المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثانيأدلة زيادة الإيمان ونقصانه من السنة - زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: في قول أهل السنة والجماعة إن الإيمان يزيد وينقص

- ‌الفصل الأول: أدلتهم من الكتاب والسنة على زيادة الإيمان ونقصانه ونقل بعض أقوالهم في ذلك

- ‌المبحث الأول: أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب

- ‌المبحث الثانيأدلة زيادة الإيمان ونقصانه من السنة

- ‌المبحث الثالث: أقوال السلف في زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الثانيأوجه زيادة الإيمان ونقصانه

-

- ‌الفصل الثالثأسباب زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الأولأسباب زيادة الإيمان

- ‌المبحث الثانيأسباب نقص الإيمان

- ‌الفصل الرابعفي الإسلام هل يزيد وينقص

-

- ‌الباب الثاني: في الأقوال المخالفة لقول أهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان

- ‌الفصل الثانيقول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه

-

- ‌الفصل الثالث: قول من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص

- ‌المبحث الأولذكر القائلين بهذا القول

- ‌المبحث الثاني: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها

- ‌المبحث الثالث:في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم

-

- ‌الفصل الرابع: في سبب الخلاف في هذه المسألة ونشأته هل هو حقيقي أو لفظي

- ‌المبحث الأول: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة

- ‌المبحث الثاني: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أو لا

- ‌المبحث الثالث: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

-

- ‌الباب الثالث: حكم الاستثناء في الإيمان

-

- ‌الفصل الأول: بيان مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الاستثناء في الإيمان

- ‌المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه

- ‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

- ‌المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ" أنت مؤمن

- ‌المبحث الرابع: حكم الاستثناء في الإسلام

- ‌الفصل الثاني: فيمن قال بوجوب الاستثناء

- ‌الفصل الثالث: فيمن قال بعدم جواز الاستثناء

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثانيأدلة زيادة الإيمان ونقصانه من السنة

‌المبحث الثاني

أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من السنة

لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيها دلالة ظاهرة على زيادة الإيمان ونقصانه، بل إن بعضها فيه التصريح بذلك.

وفي هذا المبحث أورد بعض ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم مما يدل على ذلك إما تصريحاً أو تضمناً، مع بيان وجه دلالته، وأتبع ذلك بذكر بعض أقوال أهل العلم ممن احتج بهذه الأحاديث على الزيادة والنقصان.

وليعلم قبل مطالعة هذه الأدلة أن كل دليل على زيادة الإيمان فهو دليل على نقصانه، وكذا العكس، لأن الزيادة تستلزم النقص ولأن قبول الشيء للزيادة دليل على قبوله للنقص، وقد سبق التنبيه على هذا في صدر المبحث الأول بأوسع من هنا فليراجع.

وفيما يلي أورد أدلة من السنة على زيادة الإيمان ونقصانه مستمداً العون من الله وحده:

1-

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا

يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن) 1.

1 أخرجه البخاري (5/119، 10/ 30، 12/58، 12/ 14 فتح) ، ومسلم (2/41 نووي) .

ص: 67

فالمراد بهذا الحديث نفي كمال الإيمان الواجب عمن اقترف هذه المعاصي وأنه"لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة، ومما يدل على هذا التأويل حديث أبي ذر وغيره:"من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق" 1، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على ألا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا، إلى آخره، ثم قال:"فمن وفى فأجره على الله ومن فعل شيئاً من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه" 2.

فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح مع قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3، مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولاً، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة"4.

1 رواه البخاري (10/283 فتح) ومسلم (1/95) .

2 رواه البخاري (1/ 64 فتح) ومسلم (3/1333) .

3 سورة النساء، الآيتان: 48، 116.

4 شرح مسلم للنووي (2/41) بتصرف يسير، وانظر شعب الإيمان للبيهقي (1/179) ومنهاج السنة لابن تيمية (5/297) والفتاوى (11/653، 654) ، ومجموعة الرسائل والمسائل (3/ 342) ، والرد على الأخنائي (ص 316) .

ص: 68

قال ابن عبد البر1 بعد أن ذكر حديث أبي هريرة:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" وبين أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وهو مؤمن: أي مستكمل الإيمان، قال:"ولم يرد نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك، بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر إذا صلوا للقبلة وانتحلوا دعوة الإسلام من قرابتهم المؤمنين الذين آمنوا بتلك الأحوال.

وفي إجماعهم على ذلك مع إجماعهم على أن الكافر لا يرث المسلم أوضح الدلائل على صحة قولنا: إن مرتكب الذنوب ناقص الإيمان بفعله ذلك، وليس بكافر كما زعمت الخوارج في تكفيرهم المذنبين"2.

ودلالة الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه ظاهرة مما- تقدم، فالمؤمن قد يرتكب هذه المعاصي فينقص إيمانه فيكون مؤمناً ناقص الإيمان، معه مطلق الإيمان وانتفى عنه الإيمان المطلق، فإذا تاب وأقلع عن هذه المعاصي زاد إيمانه. وقد احتج جماعة من أهل العلم بهذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه، منهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله.

قال إسحاق بن إبراهيم3: سألت أبا عبد الله عن الإيمان ونقصانه

1 هو الإمام العلامة حافظ المغرب شيخ الإسلام أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الأندلسي القرطبي المالكي صاحب التصانيف الفائقة توفي سنة ثلاث وستين وأربع مائة انظر ترجمته في السير للذهبي (18/153) .

2 التمهيد لابن عبد البر (9/243) وانظر تهذيب الآثار للطبري السفر الثاني (ص 650) وجامع العلوم والحكم لابن رجب (ص 27) .

3 هو أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم النيسابوري، خدم الإمام أحمد وهو ابن تسع سنين، وكان ديناً ورعاً، نقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة توفي في بغداد سنة خمس وسبعين ومائتين انظر طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/108) وسير أعلام النبلاء للذهبي (13/19) .

ص: 69

قال: نقصانه قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن"1.

وقال المروذي2: سمعت أبا عبد الله يقول:."الإيمان قول وعمل يزبد وينقص وقال: الزيادة من العمل، وذكر النقصان إذا زنى وسرق3.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي رحمه الله وسئل عن الإرجاء فقال: نحن نقول الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص إذا زنى وضرب الخمر نقص إيمانه4.

وممن احتج به أبو داود فقد خرّجه في سننه في باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه5 وقال ابن القيم رحمه الله في تهذيبه للسنن بعد أن أضاف إلى هذا الحديث جملة من الأحاديث الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه:"وكل هذه النصوص صحيحة صريحة لا تحتمل التأويل في أن

1 رواه الخلال في السنة (برقم: 1545) وابن هاني في مسائله (2/ 164) ، وأما الحديث فقد تقدم تخريجه.

2 هو الإمام المحدث شيخ الإسلام أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المروذي، صاحب الإمام أحمد كان إماماً في السنة شديد الإتباع، له جلالة عجيبة ببغداد، روى عن الإمام أحمد مسائل كنيرة توفي سنة خمس وسبعين ومائتين انظر سير أعلام النبلاء (13/ 175) .

3 رواه الخلال في السنة (برقم: 1035) وابن بطة في الإنابة (برقم: 1045) .

4 السنة لعبد الله (1/307) .

5 سنن أبي داود (4/ 221) .

ص: 70

نفس الإيمان القائم بالقلب يقبل الزيادة والنقصان"1.

واحتج به البيهقي فقد أخرجه في باب القول في زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهل الإيمان في إيمانهم من كتابه الشعب ثم قال بعده:"وإنما أراد- والله تعالى أعلم-"وهو مؤمن"مطلق الإيمان، لكنه ناقص الإيمان بما ارتكب من الكبيرة، وترك الانزجار عنها، ولا يوجب ذلك تكفيراً بالله عز وجل.."2واحتج به الخلال3 والآجري4 وابن بطة5 وابن مندة6 وغيرهم من أهل العلم.

2-

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"7.

ففي هذا الحديث"بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أعلى وأدنى، فالاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق- بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبها وتستوفي جملة أجزائها، كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها"8.

1 تهذيب السنن لابن القيم (7/ 55، 56) بهامش مختصر السنن للمنذري.

2 شعب الإيمان للبيهقي (1/179) .

3 في السنة (2/693) .

4 في الشريعة (ص 113) .

5 في الإبانة (2/ 741) .

6 في الإيمان (2/ 574) .

7 أخرجه البخاري (1/ 51 فتح) ومسلم (2/ 6 نوري) وهذا لفظ مسلم.

8 معالم السنن لخطابي (7/43،44) .

ص: 71

وهذه الشعب متفاوتة ليست على درجة واحدة في الفضل، بل بعضها أفضل من بعض، كما هو ظاهر لفظ الحديث في قوله:"أعلاها "وقوله:"أدناها"، فشعب الإيمان منها ما يزول الإيمان بزوالها إجماعاً كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعاً كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً منها ما يقرب من شعبة الشهادتين، ومنها ما يقرب من شعبة إماطة الأذى"1.

وجميع هذه الشعب والخصال متفرعة، إما عن أعمال القلب، أو أعمال اللسان أو أعمال الجوارح، ونصيب العبد من الإيمان بحسب نصيبه من هذه الشعب قلة وكثرة، قوة وضعفاً، تكميلاً وتقصيراً، تماماً ونقصاً، ولا شك أن الناس متفاوتون في ذلك تفاوتاً عظيماً فقيامهم بهذه الشعب والخصال ليس على درجة واحدة، بل بعضهم أكمل من بعض، فمنهم المحسن ومنهم المسيء، فهذا من أوضح الدلائل على زيادة الإيمان ونقصانه، وتفاضل أهله فيه.

وقد استدل به الترمذي على زيادة الإيمان ونقصانه، فخرجه في باب"ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه"، من سننه2.

وبوب له ابن حبان في صحيحه بقوله:"ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص"3ثم ذكر حديث أبي هريرة.

وقال ابن مندة بعد ذكره لحديث الشعب في كتابه الإيمان:"والعباد

1 شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص 322) .

2 السنن (5/10) .

3 انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان لابن بلبان (1/ 194) .

ص: 72

يتفاضلون في الإيمان على قدر تعظيم الله في القلوب والإجلال له والمراقبة لله في السر والعلانية، وترك اعتقاد المعاصي، فمنها قيل الإيمان يزيد وينقص"1.

وقال الخطابي:"وفي هذا الباب إثبات التفاضل في الإيمان، وتباين المؤمنين في درجاته"2.

وقال صديق حسن خان بعد أن ذكر حديث الشعب:"وفي هذا دليل على أن الإيمان فيه أعلى وأدنى وإذا كان كذلك كان قابلاً للزيادة والنقصان"3.

وقال الشيخ العلامة ابن سعدي بعد ذكره لحديث أبي هريرة:"وهذا صريح في أن الإيمان يزيد وينقص بحسب زيادة هذه الشرائع والشعب، واتصاف العبد بها أو عدمه، ومن المعلوم أن الناس يتفاوتون فيها تفاوتاً كثيراً، فمن زعم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فقد خالف الحس، مع مخالفته لنصوص الشرع كما ترى"4.

وقال الشيخ الهراس في شرحه للواسطية:"ومن ذهب إلى أن الإيمان غير قابل للزيادة أو النقصان فهو محجوج بقوله صلى الله عليه وسلم "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" فالإيمان المطلق مركب من الأقوال والأعمال والاعتقادات، فهي ليست كلها بدرجة

1 الإيمان (1/ 300) .

2 معالم السنن (7/ 44) وانظر أعلام الحديث له (1/ 144) والإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان (1/ 192) .

3 فتح البيان في مقاصد القرآن (4/ 6) .

4 التوضيح والبيان لشجرة الإيمان (ص 14) .

ص: 73

واحدة"1.

ثم إن في الحديث دلالة أخرى على زيادة الإيمان ونقصانه، وذلك بجعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، الحياء من الإيمان، ومن المعلوم المسلم به عظم اختلاف الناس في القيام بهذه الخصلة وتفاوتهم فيها، لذا قال ابن حبان في صحيحه بعد أن ذكر الحديث:"

فمن الناس من يكثر ذلك فيه"أي الحياء"، ومنهم من يقل ذلك فيه، وهذا دليل صحيح على زيادة الإيمان ونقصانه، لأن الناس ليسوا كلهم على مرتبة واحدة في الحياء، فلما استحال استواؤهم على مرتبة واحدة فيه صح أن من وجد فيه أكثر كان إيمانه أزيد، ومن وجد فيه منه أقل كان إيمانه أنقص"2.

ومما يدل على تفاضل الناس في الحياء قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر "الحياء من الإيمان وأحيا أمتى عثمان"3.

قلت: وفي هذا أيضاً أبين دلالة على أن الزيادة والنقصان في الإيمان كما أنها شاملة لأعمال الجوارح الظاهرة فهي كذلك شاملة لأعمال القلوب الباطنة.

3-

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا إيمان لمن لا أمانة له"4.

1 شرح العقيدة الواسطية (ص 149) بتصرف.

2 انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان لابن بلبان (1/ 194، 195) .

3 أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في الجامع الصغير للسيوطي (153/1) وصححه الألباني انظر السلسلة الصحيحة

(4/ 442) .

4 أخرجه أحمد في المسند (3/ 135)، وابن أبي شيبة في مصنفه (11/11) وفي الإيمان (ص 5) وابن حبان في صحيحه (1/ 208 الإحسان) والبغوي في شرح السنة (1/ 75) وقال البغوي:"هذا حديث حسن وصححه الألباني في تحقيقه للإيمان لابن أبي شيبة.

ص: 74

فهذا الحديث دليل على أن من لا أمانة له، فقد نقص فيه شيء من واجبات هذا الدين، فيذهب عنه كمال الإيمان الواجب وتمامه، ويكون بذلك مؤمناً ناقص الإيمان1.

يوضح الاستدلال بهذا الحديث ويبينه ما جاء عن عروة بن الزبير رحمه الله أنه قال:"ما نقصت أمانة عبد قط إلا نقص إيمانه"2، فنقص الأمانة في العبد دليل على نقص الإيمان وضعفه فيه

ولهذا لما سئل الإمام أحمد رحمه الله مرة عن نقصان الإيمان احتج بهذا، قال الفضل بن زياد3 سمعت أبا عبد الله وسئل عن نقص الإيمان فقال: حدثنا وكيع عن سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه قال:"ما انتقصت أمانة رجل إلا نقص إيمانه"4.

وقاد الشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله:"إذا عرفت أن كلاً من الأعمال الظاهرة والباطنة من مسمى الإيمان شرعاً، فكل ما نقص من الأعمال التي لا يخرج نقصها

1 انظر الفتاوى (11/653) .

2 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 12) وفي الإيمان (ص 6)، وعبد الله في السنة (1/368) والخلال في السنة (ق 159/ ب) والآجري في الشريعة (ص 118) والبيهقي في الشعب (1/197) وابن بطة في الإبانة (برقم:1147) .

3 هو أبو العباس الفضل بن زياد القطان البغدادي، كان من المتقدمين عند أبي عبد الله، وكان أبو عبد الله يعرف قدره ويكرمه روى عن الإمام مسائل كثيرة جياد، وحدث عنه جماعة انظر طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/251) .

4 رواه الخلال في السنة (برقم: 789) والآجري في الشريعة (ص 118) وابن بطة في الإبانة (برقم 1148) .

ص: 75

من الإسلام فهو نقص قي كمال الإيمان الواجب كما في قوله صلى الله عليه وسلم "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" فالمنفي في هذا الحديث كمال الإيمان الواجب، فلا يطلق الإيمان على مثل أهل هذه الأعمال إلا مقيداً بالمعصية أو بالفسوق، فيقال مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته"1.

4-

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير وبخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير"2.

فهذا الحديث، ومثله حديث الشفاعة الطويل3 ونحوهما من الأحاديث الدالة على أن القائلين"لا إله إلا الله"متفاوتون في إيمانهم، وأن منهم من يدخل النار بتفريطه وتقصيره في الطاعة إلا أنه لا يخلد فيها لوجود أصل الإيمان معه، فيها دلالة واضحة على زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهل الإيمان فيه.

فلا يسوى في الإيمان بين من منعه إيمانه من دخول النار كلية، وبين من لم يمنعه إيمانه من دخولها لتفريطه وكثرة معاصيه، وكذلك لا يسوى بين من استوجبت له معاصيه أن يمكث فترة قصيرة في النار، وبين من استوجبت له أن يمكث فترة أطول.

1 الدرر السنية (1/ 162، 163) ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية (2/ 3، 4) بتصرف.

2 أخرجه البخاري (1/ 153 فتح) ومسلم (3/ 59 نووي) .

3 أخرجه البخاري (13/ 473 فتح) ومسلم (1/182) عن أنى بن مالك رضي الله عنه.

ص: 76

فالحديث من أظهر الأدلة وأوضحها على زيادة الإيمان ونقصانه، وهو أحد أدلة أهل السنة والجماعة الكثيرة على زيادة الإيمان ونقصانه.

قال أبو بكر الأثرم1: قيل لأبي عبد الله: فنقول الإيمان يزيد وينقص فقال:"حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك قوله"أخرجوا من في قلبه كذا، أخرجوا من كان في قلبه"فهذا يدل على ذلك"2.

وقال عبد الملك بن عبد الحميد3 سمعت أبا عبد الله: ذكر نقصان الإيمان واستدل له بحديث:" يخرج من النار من في قلبه حبة" وحديث:"لا يزنى الزاني"4.

وقد احتج البخاري في جامعه الصحيح بهذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه، فخرجه في"باب زيادة الإيمان ونقصانه من كتاب الإيمان5.

1 هو الإمام الجليل الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن هانىء الطائي الأثرم الاسكافي، نقل مسائل كثيرة عن الإمام أحمد وبوبها ورتبها، توفي في سنة إحدى وستين ومائتين أو في حدودها انظر ترجمته في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 66) والعبر للذهبي (1/374) .

2 رواه الخلال في السنة (برقم: 1041) وذكره شيخ الإسلام في كتابه الإيمان (ص 242) .

3 هو الإمام العلامة الحافظ الفقيه أبو الحسن عبد الملك بن عبد الحميد بن شيخ الجزيرة ميمون بن مهران الميموني الرقي، تلميذ الإمام أحمد، ومن كبار الأئمة، كان عالم الرقة ومفتيها في زمانه، توفي سنة أربع وسبعين ومائتين. انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (13/89) .

4 رواه الخلال في السنة (برقم: 1046) ونقلته منه بمعناه.

5 صحيح البخاري (1/103 فتح) .

ص: 77

وكذلك احتج به ابن خزيمة في كتابه التوحيد حيث قال:"باب ذكر الأخبار المصرحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما يخرج من النار من كان في قلبه في الدنيا إيمان دون من لم يكن في قلبه في الدنيا إيمان ممن كان يقر بلسانه بالتوحيد خالياً من الإيمان مع البيان الواضح أن الناس يتفاضلون في إيمان القلب، ضد قول من زعم من غالية المرجئة أن الإيمان لا يكون في القلب، وخلاف قول من زعم من غير المرجئة أن الناس إنما يتفاضلون في إيمان الجوارح الذي هو كسب الأبدان فإنهم زعموا أنهم متساوون في إيمان القلب الذي هو التصديق وإيمان اللسان الذي هو الإقرار

"1.

ثم أورد بعض الأحاديث في الباب، منها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

وقال البيهقي بعد أن ذكر الحديث وغيره محتجاً بها على زيادة الإيمان ونقصانه:"والأحاديث في

أن الإيمان يزيد وينقص سوى ما ذكرنا كثيرة"2.

وقال أبو حامد الغزالي"وقد ظهر أن ما قاله السلف من زيادة الإيمان ونقصانه حق، وكيف لا وفي الأخبار"أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"وفي بعض المواضع في خبر آخر"مثقال دينار"فأي معنى لاختلاف مقاديره إن كان ما في القلب لا يتفاوت"3.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"

وأما الصحابة وأهل السنة والحديث فقالوا: إنه يزيد وينقص، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يخرج من النار

1 التوحيد (ص 293، 294) .

2 الاعتقاد (ص 119) .

3 الاحياء (1/213) .

ص: 78

من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان" 1.

واحتج به الذهبي في السير2 وابن القيم كما في تهذيبه لسنن أبي داود3.

وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم بعد هذا الحديث:"وفي هذا الحديث دلالة لمذهب السلف وأهل السنة ومن وافقهم من المتكلمين في أن الإيمان يزيد وينقص، ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة"4.

وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:"قوله سبحانه في الحديث"أخرجوا من النار من في قلبه مثقال ذرة"إلى آخره، يوافق ما ذكرناه5 فإن الإيمان أعلى من الإسلام، فيخرج الإنسان من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر، فيخرج الإنسان من الإيمان إلى الإسلام الذي ينفعه وإن كان ناقصاً"6.

5-

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً"7.

1 منهاج السنة النبوية (5/ 205) وانظر الفتاوى (11/654) .

2 انظر سير أعلام النبلاء (11/363) .

3 تهذيب السنن (7/ 55) .

4 شرح صحيح مسلم (3/63) ، وانظر شرح صحيح البخاري للنووي (ص 224) .

5 يقصد تفريقه بين الإسلام والإيمان.

6 الدرر السنية (1/117) ومجموع مؤلفاته" قسم السيرة والفتاوى"(ص 57) .

7 رواه أحمد (2/250/ 472) وابن أبي شيبة في المصنف (11/27) وفي الإيمان (ص 8) وأبو داود (4/220) والترمذي (3/ 466) والآجري في الشريعة (ص 115) وابن حبان في صحيحه (475 موارد) وعبد الله في السنة (1/350) وابن أبي زمنين في أصول السنة (2/784) والحاكم في المستدرك (1/3) وأبو نعيم في الحلية (9/248) وابن عبد البر في التمهيد (9/237) والبيهقي في الشعب (1/161) وفي الاعتقاد (ص 118) والذهبي في السير (12/206) من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم والذهبي، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/511) ، وله شواهد كثيرة.

ص: 79

فهذا الحديث فيه دلالة على أن حسن الخلق من الإيمان، وأن المسلم كلما ازداد منه زاد إيمانه وارتقى إلى الكمال، وأن النقص منه نقص من الإيمان، فهو يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بحسن الخلق وينقص بنقصه، كما أنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

قال ابن عبد البر:"ومعلوم أنه لا يكون هذا أكمل، حتى يكون غيره أنقص"1.

وقد احتج بهذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه أبو داود، فخرجه في"باب زيادة الإيمان ونقصانه". والترمذي فخرجه في"باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه"، من سننهما.

وقال الحليمي2:"فدل هذا القول على أن حسن الخلق إيمان، وأن عدمه نقصان إيمان، وأن المؤمنين متفاوتون في إيمانهم، فبعضهم أكمل إيماناً من بعض"3.

وقال شيخ الإسلام:"والإيمان عندهم- أي أهل السنة- يتفاضل،

1التمهيد لابن عبد البر (9/245) .

2هو القاضي أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الشافعي، له مصنفات عديدة من أشهرها"المنهاج" توفي سنة ثلاث وأربعمائة، انظر السير للذهبي (17/231) .

3المنهاج (1/61) ، ونقله عنه البيهقي في الشعب (1/161) .

ص: 80

لأن الترك هنا تكليف، وإن كانت مع ذلك توصف بنقص الدين.

وليس المراد هنا بوصف النساء بنقص الدين تثريبهن ولومهن على ذلك، لأن هذا من أصل الخلقة، وإنما المراد بذلك هو التنبيه على ذلك تحذيراً من الافتتان بهن، ولهذا رتب العذاب على ما ذكر من الكفران وغيره لا على النقص1.

وهذا الحديث هو أحد الدلائل القوية لأهل السنة والجماعة على زيادة الإيمان ونقصانه، إذ فيه التصريح بنقص الدين، وأما الزيادة فمصرح بها في القرآن، كما تقدم.

ولهذا فقد احتج به غير واحد من أهل العلم على ذلك. فقد خرجه أبو داود في سننه في،"باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه"2، وخرجه الترمذي في"باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه"3.

قال البغوي مبيناً عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان:"وقالوا إن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء"4 يشير إلى حديثنا هذا.

وقال أبو محمد بن حزم:"وقد جاء النص بذكر النقص وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور المنقول نقل الكواف أنه قال للنساء (ما رأيت من

1 انظر فتح الباري لابن حجر (1/ 456) .

2 سنن أبي داود (4/ 219) .

3 سنن الترمذي (5/ 10) .

4 شرح السنة (1/39) .

ص: 82

ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الخازم منكن" 1.

وبوب له النووي في شرحه لمسلم"باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات

) 2، وقال:"وفيه بيان زيادة الإيمان ونقصانه"3.

وقال الحليمي في المنهاج"ومما يدل على أن الإيمان يزيد وينقص قول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء أإنكن ناقصات عقل ودين

"

"4.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية"والقرآن نطق بالزيادة في غير. موضع، ودلت النصوص على نقصه كقوله"لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن"لكن لم يعرف اللفظ إلا في قوله في النساء"ناقصات عقل ودين"وجعل من نقصان دينها أنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، وبهذا استدل غير واحد على أنه ينقص"5.

7-

حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَن أحبّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان"6.

1 الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/237) .

2 شرح صحيح مسلم (2/65) .

3 المصدر نفسه (2/ 67) .

4 المنهاج (1/ 63) .

5 الفتاوى (13/51) وانظر الفتاوى (7/233) .

6 رواه أبو داود (4/ 220) وابن أبي الدنيا في الاخوان (ص 102) والطبراني في الكبير (برقم: 7737) وابن بطة في الإبانة (2/658) والبغوي في شرح السنة (13/ 54) والبيهقي في الاعتقاد (ص 118) . وحسن الألباني إسناده وله شاهد عن حديث سهل بن معاذ عن أبيه رواه الترمذي (4/ 670) وأحمد (3/ 445) والبيهقي في الشعب (1/128) وحسن الألباني إسناده، ثم قال:"فالحديث بمجموع الطريقين صحيح". انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/657) .

ص: 83

ففي هذا الحديث بيان أن المسلم"إذا كان حبه لله ومنعه لله وهما عمل قلبه، وعطاؤه لله ومنعه لله وهما عمل بدنه، دل على كمال محبته لله، ودل ذلك على كمال الإيمان، وذلك أن كمال الإيمان أن يكون الدين كله لله، وذلك بعبادة الله وحده لا شريك له، والعبادة تتضمن كمال الحب وكمال الذل، والحب مبدأ جميع الحركات الإرادية، ولا بد لك من حب وبغض، فإذا كانت محبته لمن يحبه الله، وبغضه لمن يبغضه الله، دل ذلك على صحة الإيمان في قلبه، لكن قد يقوى ذلك وقد يضعف بما يعارضه من شهوات النفس وأهوائها، الذي يظهر في بذل المال الذي هو مادة النفس، فإذا كان حبه لله وعطاؤه لله ومنعه لله، دلّ على كمال الإيمان باطناً وظاهراً"1.

فالحديث بهذا من أوضح الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه، لتفاوت الناس في عمل القلب وعمل الجوارح المذكورين في الحديث تفاوتاً عظيماً، بل إن الفرد المسلم تختلف أحواله من وقت لآخر من جهة القيام بهذه الأعمال.

ثم إن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:"فقد استكمل الإيمان" ظاهر الدلالة على زيادة الإيمان ونقصانه، لأن الاستكمال لا يكون إلا عن نقص، وإذا ثبت النقص فإنه مستلزم للزيادة. فالإيمان يزيد حتى يصل إلى درجة الكمال، وينقص حتى لا يبقى منه شيء.

وقد احتج أبو داود في سننه بهذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه فخرجه في"باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه"، وكذا البيهقي في

1 الفتاوى لابن تيمية (10/ 754) .

ص: 84

كتاب الاعتقاد ثم قال بعد أن ذكره مع غيره من الأحاديث الدالة على ذلك:"والأحاديث في

أن الإيمان يزيد وينقص سوى ما ذكرنا كثيرة، وفيما ذكرنا هنا كفاية) 1.

8-

حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول:(إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)2.

فقد أفاد هذا الحديث أن الناس متفاضلون في معرفة الله وتقواه وهما من أعظم أعمال الإيمان، وأن أفضل الناس وأتقاهم لله عز وجل وأعظمهم معرفة به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ودلالة الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه واضحة، لأن الإنسان كلما ازداد معرفة بالله وتقوى له ازداد إيماناً.

قال ابن حجر في شرحه للحديث:"وفيه دليل على زيادة الإيمان ونقصانه، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله" ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم منه في أعلى الدرجات، والعلم بالله يتناول ما بصفاته وما بأحكامه وما يتعلق بذلك فهذا هو الإيمان حقاً"3.

وقد بوب البخاري لهذا الحديث في كتاب الإيمان من صحيحه بـ"باب قول النبي صلى الله عليه وسلم"وأنا أعلمكم بالله"وأن المعرفة فعل القلب".

واستدل لذلك بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ

1 الاعتقاد للبيهقي (ص 118) .

2 أخرجه البخاري (1/ 70 فتح) .

3 فتح الباري (1/70) .

ص: 85

قُلُوبُكُمْ} 1، ومراده من هذا أن يبرهن على أن الإيمان لا يتم بالقول وحده، بل لا بد من ضم الاعتقاد إليه، والإعتقاد فعل القلب2.

وهذا فيه دلالة على أن التقوى ومعرفة الله من الإيمان، والحديث دل على تفاضل الناس فيهما، فأعمال القلوب إذن متفاضلة والإيمان فيها يزيد وينقص.

ومثل هذا الحديث في الدلالة حديث أبي ذر رضي لله عنه القدسي الطويل وفيه قال الله تعالى "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً"3.... الحديث.

فهو يدل على أن الناس يتفاضلون في التقوى والله أعلم.

9-

حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"4.

بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مراتب إنكار المنكر، وأنه حسب الاستطاعة فإما أن يغير باليد أو باللسان أو بالقلب، بمعنى يكرهه بقلبه، وهذه المراتب الثلاث للإنكار يقوم بها المكلف على قدر استطاعته، ولا شك أن المرتبة الأخيرة باستطاعة جميع المكلفين، فمن رأى المنكر ولم يكرهه بقلبه وهو يعلم أنه منكر فإن هذا يكون علامة على ضعف إيمانه.

1 سورة البقرة، الآية:225.

2 انظر فتح الباري (1/70) .

3 أخرجه مسلم (4/ 1994) .

4 رواه مسلم (2/ 22 نووي) .

ص: 86

وما من شك في أن المكلفين متفاضلون في القيام بهذه المراتب، فمنهم من ينكر بيده، ومنهم من ينكر بلسانه، ومنهم من ينكر بقلبه، فمن أنكر بيده فهو أفضل ممن أنكر بلسانه، ومن أنكر بلسانه فهو أفضل ممن أنكر بقلبه فقط.

فالناس إذا يتفاضلون في الإيمان، فبعضهم يزداد إيمانه حتى ينكر المنكر بيده وبعضهم يضعف إيمانه فلا ينكر المنكر إلا بقلبه، فالحديث بهذا من أوضح الدلائل وأبينها على زيادة الإيمان ونقصانه.

ثم إن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:"وذلك أضعف الإيمان"تصريح

بأن الإيمان يضعف، وضعفه نقصان، فالإيمان ينقص بنقص الطاعة وارتكاب المعصية، كما أنه يزيد بفعل الطاعة والبعد عن المعصية.

وقد احتج بهذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله فيه النسائيُ في سننه فبوب له بـ"باب تفاضل أهل الإيمان"1. وابن منده في كتابه الإيمان فقال:"ذكر خبر يدل على أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالأركان يزيد وينقص"2 ثم ذكر حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

وبوب له النووي في شرحه لمسلم بـ"باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص

"3.

ومثل هذا الحديث في الدلالة حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف

1 سنن النسائي (8/11) .

2 الإيمان لابن منده (2/341) .

3 شرح صحيح مسلم للنووي (2/21) وانظر مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (3/343) .

ص: 87

من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 1.

فدلالة هذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه ظاهرة كسابقه، إذ فيه ذكر مراتب الإنكار الثلاث، وأن أضعفها مرتبة الإنكار بالقلب التي ليس وراءها من الإيمان حبة خردل.

قال ابن منده:"ذكر خبر يدل على أن الإيمان ينقص حتى لا يبقى في قلب العبد مثقال حبة خردل، وأن المجاهدة بالقلب واللسان واليد من الإيمان"2 ثم ذكر هذا الحديث.

وفي الحديث فائدتان ليستا في الذي قبله: إحداهفا: تصريحه بأن هذه المراتب الثلاث للإنكار من الإيمان، والثانية: إخباره بأنه ليس وراء المرتبة الأخيرة من الإنكار حبة خردل من إيمان.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" المراد به

أنه لم يبق بعد هذه المراتب الثلاث للإنكار ما يكون داخلاً في مسمى الإيمان حتى يقوم به المؤمن، بل إن الإنكار القلبي هو آخر حدود الإيمان، وليس المراد نفى أصل الإيمان عن من لم ينكر المنكر، ولهذا قال في الحديث "ليس وراء ذلك"؛"أي: ليس وراء هذه الثلاث ما هو من الإيمان، ولا قدر حبة خردل. والمعنى: هذا آخر حدود الإيمان، ما بقي بعد هذا من الإيمان شيء، ليس مراده أنه من لم يفعل ذلك لم يبق معه من الإيمان شيء"3.

1 رواه مسلم (1/ 70) .

2 الإيمان لابن منده (2/ 345) .

3 انظر الفتاوى (7/ 52) .

ص: 88

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المؤمنين ثلاث طبقات، وكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه، لكن الأول لما كان أقدرهم كان الذي يجب عليه أكمل مما يجب على الثاني، وكان ما يجب على الثاني أكمل مما يجب على الآخر، وعلم بذلك أن الناس يتفاضلون في الإيمان الواجب عليهم بحسب استطاعتهم مع بلوغ الخطاب إليهم كلهم1.

لكن قد يرد على هذا سؤال: وهو إذا كان ذلك حسب الاستطاعة فمن لم يستطع لا بيده ولا بلسانه فعمل حسب استطاعته وهو الإنكار بقلبه، فكيف يقال إن إيمانه ناقص، وهذا الذي فعله هو الذي في استطاعته؟.

والجواب على هذا، أن يقال: إن إيمان هذا الأخير عُد ناقصاً من جهة نقص عمله عن الآخرين إذ هما قاما من أمر الدين بعمل أكمل منه فعد إيمانه من هذه الجهة ناقصاً، وأما هذا النقص الذي عنده فلا يحاسب عليه لأنه خارج عن استطاعته والله عز وجل لا يكلف النفس إلا وسعها وما تطيقه، بل قال شيخ الإسلام"ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة، وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل"2.

وذلك من فضل الله وسعة رحمته لأنه سبحانه لم يكلف الناس إلاّ بما يطيقون.

ومن هذا الجنس المرأة الحائض التي تترك الصوم والصلاة وقت حيضتها تعد ناقصة إيمان من هذه الجهة إذ إن الرجل لا ينقطع عن الصلاة بمانع مثلها فهو أكمل منها بهذا الاعتبار، وإن كانت لا تحاسب على هذا

1 الأيمان لابن تيمية (ص 409، 410) .

2 الفتاوى (28/ 131) .

ص: 89

النقص، لأنها مكلفة به على ما سيأتي شرحه قريباً إن شاء الله.

10-

حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من اقتنى كلباً إلا كلب حاشية أو ضارياً1 نقص من عمله كل يوم قيراطان"2.

فهذا الحديث فيه دلالة على نقص العمل بارتكاب المعاصي، فاقتناء الكلب لغير ما جاء في الشرع جواز اقتنائه له معصية تنقص الأجر، ومن ثم تضعف الإيمان.

قال ابن حجر:"وفي الحديث الحث على تكثير الأعمال الصالحة، والتحذير من العمل بما ينقصها، والتنبيه على أسباب الزيادة فيها والنقص منها، لتجتنب أو ترتكب

"3.

فالحديث دلالته ظاهرة على زيادة الإيمان ونقصانه، وأن الإيمان يزيد بالأعمال الصالحة، وينقص بالمعاصي.

ولهذا احتج به ابن أبي زمنين على ذلك فخرجه في"باب زيادة الإيمان ونقصانه"من كتابه أصول السنة4.

11-

حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليَّ وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض على عمر بن الخطاب

1 جمع ضوار، وهو الكلب المعلم المدرب للصيد، يقال: ضرا الكلب وأضراه صاحبه أي عوده وأغراه بالصيد، انظر فتح الباري لابن حجر (9/ 609) .

2 أخرجه البخاري (9/ 608 فتح) ومسلم (10/ 239 نووي) .

3 فتح الباري (5/ 7) .

4 أصول السنة (2/778) .

ص: 90

وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله قال: الدين" 1.

"المراد بالناس في هذا الحديث المؤمنون، لتأويله القمص بالدين، والمراد بالدين العمل بمقتضاه، كالحرص على امتثال الأوامر واجتناب المناهي، والنكتة في القميص أن لابسه إذا اختار نزعه وإذا اختار بقاءه، فلما ألبس الله المؤمنين لباس الإيمان واتصفوا به كان الكامل في ذلك سابغ الثوب ومن لا فلا، وقد يكون نقص الثوب بسبب نقص الإيمان، وقد يكون بسبب نقص العلم"2.

فالحديث يدل على أن الناس يتفاوتون في الدين، قوة وضعفاً، زيادة ونقصاً.

وقد خرج البخاري الحديث في صحيحه في"باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال"قال ابن حجر مبيناً مطابقة الحديث للترجمة:"ومطابقته للترجمة ظاهرة من جهة تأويل القميص بالدين، وقد ذكر أنهم متفاضلون في لبسها فدل على أنهم متفاضلون في الإيمان"3.

وخرجه النسائي في"باب زيادة الإيمان"4 من سننه، ومطابقته للترجمة ظاهرة مما تقدم، والله أعلم.

12-

حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أنه قال:"أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس

فترك رجلاً هو أعجبهم إليَّ فقلت: يا

1 أخرجه البخاري (1/ 73، 7/ 43، 12/ 395، 396 فتح) ومسلم (5 1/159نووي) .

2 فتح الباري لابن حجر (12/ 396) باختصار، وهو من كلام ابن أبي جمرة.

3 فتح الباري (1/ 74) .

4 سنن النسائي (8/ 112) .

ص: 91

رسول الله مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً. فقال أو مسلماً، فسكت قليلاً، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي فقلت: مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يكبه الله في النار" 1.

فسعد رضي الله عنه"رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي ناساً ويترك من هو

أفضل منهم في الدين، وظن أن العطاء يكون بحسب الفضائل في الدين، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم حال هذا الإنسان المتروك فأعلمه به وحلف أنه يعلمه مؤمناً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أو مسلماً فلم يفهم منه النهي عن الشفاعة فيه مرة أخرى فسكت، ثم رآه يعطى من هو دونه بكثير فغلبه ما يعلم من حسن حال ذلك الإنسان فقال: يا رسول الله مالك عن فلان تذكيراً وجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هم بعطائه من المرة الأولى ثم نسيه فأراد تذكيره، وهكذا المرة الثالثة إلى أن أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن العطاء ليس هو على حسب الفضائل في الدين

"2.

قال ابن رجب:"وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص لما قال

له"لم تعط فلاناً وهو مؤمن"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم"أو مسلم"يشير إلى أنه لم يتحقق مقام الإيمان فإنما هو مقام الإسلام الظاهر، ولا ريب أنه متى ضعف الإيمان الباطن لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة أيضاً"3.

فدل الحديث على أن الدين مراتب متفاوتة ومقامات مختلفة وأن الناس متفاضلون فيه، فمنهم المؤمن ومنهم المسلم، وما هذا التفاضل

1 أخرجه البخاري (1/ 79، 3/340 فتح) ومسلم (2/ 180، 7/ 149 نووي) .

2 شرح صحيح مسلم للنووي (7/148) .

3 جامع العلوم والحكم (ص 27) .

ص: 92

بينهم فيه إلا لأنه يزيد وينقص.

وقد خرّج أبو داود هذا الحديث في سننه في"باب زيادة الإيمان ونقصانه"1 محتجاً به، ودلالته على الترجمة ظاهرة لما دلّ عليه من التفاوت في مراتب الدين، وكل هذا يرجع إلى زيادة الإيمان ونقصانه، وقوته وضعفه.

13-

حديث علي وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ملىء عمار إيماناً إلى مشاشه"2.

1 سنن أبي داود (4/ 220) .

2 أخرجه النسائي (8/ 111) والحاكم (3/ 392) وابن عساكر في تاريخ دمشق (12/621) في ترجمة عمار من طرق عن عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي عمار عن عمرو بن شرحبيل عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي-صلى الله عليه وسلم فذكره.

قال الحاكم:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، قال الألباني- كما في حاشيته على كتاب الإيمان لابن أبي شيبة (ص 31) :" وفيه نظر، فإن أبا عمار لم يخرجاه، فهو صحيح فقط، وصحح إسناده الحافظ في الفتح (7/ 92) .

وسمى الحاكم هذا الصحابي المبهم في رواية له (عبد الله) يعني ابن مسعود وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (11/22) وفي كتاب الإيمان (ص 31) من هذا الطريق، إلا أنه مرسل وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 22) وفي كتاب الإيمان (ص 31) وابن ماجة (1/ 52) وأبو نعيم في الحلية (1/139) وابن عساكر في تاريخ دمشق (12/ 621) ، من طريق عثام بن علي عن الأعمش عن أبي إسحاق عن هانىء بن هانىء، قال: دخل عمار على عليّ بن أبي طالب فقال مرحباً بالطيب المطيب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن عماراً ملىء إيماناً إلى مشاشه" قال الألباني:"ورجاله ثقات رجال البخاري، غير هانىء بن هانىء وهو مستور كما في التقريب، سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/466) .

وأخرجه البزار كما في مجمع الزوائد (9/295) وفتح الباري (7/ 92) بنحوه، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً، قال الهيثمي"رجاله رجال الصحيح" وقال الحافظ ابن حجر:"وإسناده صحيح".

والمشاشة: هي رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها، انظر جامع الأصول لابن الأثير (9/ 46) .

ص: 93

فوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لعمار بأنه ملىء إيماناً، يدل على أن الإيمان يزيد حتى يمتلىء المسلم به، ويدل أيضاً على أن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان فمن امتلأ بالإيمان خير ممن كان إيمانه ناقصاً ضعيفاً

فالحديث فيه حجة لما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، في أن في الإيمان يزيد وبنقص، وأن أهله متفاضلون فيه.

وقد احتج به النسائي في سننه على تفاضل المؤمنين فأخرجه في"باب تفاضل أهل الإيمان"ومطابقته للترجمة ظاهرة مما تقدم.

14-

حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، قالوا: من هم يا رسول الله، قال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون"1.

هذا الحديث دليل قوي لما ذهب إليه أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه يزيد وينقص. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"

وفي حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة كفاية فإنه من أعظم الأدلة على زيادة

1 أخرجه مسلم (1/198) ورواه الشيخان بنحوه من حديث ابن عاص رضي الله عنهما. البخاري (11/ 405 فتح) ومسلم

(1/ 199) .

ص: 94

الإيمان ونقصانه، لأنه وصفهم بقوة الإيمان وزيادته في تلك الخصال التي تدل على قوة إيمانهم وتوكلهم على الله في أمورهم كلها"1.

15-

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان"2.

قال النووي:"والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد وأسرع خروجاً إليه وذهاباً في طلبه وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات وأنشط طلباً لها ومحافظة عليها ونحو ذلك.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"وفي كلى خير" فمعناه في كل من القوي والضعيف خير لاشتراكهما في الإيمان مع ما يأتي به الضعيف من العبادات"3 فمن قام بأوامر الله وامتثلها، وكمّل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وكمل غيره بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فهو المؤمن القوي الذي حاز أعلى مراتب الإيمان، ومن لم يصل إلى هذه المرتبة فهو المؤمن الضعيف.

1 الإيمان لابن تيمية (ص 213) .

2 رواه مسلم (16/ 215 نووي) .

3 شرح صحيح مسلم (16/215) وانظر مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (3/343) .

ص: 95

قال ابن سعدي بعد أن بين هذا المعنى المتقدم:"وهذا من أدلة السلف على أن الإيمان يزيد وينقص، وذلك بحسب علوم الإيمان ومعارفه، وبحسب أعماله، وهذا الأصل قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضع كثيرة"1.

16-

حديث حنظلة الأسدي رضي الله عنه قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟ قال قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. قال: أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ثلاث مرات"2.

فقول حنظلة رضي الله عنه"نافق حنظلة"لا يلزم منه وقوع النفاق فيه، لأن ذلك وقع منه على سبيل المبالغة والورع والتقوى وقوة المراقبة وشدة الخوف، كما هو شأن باقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن أبي مليكة3 رحمه الله:"أدركت ثلاثين من أصحاب

1 بهجة قلوب الأبرار (ص 33) .

2 أخرجه مسلم (17/ 66، 67 نوري) .

3 هو الإمام الحجة الحافظ أبو بكر عبد الله بن عبيد الله بن أبي ميكة زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي التيمي المكي، ولد في خلاقة علي أو قبلها، حدث عن بعض الصحابة، وكان عالما مفتياً صاحب حديث وإتقان، مات سنة سبع عشرة ومائة، انظر السير للذهبي (5/ 88) .

ص: 96

النبي صلى الله عليه وسلم وكلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل"1.

وإنما معنى كلامه هو أنه خاف من النفاق حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر مع شدة المراقبة والتفكر والإقبال على الآخرة وهذا زيادة في الإيمان، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، فيكون إيمانه في هذه الحالة أضعف مما هو عليه عندما يكون في مجلس الذكر. وهذا نقص في الإيمان، فهو رضي الله عنه حسب أن هذا نفاق2، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا ليس نفاقاً وأنه لا يستطيع أن يداوم على درجة واحدة من الإيمان، لأن الإيمان يتفاوت فيزيد إذا حصلت أسباب الزيادة وينقص إذا حصلت أسباب النقص3.

1 رواه البخاري في صحيحه تعليقاً (1/109 فتح) ووصله في التاريخ الكبير (3/1/137) والخلال في السنة (برقم: 1081) وابن حجر في تغليق التعليق (2/53) من طريق يحيى بن يمان عن سفيان عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة به. ورواه المروزي من طريق أخرى في تعظيم قدر الصلاة (2/ 634 ح 688) بلفظ: أدركت زيادة على خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه، ورواه ابن أبي خيثمة في تاريخه كما في الفتح (1/ 110) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 955 ح 1733) بنحوه ولكن أبهم العدد.

2 وقد تأول بحض أهل البدع خوف السلف هذا بأن المراد به أنهم كانوا يخافون أن يبتلوا بالنفاق تجل أن يموتوا، وقد سئل الأوزاعي عن نحو هذا فقال:"هذا قول أهل البدع" انظر شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي (5/ 983) .

3 وانظر ما كتبه ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/358) حول خشية الصحابة من النفاق وخوفهم منه لعلمهم بدقه وجله، مع أن قلوبهم كانت ممتلئة إيماناً بخلاف غيرهم ممن لا يجاوز الإيمان حناجرهم، ويظنون أنهم أكمل الناس إيماناً.

ص: 97

كما قال عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه:"الإيمان يزيد وينقص، قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا، فذلك نقصانه"1.

وبهذا يتبين وجه دلالة الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه، والله أعلم.

17-

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"2.

فقد أطلق الشارع الحكيم هنا على قتال المسلم كفراً، مع أن الاقتتال بين المسلمين لا يخرج من الملة، لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا

} 3، وقوله:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} 4.

ففي الآية الأولى وصف الله الطائفتين بالإيمان حال اقتتالهما، وسمى في الآية الثانية القاتل أخاً للمقتول والمراد الأخوة الإيمانية، فدل ذلك على أن القتل وإن سماه الشارع كفراً فإنه لا يخرج من الملة، فهو كفر دون كفر5.

1 سيأتي تخريجه (ص 116) .

2 أخرجه البخاري (1/ 110، 10/ 464، 13/ 26 فتح) ومسلم (1/ 81) .

3 سورة الحجرات، الآية:9.

4 سورة البقرة الآية: 178.

5 انظر تيسير العزيز الحميد (ص 514) .

ص: 98

وما من شك في أن القاتل لأخيه قد ارتكب إثماً عظيماً، وعرض نفسه لوعيد شديد، بيّنه الله في قوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} 1.

فإذا تبين عظم هذا الذنب وشدة خطره، ثم هو مع ذلك لا يخرج فاعله من الدين، تبين أن فاعله قد نقص أجره بهذا العمل وضعف دينه فأصبح بذلك مؤمناً ناقص الإيمان، ومن هنا يتبين وجه دلالة الحديث على زيادة الأيمان ونقصانه.

وفي الحديث وجه آخر يدل على زيادة الإيمان ونقصانه، في قوله صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسوق"، حيث أن سب المسلم جرم يفسق به صاحبه، والفسق نقص في الإيمان.

ولهذا قال المناوي في شرحه للحديث."وفيه.. أن الإيمان ينقص ويزيد لأن الساب إذا فسق نقص إيمانه وخرج عن الطاعة فضره ذنبه.."2.

وروى اللالكائي في شرح الاعتقاد عن زبيد بن الحارث قال:"لما ظهرت المرجئة آتيت أبا وائل فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 3.

18-

حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:"أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله"4.

1 سورة النساء، الآية:93.

2 فيض القدير (4/ 84) .

3 انظر شرح الاعتقاد (5/ 1001) .

4 أخرجه أحمد (1/286) وابن أبي شيبة في المصنف (11/ 41) وفي الإيمان (ص 36) والطيالسي (ح 747) وابن أبي الدنيا في الإخوان (ص 86) . قال الهيثمي"وفيه ليث بن أبي سليم وضعفه الأكثر" مجمع الزوائد (1/90) .

وله شاهد من حديث أبي ذر أخرجه احمد (5/ 46 1) وأبو داود (4/198) بلفظ" أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله" قال المنذري:"وفي إسناده يزبد بن أبي زياد الكوفي ولا يحتج بحديثه، وقد أخرج له مسلم متابعة، وفيه أيضاً رجل مجهول""مختصر السنن"(5/7) .

وله شاهد ثان من حديت معاذ بن جبل أخرجه أحمد (5/247) والبيهقي في الشعب (1/ 339) وفيه عد الله بن لهيعة وزبان بن فائد ضعيفان.

وله شواهد أخرى. قال الألباني بعد أن ذكر بعض طرقه:" فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل والله اعلم""سلسلة الأحاديث الصحيحة"(4/307) .

ص: 99

فهذا الحديث يدل على أن الإيمان مراتب بعضها أوثق من بعض وأن أوثق مراتبه الحب في الله والبغض في الله.

قال ابن عبد البر بعد أن ساق هذا الحديث".. وهو يدل على أن بعض الإيمان أوثق عروة وأكمل من بعض"1.

فإذا كان الإيمان كذلك له مراتب بعضها أوثق من بعض، فهو يتفاضل ويزيد وينقص لتفاوت الناس بالقيام بها.

19-

حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان على رأعه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه"2.

1 التمهيد (9/ 245) بتصرف.

2 رواه الترمذي تعليقاً (5/ 15) وأخرجه موصولاً أبو داود (4/ 222) والطبري في تهذيب الآثار (برقم: 910) والحاكم (1/ 22) وابن منده في الإيمان (2/ 579) من طريق سعيد بن أبي مريم أنبأ نافع بن يزيد، ثنا ابن الهاد أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.

وقال الحاكم"حديت صحيح على شريط الشيخين" ووافقه الذهبي، وقال الألباني:"وهو كما قالا إلا في نافع فإنما أخرج له البخاري تعليقاً فهو على شرط مسلم وحده""سلسلة الأحاديث الصحيحة"(2/ 22) ، وصحح إسناده الحافظ في الفتح (12/ 61) .

ص: 100

قد يتوهم بعض من قرأ هذا الحديث أن فيه دلالة على أن مرتكب الكبيرة يكفر، ويخرج من الدين، ويسلب الإيمان بالكلية، ويظن أن هذا هو الظاهر والمتبادر من الحديث. فينحى بفهمه هذا منحى الخوارج والمعتزلة في إخراجهم مرتكب الكبيرة من الدين، وتخليده في النار.

مع أن الحديث لا دلالة فيه على هذا بل إن ظاهر الحديث المتبادر لا يدل عليه قال شيخ الإسلام:".. ولا هو أيضاً ظاهر الحديث، لأن قوله:"خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة"دليل على أن الإيمان لا يفارقه بالكلية فإن الظلة تظلل صاحبها وهي متعلقة ومرتبطة به نوع ارتباط"1.

وقال صاحب مرعاة المفاتيح:"وفيه إشارة إلى أنه وإن خالف حكم الإيمان فإنه تحت ظله، لا يزول عنه حكم الإيمان ولا يرتفع عنه اسمه"2.

ولهذا فإن من الأمور المتقررة في عقيدة أهل السنة والجماعة أن من زنى أو ارتكب أي كبيرة من الكبائر لا يسلب منه اسم الإيمان المطلق، ولا يعطى أيضاً اسم الإيمان المطلق، بل يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويقال: ليس بمؤمن حقاً، أو

1 الفتاوى (7/ 673) .

2 مرعاة المفاتيح (1/ 138) .

ص: 101

ليس بصادق الإيمان. أما تكفير مرتكب الكبيرة وإخراجه من الدين فهذا ليس من عقيدة أهل السنة والجماعة في شيء، بل ليس في ظواهر نصوص الكتاب والسنة ما يدل على هذا القول ويؤيده، ومن فهم من النصوص شيئاً من ذلك فقد أتي من سوء فهمه وجهله.

فالحديث ليس فيه أي دليل لما ذهب إليه هؤلاء، بل هو دليل لما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من أن المعاصي تنقص الإيمان وتضعفه، فالزاني لم يعدم الإيمان الذي به يستحق ألا يخلد في النار، وبه ترجى له الشفاعة والمغفرة، وبه يستحق المناكحة والموارثة، لكن عَدِم الإيمان الذي به يستحق النجاة من العذاب ويستحق به تكفير السيئات وقبول الطاعات وكرامة الله ومثوبته، وبه يستحق أن يكون محموداً مرضياً"1 وهذا هو ظاهر الحديث الذي يليق به.

ولهذا أخرجه أبو داود في باب زيادة الإيمان ونقصانه من سننه، محتجاً به على ذلك، والحجة فيه ظاهرة.

20-

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم"2.

1 انظر الفتاوى (7/ 673- 676) .

2 أخرجه الحاكم (1/ 4) من طريق ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن ميسرة عن أبي هانىء الخولاني حميد بن هانىء عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره وقال:"رواته مصريون ثقات". ووافقه الذهبي.

ورواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (1/ 52) وقال الهيثمي:"إسناده حسن". والحديث صححه الألباني. انظر صحيح الجامع (2/ 56) والسلسلة الصحيحة (4/113) .

ص: 102

فهدا من أوضح الدلائل على أن الإيمان يزبد وينقص ويقوى ويضعف في قلب المرء المسلم، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، أي: يبلى ويضعف ويدخله النقص من جراء ما قد يقع فيه المرء من معاص وآثام تذهب جدة الإيمان وحيويته وقوته، لهذا أرشد عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث إلى تعاهد الإيمان والعمل على تقويته وسؤال الله تعالى دائماً الإيمان والثبات عليه، قال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 1.

ففي هدا أببن دلالة على أن الإيمان الذي في القلب يقبل التفاوت ويزيد تارة ويقص أخرى، والأعمال الظاهرة تبع له فإن زاد زادت وإن نقص نقصت، فهل يقال- بعد هذا- إن الإيمان على هيئة واحدة لا يقبل زيادة ولا نقصاناً.

هذا، ولم أقف- فيما اطلعت عليه من كتب أهل العلم- على من احتج بهذا الحديث على زيادة الأيمان ونقصانه رغم صحته ووضوح دلالته على المقصود، والله الموافق.- ثم في ختام ذكر هذه النصوص النبوية الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه أود الإشارة إلى أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث بلفظ"الإيمان يزيد وينقص"وما روي من ذلك مرفوعاً إليه فلا يصح كما بين ذلك أهل العلم

1 سورة الحجرات، الآية:7.

ص: 103

بالحديث1، بل قد قال ابن القيم رحمه الله في مناره المنيف:"وهذا كلام صحيح، وهو إجماع السلف، ولكن اللفظ كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.

قلت: وفي النصوص الصحيحة الثابتة وإجماع سلف الأمة غنية وكفاية، ولله الحمد. وما أحسن وأجود ما قاله ابن القيم رحمه الله في سياق آخر بعد أن ذكر الحديث الذي رواه ابن ماجة في سننه من حديث عبد السلام بن صالح3 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان" 4 حيث قال:"في الحق ما يغني عن الباطل، ولو كنا ممن يحتج بالباطل ويستحله لروجنا هذا الحديث وذكرنا بعض من أثنى على عبد السلام، ولكن نعوذ بالله من هذه الطريقة، كما نعوذ به من طريقة تضعيف الحديث الثابت وتعليله إذا خالف قول إمام معين، وبالله التوفيق"5.

ومثل هدا القول قول إمام الأئمة ابن خزيمة في كتابه التوحيد:"

وقد أعلمت ما لا أحصي من مرة أني لا أستحل أن أموه على طلاب العلم بالاحتجاج بالخبر الواهي، وإني خائف من خالقي جل وعلا إذا موهت على طلاب العلم بالاحتجاج بالأخبار الواهية وإن كانت الأخبار

1 راجع: الموضوعات لابن الجوزي (1/ 128) ، والميزان للذهبي (4/ 144) واللآلىء المصنوعة للسيوطي (1/ 36) وتنزيه الشريعة لابن عراق (1/ 150) .

2 المنار المنيف (ص 119) .

3 هو أبو الصلت الهروي، مولى قريش، نزل نيسابور، صدوق له مناكير، وأفرط العقيلي، فقال: كذاب، تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 506) .

وقال الذهبي: واه شيعي متهم مع صلاحه. الكاشف (2/ 172) .

4 سنن ابن ماجه (1/ 25، 26) .

5 تهذيب السنن (7/ 59) .

ص: 104

حجة لمذهبي"1.

فشتان بين هؤلاء الأئمة وبين أهل الأهواء والبدع على اختلاف مشاربهم وتباين طرائفهم الذين تعج أقوالهم وتمتلىء كتبهم بالتلبيس والتمويه والزخرفة والمخرقة والكذب ببن مقل ومستكثر2.

1 التوحيد (ص 215) .

2 وانظر شرح الاعتقاد للالكائي (1/180) .

ص: 105