المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها - زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: في قول أهل السنة والجماعة إن الإيمان يزيد وينقص

- ‌الفصل الأول: أدلتهم من الكتاب والسنة على زيادة الإيمان ونقصانه ونقل بعض أقوالهم في ذلك

- ‌المبحث الأول: أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب

- ‌المبحث الثانيأدلة زيادة الإيمان ونقصانه من السنة

- ‌المبحث الثالث: أقوال السلف في زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الثانيأوجه زيادة الإيمان ونقصانه

-

- ‌الفصل الثالثأسباب زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الأولأسباب زيادة الإيمان

- ‌المبحث الثانيأسباب نقص الإيمان

- ‌الفصل الرابعفي الإسلام هل يزيد وينقص

-

- ‌الباب الثاني: في الأقوال المخالفة لقول أهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان

- ‌الفصل الثانيقول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه

-

- ‌الفصل الثالث: قول من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص

- ‌المبحث الأولذكر القائلين بهذا القول

- ‌المبحث الثاني: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها

- ‌المبحث الثالث:في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم

-

- ‌الفصل الرابع: في سبب الخلاف في هذه المسألة ونشأته هل هو حقيقي أو لفظي

- ‌المبحث الأول: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة

- ‌المبحث الثاني: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أو لا

- ‌المبحث الثالث: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

-

- ‌الباب الثالث: حكم الاستثناء في الإيمان

-

- ‌الفصل الأول: بيان مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الاستثناء في الإيمان

- ‌المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه

- ‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

- ‌المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ" أنت مؤمن

- ‌المبحث الرابع: حكم الاستثناء في الإسلام

- ‌الفصل الثاني: فيمن قال بوجوب الاستثناء

- ‌الفصل الثالث: فيمن قال بعدم جواز الاستثناء

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

تقدم معنا أن الاستثناء سنة ماضية عند سلفنا الصالح رضي الله عنهم ورحمهم، وتقدم ذكر مأخذهم في الاستثناء وأدلتهم عليه، وفي هذا المبحث أنقل بعض عبارات السلف الواردة عنهم في ذلك، والتي تتضمن النكير على أهل الإرجاء الذين يقطعون بأنهم مؤمنون عند الله من غير استثناء في ذلك.

والسلف لهم في الاستثناء صيغ متعددة، فمنهم من يستثني بقول: إن شاء الله أو أرجو، أو آمنت بالله

، أو لا إله إلا الله أو نحو ذلك من الصيغ، وجميع هذه الصيغ مؤداها واحد، وهو عدم القطع بالإيمان المطلق الكامل وتفويض ذلك إلى الله سبحانه.

وفيما يلي أنقل بعض ما ورد عن السلف في ذلك، مصنفا أقوالهم حسب الصيغ الواردة عنهم في الاستثناء.

1-

استثناؤهم بقول: "إن شاء الله ":

(أ) عن عبد الرحمن بن عصمة قال: كنت عند عائشة رضي الله عنها فأتاها رسول معاوية رضي الله عنه بهدية فقال: أرسل بها إليك أمير المؤمنين، فقالت: أنتم المؤمنون إن شاء الله تعالى، وهو أميركم وقد قبلت هديته1.

1 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/28) ، وفي كتاب الإيمان (ص 9) ، وعبد الله في السنة (1/ 349) ولم أقف لابن عصمة على ترجمة.

ص: 479

(ب) وعن أحمد بن حنبل قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إذا سئل أمؤمن أنت إن شاء لم يجبه، وسؤالك إياي

بدعة، ولا أشك في إيماني، وقال: إن شاء الله ليس يكره، وليس بداخل في الشك1.

(ج) وقال جرير بن عبد الحميد: "كان الأعمش ومنصور ومغيرة وليث وعطاء بن السائب وإسماعيل بن خالد وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسيب وابن شبرمة وسفيان الثوري وأبو يحيى صاحب الحسن وحمزة الزيات يقولون نحن مؤمنون إن شاء الله، ويعيبون من لم يستثن"2.

(د) وسئل أحمد ما تقول في الاستثناء في الإيمان؟ قال: نحن نذهب إليه.

قيل الرجل يقول أنا مؤمن إن شاء الله؟ قال نعم3.

وسئل عن الرجل يقال له أمؤمن أنت قال: سؤاله إياك بدعة، يقول: إن شاء الله4.

وسئل عن الرجل يسألني مؤمن أنت؟ قال: تقول نعم إن شاء

1 رواه عبد الله في السنة (1/310) ، والخلال في السنة (3/ 602) ، والآجري في الشريعة (ص138) ، وابن بطة في الإبانة (2/881) .

2 رواه عبد الله في السنة (1/ 335) ، والآجري في الشريعة (ص 139) ، وابن بطة في الإبانة (2/871) .

3 رواه الخلال في السنة (3/ 594) .

4 رواه الخلال في السنة (3/ 602) .

ترجمة.

ص: 480

الله1.

2-

استثناؤهم بقول: أرجو:

(أ) - عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عمر قال: قلت اغتسل من غسل الميت؟ قال: مؤمن هو؟ قلت: أرجو، قال:

فتمسح بالمؤمن ولا تغتسل منه2.

(ب) - عن إبراهيم النخعي قال: قال رجل لعلقمة أمؤمن أنت؟ قال: أرجو3.

(ج) - وعن إبراهيم النخعي عن علقمة - وتكلم عنده رجل من الخوارج بكلام كرهه- فقال علقمة {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 4 فقال له الخارجي: أو منهم أنت؟ فقال: أرجو5.

(د) - وعن الحسن بن عبيد الله قال: قال إبراهيم النخعي: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل أرجو6.

1 رواه الخلال في السنة (3/ 602) .

2 رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/267) ، وعبد الله في السنة (1/321) .

3 رواه أبو عبيد في الإيمان (ص 68) ، وابن أبي شيبة في الإيمان (ص 9) ، وفي المصنف (11/15) ، وعبد الله في السنة (1/340) ، والآجري في الشريعة (ص136) .

4 سورة الأحزاب، الآية:58.

5 رواه عبد الله في السنة (1/ 322) ، والآجري في الشريعة (ص 141) ، وأبن بطة في الإبانة (2/870) .

6 رواه عبد الله في السنة (1/340) ، والطبري في تهذيب الآثار (برقم 1000) ، والآجري في الشريعة (ص141) ، وابن بطة في الإبانة (2/879) .

ص: 481

(هـ) - وسئل أحمد بن حنبل عمن يقال له أنت مؤمن؟ فقال: سؤاله إياك بدعة، وقل أنا مؤمن أرجو1.

3 -

استثناؤهم بقول: "آمنت بالله وملائكته..":

(أ) - عن علقمة بن الأسود قال: قال رجل عند عبد الله: إني مؤمن. قال: قل إني في الجنة، ولكنا نقول: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله2.

(ب) - وعن ابن طاووس عن أبيه أنه كان إذا قيل له أمؤمن أنت؟ قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا يزيد على هذا3.

(ج) - وعن سفيان بن محل قال: قال لي إبراهيم: "إذا قيل لك أمؤمن أنت فقل: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله"4.

(د) وعن عبد الرحمن بن بكير السلمي قال: كنت عند محمد بن سيرين وعنده أيوب فقلت له: يا أبا بكر يقول لي: أمؤمن أنت؟ أقول: مؤمن، فانتهرني أيوب، فقال

1 رواه الخلال في السنة (3/ 602) .

2 رواه أبو عبيد في الإيمان (ص 67) ، وابن أبي شيبة في الإيمان (ص 9) ، وعبد الله في السنة (1/ 322) .

3 رواه عبد الله في السنة (1/ 23) ، والآجري في الشريعة (ص 142) ، وابن بطة في الإبانة (2/878) .

4 رواه أبو عبيد في الإيمان (ص 68) ، وعبد الله في السنة (1/320) ، والآجري في الشريعة (ص141) ، وابن بطة في الإبانة (2/878) .

ص: 482

محمد: وما عليك أن تقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله1.

(هـ) وعن حبيب بن الشهيد قال: قال محمد بن سيرين: "إذا قيل لك أنت مؤمن فقل: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق"2.

(و) وعن أحمد بن أصرم المزني أن أبا عبد الله قيل له إذا سألني الرجل أمؤمن أنت؟ فقال: سؤاله إياك بدعة لا نشك

في إيماننا. قال المزني: وحفظي أن أبا عبد الله قال: أقول كما قال طاووس: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله3.

4-

استثناؤهم بقول "لا إله إلا الله ":

(أ) عن سوار بن شبيب قال جاء رجل إلى ابن عمر فقال إن هاهنا قوماً يشهدون علي بالكفر قال: "ألا تقول لا إله

إلا الله فتكذبهم"4.

(ب) وعن الحسن بن عمرو عن إبراهيم النخعي قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقال: لا إله إلا الله5.

1 رواه عبد الله في السنة (1/320) وابن بطة في الإبانة (2/878) .

2 رواه عبد الله في السنة (1/320) ، والآجري في الشريعة (ص 141) ، وابن بطة في الإبانة (2/ 879) .

3 رواه الخلال في السنة (3/601) .

4 رواه ابن أبي شيبة في الإيمان (ص 10) ، وفي المصنف (11/30) .

5 رواه عبد الله في السنة (1/321) ، والآجري في الشريعة (ص 141) ، وابن بطة في الإبانة (2/ 878) .

ص: 483

فجميع هذه النقول تدل بوضوح على أن الاستثناء في الإيمان سنة ماضية عند السلف الصالح بصيغ مختلفة مدارها على البعد عمت تزكية النفس والشهادة لها بتكميل الأعمال وإتمام الإيمان.

ولا يشكل على هذا ما نقل عن بعض السلف أنه أجاب بأنه مؤمن دون استثناء مثل:

1-

ما نقل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه خطبهم فقال: "أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة، والله إني لأطمع أن يكون عامة من تصيبون بفارس والروم في الجنة، فإن أحدهم يعمل الخير فيقول أحسنت بارك الله فيك أحسنت رحمك الله، والله يقول: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} 1 "2.

فهذا الأثر خوطب فيه الجماعة ولم بعين به شخص، وفي آخره رجع إلى الاستثناء في دخول الجنة فقال:"إني لأطمع"3.

2-

وعن ابن أبي كثير عن رجل لم يسمه عن أبيه: قال سمعت ابن مسعود يقول: أنا مؤمن4.

وإسناد هذا الأثر ضعيف فالرجل الذي لم يسم وأبوه مجهولان.

3-

وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري قال: "تسموا باسمكم الذي سماكم الله بالحنيفية والإسلام والإيمان"5.

1 سورة الشورى، الآية:(26) .

2 رواه الحاكم (2/ 444) ، والبيهقي في الشعب (1/ 213) ، وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

3 انظر شعب في الإيمان للبيهقي (1/ 214) .

4 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 29) ، وفي كتاب الإيمان (ص 10) .

5 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 30) ، وفي كتاب الإيمان (ص 10) ، وقال الألباني صحيح الإسناد موقوفاً.

ص: 484

4-

وعن أبي عبد الرحمن الشيباني قال: لقيت عبد الله بن معقل فقلت له: إن أناساً من أهل الصلاح يعيبون عليَّ أن أقول: أنا مؤمن، فقال عبد الله: لقد خبت وخسرت إن لم تكن مؤمناً1.

5-

وعن إبراهيم التميمي قال: "وما على أحدكم أن يقول: أنا مؤمن، فوالله لئن كان صادقاً لا يعذبه الله على صدقه، وإن كان كاذباً لما دخل عليه من الكفر أشد عليه من الكذب"2.

ومراده بـ "أنا مؤمن"أصل الإيمان كما يدل على ذلك آخر كلامه قوله "لما دخل عليه من الكفر..".

6-

وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: "إذا سئل أحدكم: أمؤمن أنت؟ فلا يشك في إيمانه"3.

7 -

وعن يوسف بن ميمون قال: قلت لعطاء: "إنَّ قبلنا قوماً نعدهم من أهل الصلاح إن قلنا نحن مؤمنون عابوا ذلك علينا، قال: فقال عطاء: نحن المسلمون المؤمنون وكذلك أدركنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون"4.

1 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/29) ، وفي كتاب الإيمان (ص 10) وقد تصحف الاسم في كتاب الإيمان من ابن معقل إلى ابن مغفل.

2 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 15) ، وفي كتاب الإيمان (ص 23) وقال الألباني إن السند إلى إبراهيم صحيح.

3 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 29) وفي كتاب الإيمان (ص 9) .

4 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/35) وفي كتاب الإيمان (ص 16)، وقال الألباني: إسناده ضعيف.

ص: 485

فهذه الآثار لا تشكل على ما ذكرته آنفاً من أن مذهب السلف هو جواز الاستثناء في الإيمان، لأنها لا تخلو من أحد أمور:

1-

إما أن تكون ضعيفة الإسناد غير ثابتة عن الصحابي أو التابعي المروية عنه كما في بعض الآثار المتقدمة.

2 -

أو أن يكون قاله على سبيل التعميم كما في الأثر الأول، وهذا لا إشكال فيه إذ أهل القبلة كلهم مؤمنون باعتبار الظاهر منهم، وبذلك يتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بالأخوة الإيمانية.

3-

أو أن يكون قصد بذلك أصل الإيمان لإتمامه وكماله، بل هذا هو مقصودهم عند إطلاق القول "أنا مؤمن"أو "أنت مؤمن"لأن اسم الإيمان عند السلف على ضربين: مطلق ومقيد.

فإذا استعمل مطلقاً شمل جميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الظاهرة والباطنة.

وإذا استعمل مقيداً يكون متناولاً لأصل الإيمان وأساسه، وهو الإيمان الباطن بأركانه الستة الواردة في حديث جبريل المشهور.

وللإيمان عندهم أصل وفرع؛ فأصل الإيمان في القلب وهو قول القلب وعمله، وفرعه الأعمال الظاهرة بأنواعها1.

وعلى هذا فإن من استثنى من السلف في إيمانه قصد به الإيمان التام الكامل المقبول عند الله، ومن لم يستثن قصد الإيمان الباقي الذي هو أصل الإيمان وأساسه وهذا لا استثناء فيه.

وعلى هذا ينبغي لمن سئل هل هو مؤمن أو، لا؟ أن يستفصل من السائل ماذا يريد بالإيمان؟ هل يريد بذلك الإيمان الكامل التام المقبول

1 انظر الفتاوى لابن تيمية (7/ 642 وما بعدها) .

ص: 486

عند الله الذي أهله يقينا في الجنة؟ أو يريد الإيمان المقيد الذي هو أصل الإيمان وأساسه؟

فإن أراد الأول فلا بد من الاستثناء، وإن أراد الثاني فلا استثناء، على ما سبق بيانه وشرحه.

وتأكيداً لما ذكرت أنقل بعض أقوال السلف المؤكدة لذلك والمؤيدة له، والمبينة أن مقصودهم بترك الاستثناء في الإيمان أصله، وبالاستثناء فيه تمامه وكماله.

فعن تمام بن نجيح قال سأل رجل الحسن البصري عن الإيمان فقال: "الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله عز وجل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} 1 فوالله ما أدري أنا منهم أم لا"2.

قال البيهقي معلقاً: "فلم يتوقف الحسن في أصل إيمانه في الحال، وإنما توقف في كماله الذي وعد الله عز وجل لأهله الجنة بقوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} "3.

1 سورة الأنفال، الآيات: 3-4.

2 تقدم تخريجه (ص 404) .

3 الاعتقاد (120) .

ص: 487

وقال سفيان الثوري: "الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث ونرجو أن يكونوا كذلك، ولا ندري ما حالنا عند الله عز وجل"1.

وعن وكيع قال: "كان سفيان الثوري يقول أنا مؤمن وأهل القبلة كلهم مؤمنون في النكاح والدية والمواريث، ولا يقول مؤمن عند الله عز وجل"2.

وعن قتيبة بن سعيد قال: "هذا قول الأئمة المأخوذ في الإسلام والسنة بقولهم

ونقول: الناس عندنا مؤمنون بالاسم الذي سماهم الله في الإقرار والحدوث والمواريث، ولا نقول: حقاً، ولا نقول: عند الله ولا نقول: كإيمان جبريل وميكائيل؛ لأن إيمانهما متقبل"3.

وعن إسماعيل بن سعيد قال: "سألت أحمد من قال: أنا مؤمن عند نفسي من طريق الأحكام والمواريث ولا أعلم ما أنا عند الله عز وجل، قال: ليس هذا بمرجىء"4.

فبهذه النقول يعلم ما سبق ذكره عن مذهب السلف أنهم يجوزون الاستثناء باعتبار ويمنعونه باعتبار حسب مراد القائل بكلمة الإيمان.

ولهذا كان من السلف من يرى أن الاستثناء وتركه سواء على المعنى الذي أشرت إليه.

قال الأوزاعي: "من قال أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن

1 رواه عبد الله في السنة (1/311) ، وأبو داود في مسائل الإمام أحمد (ص 274) ، والآجري في الشريعة (ص 138) ، وابن بطة في الإبانة (2/ 872) .

2 رواه البيهقي في الشعب (1 / 219) .

3 رواه البيهقي في الشعب (1 / 219) .

4 رواه الخلال في السنة (3/ 574) .

ص: 488

شاء الله فحسن، لقول الله عز وجل:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 1. وقد علم أنهم داخلون"2.

ولا يتنافى هذا مع ما جاء عن بعضهم من كراهة ترك الاستثناء كما روي ذلك عن سفيان الثوري أنه ينكر ويكره أن يقول: أنا مؤمن3، وقد تقدم معنا عن جمع من السلف أنهم كانوا يعيبون من لا يستثني.

قال أبو عبيد: "وإنما كراهتهم عندنا أن يثبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين؛ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان، ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين"4.

قلت: ولكن لما كان ترك الاستثناء شعاراً للمرجئة، ومتضمناً لتزكية النفس والثناء عليها وهذا منهي عنه شرعاً، فإني أرى أن لزوم الاستثناء أولى وأكمل، وأن لا يترك الاستثناء إلا إذا بين المقصود والمراد.

ولهذا كان الإمام أحمد لا يعجبه ترك الاستثناء5، بل قال مرة لحسين بن منصور من قال من العلماء: أنا مؤمن؟ قلت: ما أعلم رجلاً أثق به. قال: لم تقل شيئاً لم يقله أحد من أهل العلم قبلنا6.

1 سورة الفتح، الآية:27.

2 رواه أبو عبيد في الإيمان (ص 69) وبنحوه الخلال في السنة (3/ 598) .

3 رواه الآجري في الشريعة (ص 38 1) ، وابن بطة في الإبانة (2/871) .

4 الإيمان (ص 68) .

5 رواه الخلال في السنة (3/598) .

6 رواه الخلال في السنة (3/ 566) .

ص: 489

قال شيخ الإسلام: "

ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقول: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك- أي أصل الإيمان- لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء يقدمه"1.

ولم يكن أحمد رحمه الله ينكر على من ترك الاستثناء إذا لم يكن قصده قصد المرجئة أن الإيمان مجرد القول، قال الأثرم قلت لأبي عبد الله: فكأنك لا ترى بأساً أن لا يستثني، فقال: إذا كان ممن يقول: الإيمان قول وعمل فهو أسهل عندي، ثم قال أبو عبد الله: إن قوماً تضعف قلوبهم عن الاستثناء، فتعجب منهم2.

فبهذا التفصيل المنقول عن السلف يستبين السبيل في مسألة الاستثناء في الإيمان، وتلتقي الأقوال، والله أعلم.

1 الفتاوى لابن تيمية (7/ 449) .

2 ذكره شيخ الإسلام في الفتاوى (7/ 225، 669) ، وانظر أيضاً (7/ 449) .

ص: 490