الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
ذكر القائلين بهذا القول
لقد قاد بهذا القول طوائف كثيرة من أهل الكلام والإرجاء1، والتجهم، وطلباً للاختصار فإني سأكتفي بعرض أشهر من قال بذلك.
أولاً- أبو حنيفة وأصحابه:
لقد اشتهر عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى وغفر له أنه يقول بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واستفاض هذا عنه، بحيث لا يدع مجالاً للشك أو التردد في نسبته إليه، ويمكن أن أبرز أهم الأسباب المؤكدة لصحة نسبة هذا القول إليه في النقاط التالية:
1-
إن عامة كتب الفرق والمقالات تنسب هذا القول إليه، كالمقالات لأبي الحسن الأشعري، والفَرْق بين الفِرَق
1 بل إن إيمان المرجئة صار مضرب مثل لما لا يزيد ولا يقص، كما ذكر ذلك الثعالبي حيث قال:"إيمان المرجىء: يضرب به المثل لما لا يزيد ولا ينقص، لأن المرجئة يقولون: إن الإيمان قول فرد لا يزيد ولا ينقص، فيشبه بإيمانهم ما يكون بهذه الصفة".
انظر ثمار القلوب في المضاف والمنسوب للثعالبي (ص 173) .
قلت: ومع هذا فليعلم أن إيمان المرجىء نفسه يزيد وينقص بحسب قيامه بأمور الإيمان أو إخلاله بها، والقول بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص هو مجرد دعوى من المرجئة يعوزها الدليل وتفتقر لبرهان، والأدلة والبراهين على ضدها كما تقرر، والله أعلم.
للبغدادي، والمِلَلْ والنِحَلْ للشهرستاني، وغيرها.
يقول الأشعري في مقالاته: "وزعم أن الإيمان لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل الناس فيه"1.
ويقول البغدادي عن أبي حنيفة أنه قال في الإيمان: "أنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل الناس فيه"2.
ويقول الشهرستاني: "وعده كثير من أصحاب المقالات من جملة المرجئة ولعل السبب فيه أنه لما كان يقول الإيمان هو التصديق بالقلب وهو لا يزيد ولا ينقص، ظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان"3.
ولم أقف مع هذا على قول لأحد ممن كتب في المقالات حاول فيه تبرئة أبي حنيفة من هذا القول، أو نفاه عنه.
2-
إن الكتب المؤلفة في العقيدة والمنسوبة إلى أبي حنيفة رحمه الله تذكر هذا القول، كالفقه الأكبر، وكتاب العالم والمتعلم، والوسيطين الصغير والكبير والوصية ورسالته إلى البتي4.
وهذه الكتب إن لم يصح نسبتها جميعاً إليه، فلا بد أن يصح نسبة بعضها أو واحد منها على أقل تقدير إليه، وعلى كل إن لم يصح لا هذا ولا ذاك فإن هذه الكتب مطبوعة متداولة، وقد احتفى بها الأحناف شرحاً ونشراً ونقلاً، فهي عند عامتهم مسلم بما فيها، وقد شرح بعضها شروحاً
1 المقالات (ص 139) .
2 الفَرْق بين الفِرَق (ص 203) ، ونقله عنه الزبيدي في الإتحاف (2/265) .
3 الملل والنحل (1/141) .
4 انظر فيض الباري للكشميري (1/59) .
مطولة عديدة، ونقل منها نقولٌ متكاثرة، واعتمد على ما فيها من عقائد.
وفيما يلي أنقل أقواله في هذه المسألة من بعض الكتب المشار إليها آنفاً وأبداً أولاً بأبرز هذه الكتب وأشهرها نسبة إليه وهو كتاب الفقه الأكبر.
(أ) قال في الفقه الأكبر: "والإيمان هو الإقرار والتصديق، وإيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمن به، ويزيد وينقص من جهة اليقين، والمؤمنون مستوون في الإيمان والتوحيد، متفاضلون في الأعمال"1.
هكذا وجدت كلامه في بعض النسخ من الفقه الأكبر، وغير خاف ما في هذا الكلام من تناقض وتعارض، ففيه أن الإيمان يزيد وينقص من جهة اليقين، ثم فيه بعد ذلك أن أهل الإيمان مستوون في الإيمان والتوحيد، وأن التفاضل بينهم إنما هو في الأعمال التي هي عندهم خارجة من مسمى الإيمان.
ومن المعلوم أيضا أنهم لا يقولون بزيادة التصديق ونقصانه لما يقتضيه في نظرهم من الشك في الإيمان، وإنما يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه من جهة المؤمن به فحسب، والكلام هنا على خلاف ذلك وبعكسه.
والذي يظهر أن كلام أبي حنيفة هنا حصل فيه قلب من قبل بعض نساخ الكتاب فكان أصل كلامه هكذا: "وإيمان أهل السماء والأرض يزيد وينقص من جهة المؤمن به، ولا يزيد ولا ينقص من جهة اليقين
1 انظر الفقه الأكبر بشرح الماتريدي (ص 149، 150) وبشرح علي القاري طبع دار الكتب العلمية (ص 126) وبشرح أبي المنتهي (ص 33) .
والتصديق
…
"ثم قلب من بعض النساخ بتقديم وتأخير، فأصبح كما ترى متناقضاً متعارضاً مخالفاً للمشهور عن أبي حنيفة أن التصديق لا يقبل الزيادة والنقصان.
ويدل على ذلك عدة أمور:
أحدها: أن نص العبارة ذكر في بعض نسخ الفقه الأكبر هكذا: "وإيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص"1 بدون ذكر للمؤمن به أو التصديق، وهذا يرجح أن هذا الموضع دخله تحريف من قبل نساخ الكتاب إما بحذف أو تقديم وتأخير.
الثاني: أن شارح الفقه الأكبر على القارىء تال في شرح هذه العبارة: "أي: من جهة المؤمن به نفسه، لأن التصديق إذا لم يكن على جهة التحقيق يكون في مرتبة الظن والترديد، والظن غير مفيد في مقام الاعتقاد عند أرباب التأييد"2.
وهذا يدل على أن مفهوم عبارة أبي حنيفة عنده أنها تدل على عدم زيادة الإيمان ونقصانه من جهة التصديق، خلافاً للنص المتقدم عن أبي حنيفة في أن الإيمان يزيد وينقص من جهة التصديق.
الثالث: أن الملا حسين الحنفي شارح الوصية لأبي حنيفة نقل نص العبارة المتقدمة من الفقه الأكبر هكذا: "إيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص والمؤمنون مستوون في درجة
1 الففه الأكبر لشرح علي القاري طبع دار الكتب العربية (ص 77) ، وطبع دار قديمي كتب خانه (ص 87) ، وبشرح علي بن محمد بن الحسين (ق 33/أ) .
2 شرح الفقه الأكبر (ص 87) .
الإيمان والتوحيد متفاضلون في الأعمال"1.
وهذا يؤكد ما سبق ذكره في رقم واحد من أن هذا الموضع اعتراه بعض التغيير من قبل نساخ الكتاب.
الرابع: أن الملا حسين الحنفي ذكر في شرحه للوصية ما أورد عليهم مثل قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً} مما يدل على زيادة الإيمان، ثم قال: "أجيب عن ذلك بأن ذلك في حق الصحابة رضي الله عنهم لأن القرآن كان ينزل في كل وقت
فيؤمنون به فيكون زيادة على الأول، وأما في حقنا فلا لإنقطاع الوحي.
وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما وأبي حنيفة رحمه الله: أنهم كانوا آمنوا بالجملة ثم يأتي فرض بعد فرض فيؤمنون بكل فرض خاص فزادهم إيماناً بالتفصيل مع إيمانهم بالجملة، فيكون زيادة الإيمان باعتبار المؤمن به لا في أصل التصديق"2.
وهذا فيه التصريح أنه الزيادة إنما هي باعتبار المؤمن به فحسب، لا باعتبار التصديق.
الخامس: ما ذكره شيخ الإسلام عن المرجئة الذين قالوا إن الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، والأعمال ليست منه، ومنهم أبو حنيفة رحمه الله، أنهم قالوا: "نحن نسلم أن الإيمان يزيد بمعنى أنه كلما أنزل الله آية وجب التصديق بها،
1 الجوهرة المنيفة (ص3) .
2 انظر الجوهرة المنيفة (ص 4) ، وانظر معه شرح العقائد للتفتازاني صلى الله عليه وسلم 142) ، وكتاب البداية من الكفاية لنور الدين الصابوني (ص 155) .
فانضم هذا التصديق إلى الذي كان قبله، لكن بعد كمال ما أنزل الله ما بقي الإيمان يتفاضل عندهم، بل إيمان
الناس كلهم سواء إيمان السابقين الأولين كأبي بكر وعمر، وإيمان أفجر الناس كالحجاج وأبي مسلم الخرساني وغيرهما"1.
فالزيادة التي قالوا بها هنا هي باعتبار زيادة المؤمن به فحسب، فلما كمل التشريع وتم لم يعد هناك مجال لزيادة الإيمان عندهم، وهذا خلاف النص المتقدم عن أبي حنيفة الذي فيه أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمن به.
السادس: سيأتي في النقول الأخرى عن كتب أبي حنيفة ما يؤكد ذلك ويؤيده.
فمما تتقدم يتبين أن أبا حنيفة رحمه الله يرى ن الإيمان لا يزيد ولا ينقص من جهة التصديق واليقين، ويزيد وينقص من جهة المؤمن به، ثم بعد كال التشريع لم يعد هناك مجال لزيادته أو نقصانه.
(ب) وفي الفقه الأبسط قال أبو مطيع: "قال أبو حنيفة رحمه الله ينبغي أن يقول أنا مؤمن حقاً لأنه لا يشك في إيمانه، قلت: أيكون إيمانه كإيمان الملائكة؟ قال: نعم"2.
(ج) وقال في رسالته إلى عثمان البتي: "ومما يعرف به اختلافهما- أي الإيمان والعمل- أن الناس يختلفون في التصديق ولا يتفاضلون فيه، وقد يتفاضلون في العمل وتختلف فرائضهم، ودين أهل السماء ودين
1 الفتاوى (7/195) ، وانظر في الرد على ذلك الفتاوى (13/52) .
2 الفقه الأبسط (ص46) .
الرسل واحد"1.
(د) وفي كتاب الجوهرة المنيفة في شرح وصية الإمام أبي حنيفة لمؤلفه الملا حسين الحنفي يقول: "قال المصنف أبو حنيفة رضي الله عنه: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص"أقول: هذا عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم، وقال رحمه الله: "لأنه لا يتصور نقصانه إلا بزيادة الكفر، ولا يتصور زيادته إلا بنقصان الكفر، وكيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حالة واحدة مؤمناً وكافراً" استدل الإمام رضي الله عنه على هذا بأن زيادة الإيمان لا يتصور إلا بنقصان الكفر، ونقصانه لا يتصور إلا بزيادة الكفر، واجتماعهما في ذات واحدة في حالة واحدة محال، وهذا لأن الكفر ضد الإيمان، وهو تكذيب وجحود"2.
فجميع هذه النقول المتقدمه عنه رحمه الله تتفق في الدلالة على أنه يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأنه لا يتفاضل.
3-
إن عامة كتب الأحناف المؤلفة في العقيدة تذكر هذا القول، وتنسبه إلى أبي حنيفة رحمه الله، ولم أقف على قول لأحدهم يبرىء فيه أبا حنيفة من هذا القول، سوى محاولة ضعيفة من الكشميري صاحب فيض الباري خرج منها بأن تأكد من صحة نسبة هذا لأبي حنيفة، وعلى حد تعبيره، قال:"وكيف ما كان سلمت القول المذكور"3.
1 رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي (ص 33) .
2 الجوهرة المنيفة (ص 3) والشبهة المذكورة سيأتي جوابها مفصلاً في المبحث القادم إن شاء الله.
3 فيض الباري (1/60) .
وفيما يلي أشير إلى بعض من نسب هذا القول لأبي حنيفة من علماء الأحناف.
قال ابن الهمام في المسايرة "قال أبو حنيفة وأصحابه لا يزيد الإيمان ولا ينقص
…
"1.
وقال الفرهاري: "مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله والمتكلمين من أهل السنة لا يزيد ولا ينقص.."2.
وقال الزبيدي: "وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يزيد ولا ينقص.. "3.
قلت: ولم يكتف هؤلاء بتسليم صحة القول لأبي حنيفة رحمه الله فحسب، بل جهدوا في تأويل نصوص الشرع المصرحة بزيادة الإيمان، وتعسفوا في صرفها عن ظاهرها لأجله.
ولهذا يقول محمد رشيد رضا: "فمن العجب بعد هذا أن تنقل هفوة لبعض العلماء أنكر فيها زيادة الإيمان بالمعنى المصدري لشبهة نظرية، ويجعل مذهباً يقلد صاحبه فيه تقليداً، وتؤول غلايات والأحاديث لأجله تأويلاً"4.
ويقول: "وهذه المسألة من أغرب مسائل عصبيات المذاهب عند النظار الجدليين ومقلديهم، وما كان ينبغي لمسلم أن يجعل هذا موضع خلاف لبحث بعض من ينتسب إليهم في مفهوم لفظ الإيمان الذي يتحقق
1 انظر المسامرة شرح المسايرة (ص 367) .
2 النبراس شرح العقائد (ص 402) وانظر (ص 406) .
3 إتحاف السادة المتقين (2/ 256) .
4 تفسير المنار (9/ 592) .
باعتقاده الدخول في الملة هل يقبل الزيادة والنقصان في ذاته؟.. "1.
4-
أنه سيق في بعض كتب السنة روايات مسندة في بعضها تصريح من بعض علماء السنة بأن أبا حنيفة يقول بذلك، وفي بعضها ما يدل عليه.
فمنها:
(أ) ما رواه الخطيب بسنده إلى شريك القاضي قال: "
…
أبو حنيفة أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص"2.
قلت: وشريك معاصر لأبي حنيفة رحمهما الله.
(ب) وساق عبد الله بن الإمام أحمد في السنة بسنده إلى أبي إسحاق الفزاري قال: "كان أبو حنيفة يقول: إيمان إبليس وإيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه واحد، قال أبو بكر: يا رب، وقال: إبليس: يا رب "3.
ثم قال أبو إسحاق: ومن كان من المرجئة ثم لم يقل هذا، انكسر عليه قوله.
قلت: ولعل هذا ليس قولاً لأبي حنيفة وإنما هو لازم قوله كما يفيد
1 تفسير المنار (11/86) .
2 تاريخ بغداد (13/ 372) .
3 السنة (1/219) ورواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (برقم: 1832) والخطيب في التاريخ (13/ 373) وقال محقق السنة لعبد الله: إسناده صحيح، وقال معلقاً على الأثر: ل"لعل مراده بذلك: التصديق القلبي. ومعلوم أنه لا يكفي وحده"، قلت: سبحان الله ولو كان يكفي وحده فهل يصح أن يقال تصديق أبي بكر القلبي كتصديق إبليس!!
ذلك قول أبي إسحاق.
(ج) وساق بسنده إلى أبي عبد الرحمن المقرىء قال: "كان والله أبو حنيفة مرجئاً، ودعاني إلى الرجاء فأبيت عليه"1.
(د) وساق بسنده إلى يحيى بن معين قال: "كان أبو حنيفة مرجئاً، وكان من الدعاة.. "2.
(هـ) وساق الخطيب بسنده إلى يحيى بن ادم قال: "ذكر لأبي حنيفة هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: "الوضوء نصف الإيمان" 3. قال: لتتوضأ مرتين حتى تستكمل الإيمان"4.
وهذه الروايات تدل على أنه رحمه الله كان من أهل الإرجاء، وهو التأخير لأنه كان يخرج العمل من مسمى الإيمان، وتدل أيضاً على أنه يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل.
قلت: وهو رحمه الله قد تأثر في هذا بقول شيخه حماد بن أبي سليمان، فقد نقل عن حماد إنكار دخول العمل في الإيمان، وإنكار تفاضله، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأنكر حماد بن أبي سليمان ومن اتبعه تفاضل الإيمان ودخول الأعمال فيه والاستثناء فيه، وهؤلاء من مرجئه الفقهاء، وأما إبراهيم النخعي إمام أهل الكوفة شيخ حماد بن أبي
1 السنة (1/223) .
2 السنة (1/226) .
3 أخرجه بهذا اللفظ أحمد (5/365) ، وأخرجه مسلم (1/203) بلفظ "الطهور شطر الإيمان".
4 رواه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/435) ، والبغدادي في تاريخ بغداد (13/388) .
سليمان، وأمثاله ومن قبله من أصحاب ابن مسعود كعلقمة والأسود فكانوا من أشد الناس مخالفة للمرجئة، وكانوا يستثنون في الإيمان، لكن حماد بن أبي سليمان خالف سلفه، واتبعه من اتبعه ودخل نجي هذا طائف من أهل الكوفة ومن بعدهم"1.
وشيخ الإسلام في اجر كلامه يشير إلى أبي حنيفة وغيره من علماء الكوفة ممن نحا منحى حماد في هذه المسألة، ونص شيخ الإسلام في موضع آخر أن أبا حنيفة تابعٌ في مقالته في الإيمان لشيخه حماد بن أبي سليمان2.
5-
لم أقف في حدود ما اطلعت عليه من مؤلفات تعرضت لهذا الموضوع على كلام لأحد الأحناف أو غيرهم يبرئ فيه أبا حنيفة من هذا القول وينفيه عنه، سوى محاولة الكشميري متقدمة الذكر، وقد خبرت نتيجتها.
وبكل الإنصاف في هذا والحق يقال: أن هذه تعد فهوة لأبي حنيفة رحمه الله وغفر له وزلة قدم، وليس هو بالمعصوم، ولكنها مغمورة إن شاء الله في بحر علمه وورعه وتحريه للخير والصواب.
فهذا هو الحق إذا ما وزنت الأمور بميزان الكتاب والسنة، وابتعد عن العواطف الجياشة، والعصبيات المطغية، والأهواء المضلة، عصمنا الله من ذلك وحمانا بمنه وكرمه.
ثم إن أقوال أبي حنيفة رحمه الله مبنية على اجتهاد وتحر للصواب ولا يخفى أن المجتهد عرضةٌ للخطأ والزلل، فإن أخطأ فما ينبغي لأتباعه
1 الفتاوى (7/ 507)
2 الفتاوى (7/119) و (18/271) .
أن يتعصبوا لخطئه، ويعرضوا عن نصوص الوحي المخالفة له؛ لأن المحقق والباحث عن الصواب لا يهوله اسم معظم عن الحق المحتم، فالحق لا يعرف بالرجال، بل من عرف الحق عرف أهله.
والأمر كما قال شيخ الإسلام: "كل قائل إنما يحتج لقوله لا به، إلا الله ورسوله"1.
سيما والأئمة أنفسهم قد حذروا أتباعهم ومن تأثر بهم من التقليد الأعمى والتعصب المقيت، حتى أبي حنيفة رحمه الله فقد أثر عنه في هذا الشيء الكثير.
يقول الألباني حفظه الله ونفع بعلمه: "وقد روى عنه أصحابه أقوالاً شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد، وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة له:
1-
"إذا صح الحديث فهو مذهبي".
2-
"لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه"وفي رواية: "حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي"زاد في رواية) فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غداً (وفي أخرى) ويحك يا يعقوب (هو أبو يوسف) لا تكتب كل ما تسمع مني، فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غداً، وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد".
3-
إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا
1 انظر الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية للبزار (ص 29) وانظر لزاماً الفتاوى (26/202) .
قولي"1.
قلت: يرحمك الله فهذا عين العدل والإنصاف، ولكن أين عقول أقوام من فهم هذا وقبوله؟!
فإن قول أبي حنيفة في مسألتنا هذه- زيادة الإيمان ونقصانه- مخالفٌ للنص قطعاً وعلى الضد له تماماً، فإن نصوص الكتاب والسنة صريحة في أن الإيمان يزيد وينقص، وأن أهله متفاضلون فيه، وأنهم ليسوا فيه سواء على درجة واحدة، وأما أقوال أبي حنيفة المأثورة عنه في هذا فصريحة بعكس ذلك.
ثم هو رحمه الله لم يتعمد الخطأ فيما أخطأ فيه، ولم يتعمد مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا، وإنما هذا ما أداه إليه اجتهاده وبلغ إليه علمه، كيف وقد قيل له أتخالف النبي صلى الله عليه وسلم؟.
فقال: "لعن الله من يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم به أكرمنا الله وبه استنقذنا"2.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم وتكلم إما بظن وإما بهوى،
…
وقد بينا هذا في رسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ، وبينا أن أحداً من أئمة الإسلام لا يخالف حديثاً صحيحاً بغير عذر، بل لهم نحو من عشرين عذراً
…
"3.
1 انظر تخريجاً مفصلاً لهذه الروايات في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني (ص 24-26) .
2 الانتقاء لابن عبد البر (ص 78) ، وانظر الفتاوى لابن تيمية (20/232) .
3 الفتاوى (20/ 304) .
ولهذا كان ينبغي على الراغب في الخير والمتحري للحق أن يترك قول أبي حنيفة هذا ويعرض عنه، اتباعاً لأبي حنيفة في قوله المتقدم:"إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي".
بل قد ورد في بعض الروايات عن أبي حنيفة ما يشعر أنه رجع عن قوله هذا وتركه تسليماً منه بما جاء في النصوص الصريحة المخالفة لقوله.
فقد روى ابن عبد البر في التمهيد بسنده إلى حماد بن زيد قال كلمت أبا حنيفة في الإرجاء فجعك يقول وأقول.
ثم روى له حماد حديث: "أي الإسلام أفضل؟ "إلى أخره وقال له: ألا تراه يقول: أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان، قال: فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه يا أبا حنيفة؟ قال: لا أجيبه وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
قلت: وهذا هو موقف الأئمة جميعهم من النصوص، أبي حنيفة وغيره، القبول والرضى والتسليم التام، ولعل في هذه القصة ما يدل على تراجع الإمام أبي حنيفة رحمه الله عما قال.
فليترك قوله هذا المخالف للنصوص، والذي يحتمل أنه قد رجع عنه، وليتمسك بما جاء في كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فهذا الذي يدعو إليه أبو حنيفة وغيره من الأئمة يرحمهم الله.
ومع هذا لم يفتأ أقوام من تعصب مقيت وغلو مفرط لقول أبي حنيفة هذا، بدت آثاره في جوانب مختلفة وفي مواقف متعددة، وهي بحق تدعو
1 التمهيد (9/247) ونقل القصة ابن أبي العز في شرح الطحاوية (2/ 494) حكاية عن الطحاوي رحمه الله.
للعجب والإستغراب.
ولعلي أعرض هنا بعض ما وقفت عليه من مظاهر الغلو في هذه المسألة على الخصوص إذ هي محل بحثنا، وإن كانت مظاهر الغلو قد تكاثرت في مجالات أخرى عديدة.
1-
عد بعض المتعصبة في بعض الكتب الفقهية من الأمور المكفرة التي يكفر قائلها القول بأن الإيمان يزيد وينقص، كما فعل ذلك ابن نجيم الحنفي في كتابه البحر الرائق، فقد عدّ من الأمور التي يرتد المسلم بقولها القول بزيادة الإيمان ونقصانه1.
ولهذا يقول السندي- وهو حنفي- بعد أن بين الحق في هذه المسألة وهو أن الإيمان يزيد وينقص بدلالة الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة: "وبهذا ظهر أن ما وقع في بعض كتب الفقه من عد القول بالزيادة والنقصان من كلمات الكفر هفوة عظيمة نسأل الله العفو والعافية"2.
فالقول بزيادة الإيمان ونقصانه هو صريح الكتاب والسنة وليس مفهومهما فحسب، ومع هذا عد كفراً!!
2-
وأعظم من هذا، وأشد غلوا، وأوغل في الإفراط أن بعض هؤلاء كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيها التصريح بعدم زيادة الإيمان ونقصانه، وأن زيادته كفر ونقصانه شرك، وأن من قال إنه يزيد وينقص فقد خرج من أمر الله، وأنهم براء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء منهم، وأنهم أعداء الرحمن وفارقوا الدين، وأن من يقول إنه يزيد وينقص ولم يتب تضرب عنقه بالسيف، إلى غير ذلك من
1 انظر البحر الرائق (5/131) .
2 شرح سنن ابن ماجة للسندي (1/38) .
الهراء السمج، والقول البغيض، والكذب الفاضح والذي لا تنفثه إلا نفوس رديئة وقلوب مريضة. وستقف على هذه الأحاديث في موضعها من هذا البحث إن شاء الله1.
3-
عدّ بعض هؤلاء من يقول بزيادة الإيمان ونقصانه مبتدعاً، مع أن القائلين بذلك هم الصحابة وتابعوهم بإحسان، خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم، بل هو بإجماعهم كما سبق نقل ذلك وبيانه.
يقول ابن الحكيم السمرقندي: "ينبغي أن يعلم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص لأن من يرى الزيادة والنقصان في الإيمان فهو مبتدع
…
إلى أن قال: ولم يقل أحد من العلماء والصالحين أن الإيمان يزيد وينقص.."2.
وتأمل كيف أوغل في الخطأ، فجمع في كلامه هذا بين تبديع السلف من جهة، وتجاهل أقوالهم من جهة أخرى، فالله المستعان.
ثم كرر قوله هذا مرة أخرى فقال: "واعلم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ومن قال يزيد وينقص فهو مبتدع وهذا كفاية للعاقل"3 إضافة إلى هذا فقد احتج ببعض الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وعدّ من علامة السواد الأعظم الذين هم عنده أهل السنة والجماعة أن يكون متصفاً باثنين وستين خصلة، منها:"أن يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص"4.
4-
من يطالع غالب كتبهم المؤلفة في العقيدة عند الكلام على هذه
1 انظر (ص 383 وما بعدها) من هذه الرسالة.
2 السواد الأعظم (ص 33) .
3 السواد الأعظم (ص 34) .
4 السواد الأعظم (ص 4) .
المسألة، يجد فيها من التأويلات المستكرهة والتعطيل الصريح لنصوص الوحي الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه الشيء الكثير، فهم يوردون النصوص لا للاستدلال بها، وإنما لتعطيلهما وتأويلها على ما يوافق ما رأوه وما أثر عن أسلافهم، فتجدهم عندما يوردون النصوص المخالفة لأقوالهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيفما كان، وبأي صورة وطريقة كانت، بخلاف منهج السلف أهل السنة والجماعة القائم على الاعتصام بالكتاب والسنة في كل حال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمقصود هنا أن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف صار أهل الفرق شيعاً، صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه، فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقران والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذالك، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن، ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول، بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج بها"1.
قلت: ومن يتأمل كلام شيخ الإسلام هذا ويسبر غوره ويتعمق في مكنونه مريداً للخير طالباً للحق يسلم من الوقوع في هوة سحيقة ومزلة عميقة تردى بها كثيرون من أهل التفرق والاختلاف وحادوا عن الجادة السوية والطريقة المرضية، ولهذا فإنك عندما تقرأ كتب أهل الأهواء
1 الفتاوى (13/ 58، 59) .
المؤلفة في الاعتقاد تستغرب عندما لا تجد فيها ذكر الأدلة من الكتاب والسنة إلا النادر القليل، ثم هذا النادر القليل ذكر لا ليحتج به وإنما ذكر للشروع في تعطيله وتأويله.
ثم قال شيخ الإسلام: "والمقصود أن كثيراً من المتأخرين لم يصيروا يعتمدون في دينهم لا على القرآن، ولا على الإيمان الذي جاء به الرسول، بخلاف السلف، فلهذا كان السلف أكمل علماً وإيماناً، وخطؤهم أخف وصوابهم أكثر"1.
قلت: هم القدوة وأهل السلامة الذين جمع الله لهم بين كمال العلم وقوة الإيمان وفقنا الله لإتباعهم، وألحقنا بهم، حشرنا في زمرتهم، وهدى ضال المسلمين للتأسي بهم، والسير على نهجهم.
5-
ومن طريف تعصبهم أن أحدهم حلف بطلاق زوجته، إن كان الإيمان يزيد وينقص، وذلك في زمن المعتصم، فسئل عن ذلك كمال الدين أبو الحسين بن أبي بكر الشهراياني البغدادي، فأفتى بوقوع طلاقه، وبسط الكلام في هذه المسألة في جزء مفرد2.
وما تقدم هو قول من تعصب منهم وغلا، وغير خاف أن كثيراً من هؤلاء انحرفوا أيضاً عن بقية أقوال إمامهم الأخرى الصحيحة كإثبات العلو وإثبات الصفات وغير ذلك إلى التجهم والإعتزال والتصوف والتشيع وغيرها3.
أما من أنصف منهم في هذه المسألة فله موقف آخر وطريق ثان يتسم
1 الفتاوى (13/ 60) .
2 انظر ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (2/ 284) .
3 انظر الفتاوى (20/ 186، 187) .
بالعدل والإنصاف وتحري الحق المطابق للكتاب والسنة وإن خالف رأى الإمام، واختصاراً اكتفي بذكر أربعة أمثلة لأهل هذا الموقف:
1-
فمن هؤلاء أحمد بن عمران الليموسكي الإستراباذي الحنفي المتوفي سنة 331 هـ.
فقد ذكر في ترجمته أنه يقول: "الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص"1.
قال السمعاني في الأنساب: "
…
وكان على اعتقاد أهل السنة مجانباً لأهل البدع"2.
2-
ومنهم الإمام القاضي علي بن علي بن محمد أبي العز الدمشقي الحنفي المتوفى سنة 792 هـ 3 صاحب الكتاب العظيم والمؤلف القيم "شرح العقيدة الطحاوية"والذي نهج فيه منهج أهل السنة والجماعة، مقرراً الحق بدليله، بأسلوب بليغ، وعبارات جامعة، تشهد للمؤلف بحسن إلمامه وسعة إطلاعه وجوده تصنيفه.
فقد خالف أبا حنيفة في هذه المسألة، وأورد النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة، الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه.
قال رحمه الله: "والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جداً.. فأورد جملة منها ثم قال: وفي هذا
1 الجواهر المضية في طبقات الحنفية (1/ 225) .
2 الأنساب (5/ 153) .
3 انظر ترجمته في الدرر الكامنة لابن حجر (3/87) ، وشذرات الذهب لابن العماد (6/326) .
المقادر كفاية، وبالله التوفيق"1.
3-
ومنهم جلال الدين بن أحمد بن يوسف التبريزي المعروف بالتباني الحنفي المتوفى سنة 793 هـ2 وصف بحب السنة، وحسن العقيدة، وبغض البدع والمبتدعة.
قال ابن حجر: "برع في العلوم مع الدين والخير.. وكان محياً في السنة (كذا) حسن العقيدة شديداً على الإتحادية والمبتدعة"3.
وقال الشوكاني: "كان محباً للحديث، حسن الاعتقاد، شديداً على الاتحادية والمبتدعة، وانتهت إليه رئاسة الحنفية"4.
فقد ذكر أن له رسالة في زيادة الإيمان ونقصانه5، ولم أقف عليها، إلا أن عنوانها يشعر أنها مؤلفة للتدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، والاحتجاج لذلك بالسنن والآثار، ثم تأكد لي ذلك لما رأيت ابن حجر والشوكاني ذكرا في ترجمته أن له تصنيفاً في أن الإيمان يزيد وينقص، ففي كلامهما التنصيص على أنها مؤلفة في أن الإيمان يزيد وينقص، فإذا انضم لهذا ما ذكر عنه أنه حسن الاعتقاد محب للسنة يتحقق من ذلك أنه إنما ألف رسالته لبيان أن الإيمان يزيد وينقص، وللرد على من قال بخلاف
1 شرح العقيدة الطحاوية (ص 324- 327) .
2 انظر ترجمته في الدرر الكامنة (1/ 545) ، وإنباء الغمر (1/ 424) كلاهما لابن حجر، والبدر الطالع للشوكاني (1/168) ، والنجوم الزاهرة لابن تغزي بردي (12/122) .
3 الدرر الكامنة (1/ 545) .
4 البدر الطالع (1/ 186) .
5 كشف الظنون لحاجي خليفة (1/554) ، وقد وقع فيه خطأ في اسم المصنف وتاريخ وفاته، فليصحح.
ذلك من أصحابه وغيرهم.
4-
ومنهم أبو الثناء شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي الحنفي الشهير بـ (الألوسي الكبير) ، المتوفى سنة 1270 هـ 1 صاحب التفسير المشهور الموسوم بـ "روح المعاني في تفسير القران والسبع المثاني ".
فقد ذهب إلى القول بزيادة الإيمان ونقصانه؛ لأنه رأى نصوص الكتاب والسنة صريحة بذلك.
قال في تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 2 ".. وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلاً، بل قد احتج يعضهم بالعقل أيضاً، وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام، واللازم باطل فكذا الملزوم"3.
وألمح في موضع آخر من تفسيره إلى أنه يقول بهذا القول وإن كان القائل بخلافه إمام يعتد بقوله وكلامه.
قال: "وقبول التصديق نفسه الزيادة والنقص والشدة والضعف مما
1 انظر ترجمته في فهرس الفهارس للكتاني (1/97) ، والأعلام للزركلي (7/ 176) ، ومعجم المؤلفين لكحالة (12/175) .
2 سورة الأنفال، الآية:2.
3 روح المعاني (9/165) .
قال به جمع من المحققين وبه أقول لظواهر الآيات والأخبار
…
ومن لم يقبل قبوله للزيادة ولم يدخل الأعمال في الإيمان قال: إن زيادته بزيادة متعلقه والمؤمن به
…
وفيه نظر وإن قاله من تعقد عليه الخناصر وتعتقد بكلامه الضمائر"1.
بل وصرح أنه خالف في هذه المسألة إمامه أبا حنيفة لأنه وجد الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه لا تحصى.
قال: "وما عليَّ إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه للأدلة التي لا تكاد تحصى فالحق أحق بالإتباع، والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام"2.
قلت: صدق والله، وإنما يوفق لمثل هذا من ابتعد عن العواطف والأهواء، واحتكم إلى الوحيين الكتاب والسنة، عملاً بقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 3 وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 4.
فمن كان كذلك هدي ولم يضل، ومن لم يكن كذلك فقد تنكب الصراط وحاد عن الجادة وتلقفته الأهواء، ولا تسأل عن هلكته، والله الهادي والموفق.
1 روح المعاني (11/50) ، وانظر (26/92-94) .
2 روح المعاني (9/ 167) .
3 سورة النساء، الآية:59.
4 سورة الأحزاب، الآية:36.
ثانياً- الجهمية:
ومن القائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص إن لم يكونوا أصل نشأته ومبدأ حدوثه- الجهمية أتباع الجهم بن صفوان أس الضلالة وركيزة الانحراف ورأس الابتداع، الذي تلقى عقيدته وأخذ دينه عن الجعد بن درهم، وجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فأصل مقالات الجهمية وأساس نشأتهم مرتبط باليهود1.
ولا أدل من هذا على خبث هذه الفرقة وتأصل الشر والفساد فيها، ولهذا كان ذم السلف للجهمية من أعظم الذم بل نصوا على زندقتهم وكفرهم وأنهم ليسوا من أهل القبلة قال أبو سعيد الدارمي رحمه الله:"ناظرني رجل ببغداد منافحاً عن هؤلاء الجهمية فقال: بأية حجة تكفرون هؤلاء الجهمية وقد نهي عن إكفار أهل القبلة؟ بكتاب ناطق تكفرونهم، أم بأثر، أم بإجماع؟ فقلت: ما الجهمية عندنا من أهل القبلة، وما نكفرهم إلا بكتاب مسطور، وأثر مأثور، وكفر مشهور.."2.
ثم ساق من نصوص الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة ما يدل على كفرهم وخروجهم من ملة الإسلام.
وكان ابن المبارك رحمه الله لا يعدهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم3، ويرى
1 انظر الفتاوى (5/20) ، والبداية والنهاية لابن كثير (9/350) ، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 23) .
2 الرد على الجهمية للدارمي (ص171 وما بعدها) .
3 الإبانة لابن بطة (1/385) ، وانظر درء التعارض لابن تيمية (7/110) ومجموعة الرسائل والمسائل له (3/ 343) .
أن كلامهم شر من كلام اليهود والنصارى، يقول:"لأن أحكي كلام اليهود والنصارى أحب إلى من أن أحكي كلام الجهمية"1.
قال الدارمي: "وصدق ابن المبارك إن من كلامهم
…
ما هو أوحش من كلام اليهود والنصارى"2.
وقال الإمام البخاري رحمه الله مبيناً كفر الجهمية وخبث أقوالهم: "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت أضل في كفره منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم"3.
ومن مقولاتهم الفاسدة وآرائهم المنحرفة زعمهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل أهله فيه.
قال الأشعري: "وزعمت الجهمية.. أن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه"4.
وقال الشهرستاني: "قال أي الجهم: والإيمان لا يتبعض أي لا ينقسم إلى عقد وقول وعمل، قال: ولا يتفاضل أهله فيه، فإيمان الأنبياء وإيمان الأمة على نمط واحد، إذ المعارف لا تتفاضل "5.
وقال ابن القيم في نونيته6 حاكياً بعض عقائد هؤلاء:
1 خلق أفعال العباد للبخاري (ص 15) والرد على الجهمية للدارمي (ص25) .
2 الرد على الجهمية للدارمي (ص 25) .
3 خلق أفعال العباد (ص19) .
4 المقالات (ص 132) .
5 الملل والنحل (1/88) .
6 الكافية الشافية (ص13) .
قالوا وإقرار العباد بأنه
…
خلاقهم هو منتهى الإيمان
والناس في الإيمان شيء واحد
…
كالمشط عند تماثل الأسنان
وجهم وأتباعه إنما قالوا بهذا القول لأن الإيمان عندهم مجرد التصديق، فمن صدق بقلبه فهو عندهم مؤمن كامل الإيمان وإن تكلم بالكفر، وسب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وسخر بالدين، وأحل المحرمات، وفعل غير ذلك من الأمور التي هي كفر بواح.
والتصديق عندهم يتساوى فيه العباد، ولا يقبل الزيادة والنقصان فهو إما أن يعدم وإما أن يوجد، ولا يقبل التبعض، فإذا ذهب بعضه ذهب كله، ولا يتفاضل الناس فيه، فإيمان الملائكة والأنبياء والصديقين وإيمان فساق الأمة وأهل الخنا والفجور سواء1.
وقولهم هذا فاسد ظاهر البطلان وفساده معلوم من دين الله بالاضطرار ويظهر هذا من وجوه متعددة:
أحدها: أنهم أخرجوا ما في القلب من حب الله وخشيته والإنابة إليه والتوكل عليه ونحو ذلك من الأعمال القلبية من أن يكون من نفس الإيمان.
ثانيها: أنهم جعلوا ما علم أن صاحبه كافر، مثل إبليس وفرعون واليهود وأبي طالب وغيرهم، أنه إنما كان كافراً لأن ذلك مستلزم لعدم تصديقه في الباطن وهذا مكابرة للعقل والحس، وكذلك جعلوا من يبغض الرسول ويحسده كراهة دينه مستلزماً لعدم العلم بأنه صادق ونحو ذلك.
1 انظر الفتاوى (7/ 582) .
ثالثها: أنهم جعلوا ما يوجد من التكلم بالكفر من سب الله ورسوله والتثليث وغير ذلك قد يكون مجامعاً لحقيقة الإيمان الذي في القلب، ويكون صاحب ذلك مؤمنا عند الله حقيقة، سعيداً في الدار الآخرة، وهذا يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام.
رابعها: أنهم جعلوا من لا يتكلم بالإيمان قط، مع قدرته على ذلك، ولا أطاع الله طاعة ظاهرة مع وجوب ذلك عليه وقدرته، يكون مؤمناً بالله تام الإيمان سعيداً في الدار الآخرة.
خامسها: أنهم قالوا: إن العبد قد يكون مؤمناً تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء والصديقين ولو لم يعمل خيرا لا صلاة ولا صلة ولا صدق حديث، ولم يدع كبيرة إلا ركبها فيكون الرجل عندهم إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أئتمن خان، وهو مصر على دوام الكذب والخيانة ونقض العهود لا يسجد لله سجدة، ولا يحسن إلى أحد حسنة، ولا يؤدي أمانة، ولا يدع ما يقدر عليه من كذب وظلم وفاحشة إلا فعلها، وهو مع ذلك مؤمن تام الإيمان، مثل إيمان الأنبياء.
سادسها: أنه يلزمهم أن من سجد للصليب والأوثان طوعا، وألقى المصحف في الحش عمدا، وقتل النفس بغير الحق، وقتل كل من رآه يصلي، وسفك دم كل من يراه يحج البيت، وفعل ما فعلته القرامطة بالمسلمين، يجوز أن يكون مع ذلك مؤمناً ولياً لله، إيمانه مثل إيمان النبيين والصديقين؛ لأن الإيمان الباطن إما أن يكون منافياً لهذه الأمور، وإما أن لا
يكون منافياً، فإن لم يكن منافياً أمكن وجودها معه فلا يكون وجودها إلا مع عدم الإيمان الباطن.
وإن كان منافياً للأيمان الباطن كان ترك هذه من موجب الإيمان ومقتضاه ولازمه، فلا يكون مؤمناً في الباطن الإيمان الواجب إلا من ترك هذه الأمور فمن لم يتركها دل ذلك على فساد إيمانه الباطن، وإذا كانت الأعمال والتروك الظاهرة لازمه للإيمان الباطن كانت من موجبه ومقتضاه، وكان من المعلوم أنها تقوى بقوته، وتزيد بزيادته، وتنقص بنقصانه، فإن الشيء المعلوم لا يزيد إلا بزيادة موجبه ومقتضيه، ولا ينقص إلا بنقصان ذلك، فإذا جعل العمل الظاهر موجب الباطن ومقتضاه لزم أن تكون زيادته لزيادة الباطن فيكون دليلاً على نقص الباطن، وهو المطلوب.
وهذه الأمور، كلها إذا تدبرها المؤمن بعقله تبين له أن مذهب السلف هو المذهب الحق الذي لا عدول عنه، وأن من خالفهم لزمه فساد معلوم بصريح المعقول وصحيح المنقول كسائر ما يلزم الأقوال المخالفة لأقوال السلف والله أعلم1. ثم إن سلفنا الصالح قد نقل عنهم أقوال كثيرة في رد مقولة هؤلاء الخبيثة، وبيان فسادها وشدة ضررها على الإسلام وأهله، وفيما يلي أسواق بعض ما نقل عنهم في ذلك:
1-
قيل لعبد الله بن أبي مليكة: يا أبا محمد إن ناساً يجالسونك يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل، فغضب ابن أبي مليكة، فقال: والله ما رضي الله لجبريل حتى فضله بالثناء عدى محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ
1 انظر الفتاوى لابن تيمية (7/ 582- 585) .
بِمَجْنُونٍ} 1 يعني محمداً صلى الله عليه وسلم.
أفأجعل إيمان جبريل وميكائيل كإيمان فهدان، لا والله ولا كرامة.
قال نافع راوي الأثر: وقد رأيت فهدان كان رجلا لا يصحو من الشراب2.
قال الآجري معلقاً على هذا الأثر بعد روايته له.: "من قال هذا فلقد أعظم الفرية على الله، وأتى بضد الحق، وبما ينكره جميع العلماء لأن قائل هذه المقالة يزعم أن من قال: لا إله إلا الله لم تضره الكبائر أن يعملها، ولا الفواحش أن يرتكبها، وأن عنده أن البار التقي الذي لا يباشر من ذلك شيئاً والفاجر يكونان سواء، هذا منكر قال الله عز وجل:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 3، وقال عز وجل:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 4.
فقل لقائل هذه المقالة المنكرة: يا ضال يا مضل إن الله عز وجل لم يسو بين الطائفتين من المؤمنين في أعمال الصالحات حتى فضل بعضهم على بعض درجات، قال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلَاّ
1 سورة التكوير، الآية:20.
2 رواه أبو عبيد في الإيمان (ص 70) ، والآجري في الشريعة (ص 147)، وابن بطة في الإبانة (برقم: 1256) ، وانظر تعليق أبو عبيد عليه بعد روايته له.
3 سورة الجاثية، الآية:21.
4 سورة ص، الآية:28.
وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 1 فوعدهم الله كلهم الحسنى بعد أن فضل بعضهم على بعض وقال عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} ثم قال {وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 2 وكيف يجوز لهذا الملحد في الدين أن يسوي بين إيمانه وإيمان جبريل وميكائيل، ويزعم أنه مؤمن حقاً"3.
2-
وقال ابن أبي مليكة: إن فهدان يزعم أنه يشرب الخمر، ويزعمون أن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل4.
3-
ومر ميمون بن مهران بجويرية وهي تضرب بالدف وهي تقول: وهل عليَّ من قول قلته من كنود. فقال: أترون إيمان هذه كإيمان مريم بنت عمران؟ قال: والخيبة لمن يقول إيمانه كإيمان جبريل5.
4-
وقال الوليد بن مسلم: سمعت أبا عمرو الأوزاعي ومالكاً وسعيد بن عبد العزيز يقولون: ليس للإيمان منتهى هو في زيادة أبداً، ويقولون على من يقول أنه مستكمل الإيمان وأنه إيمانه كإيمان جبريل، قال الوليد قال سعيد بن عبد العزيز: هو أن يكون إذا أقدم على هذه المقالة إيمانه كإيمان إبليس لأنه أقر بالربوبية وكفر بالعمل، فهو أقرب إلى ذلك
1 سورة الحديد، الآية:10.
2 سورة النساء، الآية:95.
3 الشريعة (ص 147، 148) .
4 رواه عبد الله في السنة (1/ 371)، وابن بطة في الإبانة (برقم: 1257) ورواه بنحوه إسحاق بن راهوية في مسنده (3/670) .
5 رواه ابن بطة في الإبانة (برقم: 1258) .
من أن يكون إيمانه كإيمان جبريل عليه السلام1.
5-
وقال الأوزاعي: "من آمن وعصى إيمانه بإيمان إبليس أشبه منه بإيمان جبريل، لأن جبريل آمن وأطاع، وإبليس آمن وعصى"2.
6-
وقال سفيان الثوري: اتقوا هذه الأهواء، قيل له: بين لنا رحمك الله فقال سفيان: أما المرجئة فيقولون: الإيمان كلام بلا عمل، من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فهو مؤمن مستكمل الإيمان، إيمانه على إيمان جبريل والملائكة وإن قتل كذا وكذا مؤمن، وإن ترك الغسل من الجنابة، وإن ترك الصلاة3.
7-
وقال ابن بطة العكبري:"احذروا رحمكم الله من يقول أنا مؤمن عند الله، وأنا مؤمن كامل الإيمان، ومن يقول إيماني كإيمان جبريل وميكائيل فإن هؤلاء مرجئة أهلُ ضلال وزغ وعدول عن الملة"4.
8-
وكان عون بن عبد الله5 من آدب أهل المدينة وأفقههم وكان مرجئاً فرجع عن ذلك وأنشأ يقول:
لأول من تفارق غير شك
…
تفارق ما يقول المرجئونا
وقالوا مؤمن من أهل جور
…
وليس المؤمنون بجائرينا
وقالوا مؤمن دمه حلال
…
وقد حرمت دماء المؤمنين6
1 رواه ابن بطة في الإبانة (برقم 1259) وروى أوله عبد الله في السنة (1/ 333) .
2 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (برقم: 1836) .
3 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (برقم: 1834) .
4 الإبانة لابن بطة (2/899) .
5 انظر ترجمته في السير للذهبي (5/103) .
6 رواه ابن بطة في الإبانة (برقم:1273) ن واللالكائي في شرح الاعتقاد (برقم:1850) .
9-
وقال سليم بن منصور بن عمار1:
أيها القائل إني مؤمن
…
إنما الإيمان قول وعمل
إنما الإرجاء دين محدث
…
سنه جهم بن صفوان انتحل
إن دين الله دين قيّم
…
فيه صوم وصلاة تعتمل
وزكاة وجهاد لإمرىء
…
حارب الدين اعتدى وقتل
ليس بالمستكمل الإيمان من
…
إن رأى صلى وإلا لم يصل
أو أتى يوما على قاذورة
…
ترك الغسل مجوناً أو كسل
اسم هذا مؤمن الإقرار لا
…
مؤمن حقاً وحقاً لم يقل
لست بالمرجىء ولا الخرمي لا
…
ولا أرى برأي المعتزل
إن رأيي رأي سفيان وما
…
كان سفيان على رأي فضل2
1 انظر ترجمته في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/216) وتاريخ بغداد (9/232) .
2 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (برقم: 1852) وذكر الأبيات أبو يعلى في كتابه الإيمان (ص 275) لكن اسم الناظم تصحف عنده من "سليم" إلى "سلمان " ووقع بينهما فروق أخرى قليلة في مفردات النظم وكذلك تصحف اسم الناظم في المطبوعة من شرح الاعتقاد من "
…
ابن عمار" إلى "
…
ابن عامر"، وقد وقع في شرح الاعتقاد في البيت قبل الأخير "الحربي" بدل "الخرمي"، فعدت إلى كتب المقالات فوجدت فيها فرقة من الشيعة يقال لهم الحربية نسبة إلى عبد الله بن عمرو بن حرب، ووجدت فرقة أخرى يقال لهم الخرمية نسبة إلى بابك الخرمي الذي ظهر في جبل البدين بناحية أذربيجان في عهد المأمون. انظر المقالات للأشعري (ص 22) والفرق بين الفرق للبغدادي (ص 266) والأقرب إلى سياق النظم أن المراد "الخرمية" لما ذكر عنهم من الإباحية والاستحلال للمحرمات والقتل والأذى للمسلمين حتى إنهم بنوا مساجد للمسلمين ليؤذوهم فيها، وهم يعلمون أولادهم القرآن لكنهم لا يصلون في السر ولا يصومون ولا يرون جهاد الكفرة.
قلت: وهذه غاية ومؤدى مذهب المرجئة الذي سيق النظم لذمه وبيان شناعته وقبحه، والله أعلم.
وفي هذا كفاية.
ثالثاً- الخوارج والمعتزلة:
لقد ذهبت الخوارج والمعتزلة مذهب أهل السنة والجماعة في تعريف الإيمان من حيث أنه شامل للأعمال والأقوال والاعتقادات، إلا أنهم فارقوا أهل السنة والجماعة بقولهم إن الإيمان كل واحد لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وأنه لا يقبل التبعض.
ومن هنا كان الإخلال بالأعمال وارتكاب الكبائر عندهم مخرجاً من الإيمان كلية، على خلاف بينهم في تسميته كافراً، فالخوارج قطعوا بكفره، ونازعهم المعتزلة في الاسم وقالوا نحن لا نسميه مؤمناً ولا كافراً، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين أي: بين منزلة الإيمان والكفر، وإن كانوا قد اتفقوا جميعاً أنه يوم القيامة خالد مخلد في نار جهنم1.
قال شيخ الإسلام: "قالت الخوارج والمعتزلة قد علمنا يقيناً أن الأعمال من الإيمان فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، وإذا زال بعضه زال جميعه؛ لأن الإيمان لا يتبعض ولا يكون في العبد إيمان ونفاق، فيكون أصحاب الذنوب مخلدين في النار إذ كان ليس معهم من الإيمان شيء"2.
وأصل غلط هؤلاء ومنشأ ضلالهم كما قال شيخ الإسلام: "أنهم
1 انظر الفتاوى (7/ 223، 257) وشرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية (ص 137) .
2 الفتاوى (13/ 48) .
ظنوا أن الشخص الواحد لا يكون مستحقاً للثواب والعقاب والوعد والوعيد والحمد والذم، بل إما لهذا وإما لهذا فأحبطوا جميع حسناته بالكبيرة التي فعلها، وقالوا:"الإيمان هو الطاعة فيزول بزوال بعض الطاعة، ثم تنازعوا هل يخلفه الكفر على القولين ووافقتهم المرجئة والجهمية على أن الإيمان يزول كله بزوال شيء منه، وأنه لا يتبعض ولا يتفاضل فلا يزيد ولا ينقص وقالوا إن إيمان الفساق كإيمان الأنبياء والمؤمنين"1.
فهذه الشبهة هي التي أفسدت على هؤلاء قولهم، بل وعلى جميع المرجئة، كما قال شيخ الإسلام:"وإنما أوقع هؤلاء كلهم أي المرجئة بأقسامهم- ما أوقع الخوارج والمعتزلة في ظنهم أن الإيمان لا يتبعض بل إذا ذهب بعضه ذهب كلة، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه يتبعض وأنه ينقص ولا يزول جميعه"2.
وقال شيخ الإسلام: "وجماع شبهتهم في ذلك أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها كالعشرة فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة، وكذلك الأجسام كالسكنجبين3 إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجبين، قالوا فإذا كان الإيمان مركباً من أقوال وأعمال ظاهرة وباطنة لزم زواله بزوال بعضها"4.
1 شرح العقيدة الأصفهانية (ص 137، 138) ، وانظر الفتاوى (7/404) .
2 شرح العقيدة الأصفهانية (ص143، 144) .
3 السكنجبين: شراب مركب من حامض وحلوا- معرب- فارسيته: سركا انكبين انظر المعجم الوسيط (1/440) .
4 الفتاوى (7/511) .
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
أحدها: أن الحقيقة الجامعة لأمور سواء كانت في الأعيان والأعراض. إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، وسواء سميت مركبة أو مؤلفة أو غير ذلك، لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها.
الثاني: أن ما مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابق لذلك، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة، بل قد تبقى التسعة، فإذا زال أحد جزئي المركب لا يلزم زوال الجزء الآخر، لكن أكثر ما يقولون زالت الهيئة الاجتماعية، وزال ذلك الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب كما يزول اسم العشرة والسكنجبين.
الثالث: أن كون الشيء المركب لم يبق على تركيبه بعد زوال شيء من أجزائه منه لا نزاع فيه بين العقلاء، ولا يدعي عاقل أن الإيمان أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور والمشتملة على أجزاء أنه إذا زال بعضها
بقي ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه، ولا يقول أحد أن الشجرة أو الدار إذا زال بعضها بقيت مجتمعة كما كانت، ولا أن الإنسان أو غيره من الحيوان إذا زال بعض أعضائه بقي مجموعاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها
من جدعاء" 1، فالمجتمعة الخلق بعد الجدع لا تبقى مجتمعة، ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء، فدعواهم أنه إذا زال بعض المركب زال بعضه الآخر ليس بصواب، وإن كان يسلم لهم أنه ما بقي إلا بعضه لا كله، وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت.
الرابع: أن المركبات في ذلك على وجهين:
أحدهما: ما يكون التركيب شرطاً في الإطلاق الاسم عليه.
ثانيهما: ما لا يكون التركيب شرطاً في إطلاق الاسم عليه.
ومثال الأول: السكنجبين والعشرة، فإن هذا النوع يزول عنه اسمه عند زوال بعض أجزائه منه، ولا يطلق الاسم إلا على الهيئة المركبة مجتمعة.
ومثال الثاني: جميع المركبات المتشابهة الأجزاء، وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء فإن المكيلات والموزونات تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب والماء.. ونحو ذلك.
وكذلك لفظ العبادة والطاعة والخير والحسنة والإحسان والصدقة والعلم نحو ذلك مما يدخل فيه أمور كثيرة يطلق الاسم على قليلها وكثيرها وعند زوال بعض الأجزاء وبقاء بعض الأجزاء، وكذلك لفظ القرآن فيقال على جميعه وعلى بعضه، ولو نزل قرآن أكثر من هذا لسمي قرآناً، وكذلك لفظ الذكر والدعاء يقال للقليل والكثير وكذلك لفظ الجبل والنهر والبحر والدار والقرية ونحو ذلك يقال على الجملة المجتمعة، ثم
1 رواه البخاري (2/ 97) ، ومسلم (4/2047) .
ينقص كثير من أجزائها والاسم باق.
فإذا كانت المركبات على نوعين، بل غالبها من هذا النوع لم يصح قولهم، أنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول الاسم.
الخامس: أن هذا القول مخالف لنصوص الوحي الدالة على أن للإيمان أجزاء وأبعاضاً.
مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" 1 ومن المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:"يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان"2 فأخبر أنه يتبعض ويبقى بعضه، وأن ذاك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة.
السادس: أن ما يجب على العباد من شرائع وأحكام يختلف باختلاف حال نزول الوحي من السماء وبحال المكلف في البلاغ وعدمه، وهذا مما يتنوع به نفس التصديق، ويختلف حاله باختلاف القدرة والعجز وغير ذلك من أسباب الوجوب، وهذه يختلف بها العمل أيضاً. ومعلوم أن الواجب على كل من هؤلاء لا يماثل الواجب على الآخر. فإذا كان نفس ما وجب من الإيمان في الشريعة الواحدة يختلف ويتفاضل، وإن كان بين جميع هذه الأنواع قدر مشترك موجود في الجميع كالإقرار بالخالق،
1 تقدم تخريجه (ص 71) .
2 تقدم تخريجه (ص 76) .
وإخلاص الدين له والإقرار برسله واليوم الآخر على وجه الإجمال. فمن المعلوم أن بعض الناس إذا أتى ببعض ما
يجب عليه دون بعض كان قد تبعض ما أتى فيه من الإيمان، كتبعض سائر الواجبات.
لكن بقي أن يقال: إن هذا البعض الآخر الزائل إما أن يكون شرطاً في ذلك البعض وقد لا يكون شرطاً فيه، فالشرط كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه، أو ببعض الرسل وكفر ببعضهم كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} 1.
وقد يكون البعض المتروك ليس شرطاً في وجود الآخر ولا قبوله كفعل بعض الكبائر وترك بعض الواجبات فيما دون الكفر. وحينئذ فقد يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق، وبعض شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر.
السابع: أن كون الإنسان قد يجتمع فيه إيمان ونفاق وإيمان وبعض شعب الكفر دلت عليه نصوص صحيحة صريحة.
كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا
1 سورة النساء، الآية:150.
خاصم فجر" 1.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة نفاق"2.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"3.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت"4.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن رمى رجلاً بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا رجع عليه"5.
وغيرها من النصوص مما قد يطول ذكره.
الثامن: أن أجزاء الإيمان مختلفة متفاوتة، فمنها ما يزول الإيمان كلية بزوالها كفعل أمر كفري ناقض للإيمان، ومنها ما يزول كمال الإيمان الواجب بزولها كفعل كبيرة من الكبائر،
1 البخاري (الفتح 1/ 89) ، ومسلم (1/ 79) .
2 رواه مسلم (3/ 1517) .
3 تقدم تخريجه (ص 98) .
4 مسلم (1/ 82) . وانظر إيضاحاً وبياناً وافياً لهذا الحديث في اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (ص 70) .
5 البخاري (الفتح 6/ 539) ، ومسلم (1/ 79) .
ومنها ما يزول كمال الإيمان المستحب بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق.
مثل الصلاة فإن فيها أجزاء تنقص بزوالها عن كمال الاستحباب، وفيها أجزاء واجبة تنقض بزوالها عن الكمال الواجب مع الصحة في مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك، وفيها ماله أجزاء إذا زالت جبر نقصها بسجود السهو، وأمور ليست كذلك، فقد رأيت أجزاء الشيء تختلف أحكامها شرعاً وطبعاً.
التاسع: أن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة، ولا تتلازم عند الضعف فإذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله أوجب بغض أعداء الله كما قال تعالى:{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} 1، وقال:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 2.
وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فيكون ذنبا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافراً، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} 3.
1 سورة المائدة، الآية:81.
2 سورة المجادلة، الآية:22.
3 سورة الممتحنة، الآية:1.
وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبي في قصة الإفك.
فقال لسعد بن معاذ: كذبت والله لا تقتله ولا تقدر على قتله، قالت عائشة وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية1، ولهذه الشبهة سمى عمر حاطباً منافقاً فقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال: "إنه شهد بدراً"2 فكان عمر متأولاً في تسميته منافقاً للشبهة التي فعلها.
وكذلك قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه، إنما أنت منافق، تجادل عن المنافقين3 هو من هذا الباب، وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدخشم: منافق4، وإن كان قال ذلك لما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين.
ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم من فيه إيمان ونفاق، وفيهم من إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق.
وبهذا يعلم فساد شبهتهم وزعمهم أن الإيمان كل واحد لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وأنه كرقم عشرة إذا زال بعض أجزائه زال الاسم عنه، وأنه لا يجتمع في القلب إيمان ونفاق وإيمان وبعض شعب الكفر5.
1 رواه البخاري (الفتح 7/ 433) ، ومسلم (4/2134) .
2 رواه البخاري (الفتح 8/ 633) .
3 جزء من حديث الإفك المتقدم تخريجه.
4 رواه البخاري (الفتح 1/ 519) ، ومسلم (1/ 456) .
5 انظر الفتاوى لابن تيمية (7/ 514- 524) .
ثم إنه مما تقدم تبين لنا أن قول الخوارج والمعتزلة في الإيمان هو أنه لا يزيد ولا ينقص، فإما أن يوجد كاملاً أو يذهب كاملاً للأصل الفاسد الذي سبق مناقشته.
ولذا فإنهم يتأولون النصوص الواردة المصرحة بزيادة الإيمان على أن المراد بالزيادة فيها زيادة الألطاف أو الأدلة أو الثواب أو غير ذلك من التأويلات.
ومن الأمثلة على هذا قول القاضي عبد الجبار المعتزلي عند قوله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} 1:"والمراد عندنا بذلك أنه زادهم لطفاً وأدلة على جهة التأكيد لكي يكونوا إلى الثبات على الإيمان أقرب"2.
وقوله أيضاً "فأما قوله تعالى من قبل: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} 3 فقد بينا أنه لا ظاهر له، وأنه يتأول على زيادة الألطاف والأدلة والبيان، أو على الثواب العظيم"4.
فمن هذين النقلين يظهر أن قولهم في الإيمان هو عدم قبوله للزيادة والنقصان، وما ورد من النصوص دالاً على ذلك متأول عندهم على الألطاف أو الأدلة أو الثواب أو غير ذلك.
فهذا هو قول الخوارج والمعتزلة في هذه المسألة كما هو ظاهر ولهذا لما ذكر القاضي أبو يعلى قول أهل السنة والجماعة في الإيمان وهو أنه يقبل الزيادة والنقصان قال: "وهو خلاف قول
1 سورة الكهف، الآية:13.
2 متشابه القران (ص 471) .
3 سورة مريم، الآية:76.
4 متشابه القرآن (ص 487) .
المعتزلة"1.
أما قول ابن حزم: "وذهب سائر الفقهاء وأصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة وجميع الخوارج إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب بالدين والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح، وأن كل طاعة وعمل خير فرضاً كان أو نافلة فهي إيمان، وكلما ازداد الإنسان خيراً زاد إيمانه، وكلما عصى نقص إيمانه"2.
فغير محرر، لما تقدم.
نعم قد جاء في بعض كتب المعتزلة التصريح بزيادة الإيمان ونقصانه، كما في متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار عند كلامه على قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 3.
قال:"يدل على أشياء.... ومنها: أنه يدل على أن الإيمان يزيد وينقص على ما نقوله؛ لأنه إذا كان عبارة عن هذه الأمور التي يختلف التعبد فيها على المكلفين فيكون اللازم لبعضهم أكثر مما يلزم الغير، فتجب صحة الزيادة والنقصان، وإنما كان يمتنع ذلك لو كان الإيمان خصلة واحدة، وهو القول باللسان، أو اعتقادات مخصوصة بالقلب"4.
وكما في كتابه المختصر في أصول الدين، قال: "فإن قال أفتقولون في الإيمان إنه يزيد وينقص؟
1 الإيمان (ص 397) .
2 الفصل (3/227) .
3 سورة الأنفال، الآية:2.
4 متشابه القرآن (ص 312) .
قيل: نعم لأن الإيمان كل واجب يلزم المكلف القيام به، والواجب على بعض من المكلفين أكثر من الواجب على غيره، فهو يزيد وينقص من هذا الوجه"1.
فتصريحهم هذا بزيادة الإيمان ونقصانه على هذا المعنى لا يعد في الحقيقة قولاً بزيادة الإيمان ونقصانه. وإنما هو من جنس تأويلاتهم المتقدمة، لحملهم الزيادة والنقصان هنا على الأمور التي يختلف التعبد فيها على المكلفين بأن يكون لازماً على بعض المكلفين من العبادات ما لا يكون لازماً على غيره، فلا عبرة إذن بالتصريح إذا كان المخبر هو التأويل والتعطيل.
ثم إنا قد علمنا في مبحث أوجه زيادة الإيمان أن الإيمان عند أهل السنة يزيد من جهتين: من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد.
وكلام المعتزلة هنا الذي فيه التصريح بزيادة الإيمان هو من جهة أمر الرب، أما جهة فعل العبد فهي لا تقبل الزيادة والنقصان عندهم قطعاً لمناقضتها لأصلهم الفاسد الذي سبق ذكره ونقضه.
وسبق أن ذكرت عن أهل السنة والجماعة أن الإيمان عندهم يزيد من جهة الاعتقادات والأعمال ومن جهات أخرى عديدة، وهذا ما لا يقول به أحد من الفرق مطلقاً لا المعتزلة ولا غيرهم، فما وجد في بعض كتب الطوائف من تصريح بزيادة الإيمان ونقصانه، فهو محمول عندهم على منزلة مخصوصة ودرجة معينة، وبهذا تعلم أن جميع الطوائف مفارقة لأهل السنة والجماعة في مسألتنا هذه، حتى من صرح منهم بأنه يزيد وينقص.
1 المختصر في أصول الدين (ص 384) من مجموع رسائل العدد والتوحيد.
رابعاً- الأشاعرة والماتريدية:
لقد ذهب جمهور الأشاعرة وجميع الماتريدية إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لشبه عقلية وأدلة نظرية يأتي ذكرها ونقضها في المبحث القادم، وذهب بعض الأشاعرة إلى أن الإيمان يزيد وينقص1.
قال الزبيدي: "وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يزيد الإيمان ولا ينقص واختاره أبو منصور الماتريدي ومن الأشاعرة إمام الحرمين وجمع كثير"2.
وقال ابن أبي شريف الحنفي: "وهذا القول- أي أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص- اختاره من الأشاعرة أمام الحرمين وجمع كثير، وذهب عامتهم أي أكثر الأشاعرة إلى زيادته ونقصانه"3.
وقال الفرهاري: "مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله والمتكلمين من أهل السنة أنه لا يزيد ولا ينقص"4.
وقال البزدوي: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص عند أهل السنة
1 انظر شرح مسلم للنووي (1/148) ، وفتح الباري لابن حجر (1/ 46) ، وعمدة القاري للعيني (1/ 136) وتحفة القاري "للكاندهلري"(ص44) مجموع "شروح البخاري"(1/ 112) ، النبراس شرح العقائد (ص 402) ، المسامرة شرح المسايرة (ص 367) ،) أصول الدين للبغدادي (ص 252) ، وأصول الدين للبزدوي (ص 153) ، والاقتصاد للغزالي (ص 208) ، والمواقف للإيجي (ص 388) ، والإنصاف للباقلاني (ص 86) ، والإرشاد للجويني (ص 335) وغيرها.
2 إتحاف السادة المتقين (2/256) .
3 المسامرة (ص 367) .
4 النبراس شرح العقائد (ص 402) .
والجماعة، وقال أصحاب الحديث والشافعي إنه يزيد وينقص"1.
فالماتريدية لهم قول واحد في المسألة وهو أن الإيمان غير قابل للزيادة والنقصان، وأما الأشاعرة فلهم في المسألة قولان: فجمهورهم على أنه لا يقبل الزيادة والنقصان، وذهب بعضهم إلى أنه يقبلهما، وقد علمت أن الأشاعرة يعرفون الإيمان بأنه التصديق وحده، فلا يدخل فيه القول والعمل، فبحثهم هنا هو في التصديق هل يقبل الزيادة والنقصان أو لا؟
فالذين قالوا لا يزيد ولا ينقص فبناء على أن الإيمان هو التصديق اليقيني الغير قابل للتفاوت، فإن نقص فنقصه شك وكفر، ولشبه أخرى تأتي إن شاء الله مع الرد عليها.
ومن قال منهم يزيد وينقص فللقطع بأن تصديق أحاد الأمة ليس كتصديق النبي صلى الله عليه وسلم، واختاره النووي وعزاه التفتازاني في شرح العقائد لبعض المحققين وقال في المواقف إنه الحق2.
قلت: وهو الحق الذي لا ريب فيه، وانظر الأدلة على ذلك المبطلة لقول من قال بخلافه في مبحث أوجه زيادة الإيمان ونقصانه المتقدم، لكن يبقى هؤلاء الأشاعرة مخالفين لأهل السنة والجماعة في دخول القول والعمل في مسمى الإيمان.
ثم قبل أن أختم هذا المبحث أود أن أقف وقفة لا بد منها مع قول
1 أصول الدين (ص 153) .
2 انظر شرح مسلم للنووي (1/ 142) وشرح العقائد النسفية للتفتازاني (ص 126) والمواقف للأيجي (ص 388) وانظر إرشاد الساري للقسطلاني (1/112) ضمن مجموع شروح البخاري.
البزدوي المتقدم: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص عند أهل السنة والجماعة، وقال أصحاب الحديث والشافعي إنه يزيد وينقص"، فإن فيه من الغلط ما يقتضي الوقوف عنده والتنبيه عليه لزوماً.
فإنه كما ترى جعل أهل الحديث قسيماً لأهل السنة والجماعة وليسوا هم، وأن أهل السنة والجماعة إنما هم جماعته المتكلمون من أشاعرة وماتريدية، وكم في هذا الكلام من الغلط والجور على أئمة الدين وعلماء السلف الأولين، ومن الإجحاف حقاً وهضم الحقوق أن ينتزع هذا الاسم من أهله الذين هم أحق به وهم أهل الحديث، ويعطى لغيرهم ممن ليس لهم فيه حق.
وهذه دعوى عريضة يدعيها دوماً أهل البدع والأهواء على حد قول القائل:
وكل يدعي وصلاً لليلى
…
وليلى لا تقر لهم بذاك
ومن هذا القبيل قول يوسف عبد الرزاق أحد علماء الأزهر في تحقيقه لكتاب إشارات المرام من عبارات الإمام بتقديم الكوثري: "إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة والماتريدية"1.
وكذلك من جنسه زعم الصابوني المعاصر في مقاله المنشور في
1 حاشية إشارات المرام (ص 298) ومن هذا القبيل أيضاً تسمية بعض هؤلاء مؤلفاتهم في العقيدة بـ "عقيدة أهل السنة والجماعة" ونحو ذلك، ككتاب الماتريدي "تأويلات أهل السنة"، وكتاب الجكني الشنقيطي "إضاء الدجنة في عقيدة أهل السنة"، وكتاب محمد بن درويش البيروتي "رسائل في بيان عقائد أهل السنة والجماعة" وغيرها كثير.
مجلة المجتمع أن الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة1.
قلت: ولا ريب أن قولهم وادعاءهم هذا باطل غير صحيح، فإن الأشاعرة والماتريدية لا يصح إطلاق هذا اللقب الجليل عليهم فضلاً عن أن يكونوا أهله المختصين به.
فإن المراد بالسنة الطريقة المحمدية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وتابعوهم بإحسان قبل ظهور البدع وفشوها، فمن تأثر بشيء من الأهواء واستمسك بها لم يصح إطلاق هذا الوصف الجليل عليه.
فإنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقه كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وفي حديث آخر أنه قال:"هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"2 صار المتمسكون بالإسلام الخالص من الشوائب والأهواء هم أهل السنة والجماعة ومن سواهم أهل البدعة والضلالة.
قال شيخ الإسلام: "وأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة، فإن أئمة السنة تضاف السنة إليهم لأنهم مظاهر بهم ظهرت، وأئمة البدعة تضاف
1 انظر ما كتبه الشيخ سفر الحوالي رداً عليه في رسالته "منهج الأشاعرة في العقيدة" فقد أحسن فيها وأجاد وأفاد وفقه الله.
2 أخرجه الترمذي (5/26) ، والآجري في الشريعة (ص 16) ، واللالكائي في شرح لاعتقاد (1/ 100) ، والمروزي في السنة (ص 18) وغيرهم، وانظر في الكلام عن هذا الحديث مقال الشيخ عبد الكريم مراد بعنوان حديث تفترق الأمة في مجلة الجامعة الإسلامية عدد 59، ص 47، وانظر رسالة الشيخ سليم الهلالي نصح الأمة في فهم أحاديث افتراق هذه الأمة.
إليهم لأنهم مصادر عنهم صدرت.."1.
وبهذا يعلم أن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة والجماعة، كيف ومذاهبهم مخالفة لأهل السنة والجماعة في أمور كثيرة خطيرة، فهم مخالفون لأهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وفي الإيمان وفي القدر وغير ذلك من كبار مسائل الاعتقاد، وإنما هم يعدون من مبتدعة أهل القبلة ومن محدثة المسلمين، وعندهم من الخير والموافقة لأهل السنة والجماعة في بعض المسائل ما كانوا به أقرب من غيرهم ممن توغل في الإحداث والابتداع كالجهمية والمعتزلة وغيرهم2 هدانا الله وإياهم وجميع المسلمين إلى الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ثم إن هذه المسألة على الخصوص جرى فيها مناظرة بين شيخ الإسلام ابن تيمية وبين خصومه الأشاعرة، حيث أنكروا عليه قوله في العقيدة الواسطية:"ومن أصول الفرقة الناجية: أن الإيمان والدين قول وعمل يزيد وينقص قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح".
قالوا: فإذا قيل إن هذا من أصول الفرقة الناجية، خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك مثل أصحابنا المتكلمين الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق، ومن يقول الإيمان هو التصديق والإقرار، وإذا لم يكونوا من الناجين لزم أن يكونوا هالكين.
1 درء التعارض (5/ 5، 6) .
2 انظر الفتاوى لابن تيمية (12/ 134) ورسالة الشيخ سفر الحوالي المشار إليها آنفاً كاملة.
فأجابهم رحمه الله بقوله: "إن قولي اعتقاد الفرقة الناجية هي الفرقة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة، حيث قال: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
فهذا الاعتقاد: هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية، فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال: الإيمان يزيد وينقص، وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة بالأسانيد الثابتة لفظه ومعناه، وإذا خالفهم من بعدهم لم يضر في ذلك.
ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية، والمغفور له وغير ذلك فهذا أولى، بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجياً، وقد لا يكون ناجياً، كما يقال من صمت نجا"1.
قلت: وفي كلام شيخ الإسلام هذا أبلغ جواب لما قد يستشكله الكثير في مسألة إخراج الأشاعرة أو غيرهم من أهل البدع من الفرقة الناجية ومن أهل السنة والجماعة، وأن ذلك يلزم منه أن يكونوا من أهل النار حتما ومن الهالكين يقيناً.
1 الفتاوى (3/ 179) .
ولا تلازم بين الأمرين على ما بينه شيخ الإسلام هنا، إذ النص المتقدم ونحوه من نصوص الوعيد لا يدخل فيها من لم تبلغه الحجة ولم يتبين له السبيل مع إرادته للحق وتحريه له، وقد يكون معه حسنات ماحية أو يكون متأولاً أو يكون جاهلاً معذوراً أو نحو ذلك من الأعذار وعلى كل فحكمهم في الدنيا أنهم من أهل البدع والأهواء، وأما يوم القيامة فمرجعهم إلى الله يحكم فيهم بمقتضى عدله وحكمته، ولا يظلم ربك أحدا.
ثم يقال لمعشر الأشاعرة على الخصوص، أمالكم أسوة بإمامكم وشيخكم ومؤسس مذهبكم، ومن تدعون أنكم أتباعه وعلى طريقته، فقد أبان الله له الجادة، وهداه إلى الحق، وترك ما أنتم عليه الآن إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وصرح بذلك وأنه بما قال به إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل قائل، فدونكم إن شئتم كتبه الثلاثة الأخيرة لتروا فيها رجوعه إلى الحق وتمسكه به1.
قال رحمه الله وغفر له في كتابه الإبانة: "فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحلولية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولمن
1 قال ابن القيم في نونيته (ص 69) :
وكذا علي الأشعري فإنه
…
في كتبه قد جاء بالتبيان
من موجز وإبانة ومقالة
…
ورسائل للثغر ذات بيان
خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفخم، وعلى جميع أئمة المسلمين"1.
فيقال للأشاعرة هذا إمامكم المقدم وشيخكم المبجل يسجل لكم رجوعه إلى الحق وتمسكه به في ورق مسطر وكلام محرر، فهلا بكلام إمامكم اقتديتم وبما هدي إليه اهتديتم.
ثم أني أسوق لكم قوله الأخير في مسألتنا التي هي محل بحثنا -زيادة الإيمان ونقصانه- حيث نص رحمه الله أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وحكى إجماع السلف على ذلك.
فإليكم أقواله التي عليها نور الحق وقوة البرهان من كتبه الثلاثة التي ألفها آخر حياته ولقي عليها ربه وهي: الإبانة عن أصول الديانة، ورسالة إلى أهل الثغر، ومقالات الإسلاميين، لتكون لكم دليلاً ونبراساً يهديكم إلى السبيل.
قال رحمه الله في كتابه الإبانة: "وجملة قولنا
…
وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
وقال في رسالته إلى أهل الثغر: "وأجمعوا على أن الإيمان يزيد
1 الإبانة (ص 52) والأشعري هنا إنما نسب مذهب السلف للإمام أحمد رحمه الله لاشتهاره بذلك وإلا فسائر أئمة الدين سلكوا المسلك نفسه بلا إفراط ولا تفريط وانظر لوامع الأنوار للسفاريني (1/ 22) .
2 الإبانة (ص 59) .
بالطاعة وينقص بالمعصية، وليس نقصانه عندنا شك فيما أمرنا بالتصديق به ولا جهل به؛ لأن ذلك كفر، وإنما هو نقصان في مرتبة العلم، وزيادة البيان كما يختلف وزن طاعتنا وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كنا جميعا مؤدين للواجب علينا"1.
قلت: وقول أبي الحسن: "
…
وإن كنا جميعا مؤدين للواجب علينا"متعقب بأن القائم بطاعة الله قد يكون قيامه بها تاماً كاملاً حيناً وقد يكون ناقصاً ضعيفاً مخلاً ببعض الواجبات حيناً آخر فلا يقال لهذا الأخير أنه أدى الواجب عليه من الإيمان وإنما يكون إيمانه ناقصاً بحسب ما قد ترك من واجبات الدين.
وقال في كتابه مقالات الإسلاميين: "جملة ما عليه أهل الحديث والسنة.. فذكر أموراً ثم قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص..إلى أن قال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل، وبه نستعين وعليه نتوكل وإليه المصير"2.
وبهذه النقول الجميلة والأقوال الجليلة نعلم أن أبا الحسن الأشعري صار سنياً سلفياً بعد أن كان من أهل الأهواء، وإلا فما الذي صار إليه إن لم يكن ما تركه هوى وابتداعاً3.
1 رسالة إلى أهل الثغر (ص 272) .
2 مقالات الإسلاميين (ص 290- 297) .
3 انظر ما ذكره ابن كنير في كتابه طبقات الشافعية في ترجمة أبي الحسن الأشعري أنه تقلب في ثلاثة أطوار: الاعتزال ثم الكلابية ثم عقيدة أهل السنة، وانظر إتحاف السادة المتقين (2/ 4) وانظر الفتاوى لابن تيمية (3/ 228) .
وبه نعلم أيضاً أن من قال من الأشاعرة بكتاب الإبانة وكتاب رسالة إلى أهل الثغر وكتاب مقالات الإسلاميين يعد من أهل السنة والجماعة على دخل في بعض المواضع من تلك الكتب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لاسيما وأنه بذلك يوهم حسناً بكل من انتسب هذه النسبة، وينفتح بذلك أبواب شر"1.
وأما من لم يقل منهم بذلك فهو باق على الهوى الذي تركه إمامه ورجع عنه، وكان الواجب على هذا المقلد أن يتابع إمامه في رجوعه إن كان قلده دينه حقاً. أما أن يتابعه في الباطل دون الحق فهذا هوى بلا ريب.
قال الشيخ محمد العثيمين حفظه الله: "وعلى هذا فتمام تقليده إتباع ما كان عليه أخيراً وهو التزام مذهب أهل الحديث والسنة لأنه المذهب الصحيح الواجب الإتباع الذي التزم به أبو الحسن نفسه"2.
لكن الواقع أن الأشاعرة لا لإمامهم اتبعوا ولا للحق هدوا، والله المستعان، والهادي إلى سواء السبيل.
بقي أن أشير في ختام هذا المبحث إلى أن هناك قولاً آخر في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه غير الأقوال المتقدمة، ينسب للخطابي رحمه الله
1 انظر الفتاوى (6/ 359، 360) ، وانظر الصفات الإلهية للشيخ محمد أمان (ص 171) .
2 القواعد المثلى (ص 85) .
وهو أنه قال: "الإيمان الكامل ثلاثة أمور: قول وهو لا يزيد ولا ينقص، وعمل وهو يزيد وينقص؟ واعتقاد وهو يزيد ولا ينقص وإن نقص ذهب"1.
وكون القول لا يزيد ولا ينقص ظاهر لأن المراد به النطق بالشهادتين باللسان وهذه لا تزيد ولا تنقص، 2 وكون العمل يزيد وينقص ظاهر، وكون الاعتقاد يزيد ولا ينقص، متعقب على ما سيأتي تفصيله في الرد على من قال بعدم نقصان التصديق، ولهذا تُعقب بأنه إذا زاد ثم عاد إلى ما كان فقد نقص ولم يذهب3.
1 ذكره الباجوري في تحفة المريد على جوهرة التوحيد (ص33) ، والألوسي في تفسيره (26/93) ، ولم أقف عليه فيما أطلعت عليه من مؤلفات الخطابي.
2 انظر الفتاوى لابن تيمية (7/ 259) .
3 روح المعاني للألوسي (26/ 93) .