المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيأوجه زيادة الإيمان ونقصانه - زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: في قول أهل السنة والجماعة إن الإيمان يزيد وينقص

- ‌الفصل الأول: أدلتهم من الكتاب والسنة على زيادة الإيمان ونقصانه ونقل بعض أقوالهم في ذلك

- ‌المبحث الأول: أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب

- ‌المبحث الثانيأدلة زيادة الإيمان ونقصانه من السنة

- ‌المبحث الثالث: أقوال السلف في زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الثانيأوجه زيادة الإيمان ونقصانه

-

- ‌الفصل الثالثأسباب زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الأولأسباب زيادة الإيمان

- ‌المبحث الثانيأسباب نقص الإيمان

- ‌الفصل الرابعفي الإسلام هل يزيد وينقص

-

- ‌الباب الثاني: في الأقوال المخالفة لقول أهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان

- ‌الفصل الثانيقول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه

-

- ‌الفصل الثالث: قول من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص

- ‌المبحث الأولذكر القائلين بهذا القول

- ‌المبحث الثاني: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها

- ‌المبحث الثالث:في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم

-

- ‌الفصل الرابع: في سبب الخلاف في هذه المسألة ونشأته هل هو حقيقي أو لفظي

- ‌المبحث الأول: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة

- ‌المبحث الثاني: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أو لا

- ‌المبحث الثالث: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

-

- ‌الباب الثالث: حكم الاستثناء في الإيمان

-

- ‌الفصل الأول: بيان مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الاستثناء في الإيمان

- ‌المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه

- ‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

- ‌المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ" أنت مؤمن

- ‌المبحث الرابع: حكم الاستثناء في الإسلام

- ‌الفصل الثاني: فيمن قال بوجوب الاستثناء

- ‌الفصل الثالث: فيمن قال بعدم جواز الاستثناء

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل الثانيأوجه زيادة الإيمان ونقصانه

‌الفصل الثاني

أوجه زيادة الإيمان ونقصانه

أوضحت في الفصل الذي سبق، قول أهل السنة والجماعة في زيادة الإيمان ونقصانه، وبسطت أدلتهم عليه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم اتبعت الأدلة بنقل جملة من أقوالهم الصالحة في ذلك.

أما هذا الفصل فهو لبيان الأوجه التي يكون فيها زيادة الإيمان ونقصانه، إذ إن الإيمان الذي أمر الله به عباده، والذي يكون من عباده المؤمنين يزيد وينقص من أوجه متعددة، فهو يزيد وينقص من جهة معرفة القلب وتصديقه وأعماله، ومن جهة أقوال اللسان وأعماله، ومن جهة الأعمال الظاهرة، ومن أوجه أخرى غيرها، وفي هذه الأوجه أبلغ رد على من أنكر زيادة الإيمان ونقصانه إجمالاً، أو أنكر ذلك في بعض جوانبه، كتصديق القلب أو معرفته أو غير ذلك.

وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الإيمان هذه الأوجه بسطاً وافياً وأحسن في بيانها وذكر أدلتها1 فسأذكر في هذا الفصل الأوجه التي ذكرها شيخ الإسلام مع شيء من التصرف في العبارة، وزيادة بيان في بعض المواضع، وزيادة في بعض الأدلة، وذلك

1 انظرها في الفتاوى لشيخ الإسلام (7/232- 237، و 562- 584، و 672) ونقلها عنه السفاريني في لوامع الأنوار (1/413- 416) واختصر بعضها ابن أبي العز في شرحه لعقيدة الإمام الطحاوي (ص 317 و 318) .

ص: 135

حسب ما يقتضيه المقام وتدعو إليه الحاجة وفيما يلي ذكر هذه الأوجه مجملة ثم يأتي بعد ذلك تفصيلها.

ا- أن الإيمان يزيد وينقص من جهة الإجمال والتفصيل فيما أمروا به.

2-

أنه يزيد وينقص من جهة الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم.

3-

أنه يزيد وينقص من جهة علم القلب وتصديقه.

4-

أنه يزيد وينقص من جهة المعرفة القلبية وهي دون التصديق.

5-

إنه يزيد وينقص من جهة عمل القلب كالمحبة والخوف والرجاء وغيرها.

6-

أنه يزيد وينقص من جهة أعمال الجوارح الظاهرة.

7-

أنه يزيد وينقص من جهة استحضار الإنسان لأوامر الدين الحنيف وعدم الغفلة عنها والثبات والدوام عليها.

8-

أنه يزيد وينقص من جهة أن الإنسان قد يكون منكراً ومكذباً بأمور، لا يعلم أنها من الإيمان، ثم يتبين له بعد أنها منه، فيزداد بذلك إيمانه.

9-

أنه يزيد وينقص في هذه الأمور من جهة الأسباب المقتضية لها.

فهذه أوجه زيادة الإيمان ونقصانه على وجه الإجمال، أما التفصيل لها فكما يلي:

الوجه الأول:

الإجمال والتفصيل فيما أمروا به، فإنه وإن وجب على جميع

ص: 136

الخلق الإيمان بالله ورسوله، ووجب على كل أمة التزام ما يأمرهم به رسولهم، فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله وإتمام الشرع، ولا يجب على كل عبد أن يؤمن إيماناً مفصلاً بكل ما أخبر به الرسول إن لم يبلغه تفاصيل ذلك، فمن بلغه وجب عليه أن يؤمن به إيماناً مفصلاً، فإن من عرف القرآن والسنن ومعانيها لزمه من الإيمان المفصل بذلك ما لا يلزم غيره. فلو آمن رجل بالله وبالرسول باطناً وظاهراً، ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين، مات مؤمناً بما وجب عليه من الإيمان، وليس ما وجب عليه ولا ما وقع منه مثل إيمان من عرف الشرائع بتفاصيلها فآمن بها وعمل بها، بل إيمان هذا الأخير أكمل وجوباً ووقوعاً، لأن ما وجب عليه من الإيمان أكمل وكذلك ما وقع منه أكمل، وبهذا يعلم أنه ليس من التزم طاعة الرسول مجملاً، ومات قبل أن يعرف تفصيل ما أمره به، كمن عاش حتى عرف ذلك مفصلاً وأطاعه فيه، فليس إيمان من آمن بالرسول مجملاً من غير معرفة منه بتفاصيل أخباره، كمن عرف ما أخبر به عن الله وأسمائه وصفاته، والجنة والنار والأمم، وآمن به في ذلك كله، فشتان ما بين هذا وذاك.

وقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

} 1 المراد به إكمال التشريع بالأمر والنهي، وليس المراد به أن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة، وأنه فعل ذلك، بل لقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف النساء بأنهن ناقصات عقل ودين2، وجعل نقصان عقلها أن شهادة امرأتين شهادة رجل واحد، ونقصان دينها أنها إذا

1 سورة المائدة، الآية:3.

2 تقدم تخريجه (ص 81) .

ص: 137

حاضت لا تصوم ولا تصلي، وهذا النقصان ليس هو نقصاً مما أمرت به، فلهذا لا تعاقب عليه لأنها لم تؤمر به، لكن من أمر بالصلاة والصوم ففعله كان دينه كاملاً بالنسبة إلى هذه الناقصة الدين، والتي تترك الصلاة والصوم حال حيضها، وإن كانت مأمورة بهذا الترك، فذاك إيمانه أكمل من هذه للتفاوت بينهما في المأمور به. فهدا وجه من أوجه الزيادة، والنقصان في الإيمان.

وذكر شيخ الإسلام نحو ما تقدم في شرحه للعقيدة الأصفهانية ثم قال: "فصار النقص في الدين والإيمان نوعين نوعاً لا يذم العبد عليه لكونه لم يجب عليه لعجزه عنه حساً أو شرعاً، وإما لكونه مستحباً ليس بواجب، ونوعاً يذم عليه وهو ترك الواجبات"1 قلت. أي دون عذر.

الإجمالي والتفصيل فيما وقع منهم، فإن الناس وإن تساووا في وجوب الإيمان عليهم جميعاً، فهم متفاوتون في القيام به:

1-

فمنهم من يطلب علم ما أمر به وما وجب عليه فيتعلمه ويعمل به، فيجمع بين العلم والعمل.

2-

ومنهم من يطلب علم ما أمر به فيتعلمه ويؤمن به ويصدق، ولكن لا يعمل به.

3-

ومنهم من يؤمن بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقاً ولا يكذبه قط، لكنه يعرض عن معرفة أمره ونهيه ويعرض عن طلب

1 شرح العقيدة الأصفهانية (ص 139) . قلت: وقوله: "لعجزه عنه حساً"، كالمرض، وقوله:"أو شرعاً"كالحيض، وانظر الفتاوى (7/ 196) وفتح رب البرية لابن عثيمين (ص 66) .

ص: 138

العلم الواجب عليه بل يتبع هواه فلا يتعلم الواجب عليه ولا يعمل به.

فهؤلاء الثلاثة وإن اشتركوا في الوجوب، فإنهم متفاوتون في الإيمان تفاوتاً عظيماً فالأول منهم وهو الذي طلب علم التفصيل وعمل به إيمانه أكمل من إيمان الثاني الذي عرف ما يجب عليه والتزمه وأقرّ به، لكنه لم يعمل به وهو خائف من عقوبة ربه على ترك العمل معترف بذنبه، وهذا الثاني إيمانه أكمل من إيمان الثالث الذي لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن يعاقب، بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه مقر بنبوته باطناً وظاهراً.

وهذا التفاوت بينهم في الإيمان إنما هو فيما وقع منهم، لا في ما أمروا به لأنهم متساوون في وجوبه عليهم جميعاً، وبهذا يتبين أن الإيمان يزيد وينقص من جهة قيام المؤمنين به ووقوعه منهم، فكلما علم القلب ما أخبر به الرسول فصدقه، وما أمر به فالتزمه، كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك، وإن كان معه التزام عام وإقرار عام، وكذلك من عرف أسماء الله ومعانيها، فآمن بها، كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء بل آمن بها إيماناً مجملاً، أو عرف بعضها، وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء الله وصفاته وآياته، كان إيمانه به أكمل.

وبالجملة فإنه كلما ازداد المسلم قياماً بأوامر هذا الدين والتزاماً لأحكامه، زاد إيمانه بذلك، وكان أكمل من غيره ممن لم يقم بذلك، وهذه الزيادة في الإيمان إنما وقعت من جهة قيام المؤمنين به ووقوعه منهم.

ص: 139

الوجه الثالث:

أن العلم والتصديق نفسه يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت وأبعد عن الشك والريب، وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه، فإن الإنسان يجد في نفسه أن علمه بمعلومه يتفاضل حاله فيه، كما يتفاضل حاله في سمعه لمسموعه، ورؤيته لمريئه، وحبه لمحبوبه، وكراهيته لمكروهه، ورضاه بمرضيه، وبغضه لبغيضه، ولا ينكر التفاضل في هذه أحد، بل من أنكر التفاضل فيها كان مسفسطاً مكذباً للأمور المسلمات.

فالعلم والتصديق يتفاضل ويتفاوت كما يتفاضل سائر صفات الحي من القدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، بل سائر الأعراض من الحركة والسواد والبياض ونحو ذلك، فإذا كانت القدرة على الشيء تتفاوت فكذلك الإخبار عنه يتفاوت، وإذا قال القائل العلم بالشيء الواحد لا يتفاضل كان بمنزلة قوله القدرة على المقدور الواحد لا تتفاضل، وقوله ورؤية الشيء الواحد لا تتفاضل.

ومن المعلوم أن الهلال المرئي يتفاضل الناس في رؤيته، فهم وإن اشتركوا فيها، فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض، وكذلك سمع الصوت الواحد يتفاضلون في إدراكه، وكذلك الكلمة الواحد يتكلم بها الشخصان ويتفاضلان في النطق بها وكذلك شم الرائحة الواحدة وذوق النوع الواحد من الطعام يتفاضل الشخصان فيه، فما من صفة من صفات الحي وأنواع إدراكاته وحركاته، بل وغير صفات الحي، إلا وهي تقل التفاضل والتفاوت إلى ما لا يحصره البشر، وهذا مما لا يختلف فيه اثنان.

فإذا كان ذلك كذلك فإن علم القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من هذا بكثير، فالمعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الرب وكلامه، يتفاضل الناس في معرفتها، أعظم من تفاضلهم فني معرفة غيرها، وهكذا سائر أمور الإيمان

ص: 140

ومما يوضح هذا الوجه في التفاضل في تصديق القلب، أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله1، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فمن آمن وصدق بأن الله حق، ورسوله حق، والجنة حق، والنار حق، وأوجب له هذا التصديق محبة الله وخشيته والرغبة في الجنة، والهرب من النار، فإيمان هذا أكمل ممن آمن وصدق بهذه الأمور إلا أن إيمانه لم يوجب له ذلك.

قال النووي بعد أن ذكر قول من قال إن التصديق لا يزيد ولا ينقص وإنه متى قبل الزيادة كان شكا وكفراً، قال: "والأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره

"2.

وقال النووي أيضاً. "والناس يتفاضلون في تصديق القلب على قدر علمهم ومعاينتهم فمن زيادته بالعلم قوله تعالى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} ومن المعاينة قوله تعالى: {لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} فجعل له مزية على علم اليقين والله أعلم "3.

1 وقد جعل شيخ الإسلام هذا وجهاً مستقلاً، لكن يبدو أنه مرتبط بالذي قبله، وأنه بمثابة التوضيح له.

2 شرح صحيح مسلم للنووي (1/148، 149) ، وانظر أيضا نحو هذا في فتاويه المسماة بـ"المسائل المنثورة"(ص 194) .

3 شروح البخاري (1/ 226) .

ص: 141

ونقله عنه الحافظ في الفتح ثم قال: "ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها"1.

وقال شيخ الإسلام: "إن التصديق نفسه يتفاضل كنهه، فليس ما أثنى عليه2 البرهان بل تشهد له الأعيان، وأميط عنه كل أذى وحسبان، حتى بلغ أعلى درجات الإيقان، كتصديق زعزعته الشبهات، وصدفته الشهوات، ولعب به التقليد، ويضعف لشبه المعاند العنيد، وهذا أمر يجده من نفسه كل منصف رشيد"3.

وقال ابن رجب: "والتصديق القائم بالقلوب يتفاضل، وهذا هو الصحيح، وهو أصح الروايتين عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل، فإن إيمان الصديقين الذي يتجلى الغيب لقلوبهم حتى يصير كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك والارتياب ليس كإيمان غيرهم ممن لا يبلغ هذه الدرجة بحيث لو شكك لدخله الشك

"4.

قلت: لم أقف على نقل عن الإمام أحمد رأى فيه أن التصديق لا يتفاضل، وإنما الذي نقل عن الإمام فيه روايتان فيما أطلعت عليه هو:"المعرفة القلبية"كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكما سيأتي في الوجه التالي، فلعل الحافظ ابن رجب قصد بالروايتين عنه

1 فتح الباري (1/ 46) .

2 أي: فليس التصديق الذي أثنى

إلخ.

3 الفتاوى (6/480، 481) ، وانظر تهذيب السنن لابن القيم (7/ 56) .

4 جامع العلوم والحكم (ص 28) ، بتصرف يسير.

ص: 142

في التصديق ما جاء عنه في المعرفة والله أعلم.

وقال الكرخي: "إن نفس التصديق يقبل القوة، وهي التي عبر عنها بالزيادة، للفرق المميز بين يقين الأنبياء ويقين آحاد الأمة وكذا من قام عليه دليل واحد ومن قامت عليه أدلة كثيرة، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه"1.

فبهذا البيان والنقول يتضح بما لا مجال للشك في، أن التصديق نفسه يقبل الزيادة والنقصان، فتأمل هذا الوجه جيداً فقد اشتمل على أوضح رد وأجلى بيان لبطلان قول من قال إن التصديق لا يزيد ولا ينقص، وإن نقصانه يقتضي الشك والكفر، وسيأتي مزيد بيان لذلك، وذكر من قال به وإبطاله في مبحث قادم إن شاء الله تعالى.

الوجه الرابع:

إن المعرفة القلبية- وهي دون التصديق2- يتفاضل الناس فيها، فهي تختلف من حيث الإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، ودوام الحضور والغفلة فليست المعرفة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها كالمجملة التي غفل عنها صاحبها، وإذا حصل له ما يريبه فيها ارتاب ثم رغب إلى الله في كف الريب.

قال شيخ الإسلام: "وكذلك المعرفة التي في القلوب تقبل التفاضل

1 نقله عنه أبو السعود في تفسيره (3/4) وصديق حسن خان في كتابه فتح البيان (4/ 6) والنقل بتصرف.

2 لمعرفة الفرق بين المعرفة والتصديق انظر رسالة الإمام أحمد للجوزجاني ضمن السنة للخلال (ق 105/أ) وانظرها وشرح شيخ الإسلام لها في الفتاوى (7/ 390، وما بعدها)، قال شيخ الإسلام في شرحها (7/ 395) :"وأحمد فرق بين المعرفة التي في القلب وبين التصديق الذي في القلب.. ".

ص: 143

على الصحيح عند أهل السنة، وفي هذا نزاع، فطائفة من المنتسبين إلى السنة تنكر التفاضل في هذا كله كما يختار ذلك القاضي أبو بكر وابن عقيل وغيرهما، وقد حكي عن أحمد في التفاضل في المعرفة روايتان "1.

وقال شيخ الإسلام: "وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ذلك عن أحمد روايتين، 2.

قلت: وكلتا الروايتين ثابتتان عن الإمام رحمه الله بسند صحيح، أما الرواية الأولى فقد خرّجها الخلال في السنة من طريق أبي بكر محمد بن علي أن يعقوب بن بختان حدّثهم قال: سألت أبا عبد الله عن المعرفة والقول تزيد وتنقص؟ قال: لا، قد جئنا بالقول والمعرفة وبقي العمل3.

وأما الرواية الثانية فخرجها أيضاً الخلال في السنة من طريق المروذي قال: قلت لأبي عبد الله في معرفة الله عز وجل في القلب يتفاضل فيه؟ قال: نعم، قلت: ويزيده قال: نعم4.

1 الفتاوى (7/408) وانظر الفتاوى (0 1/ 722) وانظر كذلك شرح الكوكب المنير لأن البقاء الفتوحي (ص 18) فقد نقل عن شيخ الإسلام أنه قال:"

والصحيح أن جميع الصفات المشروطة بالحياة تقبل التزايد، وعن أحمد رضي الله عنه في المعرفة الحاصلة في القلب من الإيمان: هل تقبل التزايد والنقص؟ روايتان، والصحيح من مذهبنا ومذهب جمهور أهل السنة إمكان الزيادة في جميع ذلك..".

2 درء التعارض (7/451) قلت: ذكر القاضي أبو يعلى هاتين الروايتين عن الإمام في كتابه الروايتين والوجهين (ق 251/ ب) .

3 السنة للخلال (2/ 677) .

4 السنة للخلال (2/ 676) .

ص: 144

قلت: ولا تعارض عندي بين هاتين الروايتين عن الإمام، فهو رحمه الله جزم في الرواية الأولى بالإتيان بالمعرفة والقول، وهذا مما لا يجوز لمسلم أن يرتاب فيه إذ إن من شك في إتيانه بالمعرفة والقول يكفر، لكن المعرفة تختلف من شخص لآخر قرة وضعفاً بحسب قوة الأدلة وكثرة النظر، وهذا ما بينّه رحمه الله في الرواية الثانية، حيث بين أن الناس يتفاضلون في المعرفة ث أنها تزيد، وهذا لا يتنافى مع الجزم بالإتيان بالمعرفة، لأن القدر الواجب من المعرفة يجزم به المسلم، ولا يمكن أن يجزم بأنه بلغ أعلى درجات المعرفة، لأن المعرفة درجات والناس متفاضلون فيها، والله أعلم.

ثم بعد كتابتي هذا التوفيق بين الروايتين، وقفت على كلام نحوه للقاضي أبي يعلى في التوفيق بينهما، حيث قال رحمه الله بعد أن أشار إلى هاتين الروايتين "وعندي أن المسألة ليست على روايتين وإنما هي على اختلاف حالين، فالموضع الذي قال لا تزيد ولا تنقص يعني به نفس المعرفة، لأن المعرفة هي: معرفة المعلوم على ما هو به، وذلك لا يختلف بحال.. والموضع الذي قال: تزيد وتنقص يعني بالزيادة في معرفة الأدلة وذلك قد يزيد وينقص، فمنهم من يعرف الشيء من جهة واحدة، ومنهم من يعرفه من جهات كثيرة"1.

ثم إن مما يوضح لنا هذا الوجه. أعني التفاضل في المعرفة ويبينه أن معرفة الإنسان بالشيء إن عاينه تختلف عن معرفته به إن لم يعاينه وإن كان جازماً بصدق من أخبره.

1 الروايتين والوجهين (ق 251/ ب) .

ص: 145

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة" 1 فإن موسى لما أخبره ربه أن قومه عبدوا العجل، لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المُخْبَر وإن جزم بصدق المُخْبِر، فقد لا يتصور المُخْبَر به في نفسه كما يتصوره إذا عاينه، بل يكون قلبه مشغولاً عن تصور المخبر به، وإن كان مصدقاً به، ومعلوم أنه عند المعاينة يحصل له من تصور المخبر به ما لم يكن عند الخبر2.

فالزيادة والنقصان في الإيمان شاملة لمعرفة القلوب لتفاضل الناس فيها، من جهة الإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، والذكر والغفلة، فمعرفة الله وأسمائه وصفاته، وأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه غفور رحيم، عزيز حكيم، شديد العقاب، إلى غير ذلك من صفاته، كل ذلك داخل في الإيمان، إذ لا يمكن لمسلم أن يقول إنه ليس من الإيمان، ومعلوم أن الناس متفاوتون في معرفتها وغير متماثلين، بل لا يمكن لأحد أن يدعي تماثل الناس في ذلك3.

ثم من المعلوم أيضاً أن الناس يتفاضلون في معرفة الملائكة وصفاتهم، ويتفاضلون في معرفة الروح وصفاتها، وفي معرفة الجن وصفاتهم، وفي معرفة الآخرة وما بها من نعيم وعذاب، بل ويتفاضلون

1 رواه أحمد (1/271) وابن حبان (كما في الإحسان 8/ 32) وأبو الشيخ في الأمثال (ص 25) والحاكم (2/321) من طرق عن سريج بن يونس عن هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً وإسناده صحيح، صححه ابن حبان، وقال الحاكم "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع (5/ 87) .

2 انظر الفتاوى لابن تيمية (7/ 243) .

3 انظر المرجع السابق (7/ 414) .

ص: 146

في معرفة أبدانهم وصفاتها وصحتها ومرضها وما يتبع ذلك، فإن كانوا متفاضلين في ذلك كله، فتفاضلهم في معرفة الله أعظم وأعظم1.

قال شيخ الإسلام: "ولا ريب أن المؤمنين يعرفون ربّهم في الدنيا، ويتفاوتون في درجات العرفان، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمنا بالله وقد قال: "لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" 2 وهذا يتعلق بمعرفة زيادة المعرفة ونقصها المتعلقة بمسألة زيادة الإيمان ونقصه "3.

وقال ابن قاضي الجبل4 في أصوله: "الأصح التفاوت، فإنا نجد بالضرورة الفرق بين كون الواحد نصف الاثنين، وبين ما علمناه من جهة التواتر مع كون اليقين حاصل فيهما"5.

قال السبكي في رسالة له ألّفها في الاستثناء نقل أكثرها الزبيدي في الإتحاف: "والمعرفة يتفاوت الناس فيها تفاوتا كثيراً

وأعلى الخلق معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأنبياء والملائكة على مراتبهم وأدنى المراتب الواجب الذي لا بد منه في النجاة من النار وفي عصمة الدم، وبين ذلك وسائط كثيرة منها واجب ومنها ما ليس بواجب وكل ذلك داخل في اسم الإيمان

"6.

وبهذا يتبين أن المعرفة القلبية تقبل الزيادة والنقصان وبالله التوفيق.

1 انظر المرجع السابق (7/ 569) .

2 جزء من حديث، أخرجه مسلم (1/352) عن عائشة رضي الله عنها.

3 الفتاوى (6/ 479) .

4 هو احمد بن الحسن بن عبد الله المعروف بابن قاضي الجبل ت 771 هـ. انظر ترجمته في ذيل الطبقات لابن رجب (2/453) .

5 نقله عنه الفتوحي في شرح الكوكب المنير (ص 18) .

6 إتحاف السادة المتقين (2/280) .

ص: 147

فائدة جليلة: تنازع الناس في المعرفة القلبية هل حصلت بالشرع أو بالعمل؟

قال شيخ الإسلام بعد أن نقل الخلاف في ذلك "وحقيقة المسألة: أن المعرفة منها ما يحصل بالعقل، ومنها ما لا يعرف إلا بالشرع، فالإقرار الفطري، كالإقرار الذي أخبر الله به عن الكفار، قد يحمل بالعقل كقوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1.

وأما ما في القلوب من الإيمان المشار إليه في قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} 2 فلا يحصل إلا بالوحي.. "3.

الوجه الخامس:

إن أعمال القلوب كالمحبة والخشية والخشوع والذل والإنابة والتوكل والحياة والرغبة والرهبة والخوف والرجاء وغيرها. يتفاضل الناس فيها تفاضلاً عظيماً. وهي جميعها من أعمال الإيمان كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق سلف هذه الأمة.

فالمحبة مثلاً الناس متفاوتون فيها، ما بين أفضل الخلق محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام وهما خليلا الله وأشد الناس محبة له، إلى أدنى الناس درجة في الإيمان كمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وبين هذين الحدين من الدرجات ما لا يحصيه إلا رب الأرض

1 سورة لقمان، الآية:25.

2 سورة الشورى، الآية:52.

3 درء التعارض (7/ 458) .

ص: 148

والسموات، فإنه ليس في أجناس المخلوقات ما يتفاضل بعضه على البعض كبني آدم.

بل إن هذا التفاضل في المحبة يعلمه كل إنسان من نفسه بحسب الحب الذي قام في قلبه لأي محبوب كان، سواء كان حباً لولده أو لامرأته أو لرياسته أو لصديقه أو غير ذلك، فإن حبه لهذه الأشياء على درجات، فالحب أوله علاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب نحوه، ثم غرام للزومه القلب كما يلزم الغريم غريمه، إلى غير ذلك من درجات الحب وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما يحبه تارة، فإذا علم تفاضل الناس في حب هذه الأشياء من محبوباتهم، فتفاضلهم في حب الله أعظم.

وقد دل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على تفاضل الناس فيها قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ

} 1.

وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2.

فهاتان الآيتان فيهما دلالة على تفاضل الناس في المحبة، ففي قوله:{أَشَدُّ حُبّاً} في الآية الأولى وقوله: {أَحَبَّ} في الآية الثانية أعظم دلالة على ذلك، لاستخدام أفعل التفضيل فيهما الدال صراحة على

1 سورة البقرة الآية: 165.

2 سورة التوبة، الآية:24.

ص: 149

التفاضل.

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"1.

وفيهما عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدهم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين "2.

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر"3.

فهذه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيها أوضح دلالة على تفاضل الناس في المحبة. فقد ذكر فيها كلمة "أحب" الدالة على التفاضل تصريحاً.

فمن أنكر ذلك وقال بخلافه، فقد خالف الكتاب والسنة، بل وخالف اللغة والعقل والحس.

وكما أن الناس يتفاضلون في المحبة كما سبق، وهي عمل قلبي،

1 البخاري (1/260 و0 1/ 463 و 12/ 315 فتح) ومسلم (1/ 66) ..

2 البخاري (1/58 فتح) ومسلم (1/67) .

3 البخاري (11/523 فتح) وهذا الحديث من أفراد البخاري، ولم يشر إلى ذلك الحافظ في الفتح كما هي عادته في نهاية شرحه لكل كتاب من صحيح البخاري.

ص: 150

فهم كذلك يتفاضلون في سائر أعمال القلوب من خشية وإنابة وتوكل ورجاء وخوف وحياء وغير ذلك، فهذه كلها يتفاضل الناس فيها تفاضلاً عظيماً، وهذا من الأمور المعلومة الظاهرة، والأدلة عليها في الكتاب والسنة كثيرة منها:

قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1.

وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 2.

وقوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 3.

وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 4.

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 5.

وقوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 6.

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ

1 سورة فاطر، الآية:28.

2 سورة الأنفال، الآية:2.

3 سورة الحديد، الآية:16.

4 سورة الرعد، الآية:28.

5 سورة الإسراء، الآية:57.

6 سورة النجم، الآية:32.

ص: 151

فُرْقَاناً

} 1.

وقوله: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 2 وغيرها من الآيات.

ومن السنة:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير" 3 الحديث.

وحديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان"4.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والحياء

شعبة من الإيمان" 5.

وحديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا"6.

وغيرها من الأحاديث ففي هذه النصوص أوضح دلالة على تفاضل الناس في أعمال القلوب وتفاوتهم فيها.

1 سورة الأنفال، الآية ت 29.

2 سورة الزمر، الآية:10.

3 تقدم تخريجه (ص 76) .

4 تقدم تخريجه (ص 83) .

5 تقدم تخريجه (ص 71) .

6 تقدم تخريجه (ص 85) .

ص: 152

ثم إن النصوص الواردة في ذلك كثيرة، ولو تتبعتها وذكرت كل عمل من الأعمال القلبية بأدلته كما فعلت في المحبة، لطال المقام، والأمر لا يحتاج إلى ذلك، لأن كل إنسان يحس ذلك ويلمسه في نفسه، فإن الإنسان يجد نفسه في وقت أشد حياء منه في الوقت الآخر، وفي وقت أشد خوفاً منه في الوقت الآخر، وهكذا سائر أعمال القلب، فإن الإنسان يحس في نفسه تفاوته من وقت لآخر فيها.

قال شيخ الإسلام: "فإنه من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن، أن الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه والتوكل عليه والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء والكبر والعجب، ونحو ذلك، والرحمة للخلق والنصح لهم.. ثم ذكر بعض نصوص الكتاب والسنة الدالة على ذلك، ثم قال: وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه، فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما يحبه تارة، ويخافه تارة أكثر مما يخافه تارة"1.

وبين في موضع آخر أن هذا هو قول أهل السنة والجماعة، فقال: "والذي مضى عليه سلف الأمة وأئمتها أن نفس الإيمان الذي في القلوب يتفاضل

"2.

وقال الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وأما كون الذي في القلب والذي في الجوارح يزيد وينقص فذاك شيء معلوم، والسلف كانوا يخافون على الإنسان إذا كان ضعيف الإيمان

1 الفتاوى (7/ 563، 564) .

2 الفتاوى (6/ 479) .

ص: 153

النفاق أو سلب الإيمان كله"1.

الوجه السادس:

إن الأعمال الظاهرة يتفاضل الناس فيها وتزيد وتنقص وهذا شامل لأعمال اللسان، كالتسبيح والتكبير والاستغفار والذكر وقراءة القرآن وغيرها، وشامل لأعمال الجوارح، كالصلاة والحج والجهاد والصدقة وغيرها. فهذه الأعمال الظاهرة هي من الإيمان، وداخله في مسماه، والتفاضل يقع فيها كما يقع في الأعمال الباطنة.

قال شيخ الإسلام: "وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان

"2.

وقال: "وأما زيادة العمل الصالح الذي على الجوارح ونقصانه فمتفق عليه وان كان في دخوله في مطلق الإيمان نزاع، والذي عليه أهل السنة والحديث أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص"3.

أما الأدلة على تفاضل الناس في الأعمال الظاهرة: أعمال اللسان، وأعمال الجوارح فكثيرة جداً.

فمن أدلة تفاضل الناس في أعمال اللسان:

قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 4.

1 الدرر السنية (1/ 106) ومجموع مؤلفات الشيخ "قسم الفتاوى"(ص 51) .

2 الفتاوى (7/ 562) .

3 الفتاوى (6/ 479) باختصار.

4 سورة الأحزاب، الآيتان: 41- 42.

ص: 154

وقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} 1.

وقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} 2.

وقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} 3.

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} 4.

وقوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} 5.

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربّه مثل الحي والميت"6.

وفي الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن إقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها"7.

1 سورة آل عمران، الآية:41.

2 سورة آل عمران، الآية:191.

3 سورة الأحزاب، الآية:35.

4 سورة فاطر، الآية:29.

5 سورة مريم، الآية:58.

6 البخاري (11/ 208 فتح) ومسلم (1/ 539) واللفظ للبخاري.

7 الترمذي (5/177) ورواه أبو داود (2/ 73) وأحمد (2/192) وابن حبان (2/ 71 الإحسان) والحاكم (1/ 553) والبغوي (4/435) وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"وصححه ابن حبان والحاكم وسكت عنه الذهبي وصححه الألباني انظر صحيح الجامع (6/349) .

ص: 155

فهذه النصوص فيها أوضح دلالة على تفاضل الناس في أعمال اللسان، إذ هم ليسوا سواء في القيام بأعماله، بل متفاوتون.

ومن أدلة تفاضل الناس في أعمال الجوارح:

قول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 1.

وقوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً} 2.

وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 3.

وتقدم حديث الشعب، وفيه جعل النبي صلى الله عليه وسلم إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده

" الحديث.

فهذه النصوص فيها ذكر جملة من الأعمال الإيمانية كالصلاة والزكاة، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وتغيير المنكر باليد على حسب

1 سورة البقرة الآية: 238.

2 سورة إبراهيم، الآية:31.

3 سورة المؤمنون، الآيات: 1- 11.

ص: 156

الاستطاعة، وإماطة الأذى عن الطريق فهذه كلها من الأعمال الإيمانية التي تكون بالجوارح، وما من شك في أن الناس متفاضلون في هذه الأعمال أداء لها ومحافظة عيها وقياماً بها، فهم ليسوا في ذلك على درجة واحدة، بل بينهم فيها تفاوت عظيم.

الوجه السابع:

إن الإيمان يتفاضل ويزيد وينقص من جهة استحضار الإنسان بقلبه لأمور الإيمان، وذكره لها، ودوامه وثباته عليها، بحيث لا يكون غافلاً عنها، فإن من كان كذلك أكمل إيماناً ممن صدق بالمأمور به وغفل عنه.

وذلك لأن الغفلة تضاد كمال العلم والتصديق والذكر، وأما دوام الاستحضار وعدم الغفلة فإنه يكمل العلم واليقين ويقوي الإيمان، فالعالم بالشيء في حالة غفلته عنه دون العالم بالشيء حال ذكره له، والعلم وإن كان في القلب فالغفلة تنافي تحققه.

فالغفلة وعدم استحضار الأوامر، لها أثر في نقص كمال الإيمان وضعفه ولهذا قال عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه:"إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضعينا فذلك نقصناه"1. وكان معاذ بن جبل يقول لأصحابه "اجلسوا بنا نؤمن ساعة"2. وهذا يدلنا على أن الحذر من الغفلة، واستحضار الإيمان سبب لزيادة الإيمان، وعدم ذلك سبب لنقصه. ولهذا فإن الله الكريم نبّه في مواضع كثيرة من كتابه على أهمية الذكرى وعظم شأنها، وخطر الغفلة وشدة ضررها، ومن ذلك قوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ

1 تقدم تخريجه.

2 تقدم تخريجه.

ص: 157

الْمُؤْمِنِينَ} 1.

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 2 ومعنى شهيد أي: حاضر القلب وليس بغافل.

وقوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} 3.

وقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} 4.

وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} 5 وغيرها من الآيات.

الوجه الثامن:

إن الإنسان قد يكون مكذباً ومنكراً لأمور لا يعلم أنها من الإيمان، ولو كان عالماً بأنها منه لم يكذب ولم ينكر، فإذا تبين له بعد أنها من الإيمان، وظهر له ذلك بوجه من الوجوه، فإنه يصدق بما كان مكذباً به، ويعرف ما كان منكراً له، وهذا تصديق جديد، وإيمان جديد، ازداد به إيمانه، وهو لم يكن قبل ذلك كافراً بل جاهلاً.

وهذا يحصل لكثير من الناس ولاسيما أهل العلوم والعبادات، فإنه يقوم بقلوبهم من التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا يعرفون أنها تخالف، فإذا عرفوا رجعوا.

وكل من ابتدع في الدين قولاً أخطأ فيه، أو عمل عملاً أخطأ فيه،

1 سورة الذاريات، الآية:55.

2 سورة ق، الآية:37.

3 سورة الأعلى، الآيتان: 10- 11.

4 سورة الكهف، الآية:28.

5 سورة الأعراف، الآية:205.

ص: 158

وهو مؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم مصدق بما جاء به ثم عرف ما قاله وآمن به وترك ما كان عليه من خطأ، فهو من هذا الباب، وكل مبتدع قصده متابعة الرسول فهو من هذا الباب، فمن علم ما جاء به الرسول وعمل به، أكمل ممن أخطأ ذلك ومن علم الصواب بعد الخطأ وعمل به أكمل ممن لم يكن كذلك.

فهذا أحد أوجه زيادة الإيمان ونقصانه، وهو وإن أشبه الوجه الأول وهو المجمل والمفصل من جهة أنه تجدد عند هذا وهذا شيء من معارف الإيمان وعلومه مما لم يكن قبل عندهما، إلا أنهما مختلفان من جهة أن صاحب الوجه الأول كان قلبه خالياً من تكذيب وتصديق لشيء من التفاصيل وعن معرفة وإنكار لشيء من ذلك، أما صاحب هذا الوجه فهو مكذب بشيء من التفاصيل منكر لها لجهله أنها من الإيمان وبهذا يظهر الفرق بين الوجهين.

الوجه التاسع:

إن التفاضل يحصل من هذه الأمور من جهة الأسباب المقتضية لها، فمن كان مستنداً في تصديقه ومحبته على أدلة توجب اليقين ولا تدع مجالاً للشبه العارضة، بل تدحضها وتبين فسادها، فهو ليس بمنزلة من كان تصديقه لأسباب دون ذلك، فإن تصديقه قد يتزعزع ويداخله الشك والريب لضعف أسباب التصديق عنده وكذلك من جعل له علوماً ضرورية قوي تمكنها في نفسه بحيث لا يمكنه دفعها عن نفسه، لم يكن بمنزلة من تعارضه الشبه ويريد إزالتها بالنظر والبحث وقد لا يستطيع.

ولا يستريب عاقل أن العلم بكثرة الأدلة وقوتها، وبفساد الشبه المعارضة لذلك وبطلانها ليس كالعلم الذي هو مستند على دليل واحد أو دليلين من غير معرفة بالشبه المعارضة له، وفسادها.

ص: 159

فالشيء كلما قويت أسبابه وتعددت وانقطعت موانعه واضمحلت كان أوجب لكماله وقوته وتمامه، والعكس بالعكس.

فهذه الأوجه التسعة تبين تفاضل الناس فيما يقوم بالقلب واللسان والجوارح، وبالتأمل قد يظهر غيرها.

ثم إن هذه الأوجه التسعة تتلخص في وجهين اثنين هما:

ا- إن الإيمان يتفاضل من جهة أمر الرب.

2-

إن الإيمان بتفاضل من جهة فعل العبد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وذلك أن أصل أهل السنة أن الإيمان يتفاضل من وجهين: من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد.

أما الأول فإنه ليس الإيمان الذي أمر به شخص من المؤمنين هو الإيمان الذي أمر به كل شخص، فإن المسلمين في أول الأمر كانوا مأمورين بمقدار من الإيمان، ثم بعد ذلك أمروا بغير ذلك، وأمروا بترك ما كانوا مأمورين به كالقبلة، فكان الإيمان في أول الأمر الإيمان بوجوب استقبال بيت المقدس، ثم صار من الإيمان تحريم استقباله ووجوب استقبال الكعبة، فقد تنوع الإيمان في الشريعة الواحدة. وأيضاً فمن وجب عليه الحج والزكاة أو الجهاد يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره إلا مجملاً، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل، وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان..

ص: 160

والنوع الثاني: هو تفاضل الناس في الإتيان به مع استوائهم في الواجب، وهذا الذي يظن أنه محل النزاع وكلاهما محل النزاع.

وهذا أيضاً يتفاضلون فيه فليس إيمان السارق والزاني والشارب كإيمان غيرهم، ولا إيمان من أدى الواجبات كإيمان من أخل ببعضها، كما أنه ليس دين هذا وبره وتقواه مثل دين هذا وبره وتقواه، بل هذا أفضل ديناً وبراً وتقوى فهو كذلك أفضل إيماناً

"1.

قلت: وهذه الأوجه ينبغي تأملها وحسن فهمها ليعلم من خلالها مدى مفارقة الطوائف لأهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، ومقدار مفارقتهم للحق وبعدهم عنه، لأن منهم من يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص من أفي وجه، ومنهم من يرى أنه يزيد وينقص من وجه دون وجه، وليس أحد يرى أن الإيمان يزيد وينقص من كافة الأوجه المتقدمة غير أهل السنة والجماعة.

وبه أيضاً يعلم فضل علمهم على علم غيرهم، والفرق بينهم وبين غيرهم، وقوة موافقتهم للحق وإصابتهم له؛ لاعتصامهم بحبل الله وتمسكهم بكتابه واهتدائهم بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلافاً لأهل الأهواء الذين لم يصيروا يعتمدون في دينهم لا على القرآن، ولا على الإيمان الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلهذا كان السلف أكمل علماً وإيماناً والموفق من وفق لأتباعهم.

1 الفتاوى (13/51-55) ، وانظر أيضاً الفتاوى (18/ 277، 278) .

ص: 161