الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: فيمن قال بوجوب الاستثناء
إن أشهر من ذهب للقول بوجوب الاستثناء في الإيمان وانتصر له هم الكلابية والأشعرية1 حيث أن الإيمان عندهم هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً وكافراً باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان، كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وصاحب هذا هو عند الله كافر لعلمه بما يموت عليه، وهذا المأخذ هو مأخذ كثير من المتأخرين ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة من قولهم أنا مؤمن إن شاء الله2 فحسب هؤلاء أن استثناء السلف إنما هو باعتبار الموافاة.
ومقصودهم بالموافاة: أن العبد يأتي موافياً به بأن يبقى عليه إلى الوفاة، فيكون متصفاً به إلى آخر حياته، إذ إن الإيمان لا يكون نافعاً معتبراً منجياً لصاحبه إلا إذا مات عليه.
فلما كان هذا الإيمان هو المعتبر في النجاة صار هؤلاء إلى الاستثناء في الإيمان بهذا الاعتبار، فإذا قيل لأحدهم: أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله وهو في ربطه هذا الإيمان بالمشيئة يلحظ أنه قد لا يموت
1 انظر المسامرة شرح المسايرة (ص 283) ، وإتحاف السادة المتقين (2/ 282) ، والروضة البهية (ص 8) .
2 الفتاوى (7/430) .
على هذا الإيمان ولا يثبت عليه إلى الوفاة1.
ثم حمل هؤلاء جميع الآثار الواردة عن السلف في الاستثناء على هذا المحمل الذي هو أبعد ما يكون عن مراد السلف، ومقصودهم بالاستثناء.
يقول الجويني: "فإن قيل: قد أثر عن سلفكم ربط الإيمان بالمشيئة، وكان إذا سئل الواحد منهم عن إيمانه قال إنه مؤمن إن شاء الله، فما محصول ذلك؟ قلنا: الإيمان ثابت في الحال قطعاً لا شك فيه ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة، ولم يقصدوا التشكك في الإيمان الناجز"2.
فهكذا توهم هؤلاء أن ذلك الذي قالوا هو مراد السلف في الاستثناء بالإيمان بينما الواقع أن هذا الذي نسبوه للسلف ليس مراداً لهم ولا أحد منهم استثنى في إيمانه لهذا الاعتبار، كما قال شيخ الإسلام:"وأما الموافاة فما علمت أحداً من السلف علل بها الاستثناء، ولكن كثيراً من المتأخرين يعلل بها من أصحاب الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم، كما يعلل بها نظارهم كأبي الحسن الأشعري وأكثر أصحابه، لكن ليس هذا قول سلف أصحاب الحديث"3.
فالسلف كانوا يستثنون في الإيمان وهذا متواتر عنهم لكن ليس في هؤلاء من قال: أنا استثني لأجل الموافاة، وأن الإيمان إنما هو اسم لما يوافي به العبد ربه، بل صرح أئمة هؤلاء بأن الاستثناء إنما هو لأن
1 المسامرة (ص 383) وانظر المعتمد للقاضي أبي يعلى (ص 190) .
2 الإرشاد للجويني (ص 336) .
3 الفتاوى (7/ 439) .
الإيمان يتضمن فعل الواجبات فلا يشهدون لأنفسهم بذلك كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى، فإن ذلك مما لا يعلمونه وهو تزكية لأنفسهم بلا علم، وقد سبق النقل عنهم من أقوالهم وألفاظهم ما يدل على ذلك ويؤيده.
وأما سبب غلط هؤلاء في نسبة هذا القول للسلف مع أنهم لم يقولوه، فعائد إلى أنه:"لما اشتهر عند هؤلاء أن السلف يستثنون في الإيمان ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا فصاروا يحكون هذا عن السلف وهذا القول لم يقل به أحد من السلف ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم لما رأوا أن قولهم لا يتوجه إلا على هذا الأصل وهم يدعون أن ما نصروه من أصل جهم في الإيمان هو قول المحققين والنظار من أصحاب الحديث، ومثل هذا يوجد كثيراً في مذاهب السلف التي خالفها بعض النظار وأظهر حجته في ذلك ولم يعرف حقيقة قول السلف فيقول من عرف حجة هؤلاء دون السلف أو من يعظمهم لما يراه من تميزهم عليه: هذا قول المحققين، وقال المحققون، ويكون ذلك من الأقوال الباطلة، المخالفة للعقل مع الشرع وهذا كثيراً ما يوجد في كلام بعض المبتدعين وبعض الملحدين. ومن أتاه الله علماً وإيماناً علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هو دون تحقيق السلف لا في العلم ولا في العمل، ومن كان له خبرة بالنظريات والعقليات وبالعمليات، علم أن مذهب الصحابة دائماً أرجح من قول من بعدهم وأنه لا يبتدع أحد قولاً في الإسلام إلا كان خطأ وكان الصواب قد سبق إليه من قبله"1.
1 الفتاوى (7/ 436) .
والمقصود: أن هؤلاء غلطوا على السلف من جهة حيث نسبوا إليهم شيئاً لم يقولوه، وضلوا عن الحق من جهة أخرى حيث أوجبوا الاستثناء في الإيمان على هذا الاعتبار الذي ابتدعوه.
وقد احتج هؤلاء لقولهم ببعض الشبه والدلائل أذكر فيما يلي أهمها مع التنبيه على غلطهم فيما احتجوا به.
فمن ذهب إلى هذا القول واحتج له القاضي أبو يعلى فقد قال في كتابه المعتمد في أصول الدين: "ولا يجوز أن يقول: أنا مؤمن حقاً بل يجب أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله خلافاً للمعتزلة1 في قولهم لا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله بل يجب أن يقول أنا مؤمن حقاً والدلالة عليه إجماع السلف، فروى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه أنه قال: من زعم أنه مؤمن فهو كافر وعن الحسن أن رجلاً قال عند عبد الله بن مسعود إني مؤمن، فقيل لابن مسعود إن هذا يزعم أنه مؤمن، قال: فسلوه أفي الجنة هو أو في النار، فسألوه فقال: الله أعلم، فقال عبد الله فهلا وكلت الأولى كما وكلت الآخرة.
وعن علقمة أنه كان بينه وبين رجل من الخوارج كلام فقال له علقمة: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا
1 قول المعتزلة في هذه المسألة هو خلاف ما ذكره القاضي أبو يعلى عنهم هنا فقد ذكر القاضي عبد الجبار في كتابه شرح الأصول الخمسة أنهم لا يجيزون غير الاستثناء قال: "ومن ذلك الكلام في أحدنا هل يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؟ والأصل فيه أنه يجوز بل لا يجوز خلافه". شرح الأصول الخمسة (ص 803)، فهذا صريح في أن المعتزلة يوجبون الاستثناء فلو قال: خلافاً للجهمية لأصاب، وانظر هامش كتاب مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى (ص 445) .
بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 1.
فقال له الرجل: ومؤمن أنت؟ قال: أرجو.
ولأن المؤمن الحقيقي، والمؤمن عند الله- عز وجل هو الذي يكون من أهل الجنة ولا يكون كذلك إلا بعد أن يوافي بالإيمان باتفاق، والواحد منا لا يعلم أنه يوافي بالإيمان أم بالكفر وإذا لم يعلم ذلك لم يعلم إنه مؤمن حقاً"2.
فخلص لهم من هذا دليلان:
الأول: بعض الآثار الواردة عن السلف ظنوا أن فيها حجة لهم.
الثاني: قولهم إن الإيمان الحقيقي المنجي هو الإيمان الذي يوافي به العبد ربه وعلى هذا يجب أن يستثنى شكاً منه في المستقبل.
قلت: أما استدلالهم الأول ببعض الآثار الواردة عن السلف في ذلك فالجواب عنه إجمالاً قد تقدم حيث ذكرت فيما سبق بالنقل عن شيخ الإسلام أن هذا لم يثبت عن أحد من السلف فضلاً عن أن يكونوا مجمعين عليه.
ثم إن الآثار التي ذكرها القاضي محتجاً بها على وجوب الاستثناء في الإيمان باعتبار الموافاة لا حجة له فيها إذ المراد بالإيمان فيها الإيمان التام الكامل الذي وصف الله أهله بأنهم هم المؤمنون حقاً لكونهم استوفوا أعمال الإيمان بصدق وإخلاص وتنافسوا في مستحباته فإنه إذا
1 سورة الأحزاب، الآية:58.
2 المعتمد (ص190)، قلت: وللقاضي أبي يعلى في هذه المسألة قول آخر يوافق ما جاء عن السلف، انظره في كتاب الإيمان له (ص 428) .
قصد بالإيمان هذا القدر فالاستثناء في الإيمان واجب بعداً عن التزكية ومجانبة لادعاء الكمال.
قال عمر من قال أنا مؤمن- أي كامل الإيمان- فهو كافر. وليس هذا من الكفر الاعتقادي المخرج من الملة بل من الكفر العملي الذي ينقص الإيمان ولا يخرج من الملة كقوله- صلى الله عليه وسلم "اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت"1.
فيكون مراد عمر رضي الله عنه بقوله: من قال أنا مؤمن فهو كافر أي من ادعى لنفسه كمال الإيمان واستيفاء واجباته وأنه من الذين قال الله فيهم:
فمن ادعى لنفسه هذه الأمور وهي لازمة لمن قال إني مؤمن لأن اسم الإيمان يشملها فمن ادعى ذلك يكون كافراً كفراً عملياً غير مخرج من الملة، ككفر من ناح على الميت، أو طعن في الأنساب فهو كفر دون وهذا أمر معلوم متقرر عند أهل السنة والجماعة وله نظائر كثيرة يطلق فيها الكفر ويراد الكفر العملي.
والمقصود: أن أثر عمر الخطاب- رضي الله عنه يحمل على هذا إن صح إذ في صحته نظر3.
1 تقدم تخريجه (ص 354) .
2 سورة الأنفال، الآية: 2، 3.
3 فقد رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده كما في المطالب العالية لابن حجر: (3/98) ، وابن بطة في الإبانة (2/868) من طريق قتادة عن عمر بن الخطاب إلا أن قتادة- وهو ابن دعامة السدوسي- لم يدرك عمر. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (8/ 315) .
ولهذا أعله العراقي والبوصيري بالانقطاع.
ورواه ابن مردويه كما في تفسير ابن كثير (1/512) من طريق موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عمر رضي الله عنه. وموسى بن عبيدة ضعيف. انظر التقريب (2/278) ، والمغني في الضعفاء للذهبي (2/335) .
ورواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (5/975) قال أنا محمد بن أحمد البصير قال: أنا عثمان بن أحمد قال نا حنبل، قال: حدثني أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل قال: نا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال: قال عمر بن الخطاب فذكره.
ولم أعرف شيخ اللالكائي ولا شيخ شيخه وبقية الإسناد رجاله ثقات وقد ذكر شيخ الإسلام هذا الأثر بصيغة التمريض مما يشير إلى أنه لم يثبت عنده حيت قال بعد أن ذكره: "يروى عن عمر بن الخطاب من وجوه مرسلاً من حديث قتادة ونعيم بن أبي هند وغيرهما". انظر الفتاوى (7/ 417) .
ولهذا أيضاً قال ابن مسعود لمن قال: إني مؤمن: "قل: إني في الجنة"؛ لأن من أتى بالإيمان الكامل في الدنيا كان من أهل الجنة يوم القيامة بلا حساب ولا عذاب ولا يقطع أحد لنفسه بذلك بل يرجو ويخاف. فالمراد إذاً بالمؤمن في أثر ابن مسعود أي: المؤمن المطلق الموعود بالجنة بلا نار إذا مات على إيمانه ومن شهد لنفسه بذلك فقد زكاها بأعظم تزكية.
قال شيخ الإسلام بعد أن أشار إلى هذا المعنى: "ولهذا كان ابن مسعود وغيره من السلف يلزمون من شهد لنفسه بالإيمان أن يشهد لها بالجنة يعنون إذا مات على ذلك فإنه قد عرف أن الجنة لا يدخلها إلا من مات مؤمناً.
فإذا قال الإنسان: أنا مؤمن قطعاً وأنا مؤمن عند الله قيل له: فاقطع بأنك تدخل الجنة بلا عذاب إذا مت على هذا الحال فإن الله أخبر أن المؤمنين في الجنة
…
"1.
فلهذا المعنى كان ابن مسعود- رضي الله عنه ينكر على من يقطع بالإيمان ويأمر بالاستثناء فيه لا على المعنى الذي ظنه هؤلاء من أن ابن مسعود يأمر بالاستثناء نظراً للخاتمة.
يقول شيخ الإسلام: "وابن مسعود- رضي الله عنه لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمناً وأن الإنسان لا يعلم على ماذا يموت فإن ابن مسعود أجل قدراً عن هذا، وإنما أراد سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال؟ كأنه قال: سلوه أيكون من أهل الجنة على هذه الحال؟ فلما قال: الله اعلم قال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية يقول: هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفسك بفعل الواجبات وترك المحرمات فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد لنفسه أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك
…
"2.
وفد ذكر في بعض الروايات أن ابن مسعود- رضي الله عنه رجع عن قوله وهذا بسبب سؤال أورده عليه بعضهم وهو: "أنشدك بالله أتعلم أن الناس في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أصناف: مؤمن السريرة مؤمن العلانية، وكافر السريرة كافر العلانية، ومؤمن العلانية كافر السريرة؟ "3.
1 الفتاوى (7/ 416) .
2 الفتاوى (7/ 417، 418) .
3 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 14) وفي الإيمان (ص 23) والطبري في تهذيب الآثار (2/183) عن أبي قلابة قال حدثني الرسول الذي سأل عبد الله بن مسعود: فذكره. وهذا إسناد ضعيف لجهالة الرجل الذي سأل ابن مسعود، وبهذا أعله الألباني.
وفي لفظ أنه قال له: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر فمن أيهم كنت؟ قال: من المؤمنين1.
وهذا الذي ذكر هنا غير ثابت عن ابن مسعود- رضي الله عنه وقد أنكره غير واحد من أهل العلم، قال أبو عبيد: وقد رأيت يحيى بن سعيد ينكره ويطعن في إسناده لأن أصحاب عبد الله على خلافه2.
وروى الخلال في السنة عن الحسن بن محمد بن الحارث أنه سأل الإمام أحمد هل يصح قول ابن عميرة أن ابن مسعود رجع عن الاستثناء؟ فقال لا يصح، وأنكر أحمد قولي رجع عن الاستثناء إنكاراً شديداً، وقال: كذلك أصحابه يقولون بالاستثناء3.
ثم على فرض ثبوته فقوله إنه من المؤمنين محمول على أصل الإيمان ولهذا يقول أبو عبيد: "إنما نراه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين، فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده، فكيف يكون ذلك والله يقول:{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 4
…
"5.
وبسبب هذا السؤال ظن كثير من المرجئة أن ابن مسعود- رضي الله عنه رجع عن الاستثناء عندما نظر إلى الحال وأنه كان يقول بالاستثناء
1 رواه أبو عبيد في الإيمان (ص 69) .
2 الإيمان (ص 69) .
3 السنة (رقم 1062) ونقله شيخ الإسلام، انظر الفتاوى (7/ 417) .
4 سورة النجم، الآية:32.
5 الإيمان (ص 69) .
عندما كان ينظر إلى الخاتمة والمآل.
- قال شيخ الإسلام: "ولهذا السؤال صار طائفة كثيرة يقولون: المؤمن هو من سبق في علم الله أنه يختم له بالإيمان، والكافر من سبق في علم الله أنه كافر وأنه لا اعتبار بما كان قبل ذلك، وعلى هذا يجعلون الاستثناء، وهذا أحد قولي الناس من أصحاب أحمد وغيرهم وهو قول أبي الحسن وأصحابه"1.
أي: يجعلون الاستثناء بالنظر إلى الموافاة وقد سبق التنبيه إلى أن ابن مسعود أجل من أن يكون ذلك هو مراده ومقصوده بالاستثناء.
وأما أثر علقمة وأنه كان بينه وبين رجل من الخوارج كلام وأن الخارجي قال له: أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو. فليس في هذا ما يدل على أنه يرى وجوب الاستثناء، بل وليس فيه ما يدل على أنه يرى أن الاستثناء إنما يكون بحسب الموافاة. بل مقصوده بهذا الاستثناء النظر إلى الأعمال وتكميلها والبعد عن تزكية النفس كما هي طريقة السلف في هذه المسألة. وأما استدلالهم الثاني لمسألة الموافاة: بأن الإيمان الحقيقي المنجي هو الإيمان الذي يوافي به العبد ربه، وبناء على هذا يكون الاستثناء لأجل الموافاة لأن كل أحد يشك في مستقبله هل يثبت على الإيمان أولاً؟ فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أن هذا ليس هو مراد السلف بالاستثناء وليس مقصودهم ولا كان أحد منهم يستثنى في إيمانه لهذا السبب، لكن لما
1 الفتاوى (7/ 417) .
اشتهر عند هؤلاء أن السلف يستثنون في الإيمان ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه
وهو ما يوافي به العبد ربه ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا وهذا غلط عليهم.
الثاني: أن من لوازم هذا القول أن لا يقطع بقبول الله لتوبة التائبين وهم يلتزمونه، قال شيخ الإسلام: "ولهذا صار الذين لا يرون الاستثناء لأجل الحاضر بل للموافاة لا يقطعون بأن الله يقبل توبة التائب كما لا يقطعون بأن الله تعالى يعاقب مذنباً فإنهم لو قطعوا بقبول توبته لزمهم أن يقطعوا له بالجنة، وهم لا يقطعون لأحد من أهل القبلة لا بجنة ولا نار إلا من قطع له النص.
وإذا قيل الجنة هي لمن أتى بالتوبة النصوح من جميع السيئات ولو مات على هذه التوبة لم يقطع له بالجنة وهم لا يستثنون في الأحوال بل يجزمون بأن المؤمن تام الإيمان ولكن عندهم الإيمان عند الله هو ما يوافي به فمن قطعوا له بأنه مات مؤمناً لا ذنب له قطعوا له بالجنة، فلهذا لا يقطعون بقبول التوبة لئلا يلزمهم أن يقطعوا بالجنة وأما أئمة السلف فإنما لم يقطعوا بالجنة لأنهم لا يقطعون بأنه فعل المأمور وترك المحظور، ولا أنه أتى بالتوبة النصوح وإلا فهم يقطعون بأن من تاب توبة نصوحاً قبل الله توبته"1.
الثالث: أن من لوازم قولهم هذا أن يستثني في الكفر أيضاً وليس في الإيمان فقط، فيقول: لست كافراً إن شاء الله؟ لأن كل أحد لا يعلم من نفسه هل يثبت على الإيمان إلى أن
1 الفتاوى (7/ 418) .
يموت أولا، فإنَّ مما ذكروه مطرد فيهما، ولهذا فإن بعض محققيهم التزم هذا اللازم وقال به ولكن جماهير الأئمة على أنه لا يستثنى في الكفر والاستثناء فيه بدعة لم يعرف عن أحد من السلف1.
الرابع: أن لهذه المسألة تعلقاً بمسألة الرضا والسخط هل هو قديم أو محدث بمعنى أن المؤمن الذي علم الله أنه يموت كافراً وبالعكس هل يتعلق رضا الله وسخطه ومحبته وبغضه بما هو عليه أو بما يوافي به؟
فهم يقولون: إن محبة الله ورضاه وسخطه وبغضه قديم ثم هل ذلك هو الإراده أم صفات أخرى؟ لهم في ذلك قولان.
ويقولون: والله يحب في أزله من كان كافراً إذا علم أنه يموت مؤمناً، فالصحابة ما زالوا محبوبين لله وإن كانوا قد عبدوا الأصنام مدة من الدهر، وإبليس ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد، وهذا المعنى تابع لعلم الله، فمن علم أنه يموت مؤمناً لم يزل ولياً لله محبوباً له لأنه لم يزل مريداً لإدخاله الجنة، ومن علم أنه يموت كافراً لم يزل عدواً لله لأنه لم يزل مريداً لإدخاله النار2.
فالكفر الذي عند الأول وجوده كعدمه فلم يكن هذا كافرا عندهم أصلاً، والإيمان الذي كان عند الثاني وجوده كعدمه فلم يكن عندهم مؤمناً أصلاً لأن الإيمان هو ما يوافي به العبد ربه.
أما جمهور أهل العلم فيقولون: الولاية والعداوة وإن تضمنت محبة الله ورضاه وبغضه وسخطه فهو سبحانه يرضى عن الإنسان ويحبه
1 انظر الفتاوى (7/431) .
2 انظر الفتاوى (7/430 و 667) .
بعد أن يؤمن ويعمل صالحاً، وإنما يسخط عليه ويغضب بعد أن يكفر كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} 1 فأخبر أن الأعمال أسخطته وكذلك قال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} 2 قال المفسرون: أغضبونا وكذلك قال تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} 3 وغير ذلك من النصوص الدالة على أن غضب الله وسخطه ورضا وحبه يكون بعد حصول ما يقتضي ذلك من العبد، فالله يبغض العبد إذا حصل منه الكفر ويحبه إذا حصل منه الإيمان. وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية أدلة هذه المسألة بسطاً وافياً في كتاب الإيمان وذكر أدلتها من الكتاب والسنة4.
الخامس: أن هؤلاء لما عللوا الاستثناء في الإيمان بتلك العلة طرد أقوام تلك العلة في الأشياء التي لا يجوز الاستثناء فيها
بإجماع المسلمين بناء على أن الأشياء الموجودة الآن إذا كانت في علم الله تتبدل أحوالها فيستثنى في صفاتها الموجودة في الحال ويقال: هذا صغير إن شاء الله لأن الله قد يجعله كبيراً، ويقال: هذا مجنون إن شاء الله لأن الله قد يجعله عاقلاً ويقال للمرتد هذا كافر إن شاء الله لإمكان أن يتوب وهؤلاء الذين استثنوا في الإيمان بناء على هذا المأخذ ظنوا هذا قول السلف5.
1 سورة محمد، الآية:28.
2 سورة الزخرف، الآية:55.
3 سورة الزمر، الآية:7.
4 الفتاوى (7/ 442 وما بعدها) .
5 انظر الفتاوى (7/ 434) .
والمقصود أن بدعة هؤلاء ومأخذهم في الاستثناء جر إلى بدع أخرى عديدة.
فإن بدعة هؤلاء كانت وراء نشوء بدعة المرازقة الذين ينتسبون إلى عثمان بن مرزوق1 فقد كانوا يستثنون في الإيمان اتباعاً للسلف واستثنوا أيضاً في الأعمال الصالحة كقول الرجل صليت إن شاء الله ونحو ذلك بمعنى القبول لما في ذلك من الآثار عن السلف ثم صار كثير من هؤلاء بآخره يستثنون في كل شيء، فيقول هذا ثوب إن شاء الله، وهذا حبل إن شاء الله فإذا قيل لأحدهم: هذا لا شك فيه قال: نعم لا شك فيه، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره فيريدون بقولهم إن شاء الله جواز تغييره في المستقبل وإن كان في الحال لا شك فيه كأن الحقيقية عندهم التي لا يستثنى فيها ما لم تتبدل كما يقوله أولئك في الإيمان، إن الإيمان ما علم الله أنه لا يتبدل حتى يموت صاحبه عليه2 فبدعة أولئك جرت إلى بدعة هؤلاء، والبدع يتوالد بعضها من بعض.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله عن بدعة المرازقة هذه فأجاب بقوله: "إن جماعات ينتسبون إلى الشيخ عثمان بن مرزوق ويقولون أشياء مخالفة لما كان عليه. وهو منتسب إلى مذهب أحمد وهم ينتسبون إلى مذهب الشافعي ويقولون أقوالاً مخالفة لمذهب الشافعي وأحمد بل ولسائر الأئمة، وشيخهم هذا من شيوخ العلم والدين له أسوة أمثاله وإذا قال قولاً علم أن قول الشافعي وأحمد يخالفه وجب تقديم قولهما على
1 هو أبو عمرو عثمان بن مرزوق بن حميد بن سلام القرشي الحنبلي انتسب إليه جماعات: قالوا بأقوال مخالفة لما كان عليه توفي بمصر سنة 564 هـ. انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (1/306) .
2 انظر الفتاوى (7/ 432، 433) .
قوله مع دلالة الكتاب والسنة على قول الأئمة فكيف إذ كان القول مخالفاً لقوله ولقول الأئمة والكتاب والسنة.
وذلك مثل قولهم: ولا نقول قطعاً، ونقول نشهد أن محمداً رسول الله ولا نقطع، ونقول: إن السماء فوقنا ولا نقطع ويروون أثراً عن علي وبعضهم يرفعه أنه قال: "لا تقل قطعاً"وهذا من الكذب المفترى باتفاق أهل العلم، ولم يكن شيخهم يقول هذا بل هذه بدعة أحدثها بعض أصحابه بعد موته.. إلى أن قال: والواجب موافقة جماعة المسلمين فإن قول القائل: قطعاً بذلك مثل قوله أشهد بذلك وأجزم بذلك وأعلم ذلك فإذا قال: أشهد ولا أقطع كان جاهلاً والجاهل عليه أن يرجع ولا يصر على جهله ولا يخالف ما عليه علماء المسلمين فإنه يكون بذلك مبتدعاً جاهلاً ضالاً
…
"1.
ومما قد يستدل به هؤلاء على بدعتهم المنكرة هذه ما روي مرفوعاً من حديث أبي هريرة: "إن من تمام إيمان العبد أن يستثنى في كل حديثه".
قال الذهبي: "هذا الحديث باطل قد يحتج به المرازقة الذين لو قيل لأحدهم أنت مسيلمة الكذاب لقال إن شاء الله"2.
فيظن أن نفيه لذلك نفي لقدرة الله وهذا جهل عظيم منه لأنه سئل عن حاله ولم يسأل عن قدرة الله على تغيير حاله فسوء الفهم وقلة العلم هو سبب انحراف هؤلاء.
والمقصود: أن إيجاب الاستثناء وربطه بالموفاة ليس من نهج
1 الفتاوى (7/ 680- 682) .
2 الميزان (4/ 134) ، ونقله السيوطي في اللآليء (ص 42) .
السلف ولا على طريقتهم، والواجب موافقتهم والسير على نهجهم، فهم أسعد بالدليل وأولى بالحق والسبيل، والله أعلم.