المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: فيمن قال بعدم جواز الاستثناء - زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: في قول أهل السنة والجماعة إن الإيمان يزيد وينقص

- ‌الفصل الأول: أدلتهم من الكتاب والسنة على زيادة الإيمان ونقصانه ونقل بعض أقوالهم في ذلك

- ‌المبحث الأول: أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب

- ‌المبحث الثانيأدلة زيادة الإيمان ونقصانه من السنة

- ‌المبحث الثالث: أقوال السلف في زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الثانيأوجه زيادة الإيمان ونقصانه

-

- ‌الفصل الثالثأسباب زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الأولأسباب زيادة الإيمان

- ‌المبحث الثانيأسباب نقص الإيمان

- ‌الفصل الرابعفي الإسلام هل يزيد وينقص

-

- ‌الباب الثاني: في الأقوال المخالفة لقول أهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان

- ‌الفصل الثانيقول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه

-

- ‌الفصل الثالث: قول من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص

- ‌المبحث الأولذكر القائلين بهذا القول

- ‌المبحث الثاني: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها

- ‌المبحث الثالث:في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم

-

- ‌الفصل الرابع: في سبب الخلاف في هذه المسألة ونشأته هل هو حقيقي أو لفظي

- ‌المبحث الأول: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة

- ‌المبحث الثاني: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أو لا

- ‌المبحث الثالث: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

-

- ‌الباب الثالث: حكم الاستثناء في الإيمان

-

- ‌الفصل الأول: بيان مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الاستثناء في الإيمان

- ‌المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه

- ‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

- ‌المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ" أنت مؤمن

- ‌المبحث الرابع: حكم الاستثناء في الإسلام

- ‌الفصل الثاني: فيمن قال بوجوب الاستثناء

- ‌الفصل الثالث: فيمن قال بعدم جواز الاستثناء

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل الثالث: فيمن قال بعدم جواز الاستثناء

‌الفصل الثالث: فيمن قال بعدم جواز الاستثناء

في الإيمان

عرفنا في الفصل السابق أن الأشاعرة والكلابية ذهبوا إلى إيجاب الاستثناء في الإيمان باعتبار الموافاة، وسبق بيان بطلان هذا القول وبعده عن الصواب، فعلى الضد لهؤلاء وفي المقابل لهم ذهبت الماتريدية بل والأحناف عموماً إلى عدم جواز الاستثناء في الإيمان لما يقتضيه في نظرهم من الشك في الإيمان1 وعدوا من يستثني شاكاً في إيمانه، وصار بعضهم يلمز السلف بأنهم شكاك، بل غلا بعضهم في ذلك فمنع تزويج أو أكل ذبيحة من يستثني في إيمانه.

كما قال أبو بكر الفضلي: "من قال أنا مؤمن إن شاء الله فهو كافر لا تجوز المناكحة معه ".

وقال أبو حفص السفكردري وبعض أئمة خوارزم من الحنفية: "لا ينبغي للحنفي أن يزوج بنته من رجل شافعي المذهب ولكن يتزوج من الشافعية تنزيلاً لهم منزلة أهل الكتاب بحجة أن الشافعية يرون جواز الاستثناء في الإيمان وهو كفر"2.

وجاء في كتب يعضهم: "لا يصلى خلف شاك في إيمانه يقصدون بذلك من يستثني في إيمانه"3.

1 انظر التوحيد للماتريدي (ص 388) وتأويلات أهل السنة له (ص 265) ، وبحر الكلام (ص40) ، والنبراس (ص 418) ، والجوهرة المنيفة (ص 5) والبداية من الكفاية (ص 155) وتحفة القاري (ص 52) وغيرها.

2 انظر البحر الرائق (2/46) .

3 إتحاف السادة المتقين (2/278) .

ص: 519

قلت: وهذا التصرف المشين والغلو المفرط ليس عاماً في جميع الأحناف القائلين بهذا القول بل منهم من استنكره على قائله ووصفه بأنه جرأة عظيمة وتعصب لا يرضاه الله تعالى كما قال الفرهاري: "وقد بالغ بعض الحنفية في المنع حتى قال الفضلى: "لا يجوز نكاح المرأة الشافعية لأنهم كفروا بالإستثناء"وهذه جرأة عظيمة وتعصب لا يرضاه الحق سبحانه"1.

ثم إن لأهل هذا القول أدلة عديدة وشبه متنوعة يعترضون بها على من أجاز الاستثناء وقال بمشروعيته. وفيما يلي عرض لأهم هذه الشبه مع بيان بطلانها:

1-

قولهم إن الإيمان هو التصديق والإقرار، ومن قام به التصديق والإقرار فهو مؤمن حقاً لا يجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاه الله، كمن قامت به الحياة لا يجوز أن يقول: أنا حي إن شاء الله، وكذا يكون مؤمناً عند الله تعالى لقيام الإيمان به في الحال، وإن علم الله تعالى أنه يكفر بعد ذلك، كما يعلم الله الحي حياً لقيام الحياة به في الحال وإن علم أنه يموت بعد ذلك، وكذلك هو مثل قول الشاب: أنا شاب إن شاء الله باعتبار أنه لا يدوم على شبابه، ومن المعلوم أن هذا غير جائز فكذلك الاستثناء في الإيمان2.

قلت: واعتراضهم هذا إنما يتوجه على قول الأشاعرة القائلين بوجوب الاستثناء في الإيمان باعتبار الموافاة، أما على قول أهل السنة والجماعة المستثنين باعتبار الأعمال والبعد عن تزكية النفس فغير متوجه

1 النبراس شرح العقائد (ص 420) .

2 انظر البداية من الكفاية (ص 155) ، والنبراس شرح العقائد (ص 420) .

ص: 520

ألبتة كما لا يخفى، ومع ذلك فقد أجاب الأشاعرة عن هذا الاعتراض الوارد على قولهم بأن قالوا: إن الاستثناء في الإيمان ليس مثل قول القائل أنا شاب إن شاء الله لأن الشباب ليس من الأفعال المكتسبة ولا مما يتصور عليه البقاء في العاقبة والمآل ولا مما يحصل به تزكية النفس والإعجاب، حاصل الجواب منع استواء الكلامين لأن في الإيمان ثلاثة أمور مصححة للاستثناء غير موجودة في الشباب:

أحدها: أن الشباب ليس من الأفعال الاختيارية فلا يتصور في استثنائه تأدب، لأن التأدب ههنا هو ترك دعوى القدرة والكسب مع وجودهما، بخلاف الإيمان فإنه كسبي اختياري فيجوز فيه التأدب بترك الدعوى.

ثانيها: أن الشباب لا يتصور استمراره على ما جرت به العادة الإلهية فلما لم يكن من الأمور التي تشك في بقائها عاقبة الأمر لم يحسن الاستثناء فيه على سبيل إبهام العاقبة بخلاف الإيمان، لأن العاقبة فيه مبهمة.

ثالثها: أن الشباب ليس من الأعمال الصالحة فلا يتصور فيه الافتخار الذي يتصور في العمل الصالح، فلا يصح فيه، الاستثناء الدافع للافتخار بخلاف الإيمان فإنه رئيس الأعمال الصالحة بل الاستثناء في الإيمان مثل قولك أنا زاهد متق إن شاء الله تعالى؛ لأن الإيمان والزهد والتقوى أعمال: كسبية يتصور بقاؤها، ويكون دعواها مظنة فخر وإعجاب فكما أن الاستثناء يجوز في الزهد والتقوى إجماعاً فكذا في

ص: 521

الإيمان1.

ولا شك أنه بهذا الجواب يندفع اعتراض هؤلاء بتسوية الإيمان والشباب في عدم جواز الاستثناء فيهما، وأوجه هذه الأجوبة وأصوبها عندي ثالثها وهو يتطابق مع مراد السلف ومقصودهم بالاستثناء في الإيمان إلا أنه لم ينص فيه على أن الأعمال من الإيمان.

2-

ادعاؤهم أن الاستثناء فيه إيهام الشك في الإيمان فينبغي صون الكلام عنه2.

ونقل عن أبي حنيفة أنه قال: المؤمن حقاً والكافر حقاً لا شك في الإيمان كما لا شك في الكفر، والاستثناء يدل على الشك، ولا يجوز الشك في الإيمان للإجماع على أن من قال: آمنت إن شاء الله أو آمنت بالملائكة أو بالكتب أو بالرسل إن شاء الله يكون كافراً. 3

قلت: والكلام على هذه الشبهة سبق مستوفى- بحمد الله- عند بيان مآخذ السلف في الاستثناء، وأن الاستثناء لا يقتضي الشك، وسبق هناك من نصوص الشرع وأقوال أهل العلم ما يكفي في دفع هذا، مثل قول الله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 4 وقوله صلى الله عليه وسلم في أصحاب القبور "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" 5 وغير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على أن الاستثناء قد يكون على اليقين ولا يقتضي

1 انظر النبراس شرح العقائد (ص 420، 421) .

2 انظر تحفة القاري (ص 52) .

3 انظر بحر الكلام (ص 40) والروضة البهية (ص 10) .

4 سورة الفتح، الآية:27.

5 تقدم تخريجه (ص 473) .

ص: 522

شكاً ولا ريباً.

ثم فرق بين قول الرجل: أنا مؤمن أو مؤمن حقا، وبين قوله: آمنت بالله، أو أشهد ألا إله إلا الله، أو أشهد أن محمداً رسول الله، لأن المراد بهذه الأمور الأخيرة أصل الإيمان وأساسه وهذا لا استثناء فيه، وأما المراد بأنا مؤمن حقاً كمال الإيمان وتمامه وهذا لا بد من الاستثناء فيه، وإلا يكون غير المستثني في هذا مزكياً لنفسه شاهداً بأنه في الجنة، وهذا لا يدعيه أحد.

3-

قولهم: إن الاستثناء، تعليق والتعليق لا يتصور إلا فيما يتحقق بعد كما قال تعالى:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1. وأما إذا تحقق كالماضي والحال فيمتنع تعليقه.

4-

وقولهم: إن الاستثناء يرفع العقود جميع العقود نحو الطلاق والعتاق والنكاح والبيع، فكذلك يرفع عقد الإيمان2.

قلت: وقد ذكر شيخ الإسلام هاتين الشبهتين وأجاب عنهما جواباً وافياً كافياً ولأهمية كلامه رحمه الله فإني أسوقه بحروفه مع حذف شيء يسير منه، قال: "وقد علل تحريم الاستثناء فيه بأنه لا يصح تعليقه على الشرط؛ لأن المعلق على الشرط لا يوجد إلا عند وجوده، كما قالوا في قوله: أنت طالق إن شاء الله. فإذا علق الإيمان بالشرط كسائر المعلقات بالشرط لا يحصل إلا عند حصول الشرط.

قالوا: وشرط المشيئة الذي يترجاه القائل لا يتحقق حصوله إلى يوم

1 سورة الكهف، الآية:23.

2 انظر التوحيد لأبي منصور الماتريدي (ص 388) ، وبحر الكلام (ص40) ، والنبراس (ص 418) ، والجوهرة المنيفة (ص 5) ، والروضة البهية (ص10) .

ص: 523

القيامة، فإذا علق العزم بالفعل على التصديق والإقرار فقد ظهرت المشيئة وصح العقد، فلا معنى للاستثناء؛ ولأن الاستثناء عقيب الكلام يرفع الكلام، فلا يبقى الإقرار بالإيمان والعقد مؤمناً، وربما يتوهم هذا القائل القارن بالاستثناء على الإيمان بقاء التصديق، وذلك يزيله.

قلت: فتعليلهم في المسألة إنما يتوجه فيمن يعلق إنشاء الإيمان على المشيئة، كالذي يريد الدخول في الإسلام، فيقال له: آمن. فيقول: أن أومن إن شاء الله، أو آمنت أن شاء [الله] ، أو أسلمت إن شاء الله، أو أشهد إن شاء الله ألا إله إلا الله، وأشهد إن شاء الله أن محمداً رسول الله، والذين استثنوا من السلف والخلف لم يقصدوا في الإنشاء، وإنما كان استثناؤهم في إخباره عما قد حصل له من الإيمان، فاستثنوا؛ إما أن الإيمان المطلق يقتضي دخول الجنة وهم لا يعلمون الخاتمة، كأنه إذا قيل للرجل: أنت مؤمن. قيل له: أنت عند الله مؤمن من أهل الجنة، فيقول: أنا كذلك إن شاء الله أو لأنهم لا يعرفون أنهم أتوا بكمال الإيمان الواجب.

ولهذا كان من جواب بعضهم إذا اقيل له أنت مؤمن: آمنت بالله وملائكته وكتبه، فيجزم بهذا ولا يعلقه، أو يقول: إن كنت تريد الإيمان الذي يعصم دمي ومالي فأنا مؤمن، وإن كنت تريد قوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} 1 وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ

1 سورة الأنفال، الآية: 2-4.

ص: 524

الصَّادِقُونَ} 1 فأنا مؤمن إن شاء الله، وأما الإنشاء فلم يستثن فيه أحد، ولا شرع الاستثناء فيه، بل كل من آمن وأسلم آمن وأسلم جزماً بلا تعليق.

ولو قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله: ففيه نزاع مشهور، وقد رجحنا التفصيل، وهو أن الكلام يراد به شيئان، يراد به إيقاع الطلاق تارة، ويراد به منع إيقاعه تارة، فإن كان مراده أنت طالق بهذا اللفظ. فقوله: إن شاء الله مثل قوله بمشيئة الله، وقد شاء الله الطلاق حين أتى بالتطليق فيقع وإن كان قد علق لئلا يقع، أو علقه على مشيئة توجد بعد هذا لم يقع به الطلاق حتى يطلق بعد هذا، فإنه حينئذ شاء الله أن تطلق.

وقول من قال المشيئة تنجزه ليس كما قال، بل نحن نعلم قطعاً أن الطلاق لا يقع إلا إذا طلقت المرأة بأن يطلقها الزوج أو من يقوم مقامه، من ولي أو وكيل، فإذا لم يوجد تطليق لم يقع طلاق قط، فإذا قال أنت طالق إن شاء الله وقصد حقيقة التعليق لم يقع إلا بتطليق بعد ذلك، وكذلك إذا قصد تعليقه لئلا يقع الآن. وأما إن قصد إيقاعه الآن وعلقه بالمشيئة توكيداً وتحقيقاً فهذا يقع به الطلاق.

وما أعرف أحداً أنشأ الإيمان فعلقه على المشيئة، فإذا علقه فإن كان مقصوده أنا مؤمن إن شاء الله أنا أومن بعد ذلك فهذا لم يصر مؤمناً، مثل الذي يقال له: هل تصير من أهل دين الإسلام فقال: أصير إن شاء الله فهذا لم يسلم، بل هو باق على الكفر. وإن كان قصده أني قد آمنت وإيماني بمشيئة الله صار مؤمناً، لكن إطلاق اللفظ يحتمل هذا وهذا، فلا

يجوز إطلاق مثل هذا اللفظ في الإنشاء، وأيضاً فإن الأصل أنه إنما يعلق

1 سورة الحجرات، الآية:15.

ص: 525

بالمشيئة ما كان مستقبلاً فأما الماضي والحاضر فلا يعلق بالمشيئة، والذين استثنوا لم يستثنوا في الإنشاء كما تقدم، كيف وقد أمروا أن يقولوا:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} 1.

وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 2 فأخبر أنهم آمنوا فوقع الإيمان منهم قطعاً بلا استثناء.

وعلى كل أحد أن يقول: آمنا بالله وما أنزل إلينا كما أمر الله بلا استثناء، وهذا متفق عليه بين المسلمين ما استثنى أحد من السلف قط في مثل هذا، وإنما الكلام إذا أخبر عن نفسه بأنه مؤمن كما يخبر عن نفسه بأنه بر، تقي، فقول القائل له: أنت مؤمن هو عندهم كقوله: هل أنت بر تقي؟ فإذا قال: أنا بر تقي فقد زكى نفسه. فيقول: إن شاء الله، وأرجو أن أكون كذلك، وذلك: أن الإيمان التام يتعقبه قبول الله له، وجزاؤه عليه، وكتابة الملك له، فالاستثناء يعود إلى ذلك لا إلى ما علمه هو من نفسه وحصل واستقر: فإن هذا لا يصح تعليقه بالمشيئة، بل يقال هذا حاصل بمشيئة الله وفضله وإحسانه، وقوله فيه إن شاء الله بمعنى إذ شاء الله، وذلك تحقيق لا تعليق والرجل قد يقول: والله ليكونن كذا إن شاء الله وهو جازم بأنه يكون فالمعلق هو الفعل، كقوله {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} 3 والله عالم بأنهم سيدخلونه، وقد يقول الآدمي لأفعلن كذا إن شاء الله وهو لا يجزم بأنه يقع، لكن يرجوه فيقول:

1 سورة البقرة، الآية:136.

2 سورة البقرة، الآية:285.

3 سورة الفتح، الآية:27.

ص: 526

يكون إن شاء الله، ثم عزمه عليه قد يكون جازماً، ولكن لا يجزم بوقوع المعزوم عليه، وقد يكون العزم متردداً معلقاً بالمشيئة أيضاً، ولكن متى كان المعزوم عليه معلقاً لزم تعليق بقاء العزم فإنه بتقدير أن تعليق العزم ابتداءً أو دواماً في مثل ذلك. ولهذا لم يحنث المطلق المعلق وحرف "إن"لا يبقي العزم، فلا بد إذا دخل على الماضي صار مستقبلاً، تقول: إن جاء زيد كان كذلك {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} 1 وإذا أريد الماضي دخل حرف "إن"كقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} 2 فيفرق بين قوله: أنا مؤمن إن شاء الله وبين قوله إن كان الله شاء إيماني"3.

5-

ومما احتج به هؤلاء على قولهم حديث الحارث بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: كيف أصبحت يا حارث بن مالك؟ قال: أصبحت مؤمناً حقاً، قال:"إن لكل قول حقيقة فما حقيقة ذلك، قال أصبحت عزفت نفسي عن الدنيا وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي قد أبرز للحساب، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة، وكأني أسمع عواء أهل النار، قال: فقال له عبد نور الإيمان قي قلبه، إن عرفت فالزم"4.

1 سورة البقرة، الآية:137.

2 سورة آل عمران، الآية:31.

3 الفتاوى (13/41-46) .

4 رواه ابن المبارك في الزهد (ص 106) عن معمر عن صالح بن مسمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا حارثة بن مالك كيف أصبحت قال الحافظ: "وهو معضل". ورواه عبد الرزاق في مصنفه (11/129) وابن الأعرابي في معجمه (برقم 205) من طريق معمر عن صالح بن مسمار، وجعفر بن برقان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره.

ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه (11/43)، وفي الإيمان (ص 38) من طريق ابن نمير نا مالك بن مغول عن زبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.

قال الألباني: "والحديث معضل فإن زبيداً من الطبقة السادسة التي لم تلق أحداً من الصحابة عند الحافظ في التقريب، وقد روي موصولاً عن الحارث بن مالك نفسه رواه عبد بن حميد والطبراني وأبو نعيم وغيرهم بسند ضعيف، ا. هـ. وللحديث طرق عديدة موصولة ومرسلة لكنها لا تخلو من ضعف وكلام، وقد فصل القول فيها الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة في ترجمة الحارث (1/ 289) فليراجع.

ص: 527

قالوا: فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ولكن قال لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ 1.

قلت: وهذا الحديث لا حجة لهم فيه لأمرين:

الأول: أن في ثبوته نظراً وقد تكلم فيه غير واحد من أهل العلم.

الثاني: أنه إن صح فمحمول على أن المراد به أصل الإيمان، ومن المعلوم أنه إذا أريد به أصل الإيمان جاز اطلاقه كما سبق النقل في ذلك عن السلف، قال شيخ الإسلام:"وأما جواز اطلاق القول بأني مؤمن فيصح إذا عني أصل الإيمان دون كماله، والدخول فيه دون تمامه، كما يقول: أنا حاج وصائم لمن شرع في ذلك، وكما يطلقه في قوله: آمنت بالله ورسله، وفي قوله: إن كنت تعني كذا وكذا أن جواز إخباره بالفعل يقتضي جواز إخباره بالاسم مع القرينة وعلى هذا يخرج ما روي عن صاحب معاذ بن جبل، وما روي في حديث الحارث الذي قال: "أنا مؤمن حقاً"وفي حديث

1 انظر بحر الكلام في علم التوحيد (ص 41) والروضة البهجة (ص 10) .

ص: 528

الوفد الذين قالوا: "نحن المؤمنون"وإن كان في الإسنادين نظراً"1.

6-

واحتجوا أيضاً ببعض الآثار المروية عن السلف كمعاذ بن جبل وابن مسعود وعطاء وغيرهم فيها التصريح بالإيمان بدون استثناء2.

قلت: وقد سبق ذكر هذه الآثار وتخريجها عند بيان مذهب السلف في مسألة الاستثناء3، وأنها لا تخلو من أحد أمور ثلاثة: إما أن تكون لا ضعيفة الإسناد، أو قيلت على سبيل التعميم نحو أنتم المؤمنون، أو يكون قصد بذلك أصل الإيمان. أما إذا أريد الإيمان التام الكامل فلا بد من الاستثناء، والله أعلم.

هذا وقد ادعى بعضهم- كالسبكي في رسالته التي صنَّفها في مسألة الاستثناء، وأبي عذبة في كتابه الذي صنَّفه لبيان المسائل المختلف فيها بين الأشاعرة والماتريدية - أن الخلاف في هذه المسألة بين الأشاعرة القائلين بوجوب الاستثناء نظراً للموافاة، وبين الماتريدية القائلين بعدم جواز الاستثناء مطلقاً لما يقتضيه في نظرهم من الشك والريب في الإيمان لفظي وليس حقيقياً4.

والحق أن الخلاف بين الطائفين جوهري حقيقي وليس لفظياً فقط، وذلك لأن الماتريدية لم يرتضوا ما ذهب إليه الأشاعرة من إيجاب للاستثناء باعتبار الموافاة، فالطائفتان وإن كان بينهما اتفاق في أنه لا يقال أنا

1 الفتاوى (7/ 669) .

2 انظر النبراس (ص 418) ، واتحاف السادة المتقين (2/481) .

3 انظر (484 وما بعدها) من هذه الرسالة وانظر أيضاً (ص 508) .

4 انظر إتحاف السادة المتقين للزبيدي (2/278) ، والروضة البهية لأبي عذبة (ص 9) .

ص: 529

مؤمن إن شاء الله للشك في ثبوت الإيمان للحال، فإن بينهما خلافاً في جواز إطلاق هذا الاستثناء بالنظر إلى إيمان المآل والموافاة، فلم يجوزه الماتريدية وأوجبه الأشاعرة، وعلل الماتريدية عدم تجويزه "بأن النفس قد تعتاد التردد في إيمان الحال بسبب ترددها في ثبوت الإيمان واستمراره، وهذه مفسدة قد تجر آخر الحياة إلى الاعتياد به، خصوصاً والشيطان متبتل بالإنسان لا شغل له سواه، فيجب حينئذ تركه"1.

فإيمان الموافاة الذي يوجب الأشاعرة الاستثناء نظراً إليه لا يجيز الماتريدية الاستثناء لأجله، فكيف يقال بعدئذ إن الخلاف بينهما لفظي، ومن المعلوم أيضاً أن بعض الماتريدية لا يجيز الصلاة خلف المستثني ولا أكل ذبيحته ويعدونه شاكاً في إيمانه دون تمييز منهم بين إيمان موافاة أو غيره.

وعلى كل فسواء أكان الخلاف بينهما حقيقياً أو لفظياً فإن الطائفتين غالطتان فيما ذهبتا إليه، ولم تصب أي واحدة منهما الحق، وإنما الذي أصاب الحق في هذا وناله هم أهل السنة والجماعة، وقد سبق شرح مذهبهم وبيانه والتدليل عليه، وإبطال ما خالفه من الأقوال المحدثة، وبالله وحده التوفيق.

1 انظر المسامرة شرح المسايرة لابن أبي شريف (ص 386 وما بعدها) .

ص: 530

الخاتمة

الحمد لله أولاً وآخراً والشكر له ظاهراً وباطناً.

وبعد: فقد تم في هذا البحث بتوفيق من الله وامتنان وفضل منه وإحسان -حديث مفصل عن مسألتين عظيمتين من مسائل الإيمان المهمة: الأولى: عن زيادة الإيمان ونقصانه، والثانية: عن حكم الاستثناء فيه، وإني لأرجو الله الكريم أن يجعل هذا الجهد مباركاً مقبولاً عنده، نافعاً للعباد وافياً بالمراد، وأن يغفر لي ما وقع فيه من خطأ وزلل إنه جواد كريم غفور رحيم.

وفي نهاية هذا البحث وختامه أجمل باختصار أهم نتائجه وأبرزها في النقاط التالية:

إن الإيمان عند أهل السنة والجماعة بإجماعهم قول وعمل يزيد وينقص، ولهم على ذلك أدلة كثيرة لا تحصى من الكتاب والسنة، وقد أتى هذا البحث على جملة مباركة منها موضحة مبينة، وللسلف في تقرير ذلك أقوال كثيرة جداً يؤصلون فيها هذه العقيدة الراسخة الصحيحة، ويردون بها على الأقوال المحدثة المبتدعة المخالفة لذلك من أقوال المرجئة وغيرهم.

ثم إن زيادة الإيمان ونقصانه عند أهل السنة تكون من أوجه عديدة ذكر في هذا البحث تسعة منها، وهي في الجملة ترجع إلى وجهين اثنين هما: أن الإيمان يتفاضل من جهة أمر الرب ومن جهة فعل العبد، وهذا

ص: 531

من الأصول المتقررة عند أهل السنة والجماعة وليس أحد من الفرق والطوائف يوافقهم في ذلك؛ لأن منهم من يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص من أي وجه، ومنهم من يرى إنه يزيد وينقص من وجه دون وجه وليس أحد يرى أنه يزيد وينقص من جميع هذه الوجوه غير أهل السنة والجماعة.

وللإيمان أسباب كثيرة متنوعة تزيده وتنقيه، وأسباب أخرى متنوعة تضعفه وتنقصه وهي تعلم بالتدبر والتأمل للكتاب والسنة. وتحقيق الإيمان وتقويته إنما يكون بمعرفة هذه الأسباب وفهمها ثم بالقيام بأسباب الزيادة والبعد عن أسباب النقص.

ومن أسباب زيادته العلم النافع، وتدبر القرآن الكريم، ومعرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وتأمل محاسن ديننا الحنيف، وسيرة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، وسير أصحابه، والتأمل والنظر في كون الله الفسيح وما فيه من دلالات باهرة وحجج ظاهرة، والقيام بطاعة الله عز وجل على الوجه المطلوب، فهذه من أنفع الأمور المقوية للإيمان والجالبة له.

ومن أسباب نقصه وضعفه الجهل بدين الله والغفلة والإعراض والنسيان وفعل المعاصي، وارتكاب الذنوب، وطاعة النفس الأمارة بالسوء، ومقارنة أهل الفسق والفجور، واتباع الهوى والشيطان، والاغترار بالدنيا والافتتان بها، فهذه الأمور من أشد الأسباب المنقصة للإيمان والمضعفة له.

ثم إن الإسلام عند أهل السنة يزيد وينقص ويقوى ويضعف كالإيمان سواء لأن الإسلام عندهم شامل للطاعات كلها، وتفاضل الناس في القيام بأعمال الإسلام وتفاوتهم في ذلك أمر معلوم متقرر، إلا إن قصد بالإسلام الكلمة كما ذهب إلى ذلك بعض السلف فالكلمة لا تزيد

ص: 532

ولا تنقص.

ثم إنه قد جاء عن الإمام مالك رحمه الله في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه روايتان إحداهما: أن الإيمان يزيد وتوقف في النقصان؛ لأنه لم يجد نصاً صريحاً في القرآن يدل على النقصان، ثم تبين له بعد أن الإيمان ينقص كما أنه يزيد فقال به، وهذه هي الرواية الأخرى، وقد جاءت عنه من طرق عديدة ثابتة عن غير واحد من أصحابه.

وجاء عن بعض الأشاعرة والغسانية والنجارية والإباضية ونسب إلى أبي حنيفة أن الإيمان يزيد ولا ينقص، واحتجوا لذلك ببعض الشبه الواهيه والحجة الضعيفة وقد تم إيرادها وبيان بطلانها في هذا البحث بتوفيق الله.

وقد ذهبت طوائف أخرى كثيرة من أهل الكلام والإرجاء والتجهم من الجهمية والمعتزلة والخوارج والأشاعرة والماتريدية وغيرهم إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقولهم هذا باطل شرعاً معلوم الفساد بالاضطرار من دين الله وليس عليه دليل لا من كتاب ولا سنة ولا عقل، بل إن صريح الكتاب وصحيح السنة والعقل بخلافه وعلى الضد له تماماً.

ثم وإن كان من القائلين بهذا القول الإمام أبو حنيفة رحمه الله، فإن هذا لا يسوغ هذه العقيدة، بل إنه يعد هفوة منه رحمه الله وزلة قدم يرجى أن تغتفر في بحر علمه وفضله ولاسيما وقد جاء عنه ما يشعر برجوعه عن هذا القول وهو الحري به غفر الله له، ولهذا لا يجوز متابعته في ذلك لأن أقوال العلماء- كما هو متقرر- لا يحتج بها على الأدلة الشرعية بل يحتج لها بالأدلة الشرعية، فما كان منها مخالفاً لما جاء في الشرع طرح جانباً وتمسك فيما جاء بالشرع فقط وهذا أمر أوصى به الأئمة جميعهم أبو حنيفة وغيره.

ص: 533

ولئن كان بعض الأحناف غلا في متابعة أبي حنيفة في غلطه هذا وتعصب له فيه تعصباً مقيتاً، فإن من الأحناف من اعتدل في الأمر ووزن الأمور بميزان الشرع فترحم على أبي حنيفة وترك متابعته في خطئه، وعد متابعته في ذلك من سنن العوام.

لكن من العجيب حقاً أن بعض الذاهبين لهذا القول والمتعصبين له، لم يرعووا عن أمور ذميمة وخلال قبيحة، ركبوها تحسيناً منهم لباطلهم وترويجاً له، فكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحاديث كثيرة، وحرّفوا نصوصاً شرعية عديدة بتأويلات مستكرهة بعيدة عن اللغة والشرع معاً، وضللوا وكفروا وبدعوا أهل الحق والاستقامة، فهؤلاء لا حيلة فيهم إلا كشف باطلهم وتعرية ضلالهم وفضحهم على رؤوس الأشهاد؛ ولهذا كانت مواقف علماء الإسلام وأئمة السنة من مثل هؤلاء قوية صارمة تتسم بالحزم وعدم التساهل، فأوصوا بهجرهم والبعد عنهم والحذر من باطلهم، صيانة للعقيدة، وحفاظاً على السنة.

بينما نبتت في عصورنا المتأخرة وأزماننا الحاضرة مواقف مهزوزة وآراء مهلهلة، تدعوا إلى السكوت عن هؤلاء وعدم كشف باطلهم للتفرغ فقط للعدو الخارجي لدعوته أو صد عدوانه، فنجم عن هذه المواقف أن رفع أهل الباطل عقيرتهم، وأظهروا بدعهم، ونادوا بها في كل مجلس وناد، فاختلطت الأمور وتغيرت المفاهيم، وبات المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وصارت البدعة سنة والسنة بدعة، فضاع لكثير من المسلمين رأس مالهم وسبيل نجاتهم فضلاً عن أن تتحقق الأرباح لهم.

بل وادعى بعض أهل هذه المواقف أن عقائد المرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم ماتت وانقرضت ولم تعد موجودة في هذا الزمان، والحق أن هذا القول يعد تلبيساً من قائله وتعمية منه عن الأمور البادية

ص: 534

لكل مبصر، والظاهرة لكل متبصر، بل إن أهل هذه الأهواء في زماننا هذا- ولست مبالغاً في ذلك- أكثر منهم عن ذي قبل، فالبدع الأولى لا زالت موروثة، والضلالات القديمة لا زالت محروثة، غير أنه أضيف إليها في هذا الزمان أنواع أخرى من البدع والمحدثات، والله المستعان.

ثم إني قد أوضحت في هذا البحث سبب نشوء الخلاف في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وقررت أن الخلاف الذي حصل فيها حقيقي جوهري، وليس لفظياً صورياً فقط، لأن قول المخالفين في هذه المسألة مضاد تماماً لقول أهل السنة والجماعة المستمد من الكتاب والسنة، إضافة إلى ما جره قولهم من بدع عديدة وضلالات متنوعة.

ومن بدع هؤلاء تحريمهم الاستثناء في الإيمان ووصفهم المستثني في إيمانه بأنه شاك، حتى غلا بعضهم في ذلك فمنع من تزويج أو أكل ذبيحة من يستثني في إيمانه، رغم أن الاستثناء في الإيمان من معتقد أهل السنة والجماعة، المدعم بالأدلة النقلية الصحيحة، دون أن يكون مقتضياً للشك أو الريب كما يدعيه هؤلاء، بل إن الأمر في ذلك عائد إلى مقصود قائله، فإن قصد بقوله أنا مؤمن الشك في أصل الإيمان يكون عندئذ شاكاً في إيمانه.

أما السلف فمقصودهم بالاستثناء هو البعد عن تزكية النفس، والخوف من عدم قبول الأعمال، وبعداً عن ادعاء القيام بالأعمال كلها، دون شك منهم في أصل الإيمان وأساسه، وحاشاهم ذلك.

ولهذا جاء عن بعض السلف اطلاق القول، أنا مؤمن دون تقييد لذلك بالاستثناء، ومقصودهم بذلك أصل الإيمان، لأنه إذا قصد بأنا مؤمن أصل الإيمان فلا استثناء في ذلك، وإن قصد تمامه وكماله فلا بد من الاستثناء.

ص: 535

لكن لما كان مقصود القائل لا يظهر إلا بقرينة تدل عليه صار متعيناً على كل أحد إذا قال أنا مؤمن أن يستثني، إلا إذا أظهر من كلامه ما يدل على إرادته أصل الإيمان، ليجانب بذلك تزكية نفسه وادعاء كمالها، لهذا كره الإمام أحمد رحمه الله إطلاق هذه الكلمة دون تقييد لها بالاستثناء. أما قول أنا مسلم فالمشهور عن أهل الحديث هو عدم الاستثناء

فيه، لأنه لما كان كل من أتى بالشهادتين صار مسلماً متميزاً عن أهل الكفر تجري عليه حكام الإسلام التي تجري على المسلمين، كان هذا مما يجزم به بلا استثناء فيه.

وقد خالف السلف في مسألة الاستثناء في الإيمان طائفتان: ذهبت إحداهما إلى إيجاب الاستثناء في الإيمان لأجل الموافاة، حيث إن قائل هذه الكلمة لا يعلم هل يوافي ربه بإيمانه، فيدوم عليه إلى أن يموت أولاً؟ لهذا أوجب هؤلاء الاستثناء في الإيمان، ومأخذهم هذا في الاستثناء لا يعلم عن أحد من أهل السنة والجماعة، كما جزم بذلك شيخ الإسلام رحمه الله. أما الطائفة الأخرى فذهبت إلى تحريم الاستثناء مطلقاً لما يقتضيه في نظرهم من الشك في الإيمان.

ولا ريب في بطلان ما ذهبت إليه هاتان الطائفتان وبعده عن الحق والصواب إن كان هؤلاء قد تعلقوا ببعض الشبه والأدلة لنصرة قولهم، فإن ما تعلقوا به لا تقوم به حجة ولا ينهض به برهان، وقد أوردت في هذا البحث شبه كل طائفة وما تعلقت به من أدلة لنصرة مذهبها، وبينت بطلان تلك الشبه وفساد تلك الاستدلالات.

ثم إن السلامة إنما تتحقق بالبعد عن أهل الأهواء والبدع وبمتابعة أهل السنة والجماعة، فهم دائماً أسعد بالدليل وأحظى بالحق والسبيل،

ص: 536

فالسلامة معهم وكذا العلم والإيمان، جعلنا الله من أتباعهم، وحشرنا في زمرتهم، وجنبنا الأهواء المضلة والفتن المطغية، إنه سميع الدعاء.

فهذه بعض المعالم الرئيسة، والنقاط البارزة في هذا البحث، وإني في الختام لأستغفر الله من كل ذنب زلت به القدم، أو زلل طغى به القلم، والحمد لله رب العالمين، وصلاة الله وسلامه الأتمان الأكملان على نبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 537