المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثانيأسباب نقص الإيمان - زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: في قول أهل السنة والجماعة إن الإيمان يزيد وينقص

- ‌الفصل الأول: أدلتهم من الكتاب والسنة على زيادة الإيمان ونقصانه ونقل بعض أقوالهم في ذلك

- ‌المبحث الأول: أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب

- ‌المبحث الثانيأدلة زيادة الإيمان ونقصانه من السنة

- ‌المبحث الثالث: أقوال السلف في زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الثانيأوجه زيادة الإيمان ونقصانه

-

- ‌الفصل الثالثأسباب زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الأولأسباب زيادة الإيمان

- ‌المبحث الثانيأسباب نقص الإيمان

- ‌الفصل الرابعفي الإسلام هل يزيد وينقص

-

- ‌الباب الثاني: في الأقوال المخالفة لقول أهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان

- ‌الفصل الثانيقول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه

-

- ‌الفصل الثالث: قول من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص

- ‌المبحث الأولذكر القائلين بهذا القول

- ‌المبحث الثاني: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها

- ‌المبحث الثالث:في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم

-

- ‌الفصل الرابع: في سبب الخلاف في هذه المسألة ونشأته هل هو حقيقي أو لفظي

- ‌المبحث الأول: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة

- ‌المبحث الثاني: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أو لا

- ‌المبحث الثالث: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

-

- ‌الباب الثالث: حكم الاستثناء في الإيمان

-

- ‌الفصل الأول: بيان مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الاستثناء في الإيمان

- ‌المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه

- ‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

- ‌المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ" أنت مؤمن

- ‌المبحث الرابع: حكم الاستثناء في الإسلام

- ‌الفصل الثاني: فيمن قال بوجوب الاستثناء

- ‌الفصل الثالث: فيمن قال بعدم جواز الاستثناء

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثانيأسباب نقص الإيمان

‌المبحث الثاني

أسباب نقص الإيمان

كان الحديث في المبحث السابق عن أسباب زيادة الإيمان، أما الحديث هنا فسيكون عن أسباب نقصه، إذ إن الإيمان كما أن له أسباباً تزيده وتنميه، فكذلك له أسباب تنقصه وتضعفه، وكما أن المسلم مطالب بمعرفة أسباب زيادة الإيمان ليطبقها، فهو كذلك مطالب بمعرفة أسباب نقصه ليحذرها، من باب:

عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه

ومن لم يعرف الشر من الناس يقع فيه

وقد ثبت في الصحيحين عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه قال:"كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"1.

وقال ابن الجوزي:"فإن في تعريف الشر تحذيرا عن الوقوع فيه"2.

فتعلم أسباب نقص الإيمان، ومعرفة عوامل ضعفه، وطرق الوقاية منها أمر مطلوب لا بد من العناية به، بل إن تعلمها لا يقل أهمية عن تعلم أسباب زيادة الإيمان.

1 البخاري (8/ 93) ومسلم (3/1475) .

2 تلبيس إبليس (ص 4) وانظر الفتاوى لابن تيمية (10/301 وما بعدها) .

ص: 231

وقبل الشروع في ذكر أسباب نقص الإيمان وبيانها، أود أن أشير إلى أن عدم تعاهد أسباب زيادة الإيمان، وإهمال تقويته، وترك العناية بذلك، يعد سبباً من أسباب نقص الإيمان، فإهمال الأمور التي سبقت الإشارة إليها في المبحث السابق، وعدم الاعتناء بها، يضعف الإيمان وينقصه، فكما أن المحافظة عليها سبب في الزيادة، فإهمالها سبب في النقص.

قال الشيخ محمد العثيمين:"وأما نقص الإيمان فله أسباب

فذكر أموراً منها: ترك الطاعة فإن الإيمان ينقص به، والنقص به على حسب تأكد الطاعة، فكلما كانت الطاعة أوكد كان نقص الإيمان بتركها أعظم، وربما فقد الإيمان كله كترك الصلاة"1 يدل على ذلك قول الله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 2. فهذا النص القرآني الكريم يدل على أهمية الطاعة والمحافظة عليها، وأن هذا من أعظم أسباب تزكية النفس، ويدل أيضاً بالمقابل على خطورة إهمال الطاعة، والوقوع في المعصية، وأن هذا من أعظم أسباب الخيبة والخسران.

قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره: قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} يقول:"قد أفلح من زكى نفسه، فكثر تطهيرها من الكفر والمعاصي، وأصلحها بالصالحات من الأعمال

".

ثم روى عن السلف من الآثار ما يؤيد ذلك: فروى عن قتادة أنه قال:"من عمل خيراً زكاها بطاعة الله".

1 فتح رب البرية (66) .

2 سورة الشمس، الآيتان: 9- 10.

ص: 232

وروى عنه أيضاً أنه قال:"قد أفلح من زكى نفسه بعمل صالح".

وروى عن ابن زيد أنه قال:"قد أفلح من زكى الله نفسه".

وروى عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} ، قالوا: من أصلحها"1.

ونقل ابن القيم عن الحسن البصري أنه قال:"قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله تعالى، وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله تعالى".

ونقل عن ابن قتيبة أنه قال:"يريد: أفلح من زكى نفسه، أي نماها وأعلاها بالطاعة والبر والصدق، واصطناع المعروف"2.

أما قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} فيقول ابن جرير في تفسيرها:"يقول تعالى ذكره: وقد خاب في طلبته، فلم يدرك ما طلب والتمس لنفسه من الصلاح من دساها، يعني من دسس الله نفسه فأخملها، ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله

ثم نقل عن مجاهد أنه قال: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أي أغواها، وعن سعيد بن جبير أنه قال: أي أضلها، وعن قتادة أنه قال: أي أثمها وأفجرها"3.

وقال ابن القيم رحمه الله:"أي: نقصها وأخفاها بترك عمل البر

1 تفسير الطبري (15/ 311، 212) .

2 إغاثة اللهفان (1/ 65) .

3 تفسير الطبري (15/ 212، 213) .

ص: 233

وركوب المعاصي، والفاجر أبداً خفي المكان، زمن المروءة، غامض الشخص، ناكس الرأس، فمرتكب الفواحش قد دس نفسه وقمعها"1.

فمن زكى نفسه بفعل الأوامر واجتناب النواهي فقد فاز وأفلح، ومن دس نفسه بترك الأوامر وفعل النواهي فقد خسر وخاب.

أما أسباب نقص الإيمان، وعوامل ضعفه فكثيرة ومتنوعة، إلا أنها في جملتها تنقسم إلى قسمين: أسباب داخلية، وأسباب خارجية، وتحت كل قسم منها عدة عوامل:

1 إغاثة اللهفان (1/65) وانظر التبيان في أقسام القرآن لابن القيم (ص21) .

ص: 234

أما القسم الأولى

فهو الأسباب الداخلية أو العوامل الذاتية التي لها تأثير في الإيمان بالنقض.

وهي عدة عوامل:

أولاً- الجهل وهو ضد العلم:

فهذا من أعظم أسباب نقص الإيمان، كما أن العلم من أعظم أسباب زيادته، فالمسلم العالم لا يؤثر محبة وفعل ما يضره ويشقى به ويتألم به على ما فيه نفعه وفلاحه وصلاحه، أما الجاهل فإنه لفرط جهله وقلة علمه فإنه قد يؤثر مثل هذه الأشياء على ما فيه فلاحه وصلاحه، وذلك لانقلاب الموازين عنده ولضعف التصور فيه، فالعلم أصل لكل خير، والجهل أصل لكل شر.

ومحبة الظلم والعدوان وارتكاب الفواحش واقتراف المناهي سببه الأول هو الجهل وفساد العلم، أو فساد القصد، وفساد القصد من فساد العلم، فالجهل وفساد العلم هو السبب الرئيس والأول في فساد الأعمال ونقص الإيمان.

قال ابن القيم:"وقد قيل: إن فساد القصد من فساد العلم وإلا فلو علم ما في الضار من المضرة ولوازمها حقيقة العلم لما آثره، ولهذا من علم من طعام شهي لذيذ أنه مسموم فإنه لا يقدم عليه، فضعف علمه بما في الضار من وجوه المضرة، وضعف عزمه عن اجتناب ما يوقعه في ارتكابه، ولهذا كان الإيمان بحسب ذلك، فإن المؤمن بالنار حقيقة

ص: 235

الإيمان حتى كأنه يراها، لا يسلك طريقها الموصلة إليها، فضلاً عن أن يسعى فيها بجهده، والمؤمن بالجنة حقيقة الإيمان لا تطاوعه نفسه أن يقعد عن طلبها، وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه فيما يسعى فيه في الدنيا من المنافع، أو التخلص منه من المضار"1.

فالنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها لجهلها بمضرته ولهذا فإن من يتأمل القران الكريم، يجد فيه أعظم إشارة إلى أن الجهل هو سبب الذنوب والمعاصي.

قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 2.

وقال تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 3.

وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} 4.

وقال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 5.

وغيرها من النصوص الدالة على أن ما وقع فيه الناس من شرك وكفر وفجور وارتكاب للمعاصي أعظم أسبابه الجهل بالله وبأسمائه وصفاته وبثوابه وعقابه.

1 إغاثة اللهفان (2/133) .

2 سورة الأعراف، الآية:38.

3 سورة النمل، الآيتان: 54- 55.

4 سورة الزمر، الآية:64.

5 سورة الأحزاب، الآية:33.

ص: 236

ولهذا فإن كل من عصى الله واقترف شيئاً من الذنوب فهو جاهل، كما جاء ذلك عن السلف الصالح في تفسير قوله تعالى:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} 1 وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. وقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 3.

ومعنى قوله بجهالة في الآيات أي جهالة من فاعلها بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه وجهل منه لنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تأول منه من نقص الإيمان أو عدمه، فكل عاص لله فهو جاهل بهذا الاعتبار، وإن كان عالما بالتحريم، بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقباً عليها4.

وبنحو هذا التفسير للآية قال جماعة من السلف، وروى جملة منها الطبري في تفسيره:

فروى عن أبي العالية أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم، كانوا يقولون:"كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة".

وعن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره وعن مجاهد قال:"كل من

1 سورة النساء، الآية:17.

2 سورة الأنعام، الآية:54.

3 سورة النحل، الآية:119.

4 تفسير ابن سعدي (2/ 39) .

ص: 237

عصى ربه فهو جاهل، حتى ينزع عن معصيته"وقال أيضاً:"كل من عمل بمعصية الله فذاك منه بجهل حتى يرجع عنه".

وقال السدي:"ما دام يعصى الله فهو جاهل".

وقال ابن زيد:"كل امرئ عمل شيئا من معاصي الله فهو جاهل أبداً حتى ينزع عنها"1.

قال شيخ الإسلام:"وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه أو ضعف القلب عن مقاومة ما يعارضه، وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم فيصير جهلا بهذا الاعتبار

"2.

فالجهل بالله داء خطير، ومرض فتاك، يجر على صاحبه من الويلات والعواقب الوخيمة الشيء الكثير، فمن تمكن منه هذا الداء وسيطر عليه، فلا تسأل عن هلكته، فهو هاو في ظلمة المعاصي والذنوب، متنكب عن صراط الله المستقيم، مستسلم لدواعي الشبهات والشهوات، إلا أن تتداركه رحمة الله بغياث القلوب ونور الأبصار ومفتاح الخير العلم النافع المثمر للعمل الصالح، إذ ليس هناك دواء لهذا الداء غير العلم، ولا ينفك هذا الداء عن صاحبه إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويلهمه رشده، فمن أراد الله به الخير علمه ما ينفعه، وفقهه في دينه وبصره بما فيه فلاحه وسعادته، فخرج به عن الجهل ومتى لم يرد به خيرا أبقاه على جهله، والله المسئول أن يغيث قلوبنا بالعلم والإيمان،

1 انظر هذه الآثار وغيرها في تفسير الطبري (3/ 299، 5/209) وانظر تفسير البغوي (1/407) والفتاوى لابن تيمية (7/ 22) وتفسير ابن كثير (1/ 463) .

2 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 78) .

ص: 238

ويعيذنا من الجهل والعدوان.

ثانياً- الغفلة والإعراض والنسيان:

فإن هذه الأمور الثلاثة سبب عظيم من أسباب نقص الإيمان، فمن اعترته الغفلة، وشغله النسيان، وحصل منه الإعراض، نقص إيمانه وضعف بحسب توافر هذه الأمور الثلاثة فيه أو بعضها، وأوجبت له مرض القلب أو موته باستيلاء الشهوات والشبهات عليه.

أما الغفلة فقد ذمها الله في كتابه وأخبر أنها خلق ذميم من أخلاق الكافرين والمنافقين، وحذر منها سبحانه أشد التحذير:

قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 2.

وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} 3.

وقال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} 4.

1 سورة الأعراف، الآية:179.

2 سورة يونس، الآيتان: 7-8.

3 سورة يونس، الآية:92.

4 سورة الروم، الآية:7.

ص: 239

وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} 1.

فالغفلة- وهي: سهو يعتري من قلة التحفظ والتيقظ2- داء خطير إذا اعترى الإنسان وتمكن منه لم يشغل بطاعة الله وذكره وعبادته، بل يشتغل بالأمور الملهية المبعدة عن ذكر الله، وإن عمل أعمالاً في طاعته تأتي منه على حال سيئة ووضع غير حسن فتكون أعمال عارية من الخشوع والخضوع والإنابة والخشية والطمأنينة والصدق والإخلاص، فهذه بعض آثار الغفلة السيئة على الإيمان.

أما الأعراض، فقد أخبر الله في القران الكريم أن له آثاراً سيئة كثيرة وعواقب ونتائج وخيمة:

منها: أن الله وصف المعرض بأنه لا أحد أظلم منه، ووصفه بأنه من المجرمين كما في قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} 3.

ومنها: إخبار الله أن المعرض يجعل الله على قلبه أكنة وأقفالا فلا يفقه ولا يهتدي أبدا كما في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} 4.

ومنها: أن إعراضه يسبب له عيشه الضنك والضيق دنيا وآخرة، كما

1 سورة الأعراف، الآية:205.

2 بصائر ذوي التمييز للفيروز أبادي (4/140) .

3 سورة السجدة، الآية:22.

4 سورة الكهف، الآية:57.

ص: 240

في قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى

} 1.

ومنها: إخبار الله سبحانه أن المعرض عن ذكر الله يقيض له القرناء من الشياطين فيفسدون عليه دينه، كما في قوله:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 2.

ومنها: إخبار الله بأن المعرض يحمل يوم القيامة وزرا، وأنه يسلك العذاب الصعد كما في قوله:{وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} 3.

وقوله: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} 4.

وغيرها من الآيات التي يخبر فيها سبحانه وتعالى عن أخطار الإعراض وأضراره، والتي من أخطرها وأشنعها أنه مانع من الإيمان وحائل دونه لمن لم يؤمن، وموهن ومضعف لإيمان من آمن، وبحسب إعراض الإنسان يكن له نصيب من هذه النتائج والأخطار.

وأما النسيان- وهو: ترك الإنسان ضبط ما استودع، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، وإما عن قصد حتى يرتفع عن القلب ذكره5- فله أثر بالغ في الإيمان، فهو سبب من أسباب ضعفه، وبوجوده تقل الطاعات، وتكثر المعاصي.

1 سورة طه، الآية:124.

2 سورة الزخرف، الآية:36.

3 سورة طه، الآية: 99-100.

4 سورة الجن، الآية: 17، ومعنى صعدا، أي: شديدا شاقاً.

5 بصائر ذوي التمييز للفيروز أبادي (5/ 49) .

ص: 241

والنسيان الذي جاء ذكره في القران الكريم على نوعين: نوع: لا يعذر فيه الإنسان وهو ما كان أصله عن تعمد منه، مثل قوله:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} 1.

ونوع: يعذر فيه وهو ما لم يكن سببه منه كما في قوله تعالي: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 2 وقد جاء في الحديث أن الله تعالى قال:"فعلت"3.

والمسلم مطالب بمجاهدة نفسه وإبعادها عن الوقوع فيه، حتى لا يتضرر في دينه وإيمانه.

ثالثاً- فعل المعاصي، وارتكاب الذنوب:

فإن هذا لا يخفى ما به من الضرر وسوء الأثر على الإيمان، فالإيمان كما قال غير واحد من السلف:"يزيد بالطاعة، وينقص بالمعاصي"، فكما أن فعل ما أمر الله به من واجب ومندوب يزيد في الإيمان، فكذلك فعل ما نهى الله عنه من محرم ومكروه ينقص الإيمان. إلا أن الذنوب متفاوتة في درجاتها ومفاسدها وشدة ضررها تفاوتا عظيماً، كما قال ابن القيم رحمه الله:"ولا ريب أن الكفر والفسوق والمعاصي درجات، كما أن الإيمان والعمل الصالح درجات، كما قال تعالى:{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} 4.وقال: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا

1 سورة الحشر، الآية:19.

2 سورة البقرة، الآية:286.

3 رواه مسلم (1/ 116) من حديت ابن عباس رضي الله عنه.

4 سورة آل عمران، الآية:163.

ص: 242

عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} 1، وقال:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 2، وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ

} 3، ونظائره في القرآن كثير"4.

وقد دل القران والسنة على أن من الذنوب كبائر وصغائر، قال الله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} 5 وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} 6.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"7.

وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور"8.

وفيهما عنه- صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الذنب أكبر عند الله؟ قال:"أن تدعو لله ندا وهو خلقك، قيل ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن

1 سورة الأنعام، الآية:132.

2 سورة التوبة، الآية:37.

3 سورة التوبة، الآيتان: 124- 125.

4 إغاثة اللهفان (2/ 142) .

5 سورة النساء، الآية:31.

6 سورة النجم، غلاية:32.

7 صحيح مسلم (1/209) .

8 البخاري (10/ 405 فتح) ومسلم (1/ 91) .

ص: 243

يطعم معك، قيل ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك"1.

وغيرها من النصوص الدالة على تفاوت الذنوب وانقسامها إلى كبائر وصغائر.

ثم إن هذه الذنوب تنقسم من جهة أخرى إلى أربعة أقسام:

ملكية، وشيطانية، وسبعية، وبهيمية، ولا تخرج عن ذلك.

فالذنوب الملكية:

أن يتعاطى ما لا يصلح له من صفات الربوبية كالعظمة والكبرياء والجبروت والقهر والعلو واستعباد الخلق ونحو ذلك وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب.

وأما الشيطانية:

فالتشبه بالشيطان في الحسد، والبغي والغش والغل والخداع والمكر والأمر بمعاصي الله وتحسينها، والنهي عن طاعته وتهجينها، والابتداع في دينه، والدعوة إلى البدع والضلال.

وهذا النوع يلي النوع الأول في المفسدة، وإن كانت مفسدته دونه.

وأما السبعية:

فذنوب العدوان والغضب وسفك الدماء والتوثب على الضعفاء والعاجزين، ويتولد منها أنواع أذى النوع الإنساني، والجرأة على الظلم والعدوان.

وأما الذنوب البهيمية:

فمثل الشره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومنها يتولد

1 البخاري (12/187 فتح) ومسلم (1/ 91) . من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 244

الزنى والسرقة وأكل أموال اليتامى، والبخل والشح والجبن والهلع والجزع وغير ذلك.

وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية، ومنه يدخلون إلى سائر الأقسام، فهو يجرهم إليها بالزمام، فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية، ثم إلى الشيطانية، ثم إلى منازعة الربوبية والشرك في الوحدانية1.

وعلى كل فهذا وغيره يدلنا على أن الذنوب متفاوتة في تأثيرها على الإيمان وفي إنقاصها منه وإضعافها له.

وهذا التفاوت فيها وفي تأثيرها علي الإيمان يعود لاعتبارات متعددة:

منها: جنس الذنب، وقدره، وشدة مفسدته، ومكانه، وزمانه، وبحسب الفاعل له، ولغير ذلك من الاعتبارات.

قال ابن القيم رحمه الله:"وبالجملة فمراتب الفاحشة متفاوتة بحسب مفاسدها فالمتخذ خدنا من النساء، والمتخذة خدنا من الرجال أقل شراً من المسافح والمسافحة مع كل أحد، والمستخفي بما يرتكبه أقل إثما من المجاهر المستعلن، والكاتم له أقل إثماً من المخبر المحدث للناس به، فهذا بعيد من عافية الله تعالى وعفوه

وكذلك الزنا بالمرأة التي لا زوج لها أيسر إثماً من الزنا بذات الزوج، لما فيه من ظلم الزوج والعدوان عليه، وإفساد فراشه عليه، وقد يكون إثم هذا أعظم من إثم مجرد الزنا، أو دونه، والزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا ببعيدة الدار لما أقترن بذلك من أذى الجار، وعدم حفظ وصية الله تعالى

1 انظر الجواب الكافي لابن القيم (ص147) والفتاوى (13/ 83) .

ص: 245

ورسوله به.

وكذلك الزنا بامرأة الغازي في سبيل الله أعظم إثماً عند الله من الزنا بغيرها

وكما تختلف درجاته بحسب المزني بها، فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان والأحوال، وبحسب الفاعل.

فالزنا في رمضان ليلاً أو نهاراً أعظم إثماً منه في غيره، وكذلك في البقاع الشريفة المفضلة هو أعظم إثماً منه فيما سواها.

وأما تفاوته بحسب الفاعل فالزنا من الحر أقبح منه من العبد، ولهذا كان حده على النصف من حده، ومن المحصن أقبح منه من البكر، ومن الشيخ أقبح منه من الشاب،.. ومن العالم أقبح منه من الجاهل لعلمه بقبحه وما يترتب عليه، وإقدامه على بصيرة، ومن القادر على الإستغناء عنه أقبح من الفقير العاجز. بل قد يقترن بالأيسر إثماً ما يجعله أعظم إثماً مما هو فوقه، كأن يقترن بالفاحشة من العشق الذي يوجب اشتغال القلب بالمعشوق وتأليهه له وتعظيمه والخضوع له، والذل له، وتقديم طاعته، وما يأمر به على طاعة الله تعالى ورسوله وأمره فيقترن بمحبة خدنه وتعظيمه وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، ومحبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه ما قد يكون أعظم ضررا على صاحبه من مجرد ركوب الفاحشة"1.

وقال الشيخ محمد العثيمين:"وأما نقص الإيمان فله أسباب

3-

فعل المعصية فينقص الإيمان بحسب جنسها وقدرها والتهاون بها وقوة الداعي إليها أو ضعفه.

1 إغاثة اللهفان (2/ 143،144) باختصار وانظر الجامع لشعب الإيمان للبيهقي (2/78 وما بعدها) .

ص: 246

فأما جنسها وقدرها: فإن نقص الإيمان بالكبائر أعظم من نقصه بالصغائر، ونقص الإيمان بقتل النفس المحرمة أعظم من نقصه بأخذ مال محترم، ونقصه بمعصيتين أعظم من نقصه بمعصية واحدة، وهكذا.

وأما التهاون بها: فإن المعصية إذا صدرت من قلب متهاون بمن عصاه ضعيف الخوف منه كان نقص الإيمان بها أعظم من نقصه إذا صدرت من قلب معظم لله تعالى شديد الخوف منه، لكن فرطت منه المعصية.

وأما قوة الداعي إليها: فإن المعصية إذا صدرت ممن ضعفت منه دواعيها كان نقص الإيمان بها أعظم من نقصه إذا صدرت ممن قويت منه دواعيها، ولذلك كان استكبار الفقير، وزنى الشيخ أعظم إثماً من استكبار الغنى وزنى الشاب كما في الحديث:"ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم"1. وذكر منهم:

1 أخرجه الطبراني في الكبير (2/351) قال حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا سعيد بن عمرو الأشعثي ننا حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته

لا يشتري إلا بيمينه ولا يبع إلا بيمينه".

ورواه البيهقي في الشعب (4/220) من طريق سعيد بن عمرو به.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 78) :"رجاله رجال الصحيح" وأورده الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد باب ما جاء في كثرة الحلف وقال:"رواه الطبراني بسند صحيح" وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع (3/ 74) .

قلت: ويشهد لقوله"أشيمط زان وعائل مستكبر" ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" صحيح مسلم (1/103) .

ص: 247

"الأشميط الزني، والعائل المستكبر"؛ لقلة دواعي تلك المعصية فيهما"1.

ومما تقدم يتلخص أن الذنوب تنقص الإيمان وأنها تتفاوت في إنقاصها له بحسب اعتبارات متعددة، منها:

1-

جنس الذنب.

2-

شدة مفسدته.

3-

قدره.

4-

زمانه ومكانه.

5-

التهاون به.

6-

وبحسب الفاعل له.

على ما سبق بيانه وتفصيله، وبالله التوفيق.

ومما يقي المرء من الذنوب، ويساعده على البعد عنها وعدم الوقوع فيها، معرفة أخطارها، وما يتولد منها، وسوء عواقبها، وشدة أضرارها.

وقد ذكر في ذلك ابن القيم رحمه الله كلاماً وجيزاً إلا أنه واف بالمقصود فقال:"قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون االقلب ويضيعون الوقت،

1 فتح رب البرية (ص 65) .

ص: 248

وطول الهم والغم، وضنك المعيشة، وكسف البال

تتولد من المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولد الزرع عن الماء، والإحراق عن النار، وأضداد هذه تتولد عن الطاعة"1.

رابعا- النفس الأمارة بالسوء:

وهي نفس مذمومة جعلها الله في الإنسان، تأمره بكل سوء، وتدعوه إلى المهالك، وتهديه إلى كل قبيح، هذا طبعها، وتلك سجيتها، إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها، فما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق الله، كما قال تعالى حاكيا عن امرأة العزيز:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2، وقال تعالى:{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} 3 وقال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} 4 وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم خطبة الحاجة:"الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له" 5 فالشر كامن في النفس وهو يوجب سيئات الأعمال، فإن خلى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرها وما تقتضيه من سيئات الأعمال، وإن

1 الفوائد (ص 67) وانظر الجواب الكافي لابن القيم (ص 46 وما بعدها) .

2 سورة يوسف، الآية:33.

3 سورة النور، الآية:21.

4 سورة الإسراء، الآية:74.

5 أخرج هذه الخطبة أبو داود (2/ 238) والنسائي (3/105) وغيرهما، وراجع رسالة الألباني (خطبة الحاجة) فقد جمع فيها طرق وألفاظ هذه الخطبة.

ص: 249

وفقه وأعانه نجاه من ذلك كله1.

وقد جعل الله سبحانه للإنسان في مقابلة هذه النفس، نفساً مطمئنة، فإذا أمرته النفس الأمارة بالسوء، نهته عنه النفس المطمئنة، فهو يطيع هذه مرة، وهذه مرة، وهو للغالب عليه منهما2.

قال ابن القيم رحمه الله:"وقد ركب الله سبحانه في الإنسان نفسين: نفسا أمارة، ونفسا مطمئنة، وهما متعاديتان، فكل ما خف على هذه ثقل على هذه، وكلى ما التذت به هذه تألمت به الأخرى، فليس على النفس الأمارة أشق من العمل لله، وإيثار رضاه على هواها، وليس لها أنفع منه. وليس على النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله وما جاء به داعي الهوى، وليس عليها شيء أضر منه.. والحروب مستمرة لا تضع أوزارها إلا أن يستوفى أجلها من الدنيا"3.

فلا أضر على إيمان الشخص ودينه من نفسه الأمارة بالسوء، التي هذا شأنها، وهذا وصفها، فهي سبب رئيس، وعضو فعال في إضعاف الإيمان وزعزعته وتوهينه.

ومن هنا لزم من أراد الحفاظ على إيمانه من النقص والضعف، أن يعنى بمحاسبة هذه النفس ومعاتبتها، وأن يكثر من لومها، حتى يسلم من مغبتها وعواقبها الوخيمة المردية.

أما محاسبة النفس فنوعان:

نوع قبل العمل، ونوع بعده.

1 انظر الروح لابن القيم (ص 226) .

2 انظر الوابل الصيب لابن القيم (ص 27) .

3 الجواب الكافي لابن القيم (ص 184، 185) .

ص: 250

فأما النوع الأول:

فهو أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه.

وأما النوع الثاني:

محاسبة النفس بعد العمل فهو ثلاثة أنواع:

أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى، فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي.

الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرا له من فعله.

الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحا، أو أزاد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.

وأضر ما على العبد الإهمال، وترك المحاسبة، والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب، ويمشي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب، وأنس بها، وعسر عليه فطامها.

وجماع ذلك: أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصا تداركه، إما بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله، ثم يحاسبها بما تكلم به، أو مشت إليه رجلاه، أو بطشت يداه، أو سمعته أذناه: ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى

ص: 251

أي وجه فعلته؟ ويعلم أنه لا بد أن ينشر لكل حركة وكلمة منه ديوانان: ديوان لمن فعلته؟ وكيف فعلته؟ فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني سؤال عن المتابعة.

فإذا كان العبد مسئولا ومحاسبا على كل شيء، على سمعه وبصره وقلبه، فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب، وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} 1.

والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله2.

قال ابن القيم رحمه الله:"فالنفس داعية إلى المهالك، معينة للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متبعة لكل سوء، فهي تحرى بطبعها في ميدان المخالفة.

فالنعمة التي لا خطر لها: الخروج منها، والتخلص من رقها، فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى، وأعرف الناس بها أشدهم إزراء عليها، ومقتاً لها"3. فنسأل الله أن يعيذنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه جواد كريم.

1 سورة الحشر، الآية:18.

2 انظر إغاثة اللهفان لابن القيم (1/97- 100) .

3 إغاثة اللهفان (1/ 103) .

ص: 252

أما القسم الثاني

فهو الأسباب الخارجية أو المؤثرات الخارجية التي تؤثر في الإيمان بالنقص، وهي ما كان سببها عائداً إلى تأثير غيره عليه.

وهذه تتلخص في ثلاثة عوامل:

أولاً- الشيطان:

فإنه يعد سببا قوياً من الأسباب الخارجية التي تؤثر في الإيمان بالنقص، فالشيطان عدو لدود للمؤمنين، يتربص بهم الدوائر، لا هم له ولا غاية إلا زعزعة الإيمان في قلوب المؤمنين وإضعافه وإفساده، فممن استسلم لوساوس الشيطان، وانقاد لخطارته، ولم يلجأ إلى الله منه ضعف إيمانه ونقص بل ربما ذهب كلية، بحسب استجابة المسلم لتلك الوساوس والخطرات.

ولهذا فإن الله تعالى حذرنا منه أشد التحذير وبين أخطاره، وعواقب اتباعه الوخيمة، وأنه عدو للمؤمنين، وأمرهم أن يتخذوه عدوا فيسلمون منه ومن وساوسه.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ

} 1.

وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ

1 سورة النور، الآية:21.

ص: 253

لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1.

وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 2.

وقال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 3.

قال ابن الجوزي:"فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن ادم عليه الصلاة والسلام، وقد بذل عمره ونفسه في فساد أحوال بن ادم، وقد أمر الله بالحذر منه

فذكر جملة من هذه النصوص ثم قال: وفي القران من هذا كثير"4.

وقال أبو محمد المقدسي في مقدمة كتابه ذم الوسواس:"أما بعد: فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان، يقعد له الصراط المستقيم، ويأتيه من كل جهة وسبيل، كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال:{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} 5. وحذرنا الله عز وجل من متابعته وأمرنا بمعاداته ومخالفته فقال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} 6 وقال: {أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} 7. وأخبر بما صنع بأبوينا تحذيرا لنا من

1 سورة فاطر، الآية:6.

2 سورة يوسف، الآية:5.

3 سورة المجادلة، الآية:19.

4 تلبيس إبليس (ص 23) .

5 سورة الأعراف، الآية:16.

6 سورة فاطر، الآية:6.

7 سورة الأعراف، الآية:27.

ص: 254

طاعته، وقطعاً للعذر في متابعته، وأمرنا الله سبحانه وتعالى باتباع الصراط المستقيم

"1.

فالشيطان عدو للإنسان همه إفساد العقائد وتخريب الإيمان، فمن لم يحصن نفسه منه بذكر الله واللجأ إليه والإستعاذة به صار مرتعاً للشيطان يسول له فعل المعاصي ويرغبه في ارتكاب المناهي ويؤزه لارتكاب الفواحش أزاء، فيا ضيعة دينه ويا فساد إيمانه إن استسلم له.

قال ابن القيم رحمه الله:"وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك فإنه يفسدها عليك فسادا يصعب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك"2.

وضرب رحمه الله مثلا بديعا لذلك ينطبق عليه تمام الإنطباق فقال في موضع آخر من كتبه:"وإذا أردت لذلك مثالا مطابقاً فمثله مثل كلب جائع شديد الجوع، بينك وبينه لحم أو خبز، وهو يتأملك ويراك لا تقاومه وهو أقرب منك، فأنت تزجره وتصيح عليه، وهو يأبى إلا التحوم عليك، والغادرة على ما بين يديك"3.

ومراده رحمه الله بهذا المثل أن يوضح مدى خطر الشيطان على الإنسان إذا لم يستعذ بالله منه ولم يلجأ إلى الله من شره بالدعوات النافعة والأذكار المباركة.

1 ذم الوسواس (ص 46) ، وانظر أيضاً مقدمة ابن القيم لكتابه إغاثة اللهفان (10/1) .

2 الفوائد (ص 309) .

3 التبيان في أقسام القرآن (ص 419) .

ص: 255

فمن عشى عن ذلك وأعرض لازمه الشيطان تلك الملازمة يسول له ويملي حتى يذهب بإيمانه، قال تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} 1.

ثانياً- الدنيا وفتنها:

فهذا ثاني الحوامل الخارجية التي تؤثر في إيمان الإنسان بالنقص.

فإن من أسباب نقص الإيمان وضعفه الاشتغال بعرض الحياة الدنيا الزائل، وشغل الأوقات فيها والانهماك في طلبها، والجري خلف ملذاتها وفتنها ومغرياتها، فمتى عظمت رغبة العبد فيها وتعلق قلبه بها ضعفت الطاعة عنده ونقص الإيمان بحسب ذلك.

قال ابن القيم رحمه الله:"وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة"2.

ولهذا فإن الله الحكيم الخبير ذم في كتابه الدنيا وبين خستها وحقارتها في غير ما آية من القران الكريم.

قال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ

1 سورة الزخرف، الآيات: 36، 37، 38.

2 الفوائد (ص 180) .

ص: 256

مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} 1.

وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} 2.

وقال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ} 3.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُون * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 4.

وفي هذه الآيات أعظم وعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آيات الله ولم يرج لقاءه.

وقال تعالى ذاماً من رضي بالدنيا من المؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} 5.

وقال صلى الله عليه وسلم:"فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها،

1 سورة الحديد، الآية:20.

2 سورة الكهف، الآيتان: 45- 46.

3 سورة الرعد، الآية:26.

4 سورة يونس، الآية:7.

5 سورة التوبة، الآية:38.

ص: 257

وتهلككم كما أهلكتهم"متفق عليه1 وفي لفظ لهما:"تلهيكم كما ألهتهم" 2.

وغيرها من النصوص وهي كثيرة، فلا بد لمن أراد لإيمانه النمو والقوة والسلامة من الضعف والنقص أن يجاهد نفسه في البعد عن الدنيا وفتنها ومغرياتها وملهياتها وما أكثرها3.

ولا يتم له ذلك ولا يتحقق إلا بعد النظر في أمرين:

الأول: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد.

وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها.

والثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه

1 البخاري (6/ 258، 7/320 فتح) ومسلم (4/ 2274) من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه.

2 البخاري (11/ 243 فتح) ومسلم (4/ 2274) .

3 وانظر لزاماً ما كتبه ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر (ص 25 وما بعدها) في بيان ما الذي يذم من الدنيا وما الذي لا يذم فإن نعيم الدنيا بحد ذاته لا يذم مطلقاً، فإن الله قد تمدح به في القرآن الكريم في غير موضع، وإنما الذي يذم منها هو فعل الجهال والعصيان والإشتغال بها عن الآخرة واستعمال نعيمها في غير مرضاة الله تعالى.

ص: 258

وبين ما ها هنا، فهي كما قال سبحانه:{وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 1 فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة.

فإذا تأمل في هذين الأمرين وأحسن النظر فيهما هداه ذلك لإيثار الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، وأكبر عون له في تحقيق ذلك النظر في حال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته هو وأصحابه من نبذهم لها وراء ظهورهم، وصرفهم عنها قلوبهم، واطراحهم لها، فهم لم يألفوها، وهجروها ولم يميلوا إليها وعدوها سجناً لا جنة، فزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوها منها كل محبوب، ولو صلوا منها إلى كل مرغوب، فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها، وفاضت على أصحابه، فآثروا بها ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها، وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر، وأنها دار عبور لا دار سرور وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم حتى آذن بالرحيل2.

كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} 3.

وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 4.

وقال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} 5.

1 سورة الأعلى، الآية:17.

2 انظر الفوائد لابن القيم (ص 176-178) .

3 سورة الشعراء، الآيات 205- 207.

4 سورة يونس، الآية:45.

5 سورة الروم، الآية:55.

ص: 259

وغيرها من النصوص.

فالله المسئول أن يغيث قلوبنا بالإيمان، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

ثالثاً- قرناء السوء:

فهم أضر الناس على إيمان الشخص وسلوكه وأخلاقه، فمخالطتهم ومصاحبتهم سبب عظيم من أسباب نقص الإيمان وضعفه.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"1.

1 أخرجه أبو داود. (13/179عون) والترمذي (4/589) وأحمد (2/ 303) وعبد بن حميد في"المنتخب من المسند"(ص 418) والحاكم (4/171) والخطابي في العزلة (ص 56) وابن بطة في الإبانة (2/431) والخطيب في تاريخه (4/115) والبغوي في شرح السنة (13/70) وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/236) والذهبي في السير (8/189) عن زهير بن محمد حدثنا موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.

وقال الترمذي والبغوي:"حسن غريب" وقال النووي في رياض الصالحين (ص 174)"إسناده صحيح". ونقل حكمه المناوي في فيض القدير (4/ 52) .

قلت: وفي إسناده زهير بن محمد فيه ضعف كما في التقريب (1/ 264) .لكن للحديث طريق أخرى يتقوى بها، من رواية صدقة بن عبد الله عن إبراهيم بن محمد الأنصاري عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه به.

أخرجه الحاكم (4/ 171) وابن عساكر في" المجلس الثالث والخمسين من الأمالي" كما في السلسلة الصحيحة للألباني (2/ 634) وقال الحاكم:"صحيح إن شاء الله" ووافقه الذهبي.

قلت: فيه صدقة بن عبد الله ضعيف كما في التقريب (1/366) وإبراهيم بن محمد الأنصاري، ذو مناكير كما في الضعفاء للذهبي (1/60) .

فالإسنادان كلاهما ضعيف، إلا أن ضعفهما ليس شديداً، فيكون الحديث حسناً بمجموعهما، وبهذا حسنه الألباني حفظه الله في سلسلته.

وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/363) بعد أن أشار إلى بعض من خرجه:"وقد تساهل ابن الجوزي فأورده في الموضوعات ومن ثم خطأه الزركشي، وتبعه في الدرر، وقال الحافظ في اللآلىء:"والقول ما قال الترمذي"، يعني أن الحديث حسن" ا. هـ.

ص: 260

قال ابن عبد البر"وهذا معناه والله أعلم أن المرء يعتاد ما يراه من أفعال من صحبه، والدين العادة فلهذا أمر ألا يصحب إلا من يرى منه ما يحل ويجمل فإن الخير عادة.

وفي معنى هذا الحديث قول عدي بن زيد:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن مقتدى

وقول أبي العتاهية:

من ذا الذي يخفى عليك

إذا نظرت إلى خدينه

وهذا كثير جدا، والمعنى في ذلك ألا يخالط الإنسان من يحمله على غير ما يحمد من الأفعال والمذاهب، وأما من يؤمن منه ذلك فلا حرج فيه صحبته"1.

وقال أبو سليمان الخطابي"قوله:"المرء على دين خليله" لا معناه لا تخالل إلا من رضيت دينه وأمانته، فإنك إذا خاللته قادك إلى دينه ومذهبه، ولا تغرر بدينك ولا تخاطر بنفسك فتخالل من ليس مرضياً في دينه ومذهبه.

قال سفيان بن عيينة: وقد روى في هذا الحديث انظروا إلى فرعون

1 بهجة المجالس (2/751) .

ص: 261

معه هامان، انظروا إلى الحجاج معه يزيد بن أبي مسلم شر منه، انظروا إلى سليمان بن عبد الملك صحبه رجاء بن حيوة فقومه وسدده.

ويقال: إن الخلة مأخوذة من تخلل المودة القلب وتمكنها منه: وهي أعلى درج الإخاء، وذلك أن الناس في الأصل أجانب، فإذا تعارفوا ائتلفوا فهم أوداء، وإذا تشاكلوا فهم أحباء، فإذا تأكدت المحبة صارت خلة"1.

وقد قيل:"الناس كأسراب القطا"لما جبلوا عليه من تشبه بعضهم ببعض ومحاكات بعضهم لأفعال بعض. ولهذا كان المبتديء بالخير وبالشر له مثل، من تبعه من الأجر والوزر2.

قال بعض الحكماء:"عمادة المودة المشاكلة، ركل ود عن غير تشاكل فهو سريع التصرم"3.

قلت: وإنما جاء النهي عن مخالطة قرناء السوء والتحذير من مجالستهم، لأن طباع الإنسان مجبولة على الإقتداء والتشبه بمن يقارن، فمجالسة طلاب العلم تحرك في النفس الحرص على طلب العلم، ومجالسة الزهاد تزهد في الدنيا، ومجالسة المبتدعة وأهل الأهواء تردي في مهاوي البدع، ومجالسة الحريص على الدنيا تحرك في النفس الحرص على الدنيا، وهكذا.

فلهذا لزم المرء أن يختار من القرناء والخلطاء من يكون له في خلطتهم خير ونفع، وأن يحذر أشد الحذر من قرناء السوء.

1 العزلة (ص 56) .

2 انظر الاستقامة لابن تيمية (2/255) .

3 العزلة للخطابي (ص 62) .

ص: 262

ومن تأمل حال السلف وتدبر سيرهم علم ذلك، ورأى شدة حذرهم وتحذيرهم من رفقاء السوء من فساق ومبتدعة وغيرهم1.

قال أبو الدرداء:"من فقه الرجل مدخله وممشاه وألفه"ثم قال أبو قلابة: بعد أن روى هذا الأثر عن أبي الدرداء: ألا ترى إلى قول الشاعر:

عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه

فإن القرين بالمقارن يقتدي2

وقال الأصمعي عن هذا البيت:"لم أر بيتا أشبه بالسنة منه"3.

وجاء عن عبد الله بن مسعود أنه قال:"اعتبروا الناس بأخدانهم فإن المرء لا يخادن إلا من يعجبه".

وعن الأعمش قال:"كانوا لا يسألون عن الرجل بعد ثلاث: ممشاه ومدخله وألفه من الناس".

وقال سفيان:"ليس شيء أبلغ في فساد رجل وصلاحه من صاحب"

وقال قتادة:"إنا والله ما رأينا الرجل يصاحب من الناس إلا مثله وشكله فصاحبوا الصالحين من عباد الله لعلكم أن تكونوا معهم أو مثلهم".

وقال الفضيل:"ليس للمؤمن أن يقعد مع كل من

1 انظر في ذلك على سبيل المثال العزلة للخطابي (ص،5 وما بعدها) والإبانة الابن بطة (2/431 وما بعدها) ، وغيرهما.

2 رواه ابن الأعرابي في معجمه (برقم: 1277) ومن طريقه الخطابي في العزلة (ص 59) .

ورواه ابن بطة في الإبانة (2/437، 439) بلفظ مقارب.

3 الإبانة لابن بطة (2/440) .

ص: 263

شاء

"1.

والآثار في هذا كثيرة جدا يطول ذكرها، وإنما انتقيت منها ما فيه البلغة والكفاية، فمن تأمل هذه الآثار المذكورة وغيرها عرف ما في مقارنة أهل السوء والفسق والفجور من الخطر على الدين والخلق، فأنت قد ترى الرجل مستقيما عفيفا صالحاً، فإذا قارن وخالط أهل السوء والفسق وصحبهم أصبح فاسقاً فاجراً مثلهم، وهذه سنة الله في خلقه.

فخلطة الفساق وأهل السوء من أعظم أسباب نقص الإيمان وضعفه بل وربما اضمحلاله وتلاشيه، وذلك بحسب حال هؤلاء في السوء وبحسب خلطته لهم.

1 روى هذه الآثار ابن بطة في الإبانة (2/ 439، 452، 476، 480، 481) .

ص: 264