الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه
بقلم: عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
ال
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى
1 سورة آل عمران، الآية: 102
2 سورة النساء، الآية:1.
3 سورة الأحزاب، الآيتان:70-71.
محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد، فإن مباحث الإيمان ومسائله هي أهم المسائل على الإطلاق، لأنها أهم مباحث الدين وأعظم أصول الحق واليقين، بل إن كل خير في الدنيا والآخرة متوقف على الإيمان الصحيح. وكم للإيمان الصحيح من الفوائد المغدقة، والثمار اليانعة، والجنى اللذيذ، والأكل الدائم، والخير المستمر، أمور لا تحصى، وفوائد لا تستقصى عاجلة وآجلة.-
وبالإيمان يحيى العبد حياة طيبة في الدارين، وينجو من المكاره والشرور والشدائد، ويدرك جميع الغايات والمطالب، وينال ثواب الآخرة فيدخل جنة عرضها كعرض السماء والأرض، فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وينجو من نار عذابها شديد وقعرها بعيد، وأعظم من ذلك كله أن يفوز برضى الرب سبحانه فلا يسخط عليه أبداً، ويتلذذ بالنظر إلى وجهه الكريم، وما ثمة مطلقاً نعيم أعظم ولا أكمل من هذا النعيم.
وبالجملة فالخير كله فرع عن الإيمان ومترتب عليه، والهلاك والدمار والشر كله إنما يكون بفقد الإيمان ونقصه.
فلا غرو إذن أن تكون مباحثه أهم المباحث وأعظمها وأولاها بالعناية والاهتمام، وأجدرها بصرف الهمم والأوقات، وشرف العلم من شرف معلومه، وليس هناك أشرف من الإيمان وعلومه، التي يتحقق بتحققها كل خير ويصرف كل شر، بل لا صلاح للعباد ولا فلاح ولا حياة طيبة ولا سعادة في الدارين، ولا نجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة إلا بالإيمان الصحيح علماً وتطبيقاً، فالعلم والإيمان هما أفضل
هبات الرحمن وأجل عطياته.
قال ابن القيم رحمه الله: "أفضل ما اكتسبته النفوس، وحصلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، هو العلم والإيمان، ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} 1، وقوله:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 2.
وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه، والمؤهلون للمراتب العالية، ولكن أكثر الناس غالطون في حقيقتهما، حتى إن كل طائفة تظن أن ما معها من العلم والإيمان هو الذي به تنال السعادة، وليس كذلك، بل أكثرهم ليس معهم إيمان ينجى ولا علم يرفع، بل قد سدوا على نفوسهم طرق العلم والإيمان اللذين جاء بهما الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا إليهما الأمة، وكان عليهما هو وأصحابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم
…
"3.
ولو ذهبنا نتتبع المفاهيم الخاطئة، والاعتقادات المنحرفة في كلمتي علم وإيمان لطال المقام ولوقفنا على العجب العجاب، إذ إن كل صاحب هوى وبدعة، وكل صاحب طريقة ونحلة يدعي أن ما عنده هو العلم النافع والإيمان الصحيح، والحق أن الإيمان وراء هذه الدعاوى والتخرصات، وفوق هذه الأباطيل والادعاءات فلا علم ولا إيمان إلا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما سوى ذلك فهذيان مزوق وبهتان مبهرج4
1 سورة الروم، الآية:56.
2 سورة المجادلة، الآية:11.
3 الفوائد (ص 191) . ولكلامه تتمة مهمة، تركتها خشية الإطالة، فلتراجع.
4 قال شيخ الإسلام: "العلم شيئان: إما نقل مصدق، أو بحث محقق، وما سوى ذلك فهذيان مزوق". انظر الرد على البكري (ص375) . وانظر أيضاً الفتاوى (13/329) .
فلما كان أمر الإيمان بهذه المنزلة، وحاله بين أهله على هذا الوصف، صار واجباً على أهل العلم وطلابه أن يبينوا الإيمان الصحيح لذويه وأهله، ويوضحوا الحق المبين لراغبيه وطلابه، حتى يظهر الحق ويرتفع سنامه، وينقمع الباطل وتتهدم أركانه، {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 2، {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 3، فتقام الحجة وتتضح المحجة ويستبين السبيل، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} 4.
ولما من الله عليّ وأكرمني بالتوجه لطلب العلم الشرعي وسلوك طريقه، ومواصلة التلقي والدراسة في رياض هذه الجامعة المباركة- إن شاء الله- وكان لازماً على كل طالب في مرحلتها العالمية العالية أن يقدم- بحثاً علمياً في مجال تخصصه، رأيت أن يكون بحثي حول بعض مسائل الإيمان المهمة، فوقع اختياري على مسألتين هما من كبار مسائل الإيمان ومن أهم مباحثه ألا وهما مسألتا "زيادة الإيمان ونقصانه "و"حكم الاستثناء فيه"، ويرجع اختياري لهاتين المسألتين دون غيرهما من مسائل الإيمان إلى أسباب عديدة أهمها ما يلي:
1 سورة النور، الآيتان: 39-40.
2 سورة الشورى، الآية:24.
3 سورة الأنفال، الآية:8.
4 سورة الأنفال، الآية:42.
أولاً: أنهما من أهم وأكبر مسائل الإيمان، وبخاصة مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وقد رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية يصفها بأنها مسألة كبيرة تحتاج إلى البسط والإطناب1، وهذا مما يدل على أهميتها وأهمية البحث فيها.
ثانياً: أن هاتين المسألتين لم تفردا ببحوث علمية مستقلة، تستوفي أطرافهما وتجمع شتاتهما، وإن كانتا قد كتب فيهما ضمناً في ثنايا الكتب، وألف فيهما رسائل صغيرة مفردة لكنها لا تفي بالمقصود2، وهي بالرغم من ذلك في حكم المفقود، وفي هذا أعظم دافع لإفرادهما ببحث مستقل.
ثالثاً: أن للسلف في هذين الموضوعين أقوالاً كثيرة نافعة، وهي متناثرة في بطون الكتب، فمن الجدير حقاً أن تجمع ويعتنى بها وتنسق وتصنف في مكان واحد ليتم الانتفاع بها، وتتسنى الاستفادة التامة منها.
رابعاً: أن هذين الموضوعين متعلقان بأهم مطلب وأعظم غاية وهو الإيمان، الذي فيه عزة الأمة ورفعتها وكمالها وسؤددها،
1 انظر الفتاوى (6/ 479، 481) بل لقد أفردها وبسطها رحمه الله في مجلد، ذكر ذلك ابن القيم في كتابه اأسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية ا (ص 23) حيث عدّ من مؤلفاته:"رسالة في الإيمان هل يزيد وينقص "وذكر أنها في مجلد.
2 وقفت من خلال كتب التراجم علي رسالتين في زيادة الإيمان ونقصانه، الأولى: لعلي بن محمد بن أبي سعد بن وضاح الشهراياني الحنبلي ت 672 هـ. انظر (ص 334) من هذه الرسالة، والأخرى: لجلال الدين التباني الحنفي ت 793 هـ. انظر (ص 336) من هذه الرسالة، ولا أعرف عن وجودهما شيئاً.
وفي مسألة الاستثناء وقفت على ذكر رسالة واحدة لتقي الدين السبكي ت 756 هـ. ذكر ملخصها الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (2/278) .
ومتى ما تخلت عنه وضعف فيها هانت وذلت، وتكالبت عليها الشرور، وأشرفت على المهالك، وتداعى عليها الأعداء من كل جانب، ومن تدبر حال الأمة في هذه الأزمان ورأى ضعفها وهوانها علم ذلك، فلا بد من بيان الإيمان الذي هو سبب العزة وإيضاحه، ولا بد من بيان أسباب زيادته وقوته ونمائه، وأسباب ضعفه ونقصه وزواله، تبصيراً للأمة وتحذيراً.
خامساً: أن المبتدعة أهل الأهواء المخالفين لأهل السنة في مسألتينا كثر، ولهم دلائل مختلفة وشبه متنوعة، يخالفون بها الحق ويثيرون الشكوك حوله، فيجب تعريتها وبيان زيفها، وكشف باطلها، لئلا يلتبس الحق بالباطل، وإن من الصدقات المبرورة والأعمال المقبولة إماطة أنواع الأذى الحسية والمعنوية عن جادة المسلمين وسابلتهم.
لهذه الأسباب ولغيرها فضلت الكتابة حول هاتين المسألتين المهمتين، وإني لأرجو الله الكريم أن يكون ما كتبته وافياً نافعاً محققاً للمنشود.
هذا وقد قسمت بحثي هذا إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة:
أما المقدمة: فهي هذه وقد بينت فيها أهمية الموضوع وأسباب اختياره وخطة السير فيه.
وأما التمهيد: فجعلت فيه مبحثين:
المبحث الأول: في تعريف الإيمان لغة وشرعاً وأقوال الطوائف فيه.
المبحث الثاني: في تعريف الزيادة والنقصان من حيث اللغة.
وأمّا الباب الأول: فتحدثت فيه عن قول أهل السنة والجماعة إن الإيمان يزيد وينقص.
وهو يتكون من أربعة فصول:
الفصل الأول: في أدلتهم من الكتاب والسنة ونقل بعض أقوالهم.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: أدلتهم من القرآن الكريم.
المبحث الثاني: أدلتهم من السنة النبوية.
المبحث الثالث: ذكر بعض النقول عنهم في ذلك.
الفصل الثاني: أوجه زيادة الإيمان ونقصانه.
الفصل الثالث: أسباب زيادة الإيمان ونقصانه.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أسباب زيادة الإيمان.
المبحث الثاني: أسباب نقصان الإيمان.
الفصل الرابع: في الكلام على الإسلام عندهم هل يزيد وينقص.
وأمّا الباب الثاني: فتحدثت فيه عن الأقوال المخالفة لقول أهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه.
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان.
الفصل الثاني: قول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص.
الفصل الثالث: قول من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في ذكر القائلين بهذا القول.
المبحث الثاني: في ذكر أدلتهم وشبههم والرد عليهم.
المبحث الثالث: في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه.
الفصل الرابع: في سبب الخلاف في هذه المسألة ونشأته وهل هو حقيقي أو لفظي.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة.
المبحث الثاني: في الكلام على الخلاف في هذه المسألة هل هو عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أو لا.
المبحث الثالث: في بيان هل الخلاف في هذه المسألة لفظي أو حقيقي.
أما الباب الثالث: فتحدثت فيه عن حكم الاستثناء في الإيمان.
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في بيان مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة.
وفيه أربعة مباحث.
المبحث الأول: بيان قول أهل السنة والجماعة في الاستثناء
ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه.
المبحث الثاني: نقل أقوالهم في الاستثناء مع التوفيق بينها.
المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ "أمؤمن أنت".
المبحث الرابع: في حكم الاستثناء في الإسلام.
الفصل الثاني: في بيان قول من قال بوجوب الاستثناء وذكر أدلتهم والرد عليها.
الفصل الثالث: في بيان قول من قال بعدم جواز الاستثناء وذكر أدلتهم والرد عليها.
أما الخاتمة: فقد تحدثت فيها عن خلاصة هذا البحث وأبرز النقاط التي توصلت إليها فيه.
ثم إني في الختام لأشكر الله العلي القدير على توفيقه وامتنانه وجوده وإحسانه حيث يسر لي إتمام هذا البحث، وأسأله سبحانه أن يجعله لوجهه خالصاً ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم موافقاً ولعباده نافعاً إنه جواد كريم.
ثم أشكر جميع من أسهم معي في هذا البحث بالرأي والمشورة والنصح والتوجيه. وأخص بالذكر والدي الكريم حفظه الله ورعاه الشيخ عبد المحسن العباد فقد قرأت عليه هذا البحث واستفدت من توجيهاته القيمة وإرشاداته السديدة المفيدة، فجزاه الله عني خير الجزاء ورفع مكانته وأجزل مثوبته وأعلى في الجنة درجته إن ربي لسميع الدعاء.
ثم أشكر شيخي الفاضل الأستاذ على بن ناصر فقيهي على ما بذله لي من نصح وحسن توجيه ورحابة صدر طيلة مدة الإشراف على هذه الرسالة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلاة الله وسلامه على نبيه الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه عبد الرزاق البدر
في 23/5/1411هـ