الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثالثا زيارة القبور والبناء عليها]
ثالثا: زيارة القبور والبناء عليها: يمكن القول بأن هذه المسألة كانت من أهم المسائل التي كانت مثار الخلاف بين الشيخ وأعدائه ، لا غرو فقد كانت أكثر مظاهر الوثنية انتشارا في العالم الإسلامي في عصر الشيخ تقديس العامة الجهلة لقبور الأولياء والصالحين وغيرهم، واتجاههم إليهم بالعبادة أو ما يقرب من العبادة (1) وقد سبق الكلام في ذلك عند حديثنا عن الحالة الدينية في العالم الإسلامي بعامة وفي بلاد نجد بخاصة.
وعندما قام الشيخ برحلاته إلى بعض بلدان العالم الإسلامي، ورأى انتشار هذه الوثنيات، صمم على إصلاح هذه الأمور ما وجد إلى ذلك سبيلا، ويرى الباحث في مؤلفات الشيخ وأتباعه من علماء الدعوة تركيزهم الشديد على هذه الناحية في أكثر مؤلفاتهم ورسائلهم.
وفي (كتاب التوحيد) يعقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب فصلا كاملا يورد فيه أن سبب كفر بني آدم من أول الخليقة - وفي عهد نوح عليه السلام هو الغلو في قبور الصالحين، ثم يعقد فصلا آخر عن الوعيد الشديد فيمن عَبَدَ الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذ عبده، يعقبه فصل ثالث يتحدث فيه عن حماية الرسول صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد، حيث حذر من الغلو في قبره وقال:«لا تتخذوا قبري عيدا» (2) .
ويبين الشيخ في موضع آخر أن ما يفعله العامة عند قبور الصالحين والأولياء وغيرهم مناف لتوحيد الألوهية تمام المنافاة، حيث يصرفون لأصحاب هذه القبور أشياء لا تجوز إلا لله تعالى كالذبح والنذر والدعاء والاستغاثة ونحوها كما يفعل المشركون مع أصنامهم، والمشركون يؤمنون بأن الله هو الرازق والمحيي والمميت والمدبر؛ ولكنهم يتجهون إلى هذه الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، وهذا ما يظنه العامة في هؤلاء الصالحين والأولياء (3) وبذلك وقع هؤلاء العامة في شرك يماثل شرك المشركين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بل يرى الشيخ أن مشركي زمانه أشد شركا من المشركين الأولين في أمرين:
(1) منير العجلاني: المرجع السابق ص 269.
(2)
محمد بن عبد الوهاب: كتاب التوحيد ص 26 - 30.
(3)
محمد بن عبد الوهاب: كشف الشبهات ص 76.
أولهما: أن المشركين الأولين لا يدعون آلهتهم من الملائكة والأولياء والأصنام إلا في الرخاء، أما في حالات الشدة فيخلصون الدين لله، كما قال تعالى:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32] بينما مشركو زمانه يتجهون إلى أصحاب هذه القبور في الشدة والرخاء.
ثانيهما: إن الأولين يدعون من الله أناسا مقربين عند الله، إما أنبياء، وإما أولياء، وإما ملائكة، أو يدعون أشجارا وأحجارا مطيعة لله ليست عاصية، بينما بعض مشركي زمانه يدعون مع الله أناسا من أفسق الناس، وممن يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك (1) .
لذلك كله تمسك الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من علماء الدعوة بالقاعدة الأصولية " سد الذريعة " والتي تقول إن كل ما يفضي إلى محرم فهو محرم مثله، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى تعظيمها ثم عبادتها، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو فيه أو المبالغة في مدحه أو اتخاذ قبره عيدا؛ لما يفضي ذلك كله إلى تعظيمه ثم عبادته وهو الشرك بعينه، «وقال للرجل الذي قال له: ما شاء الله وشئت: " أجعلتني لله ندا؟ ما شاء الله وحده» . . وهكذا (2) .
ليس معنى ذلك أن علماء الدعوة يمنعون زيارة القبور مطلقا، ولكنهم يقسمون هذه الزيارة إلى ثلاثة أنواع: شرعية، وبدعية، وشركية.
أما الشرعية: فهي التي يقصد بها الزائر تذكر الآخرة والترحم على الميت والدعاء له بالمغفرة وقراءة الدعاء المأثور في ذلك الموطن، فهذا العمل مستحب شرعا.
أما البدعية: فهي التي يقصد بها الزائر دعاء الله وسؤاله عند قبر ذلك الميت، فهذا العمل بدعة منهي عنه.
أما الشركية: فهي ما يفعله الوثنيون عند القبور من الشرك البواح ، وذلك بصرف أحد أنواع العبادة لصاحب القبر والتي لا تصلح إلا لله تعالى، كأن يدعو صاحب القبر كشف ضره وجلب الخير له، وشفاء الأمراض والأسقام، مع التقرب له بالذبح
(1) المصدر السابق: ص 77 و 78.
(2)
محمد خليل هراس: مرجع سابق ص 20 و 21.
والنذر له والطواف على قبره، ونحو ذلك، فهذا العمل شرك واضح (1) .
ولقد جاهد الشيخ محمد وعلماء الدعوة بكل قوتهم لصرف الناس عن الزيارة البدعية والشركية إلى الزيارة الشرعية التي شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور، ومن هنا قرر علماء الدعوة بأنه لا تشد الرحال إلا لزيارة المسجد النبوي والصلاة فيه ، وإذا قصد مع ذلك زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس (2) .
، وذلك لحديث «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» [رواه البخاري ومسلم](3) .
وتمسكا بالقاعدة الأصولية السابقة " سد الذريعة " فقد شدد علماء الدعوة في تحريم البناء على القبور من قباب وغيرها ، ورأوا وجوب هدمها لأنها وسيلة إلى الشرك، فهي تؤدي إلى تعظيم صاحب القبر ومن ثم عبادته (4) وقد استدل علماء الدعوة بما ورد في السنة الصحيحة من تحريم البناء على القبور ووجوب هدم ما بني عليها، ومن ذلك وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بأن لا يدع قبرا مشرفا (أي مرتفعا) إلا سويته، رواه مسلم. وروي أيضا عن جابر رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه» ، وغير ذلك من الأحاديث في هذا المعنى ، ومن هنا ندرك أن علماء الدعوة في تحريمهم للبناء على القبور وهدمهم لها إنما هو تبعا لما ورد في السنة الصحيحة عن ذلك (5) .
لذلك قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بهدم قبة قبر (زيد بن الخطاب) حينما كان في العيينة - كما سبق - كما قامت جيوش الدعوة بهدم قبة قبر (الحسين بن علي) رضي الله عنه في كربلاء بقيادة الأمير سعود بن عبد العزيز في ذي القعدة عام 1216هـ (1801 م) ، كما هدموا القباب الموجودة على القبور عند دخولهم مكة في محرم سنة
(1) عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ: هامش كتاب لمع الشهاب ص 203، دارة الملك عبد العزيز، وانظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية ج 4 ص 279 ط 1349 هـ، القاهرة.
(2)
سليمان بن سحمان: المصدر السابق ص 41 و 53.
(3)
السيوطي: الجامع الصغير 2 636.
(4)
عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 418.
(5)
سليمان بن سحمان: الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية ص83 و84.
1218 -
هـ (1803 م)(1) .
وليس معنى ذلك أن البناء على القبور في حد ذاته يصل إلى الشرك الأكبر - كما يعتقد بعض الناس - وإنما هي بدعة محرمة لأنها وسيلة إلى تعظيم صاحب القبر ثم عبادته فيجب إزالتها، وفي ذلك يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أحد أجوبته:" أما بناء القباب عليها (أي القبور) فيجب هدمها ولا علمت أنه يصل إلى الشرك الأكبر، وكذلك الصلاة عنده وقصده لأجل الدعاء لا أعلمه يصل إلى ذلك، ولكن هذه الأمور من أسباب حدوث الشرك فيشتد نكير العلماء لذلك "(2) .
ولهذا لم يرد عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب شيئا عن القبة المقامة على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، بل كذَّب في إحدى رسائله الذين قالوا إنه يستحسن هدمها ويأمر به (3) لذلك حينما دخل الإمام سعود بن عبد العزيز بجيشه المدينة سنة 1218 هـ (1803 م) هدم القباب الموجودة على قبور الصحابة وغيرهم، أما القبة المقامة على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يتعرضوا لها واكتفوا بمنع الزائرين لقبره صلى الله عليه وسلم من الزيارات البدعية والشركية ، ولعل السبب في عدم التعرض لها بالهدم - من بين القباب - أنهم رأوا في هدمها شرا مستطيرا على العالم الإسلامي يزيد في اختلافه ونزاعه وتفرق كلمته (4) ومع ذلك لم يسلم أتباع الدعوة من فرية هدم قبة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة من المؤرخين الأوربيين الذين أطلقوا لخيالاتهم العنان في هذا الشأن ، فأخذوا يتلذذون بذكر هذه الأسطورة الباطلة (5) .
هذه نظرة عامة عن موقف دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من زيارة القبور والبناء عليها والتي تقوم على مكافحة تقديس أصحاب القبور وتعظيمها لما تؤدي إلى الشرك.
لقد خدمت فكرة الدعوة إلى التوحيد التي نادى بها الشيخ وحدة المسلمين
(1) عثمان بن بشر: مصدر سابق ج1 ص 161 و 162.
(2)
حسين بن غنام: تاريخ نجد، تحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد ص 527.
(3)
المصدر السابق: ص 540.
(4)
رشيد رضا: الوهابيون والحجاز ص 56.
(5)
مسعود الندوي: مرجع سابق ص 220، ورشيد رضا: الوهابيون والحجاز ص 56.