المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب - زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: في قول أهل السنة والجماعة إن الإيمان يزيد وينقص

- ‌الفصل الأول: أدلتهم من الكتاب والسنة على زيادة الإيمان ونقصانه ونقل بعض أقوالهم في ذلك

- ‌المبحث الأول: أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب

- ‌المبحث الثانيأدلة زيادة الإيمان ونقصانه من السنة

- ‌المبحث الثالث: أقوال السلف في زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الثانيأوجه زيادة الإيمان ونقصانه

-

- ‌الفصل الثالثأسباب زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الأولأسباب زيادة الإيمان

- ‌المبحث الثانيأسباب نقص الإيمان

- ‌الفصل الرابعفي الإسلام هل يزيد وينقص

-

- ‌الباب الثاني: في الأقوال المخالفة لقول أهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان

- ‌الفصل الثانيقول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه

-

- ‌الفصل الثالث: قول من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص

- ‌المبحث الأولذكر القائلين بهذا القول

- ‌المبحث الثاني: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها

- ‌المبحث الثالث:في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم

-

- ‌الفصل الرابع: في سبب الخلاف في هذه المسألة ونشأته هل هو حقيقي أو لفظي

- ‌المبحث الأول: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة

- ‌المبحث الثاني: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أو لا

- ‌المبحث الثالث: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

-

- ‌الباب الثالث: حكم الاستثناء في الإيمان

-

- ‌الفصل الأول: بيان مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الاستثناء في الإيمان

- ‌المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه

- ‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

- ‌المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ" أنت مؤمن

- ‌المبحث الرابع: حكم الاستثناء في الإسلام

- ‌الفصل الثاني: فيمن قال بوجوب الاستثناء

- ‌الفصل الثالث: فيمن قال بعدم جواز الاستثناء

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الأول: أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب

‌الباب الأول: في قول أهل السنة والجماعة إن الإيمان يزيد وينقص

‌الفصل الأول: أدلتهم من الكتاب والسنة على زيادة الإيمان ونقصانه ونقل بعض أقوالهم في ذلك

‌المبحث الأول: أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب

المبحث الأول أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب

لقد جاء في كتاب الله عز وجل نصوص كثيرة تدل على زيادة الإيمان ونقصانه وأن أهله متفاضلون فيه بعضهم أكمل إيماناً من بعفر، منهم السابق بالخيرات، ومنهم المقتصد، ومنهم الظالم لنفسه، منهم المحسن، ومنهم المؤمن، ومنهم المسلم، ليسوا في الدين سواء في مرتبة واحدة، بل فضل الله بعضهم على بعض ورفع بعضهم فوق بعض درجات.

وقبل الشروع في ذكر هذه الأدلة القرآنية الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه أودّ التنبيه على نقطة هامة، وهي:

أن كل دليل دلّ على زيادة الإيمان فهو يدل على نقصانه، وكذا العكس، فما دل على نقصان الإيمان فهو يدل على زيادته، فالآيات التي أوردها هنا وظاهرها الدلالة على زيادة الإيمان فقط، فهي تدل على نقص الإيمان باللزوم، وذلك لأن الزيادة تستلزم النقص، ولأن ما جاز عليه الزيادة جاز عليه النقص، ولأن الزيادة لا تكون إلا عن نقص.

ولهذا فإنا نجد أهل العلم كثيراً ما يستشهدون بأدلة زيادة الإيمان على نقصانه وكذا العكس للأسباب المتقدمة، وتأمل- مثالاً على ذلك- صنيع البخاري في صحيحه فقد أورد بعض الآيات المصرحة بزيادة الإيمان في باب زيادة الإيمان ونقصانه مستدلاً بها على الزيادة والنقصان معاً.

ص: 35

قال ابن حجر في شرحه لهذا الباب:".. ثم شرع المصنف يستدل لذلك بآيات من القرآن مصرحة بالزيادة، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة"1.

وقال في موضع آخر مبيناً أن الزيادة مستلزمة للنقص"والاستدلال بهما- أي: الآيتين في الباب- نص في الزيادة وهو يستلزم النقص2.

وقال الكرماني مجيباً على ما قد يستشكل من: استدلال البخاري بالآيات على الزيادة والنقصان معاً مع أنها نص في الزيادة فقط:".. فإن قلت: هذه الآيات دلّت على الزيادة فقط، والمقصود بيان الزيادة والنقصان كليهما، قلت: كل ما قبل الزيادة لا بد وأن يكون قابلاً للنقصان ضرورة"3.

أما النقول عن أهل العلم في هذا فكثيرة.

قال الإمام أحمد رحمه الله:"إن كان قبل زيادته- أي الإيمان- تاماً فكما يزيد كذا ينقص"4.

وقال أبو محمد بن حزم في فِصَله: (فإذ قد وضح وجود الزيادة في الإيمان

فبالضرورة ندري أن الزيادة تقتضي النقص ضرورة ولا بد، لأن معنى الزيادة إنما هي عدد مضاف إلى عدد، وإذا كان ذلك فذلك العدد المضاف إليه هو بيقين ناقص عند عدم الزيادة

1 فتح الباري (1/ 47) وذكر نحوه القسطلاني في شرحه للصحيح (1/ 111) .

2 فتح الباري (1/ 104) .

3 شرح صحيح البخاري للكرماني (1/ 71) ، ونقله عنه العيني في شرحه للبخاري (1/111) .

4 رواه الخلال في السنة (2/688، ح1030) .

ص: 36

فيه.."1.

وقال ابن بطال في شرحه لبعض الآيات الدالة على زيادة الإيمان نصاً:

"فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص"2.

وقال البيهقي بعد أن ذكر جملة من الآيات المصرحة بزيادة الإيمان:"فثبت بهذه الآيات أن الإيمان قابل للزيادة، وإذا كان قابلاً للزيادة فعدمت الزيادة كان عدمها نقصاناً"3.

وقال:"وإذا قبل الزيادة قبل النقص"4.

وقال أبو الفضل التميمي5 في رسالته التي أملاها في ذكر معتقد الإمام أحمد6. وإن كان قد غلط في مواضع منها فيما نسبه للإمام. قال:"

وما جاز عليه الزيادة جاز عليه النقص"7.

وقال البغدادي بعد أن ذكر الآيات المصرحة بزيادة الإيمان:".. ففي هذه الآيات الست تصريح بأن الإيمان يزيد، وإذا صحت الزيادة

1 الفصل (3/ 237) .

2 نقله عنه النووي في شرح مسلم (1/146) .

3 شعب الإيمان (1/ 160) .

4 الاعتقاد (ص 116) .

5 هر الإمام الفقيه أبو الفضل عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميمي البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 410 هـ انظر ترجمته في السير للذهبي (17/ 273) .

6 طبعت في آخر طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 291-307) ، وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الرسالة في درء التعارض (2/17) والفتاوى (6/53)

7 آخر طبقات الحنابلة (2/ 302) .

ص: 37

فيه كان الذي زاد إيمانه قبل الازدياد أنقص إيماناً منه في حال الازدياد"1.

ومن علماء عصرنا يقول العلامة الشيخ محمد العثيمين حفظه الله:

"وكل نص يدل على زيادة الإيمان فإنه يتضمن الدلالة على نقصه وبالعكس، لأن الزيادة والنقص متلازمان لا يعقل أحدهما بدون الآخر"2.

وبهذا يعلم أن كل دليل أورده هنا وهو نص في زيادة الإيمان، يعد دليلاً على الزيادة والنقصان معاً لزوماً وكذا العكس وبالله التوفيق.

وفيما يلي أسوق بعض ما جاء في كتاب الله من أدلة على زيادة الإيمان ونقصانه مع بيانها، وبيان وجه دلالتها على المقصود، وهي على أنواع:

أولاً- آيات فيها التصريح بزيادة الإيمان:

جاء في كتاب الله في ستة مواضع منه، التصريح بزيادة الإيمان، وذلك في قوله:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 3، وقوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 4، وقوله: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ

1 أصول الدين (ص 253) .

2 فتح رب البرية بتلخيص الحموية (ص 63) .

3 سورة آل عمران، الآية:173.

4 سورة الأنفال، الآية:2.

ص: 38

يَسْتَبْشِرُونَ} 1، وقوله:{وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} 2، وقوله:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} 3، وقوله:{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَاّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} 4.

فهذه ستة مواضع من كتاب الله عز وجل صرح فيها سبحانه بزيادة الإيمان، وهذا من أوضح الأدلة وأظهرها على زيادة الإيمان، بل لا أدل منه على ذلك.

وقد استدل بهذه الآيات على زيادة الإيمان ونقصانه علماء المسلمين من أهل السنة والجماعة.

قيل لسفيان بن عيينة الإيمان يزيد وينقص قال: أليس تقرأون: {فزادهم إيماناً} {وزدناهم هدى} 6 في غير موضع، قيل: فينقص؟ قال: ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص7.

وعقد البخاري في صحيحه باباً في زيادة الإيمان ونقصانه أورد فيه

1 سورة التوبة، الآية:124.

2 سورة الأحزاب، الآية:22.

3 سورة الفتح، الآية:4.

4 سورة المدثر، الآية: ا 3.

5 سورة آل عمران، الآية:173.

6 سورة الكهف، الآية:13.

7 رواه الآجري في الشريعة (ص 117)، وابن بطة في الإبانة (برقم: 1142) ورواه الخلال بنحوه في السنة (برقم: 1042) .

ص: 39

بعض هذه الآيات1.

قال ابن بطال عند شرحها:"مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخاري من الآيات أي المصرحة بزيادة الإيمان ثم قال: فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص"2.

وقال ابن كثير عند تفسير للآية الثانية من سورة الأنفال:".. وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب كما هو مذهب جمهور الأمة، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد كما بينا ذلك مستقصى في أول شرح البخاري"3.

وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً

} 4"وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء"5.

وممن استدل بهذه الآيات من أهل العلم الآجري في الشريعة حيث عقد باباً في ذكر ما دل على زيادة الإيمان ونقصانه أورد فيه جملة من الأحاديث والآثار الدالة على ذلك ثم قال:"كل هذه الآثار تدل على

1 صحيح البخاري مع الفتح (1/103) .

2 نقله النووي في شرح صحيح مسلم (1/146) .

3 تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/285) .

4 سورة التوبة، الآية:124.

5 تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/402) .

ص: 40

زيادة الإيمان ونقصه، وسنذكر من القرآن ما يدل على ما قلنا.، وهذا طريق من أراد الله الكريم به خيراً

فذكر جملة من هذه الآيات ثم قال: وهذا في القرآن كثير"1.

وعقد اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة باباً في سياق ما جاء في القرآن والسنة من أدلة على زيادة الإيمان ونقصانه أورد فيه جملة من هذه الآيات2.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"والزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات، كقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 3، وهذه زيادة إذا تُليت عليهم الآيات أي: وقت تُليت ليس هو تصديقهم بها عند النزول، وهذا أمر يجده المؤمن إذا تليت عليه الآيات زاد في قلبه بفهم القرآن ومعرفة معانيه من علم الإيمان ما لم يكن، حتى كأنه لم يسمع الآية إلا حينئذ، ويحصل في قلبه من الركبة في الخير والرهبة من الشر ما لم يكن، فزاد علمه بالله ومحبته لطاعته، وهذه زيادة الإيمان، وقال تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 4، فهذه الزيادة عند تخويفهم بالعدو لم تكن عند آية نزلت فازدادوا يقيناً وتوكلاً على الله، وثباتاً على الجهاد وتوحيداً بألا يخافوا المخلوق، بل يخافون الخالق وحده، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً

1 الشريعة للآجري (116) .

2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (3/18) .

3 سورة الأنفال، الآية:2.

4 سورة آل عمران، الآية:173.

ص: 41

وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} 1، وهذه الزيادة ليس مجرد التصديق بأن الله أنزلها بل زادتهم إيماناً بحسب مقتضاها، فإن كانت أمراً بالجهاد أو غيره ازدادوا رغبة، وإن كانت نهيا عن شيء انتهوا عنه فكرهوه، ولهذا قال:{وهم يستبشرون} والاستبشار غير مجرد التصديق

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} 2، وهذه نزلت لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحديبية فجعل السكينة موجبة لزيادة الإيمان، والسكينة طمأنينة في القلب غير علم القلب وتصديقه.."3.

وقال ابن سعدى عند تفسيره لقوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} 4، وفي هذا دليل على زيادة الإيمان ونقصه كما قاله السلف الصالح ويدل عليه قوله تعالى:{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 6، ويدل عليه أيضاً الواقع فإن الإيمان قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، والمؤمنون متفاوتون في هذه الأمور أعظم تفاوت"7.

وقال الألوسي عند تفسيره لقوله تعالى: {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} ،"وهذا

1 سورة التوبة، الآيتان: 125- 126.

2 سورة الفتح، الآية:4.

3 الإيمان (ص 215، 216) .

4 سورة مريم، الآية:76.

5 سورة المدثر، الآية:31.

6 سورة الأنفال، الآية:2.

7 تفسير ابن سعدي (5/ 33) .

ص: 42

أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين وبه أقول، لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلاً، بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل أيضاً، وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام واللازم باطل فكذا الملزوم"1.

ثانياً- آيات فيها التصريح بزيادة الهدى:

والهدى من الإيمان وقد جاء ذلك في القرآن في ثلاثة مواضع، وهي:

قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً} 2. وقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 3، وقوله في أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} 4.

فهذه الآيات فيها تصريح الحق سبحانه بزيادة الهدى، والهدى من الإيمان كما دل على ذلك كتاب الله في نحو قوله سبحانه:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} 5، وقوله:{فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} 6، وقوله: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح

1 روح المعاني (9/ 165) .

2 سورة مريم، الآية:76.

3 سورة محمد، الآية:17.

4 سورة الكهف، الآية:13.

5 سورة البقرة، الآية:137.

6 سورة عمران، الآية:20.

ص: 43

صدره للإسلام} 1 وغيرها من الآيات.

فإخبار الله سبحانه بزيادة الهدى دليل على زيادة الإيمان، ولهذا استدل أهل العلم بهذه الآيات على زيادة الإيمان ونقصانه. كما قال ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى:{وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} 2:"واستدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله وأنه يزيد وينقص"3.

وهذه الآيات الدالة على زيادة الهدى هي نظير الآيات المتقدمة الدالة على زيادة الإيمان، قال ابن جرير الطبري عند تفسيره لقوله تعالى:{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} 4:"يقول تعالى ذكره: ويزيد الله من سلك قصد المحجة واهتدى لسبيل الرشد، فآمن بربه، وصدق بآياته، فعمل بما أمره به، وانتهى عما نهاه عنه، هدي بما يتجدد له من الإيمان بالفرائض التي يفرضها عليه، ويقر بلزوم فرضها إياه ويعمل بها، فذلك زيادة من الله في اهتدائه بآياته هدى على هداه، وذلك نظير قوله: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 5"6.

ثالثاً- إخباره سبحانه بزيادة الخشوع:

وذلك في موضع واحد من كتابه، وهو قوله تعالى في وصف الذين

1 سورة الأنعام، الآية:125.

2 سورة الكهف، الآية:13.

3 تفسير ابن كثير (3/ 74) .

4 سورة مريم، الآية:76.

5 سورة التوبة، الآية:124.

6 جامع البيان (9/ 119) .

ص: 44

أوتوا العلم من أهل الكتاب: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} 1.

فإخبار سبحانه بزيادة الخشوع دليل على زيادة الإيمان، لأن الخشوع من الإيمان كما دلّ عليه قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} 2، وقوله:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} 3.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أأعمال القلوب مثل محبة الله ورسوله، وخشية الله تعالى ورجاؤه، ونحو ذلك، هي كلها من الإيمان، كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق السلف، وهذا يتفاضل الناس فيه تفاضلاً عظيماً"4.

قال ابن جرير في بيان معنى {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} 5"أي: ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والعبر خشوعاً، يعني خضوعاً لأمر الله وطاعته، واستكانة له"6.

وقال ابن كثير:"أي: إيماناً وتسليماً كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} "7.

1 سورة الإسراء، الآية:109.

2 سورة المؤمنون، الآيتان: 1- 2.

3 سورة الحديد، الآية:16.

4 الإيمان (ص 222) .

5 سورة الإسراء، الآية:109.

6 جامع البيان (9/ 181) .

7 تفسير ابن كثير (3/68)

ص: 45

رابعاً- إخباره سبحانه بتفضيله بعض المؤمنين على بعض:

كما في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 1، وقوله:{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 2، وقوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} 3، وقوله:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 4، ونحوها من الآيات.

فهذه من أوضح الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله فيه فبعضهم أقوى إيماناً من بعض، وتفضيل الله لهم وتمييزه بينهم إنما هو بإيمانهم وطاعتهم له لا بحسن صورهم أو كثرة أموالهم أو غير ذلك مما قد يكون معياراً للتفضيل عند الناس.

قال ابن بطة رحمه الله في إبانته بعد أن ذكر بعض هذه الآيات: (فقد علم أهل العلم والعقل أن السابق أفضل من المسبوق والتابع دون

1 سورة النساء، الآيتان: 95- 96.

2 سورة الحديد، الآية:10.

3 سورة النمل، الآية:15.

4 سورة التوبة، الآية:100.

ص: 46

المتبوع، وأن الله عز وجل لم يفضل الناس بعضهم على بعض برشاقة الأجسام ولا بصباحة الوجه، ولا بحسن الزي وكثرة الأموال، ولو كانوا بذلك متفاضلين لما كانوا به عنده ممدوحين، لأن ذلك ليس هو بهم ولا من فعلهم فعلمنا أن العلو في الدرجات والتفاضل في المنازل إنما هو بفضل الإيمان وقوة اليقين والمسابقة إليه بالأعمال الزاكية والنيات الصادقة من القلوب الطاهرة.. فهذا وأشباهه في كتاب الله يدل على زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل المؤمنين بعضهم على بعض وعلوهم في الدرجات.. ولو كان الإيمان كله واحداً لا نقصان له ولا زيادة لم يكن لأحد على أحد فضل"1.

ثم قال رحمه الله:"وبذلك فضل الله أوائل هذه الأمة على أواخرها ولو لم يكن للسابقين بالإيمان فضل على المسبوقين للحق آخر هذه الأمة أولها في الفضل ولتقدمهم، إذ لم يكن لمن سبق إلى الله فضل على من أبطأ عنه، ولكن بدرجات الإيمان قدم السابقون، وبالإبطاء عن الإيمان أخّر المقصرون.. إلى أن قال: ألا ترى يا أخي رحمك الله كيف ندب الله المؤمنين إلى الاستباق إليه فقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} 2 الآية وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} 3 الآية، فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجاتهم في السبق ثم ثنى بالأنصار على سبقهم ثم ثلث بالتابعين لهم بإحسان فوضع كل قوم على درجاتهم ومنازلهم عنده.. إلى أن قال: فهذه درجات الإيمان ومنازله تفاضل الناس بها عند الله واستبقوا إليه بالطاعة بها فالإيمان هو الطاعة، وبذلك فضل الله

1 الإبانة لابن بطة (2/ 836) .

2 سورة الحديد، الآية:21.

3 سورة التوبة، الآية:100.

ص: 47

المهاجرين والأنصار، لأنهم أطاعوا الله ورسوله.. إلى أن قال: فالإيمان يا أخي -رحمك الله- هو القول والعمل هو الطاعة، والقول تبع للطاعة والعمل، والناس يتفاضلون فيه على حسب مقادير عقولهم ومعرفتهم بربهم وشدة اجتهادهم في السبق بالأعمال الصالحة إليه"1.

وقال أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين:"ومن قول أهل السنة أن الإيمان درجات ومنازل يتم ويزيد وينقص، ولولا ذلك استوى الناس فيه ولم يكن للسابق فضل على المسبوق، وبرحمة الله وبتمام الإيمان يدخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة يتفاضلون في الدرجات: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} 2، ومثل هذا في القرآن كثير"3.

والآيات المتقدمة في صدر هذا النوع دلّت بمنطوقها على تفاضل أهل الإيمان فيه، وليس فيها تصريح بزيادة الإيمان ونقصانه فوجه دلالة الآيات على زيادة الإيمان ونقصانه يؤخذ من مفهوم الآيات دون منطوقها إذ إن فيها إخباراً بتفاضل أهل الإيمان فيه، وقد سبق بيان أن تفاضلهم إنما يكون بالإيمان دون غيره، فيفهم من هذا أن الإيمان بزيد وينقص، فمن زاده الله إيماناً أفضل ممن هو دونه في الإيمان، فالتفاضل بينهم في الإيمان حصل لكون إيمانهم يزيد وينقص والله أعلم.

قال ابن عبد البر: (الإيمان مراتب بعضها فوق بعض، فليس الناقص فيه كالكامل)4.

1 الإبانة لابن بطة (2/ 837- 0 84) .

2 سورة الإسراء، الآية:21.

3 أصول السنة لابن أبي زمنين (2/ 776) .

4 التمهيد (9/ 244) وانظر الفتاوى لابن تيمية (12/ 474) .

ص: 48

خامساً- إخباره سبحانه بتفاضل درجات المؤمنين في الجنة:

فهذا مما يدل على زيادة الإيمان، فتفاضلهم في درجات الجنة سببه تفاضلهم في الإيمان، فمن كان إيمانه أشد وأقوى كان أعلى درجة وأرفع من غيره، قال تعالى:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 1، وقال:{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} 2، وقال:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 3، وقال:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} 4 وذكر بعض أوصافهما، ثم قال:{َمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} 5، وذكر بعض أوصافهما، وذكر سبحانه نحو هذا في سورة الواقعة، وجاء في السنة نحو هذا كثير، فهذا وأشباهه من أعظم الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه، وقد ميز الله بين درجات الجنة، وجعلها درجات بعضها أرفع من بعض، لأن المؤمنين ليسوا سواء في إيمانهم بالله، بل بعضهم أعظم وأشد وأقوى إيماناً من بعض، قال ابن حبان رحمه الله:"فمن أتى بالإقرار الذي هو أعلى شعب الإيمان، ولم يدرك العمل ثم مات أدخل الجنة، ومن أتى بعد الإقرار من الأعمال قل أو كثر أدخل الجنة، جنة فوق تلك الجنة، لأن من كثر عمله علت درجاته وارتفعت، لا أن الكل من المسلمين يدخلون جنة واحدة، وإن تفاوتت أعمالهم وتباينت، لأنها

1 سورة الأنفال، الآية:4.

2 سورة الإسراء، الآية:21.

3 سورة المجادلة، الآية:11.

4 سورة الرحمن، الآية:46.

5 سورة الرحمن، الآية:62.

ص: 49

جنان كثيرة، لا جنة واحدة"1.

وقال شيخ الإسلام:"فدرجة المؤمن القوي في الجنة أعلى وإن كان كل منهم كمل ما وجب عليه"2.

وقال الشيخ حافظ حكمي في معارج القبول:"وكما أخبر الله تبارك وتعالى عن تفاوتهم في الإيمان في دار التكليف كذلك جعل الجنة التي هي دار الثواب متفاوتة الدرجات مع كون كل منهم فيها.. إلى أن قال: وأهل الجنة متفاوتون في الدرجات حتى إنهم يتراءون أهل عليين يرون غرفهم من فوقهم كما يرى الكوكب في الأفق الشرقي أو الغربي، ومتفاوتون في الأزواج، ومتفاوتون في الفواكه من المطعوم والمشروب، ومتفاوتون في الفرش والملبوسات ومتفاوتون في الملك، ومتفاوتون في الحسن والجمال والنور، ومتفاوتون في قربهم من الله عز وجل، ومتفاوتون في تكثير زيارتهم إياه، ومفاوتون في مقاعدهم يوم المزيد، ومتفاوتون تفاوتاً لا يعلمه إلا الله عز وجل

"3.

وما هذا التفاوت بينهم إلا لأنهم متفاوتون في الإيمان والتوحيد قوة وضعفاً زيادة ونقصاً.

سادساً- إخباره سبحانه بإكمال الدين:

وذلك في قوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} 4.

1 انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (1/ 211) .

2 الإيمان لابن تيمية (ص 321) .

3 معارج القبول (2/ 409، 410) .

4 سورة المائدة، الآية: 3

ص: 50

فهذه الآية تعد دليلاً واضحاً على زيادة الإيمان ونقصانه، وذلك لأن فيها التنصيص على إكمال الدين، وترك شيء من الكمال يعد نقصاً، وإذا ثبت النقص، فالنقص يستلزم حصول الزيادة..

وممن استدل بهذه الآية على زيادة الإيمان ونقصانه البخاري في صحيحه حيث عقد رحمه الله باباً في زيادة الأيمان ونقصانه أورد تحته ثلاث آيات منها هذه الآية، ثم أعقبها بقوله:"فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص"1.

قال ابن حجر:".. وأما الكمال فليس نصاً في الزيادة، بل هو مستلزم للنقص فقط، واستلزامه للنقص يستدعي قبوله للزيادة"2 وبهذا يظهر وجه استدلال البخاري بها.

وقد وقع لسفيان ابن عيينة من قبل الاستدلال بهذه الآية بنظير ما أشار إليه البخاري رحمهما الله، فقد قال رجل لسفيان: يا أبا محمد ما تقول الإيمان يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله وينقص حتى لا يبقى معك منه شيء، وعقد بثلاثة أصابع وحلق بالإبهام والسبابة، فقال الرجل: فإن قوماً يقولون الإيمان كلام، قال: قد كان القول قولهم قبل أن تنزل أحكام الإيمان وحدوده، بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس أن يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها حقنوا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.. فذكر بقية الأركان، الصلاة والزكاة والحج ثم قال: فلما علم الله ما تتابع عليهم من الفرائض ومثولهم لها، قال له: قل لهم:

1 صحيح البخاري مع الفتح (103/1) .

2 فتح الباري (1/ 104) .

ص: 51

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} 1، فمن ترك شيئاً من ذلك كسلاً أو مجوناً أدبناه عليه، وكان عندنا ناقص الإيمان ومن تركها عامداً كان بها كافراً، هذه السنة أبلغ عني من سألك من المسلمين"2.

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه نظير هذا الاستدلال بالآية، فقد أخرج الطبري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى:{لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} 3 أنه قال:"إن الله جل ثناؤه بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بشهادة ألا إله إلا الله فلما صدقوا بها زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم، فقال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} 4، فأوثق إيمان أهل الأرض وأهل السموات وأصدقه وأكمله شهادة ألا إله إلا الله، 5 إلا أن في إسناد هذا الأثر انقطاعاً، لأنه من رواية علي بن أبي طلحة6 عن

1 سورة المائدة، الآية:3.

2 رواه أبو نعيم في الحلية (7/ 295، 296) ونقله عنه الحافظ في الفتح (1/103) وذكره الحليمي في المنهاج (1/ 84) من طريق عمرو بن عثمان الرقي، وهو ضعيف كما في التقريب.

3 سورة الفتح، الآية:4.

4 سورة المائدة، الآية:3.

5 تفسير الطبري (13/72)، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/255 رقم:13028) ، ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/351 رقم 353) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (5/23 رقم: 1602) وأخرجه أيضاً ابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في دلائل النبوة كما في الدر المنثور (7/ 514) كلهم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

6 هو علي بن أبي طلحة مولى بني العباس، سكن حمص صدوق قد يخطىء أرسل عن ابن عباس ولم يره مات سنة ثلاث وأربعبن ومائة، قال فيه الإمام أحمد: له أشياء منكرات، وقال دحيم: لم يسمع التفسير من ابن عباس، وقال أبو حاتم: على ابن أبي طلحة عن ابن عباس مرسل، وذكره الذهبي في الضعفاء.

انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/ 191) والمراسيل له (ص 140) وجامع التحصيل للعلائي (ص 294) ، وتقريب التهذيب لابن حجر (2/39) ، والمغني في الضعفاء للذهبي (2/18) .

ص: 52

ابن عباس، وعلى هذا لم ير ابن عباس فروايته عنه مرسله وضعفه جماعه من أهل العلم.

واستدل بهذه الآية أيضاً أبو عبيد في كتاب الإيمان فقال:"فذكر الله جل ثناؤه إكمال الدين في هذه الآية، وإنما نزلت فيما يروى قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى وثمانين ليلة.. فلو كان الإيمان كاملاً بالإقرار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة أول النبوة.. ما كان للكمال معنى، وكيف يكمل شيئاً قد استوعبه وأتى على آخره"1.

وقال محمد بن نصر المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة بعد أن ذكر هذه الآية:"فأخبر الله تبارك أنه أكمل للمؤمنين دينهم في ذلك اليوم، ولو كان قبل ذلك اليوم مكملاً تاماً لم يكن لإكمال ما كمل وتم معنى"2.

قال ابن بطال:"هذه الآية حجة في زيادة الإيمان ونقصانه: لأنها نزلت يوم كملت الفرائض والسنن واستقر الدين، وأراد الله عز وجل قبض نبيه فدلت هذه الآية أن كمال الدين إنما يحصل بتمام الشريعة فتصور كماله يقتضي تصور نقصانه"3.

1 الإيمان لأبي عبيد (ص 62) ، وأشار إليه الحافظ في الفتح (1/ 103) .

2 تعظيم قدر الصلاة (1/ 349) .

3 نقله العيني في عمدة القاري (1/258) .

ص: 53

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"فأكمل الله الدين بإيجابه لما أوجبه من الواجبات التي آخرها الحج، وتحريمه للمحرمات المذكورة في هذه الآية، هذا من جهة شرعه، ومن جهة الفعل الذي هو تقويته وإعانته ونصره، يئس الذين كفروا من ديننا، وحج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الإسلام، فلما أكملوا الدين قال عقب ذلك: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} إلى قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1 فكان إحلاله الطيبات يوم أكمل الدين، فأكمله تحريماً وتحليلاً لمَّا أكملوه امتثالاً"2.

وظاهر كلام شيخ الإسلام يدل على أنه يرى أن الآية دليل على تفاضل الإيمان في قلوب المؤمنين، يظهر هذا من قوله:"فلما أكملوا الدين"وقوله:"لما أكملوه امتثالاً"، والإكمال كما هو معلوم لا يكون إلا عن نقص، والنقص يقتضي قبول الزيادة.

وقال في شرحه للعقيدة الأصفهانية:"إن الإيمان الذي أوجبه الله تعالى يزيد شيئاً فشيئاً كما إن القرآن كان ينزل شيئاً فشيئاً، والدين يظهر شيئاً فشيئاً حتى أنزل الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

} 3.

فالآية ظاهرة الدلالة على زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله فيه، وقد اعترض على استدلال البخاري المتقدم بهذه الآية بأنه يلزم منه أن من مات من الصحابة قبل نزول الآية كان إيمانه ناقصاً.

1 سورة المائدة، الآية:3.

2 الفتاوى (20/152،153) وانظر مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (3/342) .

3 شرح العقيدة الأصفهانية (ص 139) .

ص: 54

فأجاب عن هذا الاعتراض القاضي أبو بكر ابن العربي، ونقله عنه الحافظ ابن حجر: (بأن النقص أمر نسبي، لكن منه ما يترتب عليه الذم ومنه ما لا يترتب، فالأول ما نقصه بالاختيار كمن علم وظائف الدين ثم تركها عمداً، والثاني ما نقصه بغير اختيار كمن لم يعلم أو لم يكلف، فهذا لا يذم بل يحمد من جهة إن كان قلبه مطمئناً بأنه لو زيد لقبل ولو كلف لعمل وهذا شأن الصحابة الذين ماتوا قبل نزول الفرائض"1.

قال ابن حجر:"ومحصله أن النقص بالنسبة إليهم صوري نسبي، ولهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى، وهذا نظير قول من يقول إن شرع محمد أكمل من شرع موسى وعيسى لاشتماله من الأحكام على ما لم يقع في الكتب التي قبله، ومع هذا فشرع موسى في زمانه كان كاملاً، وتجدد في شرع عيسى بعده ما تجدد، فالأكملية أمر نسبي كما تقرر"2.

وقال البيهقي: (وأما قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وما ورد في معناه، فإنه لا يمنع من قولنا بزيادة الإيمان ونقصانه، لأن معنى قوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي: أكملت لكم وضعه، فلا أفرض عليكم من بعد ما لم أفرض عليكم إلى اليوم، ولا أضع عنكم بعد اليوم ما قد فرضته قبل اليوم، فلا تغليظ من الآن ولا تخفيف ولا نسخ ولا تبديل، وليس معناه أنه أكمل لنا ديننا من قبل أفعالنا، لأن ذلك لو كان كذلك لسقط عن المخاطبين بالآية الدوام على الإيمان، لأن الدين قد كمل وليس بعد الكمال شيء، فإذا كان الدوام على الإيمان مستقبلاً وهو إيمان فكذلك الطاعات الباقية التي تجب شيئاً فشيئاً كلها إيمان، والكمال راجع

1 فتح الباري (1/104) .

2 فتح الباري (1/104) .

ص: 55

إلى إكمال الشرع والوضع لا إلى إكمال أداء المؤدين له وقيام القائمين به والله أعلم"1.

وبما تقدم تعلم أن دلالة الآية على زيادة الإيمان ونقصانه ظاهرة ظهوراً واضحاً لا خفاء فيه، ومع هذا فقد تعقب السندي في حاشيته على سنن النسائي على استدلال النسائي بها على زيادة الإيمان ونقصانه فقال:"وفيه نسبة الإكمال للدين، وأخذ منه المصنف القول بزيادة الإيمان وفيه خفاء لا يخفى"2.

قلت: بل هو ظاهر لا خفاء فيه، وما تقدم كاف في الإجابة على هذا الاعتراض.

سابعاً- إخباره عن طلب نبيه إبراهيم عليه السلام اطمئنان القلب:

وهذا زيادة في الإيمان، وذلك في قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي

} 3.

قال ابن بطة رحمه الله:"يريد لازداد إيماناًً إلى إيماني، بذلك جاء التفسير"4.

1 شعب الإيمان للبيهقي (1/170) وقوله: (أي أكملت لكم وضعه

إلخ) هو من كلام الحليمي في المنهاج (1/62) وكثيراً ما ينقل عنه البيهقى في شعب الإيمان.

2 حاشية السندي على"سنن النسائي (8/ 114) ،.

3 سورة البقرة، الآية:260.

4 الإبانة لابن بطة (2/833) .

ص: 56

قال سعيد بن جبير: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 1:"ليزداد إيماني".

وفي رواية:"أي: ازداد إيماناً مع إيماني"وفي رواية:"أي ليزداد يقيني"وهي ألفاظ متقاربة المعنى2.

وقال مجاهد في تفسيرها:"أي: أزداد إيماناً إلى إيماني"3وروى ابن جرير رحمه الله نحو هذا التفسير للآية عن جماعة من السلف منهم: الضحاك، وقتادة، والربيع بن أنس، وإبراهيم النخعي4.

ولهذا احتج البخاري بها في صحيحه على زيادة الإيمان ونقصانه، فأوردها في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"بني الإسلام على خمس" وهو قول وعمل ويزيد وينقص.

قال الحافظ ابن حجر في الشرح."أشار إلي تفسير سعيد بن جبير ومجاهد وغيرهما لهذه الآية، فروى ابن جرير بسنده الصحيح إلى سعيد قال: قوله: {ليطمئن قلبي} ، أي: يزداد يقيني، وعن مجاهد قال لأزداد إيماناً إلى إيماني، وإذا ثبت ذلك عن إبراهيم عليه السلام مع أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أمر باتباع ملته، كأنه ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك"5.

وقال الحليمي في المنهاج مبيناً وجه دلالة الآية على زيادة الإيمان

1 سورة البقرة، الآية:260.

2 رواه عنه بهذه الألفاظ وببعضها: ابن جرير في تفسيره (3/ 50، 51) وعبد الله في السنة (1/369)، والآجري في الشريعة (ص 118) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (5/ 24 رقم: 1603) وابن بطة في الإبانة (برقم 1120) وصحح اسناده الحافظ في الفتح (1/47) .

3 رواه ابن جرير في تفسيره (3/51) والبيهقي في الشعب (1/198) .

4 انظر تفسير الطبري (3/ 50، 51) .-

5 فتح الباري (1/47) وانظر شرح الكرماني لصحيح البخاري (1/73) .

ص: 57

ونقصانه:"ومعلوم أن طمأنينة القلب بصدق وعْد الله، أو بقدرته على ما أخبر أنه فاعله إيمان فإنما يسأل الله تعالى ما يزيده إيماناً على إيمان، فثبت بذلك أن الإيمان قابل للزيادة"1.

وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (وأما قوله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى

} فمن أعظم الأدلة على تفاوت الإيمان ومراتبه حتى الأنبياء فهذا طلب الطمأنينة مع كونه مؤمناً، فإذا كان محتاجاً إلى الأدلة التي توجب له الطمأنينة فكيف بغيره"2.

ثامناً- أمره سبحانه المؤمنين بالإيمان:

كما في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ

} 3 الآية.

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ

} 4 الآية.

فهذا ظاهر في الدلالة على أن الإيمان يزيد، فالله سبحانه أمرهم بالإيمان بعد أن وصفهم به، ومراده سبحانه بذلك أن يستكثروا من الأعمال الصالحة ويزدادوا إيماناً وإخلاصاً ويقيناً.

قال ابن بطة في إبانته بعد أن أورد الآية دليلاً على زيادة الإيمان ونقصانه:"فلو لم يكونوا مؤمنين لما قال لهم يا أيها الذين آمنوا، وإنما أراد بقوله دوموا على أيمانكم وازدادوا إيماناً بالته وطاعته واستكثروا من

1 المنهاج في شعب الإيمان للحليمي (1/ 76) .

2 مجموع مؤلفات الشيخ قسم الفتاوى (ص 73) .

3 سورة النساء، الآية:136.

4 سورة الحديد، الآية:28.

ص: 58

الأعمال الصالحة التي تزيد في إيمانكم وازدادوا يقيناً وبصيرة ومعرفة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وقد يقول الناس بعضهم لبعض مثل ذلك في كل فعل يمتد ويحتمل الازدياد فيه، كقولك لرجل يأكل: كل تريد زد أكلك، ولرجل يمشي: امش تريد أسرع في مشيك، ولرجل يصلي أو يقرأ: صل أو أقرأ تريد زد في صلاتك.

ولما كان الإيمان له بداية بغير نهاية، والأعمال الصالحة والأقوال الخالصة تزيد المؤمن إيماناً جاز أن يقال: يا أيها المؤمن آمن، أي: ازدد في إيمانك، ولا يجوز أن يقال ذلك في الأفعال المتناهية التي لا زيادة على نهايتها، كما لا تقول للقائم قم، ولا لرجل رأيته جالساً اجلس، لأن ذلك فعل قد تناهى فلا مستزاد فيه فهذا يدل على زيادة الإيمان لأنه كلما ازداد بالله علماً وله طاعة ومنه خوفاً كان ذلك زائداً في إيمانه"1:

وقال أبو عبيد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ

} 2:"فلولا أن هناك موضع مزيد، ما كان لأمره بالإيمان معنى"3.

وقال ابن كثير في تفسيره:"يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه كما يقول المؤمن في كل صلاة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي: بصرنا فيه

1 الإبانة لابن بطة (2/834) .

2 سورة النساء، الآية:136.

3 الإيمان لأبي عبيد (ص 65) .

ص: 59

وزدنا هدى وثبتنا عليه"1.

قلت: وهذا يوضح ما جاء عن السلف قولهم:"تعالوا بنا نؤمن ساعة"أي: نردد إيماناً، وسيأتي قريباً إن شاء الله.

وقال ابن سعدي في تفسيره:"اعلم أن الأمر إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف بشيء منه، فهذا يكون أمراً له في الدخول فيه وذلك كأمر من ليس بمؤمن بالإيمان، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} 2 الآية.

وإما أن يوجه إلي من دخل في الشيء، فهذا يكون أمره ليصحح ما وجده منه ويحصل ما لم يوجد، ومنه ما ذكره في هذه الآية3 من أمر المؤمنين بالإيمان، فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الإخلاص والصدق وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات، ويقتضي أبضاً الأمر بما لم يوجد من المؤمن من علوم الإيمان وأعماله، فإنه كلما وصل إليه نص وفهم معناه واعتقده فإن ذلك من المأمور به، وكذلك سائر الأعمال الظاهرة والباطنة، كلها من الإيمان كما دلّت على ذلك النصوص الكثيرة وأجمع عليه سلف الأمة.. إلى أن قال: وأمره هنا بالإيمان به وبرسله وبالقرآن وبالكتب المتقدمة، فهذا كله من الإيمان الواجب الذي لا يكون العبد مؤمناً إلا به، إجمالاً فيما لم يصل إليه تفصيله، وتفصيلاً فيما علم من ذلك بالتفصيل، فمن آمن هذا الإيمان

1 تفسير ابن كثير (1/566) .

2 سورة النساء، الآية:47.

3 أي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، سورة النساء، الآية:136.

ص: 60

المأمور به فقد اهتدى وأنجح"1.

تاسعاً- تقسيمه سبحانه المؤمنين إلى ثلاث طبقات:

وذلك في قوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} 2، ثم أخبر أنهم جميعاً في الجنة فقال:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} 3.

فهذا فيه دلالة ظاهرة على زيادة الإيمان ونقصانه، قال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدى رحمه الله:"ومن زيادته ونقصانه. أي: الإيمان: أن قسم المؤمنين إلى ثلاث طبقات: سابقون بالخيرات، وهم الذين أدوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات فهؤلاء هم المقربون، ومقتصدون وهم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات وظالمون لأنفسهم وهم الدين تجرأوا على بعضي المحرمات وقصروا في بعض الواجبات مع بقاء أصل الإيمان معهم فهذا منا أكبر البراهين على زيادة الإيمان ونقصه، فما أعظم التفاوت بين! هؤلاء الطبقات"4.

1 تفسير ابن سعدي (2/ 193، 194) ، وكلامه رحمه الله كلام محرر نفيس فتأمله.

2 سورة فاطر، الآية:32.

3 سورة فاطر، الآية:33.

4 التنبيهات اللطيفة (ص 50) وانظر المثل الذي ضربه ابن رجب في كتابه شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم (ص 44) وما بعدها في بيان انقسام الناس في إجابتهم لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أقسام ثلاثة: سابق، ومقتصد، وظالم ولولا خشية الإطالة لنقلته لجودته وأهميته، وانظر أيضاً الفتاوى لابن تيمية (5/10 وما بعدها) .

ص: 61

وقال شارح العقيدة الواسطية:"ومن الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه أن الله فسم المؤمنين ثلاث طبقات فقال سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فالسابقون بالخيرات هم الذين أدوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات، وهؤلاء هم المقربون والمقتصدون هم الذين اقتصروا على أداء الواجبات وترك المحرمات، والظالمون لأنفسهم هم الذين اجترأوا على بعض المحرمات وقصروا في بعض الواجبات مع بقاء أصل الإيمان معهم"1.

وقد اختلف أهل التفسير في الظالم لنفسه هل هو من هذه الأمة أو لا؟ وأصح ما قيل أنه منهم ومن المصطفين علي ما فيه من تقصير، قال ابن كثير بعد أن أشار إلى هذا الخلاف:"والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، وهذا اختيار ابن جرير، كما هو ظاهر الآية، وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق يشد بعضها بعضاً"2 ثم ذكر ما تيسر من الأحاديث والآثار الدالة على ذلك.

قلت: لكنه قد يعاقب على ظلمه وتقصيره وتفريطه بخلاف السابق بالخيرات والمقتصد فإنهما لا يعاقبان.

قال شيخ الإسلام:"والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه"3.

1 شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص 149) وانظر معارج القبول للحكمي (2/408) .

2 تفسير ابن كثير (3/555) .

3 الفتاوى (7/10) .

ص: 62

عاشراً- أمره سبحانه بامتحان المؤمنات المهاجرات:.

وذلك في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} 1الآية.

استدل بهذه الآية على زيادة الإيمان ونقصانه أبو عبيد في كتابه الإيمان، فقال: ومما يبين لك تفاضله في القلب قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} .

ألست ترى أن ها هنا منزلاً دون منزل {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} 2.

حادي عشر- إثباته سبحانه في القرآن إسلاماً بلا إيمان:

وذلك في قوله: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 3.

فهؤلاء الأعراب مسلمون، إلا أنهم لم يصلوا إلى درجة ما ادعوه وهو الإيمان، فلهذا نفاه الله عنهم وأثبت لهم الإسلام وحده.

قال شيخ الإسلام:"لم يأتوا بالإيمان الواجب، فنفى عنهم لذلك وإن كانوا مسلمين، معهم من الإيمان ما يثابون عليه"4.

وقال ابن رجب:"وأما إذا نفي الإيمان عن أحد وأثبت له الإسلام

1 سورة الممتحنة، الآية:10.

2 الإيمان لأبي عبيد (ص 65) .

3 سورة الحجرات، الآية:14.

4 الإيمان (ص 230) .

ص: 63

كالأعراب الذين أخبر الله عنهم، فإنه ينتفي رسوخ الإيمان في القلب، وتثبت لهم المشاركة في أعمال الإسلام الظاهرة مع نوع إيمان يصحح لهم العمل، إذ لولا هذا القدر من الإيمان لم يكونوا مسلمين، وإنما نفى عنهم الإيمان لانتفاء ذوق حقائقه ونقص بعض واجباته وهذا مبني على أن التصديق القائم بالقلوب يتفاضل وهذا هو الصحيح

"1.

فالآية فيها دليل على أن الإيمان مراتب وأنه يتفاضل، فإذا كان كذلك فهو يزيد وينقص، ويزيد المسلم فيه حتى يبلغ أعلى درجات الدين، وينقص حتى لا يبقى منه شيء، والله أعلم.

ثاني عشر- إخباره سبحانه بأن الذنوب تذهب الإيمان شيئاً فشيئاً حتى يطبع على القلب ويختم عليه من كثرة الذنوب.

كما في قوله تعالى: {كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 2 وبهذا جاء التفسير لهذه الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن المؤمن إذا أذنب ذنباً نكت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها قلبه، فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي قال الله عز وجل:{كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3.

1 جامع العلوم والحكم (ص 28) .

2 سورة المطففين، الآية:14.

3 رواه الترمذي (5/ 434) وابن ماجه؛ (2/ 1418) وأحمد (2/ 297) وابن جرير الطبري (15/ 98) والحاكم (2/ 517) والآجري في الشريعة (ص 111) وابن بطة في الإبانة (برقم: 1107)، وعبد بن حميد وابن حبان وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب كما في الدر المنثور (8/445) من طرق عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة. وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح" وقال الحاكم:"هذا حديت صحيح

على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.

قلت: إلا أن ابن عجلان هذا حسن الحديث، وإنما أخرج له مسلم متابعة، ولهذا فالحديث حسن فقط، ولهذا اكتفى الألباني بتحسينه كما في صحيح الترمذي (3/ 127) .

ص: 64

وقد جاء تفسير الآية بذلك عن جمع من السلف: منهم حذيفة بن اليمان، وابن عمر، ومجاهد، والحسن، وإبراهيم التيمي، وقتادة، وغيرهم1.

قال حذيفة رضي الله عنه:"القلب هكذا مثل الكف فيذنب الذنب فينقبض منه ثم يذنب الذنب فينقبض منه حتى يختم عليه فيسمع الخير فلا يجد له مساغاً.. يجمع فإذا اجتمع طبع عليه، فإذا سمع خيراً دخل في أذنيه حتى يأتي القلب فلا يجد فيه مدخلاً فذلك قوله:{بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 2.

وقال مجاهد: كانوا يرون القلب مثل الكف، وذكر مثله3.

وقال أيضاً في قوله: {كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ

} قال:"العبد يعمل بالذنوب فتحيط بالقلب ثم ترتفع، حتى تغشى القلب"4.

وقال الحسن في الآية"الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت"5.

1 انظر تفسير الطبري (15/ 98-100) والدر المنثور (8/ 446- 448) .

2 أخرجه الفريابي والبيهقي (كما في الدر المنثور 8/ 446) .

3 أخرجه ابن جرير الطبري (15/ 99) وابن بطة في الإبانة (برقم:110) .

4 أخرجه ابن جرير (15/98) .

5 أخرجه عبد بن حميد كما في الدر المنثور (8/447) ومن طريقه ابن جرير في تفسيره (5/98) .

ص: 65

وقال إبراهيم التيمي في الآية:"إذا عمل الرجل الذنب نكت في قلبه نكتة سوداء ثم يعمل الذنب بعد ذلك فينكت في قلبه نكتة سوداء، ثم كذلك حتى يسود عليه.."1.

ويشبه هذه الآية سواء قول الله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2.

ولهذا قال مجاهد:"وهي مثل الآية التي في سورة البقرة فذكرها"3:

قلت: ويؤيد هذا المعنى المتقدم للآية من حيث الجملة ما ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً، كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب هواه"4.

وهذا الحديث ذكره شيخ الإسلام في كتابه الإيمان محتجاً به على زيادة الإيمان ونقصانه5.

1 أخرجه ابن المنذر كما في الدر المنثور (8/ 446) .

2 سورة البقرة، الآية:81.

3 تفسير ابن جرير (15/100) .

4 أخرجه مسلم 21/ 71 نووي) ومعنى أشربها أي: (دخلت فيه، والصفا هو: الحجر الأملس، والمرباد: هو شدة البياض في سواد، ومجخيا أي مائلا وراجع شرح النووي للحديث.

5 الإيمان (ص 213) .

ص: 66