الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: حقيقة الإلحاد في أسماء الله تعالى
وحقيقة الإلحاد فيها هو الميل بها عن الاستقامة: إما بإثبات المشاركة فيها لأحدٍ من الخلق، كإلحاد المشركين الذين اشتقوا لآلهتهم من صفات اللَّه ما لا يصلح إلا للَّه، كتسميتهم اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنَّان، وكل مشرك تعلق بمخلوق اشتق لمعبوده من خصائص الربوبية والإلهية ما برَّر له عبادته. وأعظم الخلق إلحاداً طائفة الاتحادية الذين من قولهم: إن الرب عين المربوب، فكل اسم ممدوح أو مذموم يطلق على اللَّه عندهم، تعالى اللَّه عن قولهم علواً كبيراً. وإما أن يكون الإلحاد بنفي صفات اللَّه وإثبات أسماء لا حقيقة لها، كما فعل الجهمية ومن تفرع عنهم، وإما بجحدها وإنكارها رأساً إنكاراً لوجود اللَّه، كما فعل زنادقة الفلاسفة، فهؤلاء الملحدون قد انحرفوا عن الصراط المستقيم ويمموا طرق الجحيم (1).
(1) المرجع السابق، ص33.
قال ابن القيم رحمه الله: قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (1)، والإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها، وهو مأخوذ من الميل كما تدل عليه مادته (ل ح د)، فمنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط، ومنه الْمُلحِد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل. قال ابن السِّكِّيت: الملحد المائل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه. ومنه الملتحد وهو مفتعل من ذلك. وقوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (2) أي من تعدل إليه وتهرب إليه وتلتجئ إليه وتبتهل إليه فتميل إليه عن غيره. تقول العرب: التحد فلان إلى فلان إذا عدل إليه. إذا عُرِفَ هذا فالإلحاد في أسمائه تعالى أنواع:
أحدها: أن تُسمَّى الأصنام بها كتسميتهم اللات من الإله، والعزى من العزيز. وتسميتهم الصنم إلهاً،
(1) سورة الأعراف، الآية:180.
(2)
سورة الكهف، الآية:27.
وهذا إلحاد حقيقة؛ فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة.
الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أباً، وتسمية الفلاسفة له موجباً بذاته، أو علة فاعلة بالطبع ونحو ذلك.
ثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول أخبث اليهود: إنه فقير. وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه. وقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} (1)، وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته.
ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها، كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني فيطلقون عليه اسم السميع، والبصير، والحي، والرحيم، والمتكلم، والمريد، ويقولون: لا حياة له، ولا سمع له، ولا بصر له، ولا كلام، ولا إرادة تقوم به وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً،
(1) سورة المائدة، الآية:64.
وشرعاً، ولغة، وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين؛ فإن أولئك أعطوا أسماءه وصفاته لآلهتهم وهؤلاء سلبوه صفات كماله وجحدوها وعطلوها، فكلاهما ملحد في أسمائه، ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد، فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب. وكل من جحد شيئاً مما وصف اللَّه به نفسه أو وصفه به رسوله فقد ألحد في ذلك فليستقلّ أو ليستكثر.
وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى اللَّه عما يقول المشبهون علواً كبيراً. فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة، فإن أولئك نفوا صفة كماله وجحدوها، وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه فجمعهم الإلحاد وتفرقت بهم طرقه، وبرَّأ اللَّه أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظاً ولا معنىً؛ بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات فكان إثباتهم بريئاً من التشبيه، وتنزيههم
خالياً من التعطيل، لا كمن شبّه حتى كأنه يعبد صنماً، أو عطَّل حتى كأنه لا يعبد إلا عدماً.
وأهل السنة وسط في النِّحل، كما أن أهل الإسلام وسط في الملل، توقد مصابيح معارفهم من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يُضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي اللَّه لنوره من يشاء. فنسأل اللَّه تعالى أن يهدينا لنوره، ويُسَهِّل لنا السبيل إلى الوصول إلى مرضاته ومتابعة رسوله، إنه قريب مجيب (1).
(1) بدائع الفوائد، لابن القيم رحمه الله بتصرف يسير جداً، 1/ 169 - 170، وقد ذكر رحمه الله عشرين فائدة في أسماء الله الحُسنى قال في نهايتها:«فهذه عشرون فائدة مضافة إلى القاعدة التي بدأنا بها في أقسام ما يوصف به الرب تبارك وتعالى، فعليك بمعرفتها ومراعاتها، ثم اشرح الأسماء الحسنى إن وجدت قلباً عاقلاً، ولساناً قائلاً، ومحلاً قابلاً، وإلا فالسكوت أولى بك، فجناب الربوبية أجلّ وأعزّ مما يخطر بالبال، أو يعبر عنه المقال {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} حتى ينتهي العلم إلى من أحاط بكل شيء علماً. وعسى الله أن يعين بفضله على تعليق شرح الأسماء الحُسنى مراعياً فيه أحكام هذه القواعد، بريئاً من الإلحاد في أسمائه وتعطيل صفاته، فهو المنان بفضله والله ذو الفضل العظيم» . وانظر: بدائع الفوائد، 1/ 159 - 170.