الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسا محنته ووفاته- رحمه الله
-
إن هذه الشهرة الكبيرة والمنزلة العالية التي حظي بها الشيخ، وذياع صيته في كل مكان بين الخاصة والعامة أثارت الضغائن، وحركت أصحاب النفوس الضعيفة لإيذائه، وتأليب الحكام عليه، وإلصاق التهم به، حسدا من عند أنفسهم، وهذه سنة جارية، أن من لمع نجمه وبرز اسمه كثر حاسدوه والناقمون عليه.
لقد سجن الشيخ أكثر من مرة، وأوذي وامتحن ولكن هذا لا يزيده إلا قوة في الحق وصلابة في الدين.
وفي سنة ست وعشرين وسبعمائة ظفر خصوم الشيخ بفتوى أفتى بها قبل سنوات «1» في مسألة شد الرحال إلى القبور «2» ، وقد نقل أعداء الشيخ هذه الفتوى محرفة بعد أن زادوا فيها ونقصوا «3» وزعم أولئك أن الشيخ ينتقص جناب الأنبياء والأولياء، ونشروها بين العامة ليوغروا صدورهم عليه، لم يكتفوا بذلك، بل أرسلوا إلى السلطان آنذاك- الناصر- بذلك وحرضوا عليه.
وفي عصر يوم الاثنين السادس من شهر شعبان في نفس السنة اعتقل الشيخ- رحمه الله بعد أن ورد مرسوم سلطاني بذلك بقلعة دمشق، وأقام معه أخوه زين الدين ليخدمه.
لقد تقبل الشيخ هذا الخبر بسعادة ورحابة صدر، وقال بكل عزة وأنفة، وإيمان ويقين:«أنا كنت منتظرا ذلك وهذا فيه خير عظيم» «4» وقال: «لو بذلت
(1) ذكر ذلك الشيخ نفسه في كتابه «الرد على الأخنائي» ص 8، وانظر: العقود الدرية ص 328، 331، وقد حددها ابن عبد الهادي أنها قبل سبع عشرة سنة.
(2)
وقد أورد ابن عبد الهادي نص الفتوى التي نقموا بها عليه، انظر: العقود الدرية ص 330 - 340، الفتاوى (27/ 182 - 192، 214 - 225).
وانظر: الكلام حول هذه المسألة- شد الرحال إلى القبور- في: كتاب الرد على الأخنائي، والجواب الباهر في زوار المقابر. كلاهما لشيخ الإسلام، وانظر: الفتاوى (27/ 194 وما بعدها)، الصارم المنكي في الرد على السبكي، لابن عبد الهادي، جلاء العينين للآلوسي ص 505 - 518.
(3)
يقول شيخ الإسلام في «الرد على الأخنائي» ص 9 موضحا التحريف الذي حصل في جوابه: «ونقل هذا المعارض عن الجواب ما ليس فيه، بل المعروف المتواتر عن المجيب في جميع كتبه وكلامه بخلافه، وليس في الجواب ما يدل عليه بل على نقيض ما قاله، وهذا إما أن يكون عن تعمد للكذب أو عن سوء فهم مقرون بسوء الظن وما تهوى الأنفس، وهذا أشبه الأمرين به
…
».
(4)
العقود الدرية ص 329.
ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير». اه «1» .
ولما دخل القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ [الحديد: 13]«2» .
لم يكن الشيخ أول من دخل السجن بل سبقه إلى هذا الطريق العلماء والأئمة، وقبلهم الأنبياء والرسل.
وهو لمثل هؤلاء كالنار للذهب، لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء ولهذا قال الشيخ كلمته المشهورة:«ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنّى رحت فهي معي لا تفارقني. إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة» اه «3» .
وقد كان هذا الامتحان والإيذاء للشيخ من أسباب انتشار دعوته وعلمه، وقال في إحدى رسائله: «ومن سنة الله: أنه إذا أراد إظهار دينه، أقام من يعارضه فيحق الحق لكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق
…
» «4» .
وضيق على الشيخ في سجنه شيئا فشيئا، ومنع دخول التلاميذ عليه، ثم صدر مرسوم بإخراج جميع أدوات الكتابة من عنده منعا له من التأليف، وبعد هذا تفرغ تفرغا تاما للعبادة والخلوة بربه، وكان يكثر من قراءة القرآن والتضرع إلى الله.
وقبل وفاته ببضعة وعشرين يوما ألمّ به بعض المرض فبقي على هذه الحالة إلى أن وافاه الأجل المحتوم في ليلة الاثنين لعشر بقين من ذي القعدة لسنة ثمان وعشرين وسبع ومائة- رحمة الله رحمة واسعة-.
وقد فوجئ الناس بهذا الخبر، وانزعجوا لذلك انزعاجا كبيرا، وحضروا زرافات وفردانا للقلعة حيث كان موجودا، وهالهم الخطب، وأغلقت المتاجر، وذكر أخوه زين الدين- الذي كان يصحبه حيث كان يصحبه في سجنه- أنه كان يقرأ هو وأخوه القرآن في داخل السجن. وأن آخر ما انتهى إليه الشيخ قبيل وفاته قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)«5» «6» .
(1) نقله عنه ابن القيم في الوابل الصيب ص 44.
(2)
المصدر السابق ص 44، وانظر: الذيل على طبقات الحنابلة (4/ 402).
(3)
الوابل الصيب ص 44، الذيل على طبقات الحنابلة، (4/ 402).
(4)
الفتاوى (28/ 57)، العقود الدرية ص 364.
(5)
سورة القمر الآيتان: 54، 55.
(6)
البداية والنهاية (14/ 138)، الذيل على طبقات الحنابلة (4/ 406).