخلوق من نقص، فالخالق أولى بالتنزيه عنه.

كما تبين خطورة الأمثال الفاسدة، وأن أكثر ضلال الناس وتلبسهم بالشرك والكفر، وصدهم عن الحق، إنما كان بسبب الأمثال الضالة، والأقيسة الفاسدة.

كما تبين أن بعض المنتسبين للإسلام والعلم قد خالفوا ما نهى الله عنه من ضرب الأمثال له سبحانه، وخاضوا كخوض الضالين ممن قبلهم من الفلاسفة الملحدين، وضربوا أمثالا معارضين بها ما دل عليه كتاب الله

ص: 878

وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومؤسسين للشرك وتأليه البشر بزخرف من القول وزور.

وتضمن الكلام على هذه الفائدة ذكر نماذج لتلك الأمثال الضالة التي ضلوا بها وأضلوا، ونتج عنها وعن غيرها من الشبهات انخراط الكثير ممن ينتسب إلى الإسلام من المتصوفة ونحوهم في أوحال الشرك والبدع وصنوف الضلال، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. والله أعلم.

ص: 879