المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي - زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: في قول أهل السنة والجماعة إن الإيمان يزيد وينقص

- ‌الفصل الأول: أدلتهم من الكتاب والسنة على زيادة الإيمان ونقصانه ونقل بعض أقوالهم في ذلك

- ‌المبحث الأول: أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب

- ‌المبحث الثانيأدلة زيادة الإيمان ونقصانه من السنة

- ‌المبحث الثالث: أقوال السلف في زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الثانيأوجه زيادة الإيمان ونقصانه

-

- ‌الفصل الثالثأسباب زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الأولأسباب زيادة الإيمان

- ‌المبحث الثانيأسباب نقص الإيمان

- ‌الفصل الرابعفي الإسلام هل يزيد وينقص

-

- ‌الباب الثاني: في الأقوال المخالفة لقول أهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان

- ‌الفصل الثانيقول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه

-

- ‌الفصل الثالث: قول من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص

- ‌المبحث الأولذكر القائلين بهذا القول

- ‌المبحث الثاني: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها

- ‌المبحث الثالث:في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم

-

- ‌الفصل الرابع: في سبب الخلاف في هذه المسألة ونشأته هل هو حقيقي أو لفظي

- ‌المبحث الأول: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة

- ‌المبحث الثاني: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أو لا

- ‌المبحث الثالث: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

-

- ‌الباب الثالث: حكم الاستثناء في الإيمان

-

- ‌الفصل الأول: بيان مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الاستثناء في الإيمان

- ‌المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه

- ‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

- ‌المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ" أنت مؤمن

- ‌المبحث الرابع: حكم الاستثناء في الإسلام

- ‌الفصل الثاني: فيمن قال بوجوب الاستثناء

- ‌الفصل الثالث: فيمن قال بعدم جواز الاستثناء

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثالث: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

‌المبحث الثالث: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

؟

كأن معالم هذا الموضوع والقول الفصل فيه بان واتضح في عطف المبحث السابق، لكن ذلك لا يمنع من أن نفرده هنا ليأخذ نصيبه من البحث والتجلية، وبخاصه أنني قد وقفت على كم هائل من أقوال للمتكلمين يزعمون فيها أن الخلاف في هذه المسألة لفظي وليس حقيقياً، وصوري وليس جوهرياً"1.

وهذا القول منهم مبني على وهمهم السابق الذي تقدم التنبيه عليه وعلى غلطه. ولا أطيل بالنقل عن كل من وقفت على أنه قال بذلك، وإنما اكتفي بالإشارة إلى بعضهم فقط ولاسيما وأن دعوى الجميع واحدة وشبهتهم متكررة وهي: إعادتهم الخلاف في المسألة إلى الخلاف في تعريف الإيمان2.

1 انظر المسامرة شرح المسايرة (ص 373) ، والنبراس شرح العقائد (ص 405) ، واتحاف السادة المتقين (2/ 261) ، وحاشية الكستلي على النسفية (ص 158) ، وجوهرة التوحيد (ص 12) ، وفيض الباري (1/ 59، 63، 64) وتحفة القاريء (ص 48، 56) ، وقواعد في علوم الحديث للتهانوي (ص 235) ، والإيمان لمحمد نعيم ياسين (ص 151) ، وغيرها.

2 مع أن الخلاف في تعريف الإيمان نفسه خلاف حقيقي جوهري كما سيأتي التنبيه عليه قريباً.

ص: 441

قال الكستلي في حاشيته على النسفية: "ولهذا ذهب الإمام الرازي وكثير من المتكلمين إلى أن هذا النزاع لفظي، راجع إلى تفسير الإيمان وهو التحقيق الذي يجب أن يعول عليه"1.

وقال الفرهاري في النبراس شرح العقائد: "وملخص كلامهم أن النزاع لفظي لأنه فرع تفسير الإيمان، فإن قلنا الإيمان هو التصديق فلا يقبل التفاوت إنما هو في الظن، وإن قلنا الأعمال داخلة فيه فهو يقبله"2.

وقال كمال بن أبي شريف: "فلا خلاف في المعنى بين القائلين بقبوله الزيادة والنقصان والنافين لذلك"3.

وقال الزبيدي في الإتحاف: "وجدت بخط بعض المصلحين ما نصه: قال الإمام البحث في زيادة الإيمان ونقصانه لفظي لأنه إن كان المراد بالإيمان التصديق فلا يقبلهما، وإن كان الطاعات فيقبلهما، فالطاعات مكملة التصديق، فكلما قام من الدليل على أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان4 كان مصروفاً إلى أصل الإيمان الذي هو التصديق وكل ما دل على كون الإيمان يقبل الزيادة والنقصان فهو مصروف إلى الكامل وهو المقرون بالعمل"5.

1 حاشية الكستلي على النسفية (ص 158) .

2 النبراس (ص 405) .

3 المسامرة شرح المسايرة (ص 373) .

4 لم يقم أي دليل البتة على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص لا شرعاً ولا عقلاً ولا عرفاً، خلا تلك الأحاديث الموضوعة، ولعلها المقصودة هنا!!

5 إتحاف السادة المتقين (2/ 261) .

ص: 442

فهكذا يزعم جميع هؤلاء وغيرهم أن الخلاف في المسألة لفظي، وإنني لأتساءل كيف يكون لفظياً وهو يناقض القرآن والسنة، ويخالفهما تماماً، وهو على الضد تماماً لما جاء فيهما، حتى أوقع أهله في مصادمات صريحة ومعارضات واضحة لنصوص الوحي المصرحة بزيادة الإيمان ونقصانه، مما أداهم إلى التكلف في تأويلها وصرفها عن ظاهرها، وعدم التسليم لها، كما سبق تفصيله وبيان ما ترتب عليه من فساد وشر في مبحث مستقل، فلو كان كما يقولون إنه لفظي فما الداعي إلى تلك التأويلات المتكلفة والتعسفات الواضحة في حمل النصوص على غير ظواهرها، أفلا أراحوا المسلمين من ذاك الغثاء إن كان الخلاف لفظياً؟

بل كيف يكون لفظياً والقولان متضادان تماماً ومتغايران، أحدهما ينفي، والآخر يثبت في شيء واحد فهل من جمع بين ضدين أو تأليف بين نقيضين، فلو قال أحد- على سبيل المثال- عن شيء هو موجود، وقال غيره هو غير موجود، هل يمكن أن يقال إن خلافهما لفظي، إلا بتفلسفات متعسفة أو منطقيات متكلفة، ما أنزل الله بها من سلطان.

وكيف يكون الخلاف لفظياً وقولهم هذا يؤدي إلى إضعاف الإيمان، وعدم الاكتراث بأموره، والتهوين من شأن زيادته وقوته، فإن العلماء إذا قالوا للناس إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأهله متساوون فيه، وإيمان جبريل والأنبياء والإيمان أفجر الناس واحد، ولا تفاضل بين الناس في الإيمان فهل ينتظر بعد ذلك من الناس الإقبال على أمور الإيمان ومتطلباته علماً وعملاً، لا إخال ذلك يحصل البتة.

ولهذا يقول المعلمي رحمه الله تعالى في رده على الكوثرى: "وهذا القول- أي أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال ليست من

ص: 443

الإيمان- قد كان أبو حنيفة يقوله، لكن يقول الكوثري إنه مع ذلك مخالف للمرجئة في أصل قولهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان عمل، ولا غرض في النظر في هذا وتتبع الروايات.

بل أقول: تلك الموافقة التي يعترف بها تكفي لتبرير إنكار الأئمة، أما من لم يعرف منهم أن أبا حنيفة وإن وافق المرجئة في ذاك القول فهو مخالف لهم في أصل قولهم، فعذره في إنكاره واضح، وأما من عرف فيكفي لإنكار القول أنه مخالف للأدلة كما يأتي، وأنه قد يسمعه من يقتدي بأبي حنيفة ولا يعلم قوله أن أهل المعاصي يعذبون فيغتر بذلك، وقد يبلغ بعضهم قولاه معاً فلا يلتفتون إلى الثاني بل يقولون: رأس الأمر الإيمان، فإذا كان إيمان الفجار مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة ففيم العذاب، وقد دلت النصوص على أن المؤمنين لا يعذبون؟! ويحملهم ذلك على التهاون بالعمل، يقول أحدهم لم أعذب نفسي في الدنيا بما لا يزيد في إيماني شيئاً، حسبي أن إيماني مساو لإيمان جبريل ومحمد عليهما السلام! ويحملهم ذلك على احتقار الملائكة والأنبياء والصديقين، قائلين: أعظم ما عندهم الإيمان، وأفجر الفجار مساو لهم فيه!

وإذا كان أبو حنيفة كما يقول الكوثري يرى أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فقد يبلغ هذا بعض الناس فيقول: إذا كنت لا أصير مؤمناً إلا بأن يكون يقيني مساوياً ليقين جبريل ومحمد عليهما السلام فهذا ما لا يكون، ففيم إذا أعذب نفسني بالأعمال فأجمع عليها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟

وبعد فيكفي مبرراً لإنكار ذاك القول مخالفته للنصوص

ص: 444

الشرعية"1

قلت: وليتأمل كلامه رحمه الله فهو يدل على علم جم، وفهم ثاقب، ومعالجات حكيمة، أسكن الله قائله فراديس جناته.

ولهذا صرح بعض محققي هؤلاء بأن الخلاف في المسألة جوهري وليس لفظياً، كما سبق النقل عن بعضهم في ذلك، مثل النووي والألوسي وغيرهما، حتى إن الألوسي رحمه الله قال:"والحق أن الخلاف حقيقي، وأنا التصديق يقبل التفاوت.. وما علي إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه، للأدلة التي لا تكاد تحصى، فالحق أحق بالإتباع، والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام"2.

ثم كيف يكون الخلاف لفظياً رقد كفر بعض هؤلاء من قال إن الإيمان يزيد وينقص وبدعوه، وحرموا تزويجه، وتجرأوا بذلك على صدر هذه الأمة من صحابة وتابعين الخيار العدول، فالقول بزيادة الإيمان ونقصانه قولهم، والكتاب والسنة هو مستندهم فيه، فهل يجرؤ على تبديع هؤلاء فضلاً عن تكفيرهم إلا من سفه نفسه وحكم بغيها؟!

ولئن عد الخلاف مع بعض هؤلاء لفظياً- تجوزاً- لخفة غلطهم عن غيرهم ممن زاد في الغلو وأوغل في الضلال، فإنه لا يعد كذلك بأي حال من الأحوال ولا أي وجه من الوجوه مع أولئك الذين أوغلوا في الضلال فكفروا من قال إن الإيمان يزيد وينقص وبدعوه، وكذبوا في ذلك أحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقحموا أموراً عظاماً، ورزاياً جساماً،

1 التنكيل (2/ 365) .

2 روح المعاني (9/ 167) .

ص: 445

وهم كثر.

فإن البون بين هؤلاء وبين أهل السنة شاسع، والهوة عميقة، ولا مهاودة في الأمر، إلا أن يخوضوا في حديث غيره، ويعيدوا الأمر إلى نصابه.

وتأكيداً لما أقرره هنا من أن الخلاف في المسألة جوهري حقيقي وليس لفظياً صورياً، أذكر نقلين مهمين عن عالمين جليلين، من فحول علماء عصرنا، هما سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، حفظهما الله وأمد في عمرهما على طاعته.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله معلقاً على قول الطحاوي: "والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان"

"هذا التعريف فيه نظر وقصور، والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وقد ذكر الشارح ابن أبي العز جملة منها فراجعها إن شئت، وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة، وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظياً، بل هو لفظي ومعنوى، ويترتب عليه أحكام كثيرة، يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة والله المستعان"1.

وقال الشيخ الألباني حفظه الله معلقاً على الموضع نفسه: "قلت: هذا مذهب الحنفية والماتريدية، خلافاً للسلف وجماهير الأئمة كمالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وغيرهم، فإن هؤلاء زادوا على الإقرار والتصديق: العمل بالأركان وليس الخلاف بين المذهبين اختلافاً صورياً

1 انظر تعليقاته على الطحاوية (1/ 265) من مجموع فتاواه ومؤلفاته.

ص: 446

كما ذهب إليه الشارح رحمه الله تعالى، بحجة أنهم جميعا اتفقوا على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان، وأنه في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، فإن هذا الاتفاق وإن كان صحيحاً، فإن الحنفية لو كانوا غير مخالفين للجماهير مخالفة حقيقية في إنكارهم أن العمل من الإيمان، لاتفقوا معهم على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن زيادته بالطاعة، ونقصه بالمعصية، مع تضافر أدلة الكتاب والسنة والآثار السلفية على ذلك، وقد ذكر الشارح طائفة طيبة منها، ولكن الحنفية أصروا على القول بخلاف تلك الأدلة الصريحة في الزيادة والنقصان، وتكلفوا في تأويلها تكلفاً ظاهراً، بل باطلاً، ذكر الشارح نموذجاً منها.

بل حكى عن أبي المعين النفسي أنه طعن في صحة حديث "الإيمان بضع وسبعون شعبة".. مع احتجاج كل أئمة الحديث به ومنهم البخاري ومسلم في "صحيحيهما"وهو مخرج في "الصحيحة""1769"وما ذلك إلا لأنه صريح في مخالفة مذهبهم!

ثم كيف يصح أن يكون الخلاف المذكور صورياً، وهم يجيزون لأفجر واحد منهم أن يقول: إيماني كإيمان أبي بكر الصديق! بل كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبريل وميكائيل عليهم الصلاة والسلام! كيف وهم بناءاً على مذهبهم هذا لا يجيزون لأحدهم- مهما كان فاسقاً فاجراً- أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، بل يقول أنا مؤمن حقاً والله عز وجل يقول:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} 1. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ

1 سورة الأنفال، الآية:2.

ص: 447

قِيلاً} 1 وبناءًا على ذلك كله اشتطوا في تعصبهم فذكروا أن من استثنى في إيمانه فقد كفر! وفرعوا عليه أنه لا يجوز للحنفي أن يتزوج بالمرأة الشافعية! وتسامح بعضهم- زعموا- فأجاز ذلك دون العكس، وعلل ذلك بقوله: تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب! وأعرف شخصاً من شيوخ الحنفية خطب ابنته رجل من شيوخ الشافعية فأبي قائلاً

لولا أنك شافعي! فهل بعد هذا مجال للشك في أن الخلاف حقيقي؟ "2.

وبهذا التحقيق الجيد، يعلم أن الخلاف في المسألة حقيقي جوهري، وبخاصة أنه قد أدى إلى ما أدى إليه ما انحراف ظاهر وضلال بين، وصار ذريعة إلى باع أهل الكلام وإلى ظهور الفسق والغلط في جوانب عديدة3.

قال شيخ الإسلام "فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله ولاسيما وقد صار ذلك الخلاف ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الأرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق"4.

1 سورة النساء، الآية 22.

2 العقيدة الطحاوية شرح وتعليق الألباني (ص 42، 43) .

3 ولهذا كان ابن أبي العز حذراً في كلامه عندما أشار إلى أن الخلاف لفظي في هذه المسألة ما لم يؤدي إلى مثل هذه الأمور، حيث قال:"وإذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً فلا محذور فيه سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك، وأن يصير ذلك ذريعة إلى أهل الكلام المذموم من بدع أهل الإرجاء ونحوهم " انظر شرح العقيدة الطحاوية (2/470) .

قلت: كل ذلك حصل وأكثر، فهل لا يزال الخلاف لفظياً؟

4 الفتاوى (7/294) .

ص: 448

ولهذا فإن سلفنا الصالح، اشتد نكيرهم على هذا القول من أول حدوثه، رغم خفته عما هو عليه الآن، فلما قال به حماد بن أبي سليمان وهو أول من قال به، ثم تبعه عليه من تبعه من أهل الكوفة وغيرهم، أنكر عليهم السلف أشد الإنكار وأغلظوا القول فيهم، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى حيث قال:"ثم إن السلف والأئمة اشتد إنكارهم على هؤلاء وتبديعهم وتغليظ القول فيهم، ولم أعلم أحداً منهم نطق بتكفيرهم، بل هم متفقون على أنهم لا يكفرون في ذلك وقد نص أحمد أو غيره من الأئمة على عدم تكفير هؤلاء المرجئة، ومن نقل عن أحمد أو غيره من الأئمة تكفيراً لهؤلاء، أو جعل هؤلاء من أهل البدع المتنازع في تكفيرهم فقد غلط غلطاً عظيماً والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة وأمثال هؤلاء"1.

ومرادي من هذا النقل التدليل على أن السلف الصالح اشتد نكيرهم وأغلظوا القول فيمن قال بالإرجاء، ولهذا سمى أبو عبيد القاسم بن سلام من قال بأن الإيمان يزيد وبنقص -وعدد الذين ذكرهم جاوز المائة والثلاثين رجلاً- ومرادهم بذلك إظهار المخالفة لمن قال بعدم الزيادة والنقصان "ذكر من الكوفيين من ذلك أكثر مما ذكر من غيرهم؛ لأن الإرجاء في أهل الكوفة كان أولاً فيهم أكثر، وكان أول من قاله حماد بن أبي سليمان، فاحتاج علماؤها أن يظهروا انكار ذلك، فكثر منهم من قال ذلك"2.

ومثل هذا ما رواه اللالكائي بإسناده عن يعقوب بن سفيان أنه قال:

1 الفتاوى (7/ 507) .

2 الفتاوى (7/311) .

ص: 449

"الإيمان عند أهل السنة: الإخلاص لله بالقلوب والألسنة والجوارح، وهو قول وعمل يزيد وينقص، على ذلك وجدنا كل من أدركنا من عصرنا بمكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة".

ثم سمى اثنين وثلاثين رجلاً منهم ثم قال: "كلهم بقولون: الإيمان القول والعمل، ويطعنون على المرجئة وينكرون قولهم"1.

فإذا كان انكار السلف لهذا الأمر بهذه الشدة والكثرة، فهل يقال بعد ذلك إن هذا القول من بدع الألفاظ ومن المخالفات اللفظية فحسب، مع العلم أن النزاع في الأمور اللفظية ليس من دأب المحصلين فضلاً عن هؤلاء الجهابذة والأئمة من السلف الأولين.

وهل يكون هذا القول من بدع الألفاظ، رغم أن السلف انكروه بتلك الشدة وامتلأت كتب السنة بالنقول الكثيرة عنهم وهم يصرحون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، حتى إنه ليحصى عدد من قال ذلك بالألوف، مظهرين بذلك النكير على من قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. فهل كل ذلك الإنكار، وكل تلك الشدة لأمر يعد من بدع

الألفاظ.

وعليه فإني أقطع بلا تردد بأن هذا القول بدعة محدثة، والبدع كلها ضلال، وأقطع بأن من خالف في ذلك فقد خالف في أمر جوهري أساسي، ينكر عليه، ولا يتهاود معه، حتى يعود إلى الحق والصواب، وهذا من النصيحة له، حتى تبقى رابطة الأخوة الإيمانية وعلائق المحبة الصادقة، المبنية على طاعة الله تعالى، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.

وبهذه المناسبة أقول: إني لأعجب كثيراً من أناس في زماننا هذا

1 انظر شرح الاعتقاد للالكائي (5/ 963، 964) .

ص: 450

تصدوا للدعوة إلى الله، وبذلوا جهودهم وأوقاتهم لها، يقفون من أمور العقيدة ومسائلها مواقف مخذولة، فيميعون مسائلها ويهونون من شأن المخالفة فيها، ويعدون المخالفين لأهل السنة في أمور من صلب الاعتقاد وجوهره، مخالفين في أمور شكلية لفظية، طالما أنهم يشهدون بكلمة التوحيد ويقرون بالرسالة في الجملة بغض النظر عن التفاصيل.

وليس هذا فحسب بل يقررون في ذلك قواعد كلية يبنون عليها مناهجهم ويحتكمون إليها في أمورهم، وأيم الله إنها لقواعد جائرة ما أنزل الله بها من سلطان، ومن هذه القواعد تلك القاعدة المشهورة، والتي تبنتها جماعة كبيرة متصدية للدعوة في عصرنا الحاضر، تلكم القاعدة هي قولهم:

"نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ".

والحق يقال: إن هذه القاعدة تحمل في طياتها خطراً عظيماً، وضرراً جسيماً ينبغي الحذر والتحذير منه، حيث أنها تعني السكوت عن أهل البدع والأهواء، وعدم مصارمتهم ومعاداتهم وبغضهم، بل تعني أنهم يحبون ويوالون ويجالسون ويعاملون معاملة أهل السنة سواء، فمواضع الخلاف بيننا وبينهم نعذرهم فيها على حد تعبير هذه القاعدة، ومن ثم لا نعلن النكير عليهم ولا ننبه المسلمين على خطرهم وضررهم.

وعندئذ لا تسأل عن نشاط أهل البدع في نشر بدعهم وترويج باطلهم، إذ الطريق أمامهم سالكة، فليس هناك من ينكر أو يعكر عليهم نشاطهم، فينشرون باطلهم ويسعون في الأرض بالفساد، بكل راحة نفس وطمأنينة قلب، ونفوس أهل هذه القاعدة منشرحة لهم فيقابلون هؤلاء بطلاقة الوجه، ورحابة الصدر، وحسن المعاملة، ثم يزعمون أن فعلهم هذا من الحكمة في الدعوة إلى الله!!

ص: 451

"ومعاذ الله أن تكون الدعوة على سنن الإسلام مظلة يدخل تحتها أي من أهل البدع والأهواء، فيغض النظر عن بدعهم وأهوائهم على حساب الدعوة"1.

والحق أن هؤلاء مكر الشيطان بهم بخفاء، ودبر أمرهم بدهاء، فأوقعهم في الإساءة من حيث أرادوا الإحسان، قال ابن القيم رحمه الله بعد أن بين أن هذا مدخل من مداخل الشيطان على أهل السنة والإيمان:

"

ومن ههنا وصى أطباء القلوب بالإعراض عن أهل البدع، وأن لا يسلم عليهم، ولا يريهم طلاقة وجهه، ولا يلقاهم إلا بالعبوس والإعراض"2.

ثم إنه نتيجة لحكمة هؤلاء المزعومة، أطلَّ أهل الأهواء برؤوسهم، وشمخوا بأنوفهم، وصاروا يمكرون بالسنة وأهلها علناً وجهراً، من بعد ما كانوا يكيدون لها في السر والخفاء، مع الخوف والوجل، فكل هذا وغيره إنما حصل بسبب مثل هذه المواقف المخذولة، والآراء المهزوزة والله وحده المستعان.

1 حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية للشيخ بكر أبو زيد (ص 153) .

2 إغاثة اللهفان (1/140) .

ص: 452