الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [طرق دلالة المعجزة على الصدق]
فهذه الطرق سلكها أكثر أهل الكلام وغيرهم ولهم في تقرير دلالة المعجزة على الصدق طرق:
أحدها: إن إظهار المعجزة على يدي المتنبئ الكذاب قبيح والله سبحانه منزه عن فعل القبيح، وهذه الطرق سلكها المعتزلة وغيرهم ممن يقول بالتحسين والتقبيح وطعن فيها من ينكر ذلك، ثم إن المعتزلة جعلوا هذه أصل دينهم والتزموا بها لوازم خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة بل وصريح العقل في مواضع كثيرة، وحقيقة أمرهم أنهم لم يصدقوا الرسول إلا بتكذيب بعض ما جاء به وكأنهم قالوا لا يمكن تصديقه في البعض إلا بتكذيبه في البعض لكنهم لا يقولون إنهم يكذبونه في شيء بل تارة يطعنون في النقل وتارة يتأولون المنقول، ولكن يعلم بطلان ما ذكروه إما ضرورة وإما نظرا، وذلك أنهم قالوا: إن السمع مبني على صدق الرسول وصدقه على أن الله تعالى منزه عن فعل القبيح، فإن تأييد الكذاب بالمعجزة قبيح والله منزه عنه، قالوا:
والدليل على أنه منزه عنه أن القبيح لا يفعله إلا جاهل بقبحه أو محتاج، والله سبحانه منزه عن الجهل والحاجة، والدليل على ذلك أن المحتاج لا يكون إلا جسما، والله تعالى ليس بجسم.
والدليل على أنه ليس بجسم هو ما دل على حدوث العالم، والدليل على حدوث العالم أنه أجسام وأعراض وكلاهما محدث، والدليل على حدوث الأجسام أنها لا تخلو من الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، والدليل على ذلك أنها لا تنفك عن الحركة والسكون وهما حادثان لامتناع حوادث لا أول لها، ثم التزموا لذلك حدوث كل موصوف بصفة لأن الصفات هي الأعراض والأعراض لا تقوم إلا بجسم وقد قام الدليل على حدوث الجسم فالتزموا لذلك أن لا يكون لله علم ولا قدرة وأن لا يكون متكلما قام به الكلام، بل يكون القرآن وغيره من كلامه تعالى مخلوقا خلقه في غيره، ولا يجوز أن يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا هو مباين للعالم
ولا مجانبه، ولا داخل فيه ولا خارج عنه، ثم قالوا: أيضا لا يجوز أن يشاء خلاف ما أمر به ولا أن يخلق أفعال عباده ولا يقدر أن يهدي ضلالا ولا يضل مهتديا، لأنه لو كان قادرا على ذلك وقد أمر به ولم يعن عليه لكان قبيحا منه، فركبوا عن هذا الأصل التكذيب بالصفات والتكذيب بالقدر وسموا أنفسهم أهل التوحيد والعدل وسموا من أثبت الصفات من سلف الأمة وأئمتها مشبهة ومجسمة ومجبرة وحشوية وجعلوا مالكا والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وغيرهم من هؤلاء الحشوية إلى أمثال هذه الأمور التي بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع، وأصل ضلالهم في القدر أنهم شبهوا المخلوق بالخالق سبحانه فهم مشبهة الأفعال.
وأما أصل ضلالهم في الصفات فظنهم أن الموصوف الذي تقوم به الصفات لا يكون إلا محدثا. وقولهم من أبطل الباطل فإنهم يسلمون أن الله حي عليم قدير، ومن المعلوم أن حيّا بلا حياة وعليما بلا علم وقديرا بلا قدرة مثل متحرك بلا حركة وأبيض بلا بياض وأسود بلا سواد وطويل بلا طول وقصير بلا قصر ونحو ذلك من الأسماء المشتقة التي يدعي فيها نفي المعاني المشتقة منه وهذا مكابرة للعقل والشرع واللغة.
الثاني: أنه أيضا من المعلوم أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا غيره فإذا خلق سبحانه كلاما في محل وجب أن يكون ذلك المحل هو المتكلم به فتكون الشجرة هي القائلة لموسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي «1» ويكون كل ما أنطقه الله تعالى من المخلوقات كلامه كلاما لله تعالى، وبسط هذا له موضع غير هذا.
والمقصود هنا: ما يتعلق بتقرير النبوة وقد يقال يمكن تقرير كونه سبحانه منزها عن تأييد الكذاب بالمعجزة من غير بناء على أصل المعتزلة بما علم من حكمة الله تعالى في مخلوقاته ورحمته ببريته وسنته في عباده. فإن ذلك دليل على أنه لا يؤيد كذابا بمعجزة لا معارض لها.
ويمكن بسط هذه الطريقة وتقريرها بما ليس هذا موضعه في أنه كما علم بما في مصنوعاته من الإحكام والإتقان أنه عالم، وبما أن فيها من التخصيص أنه مريد فيعلم بما فيها من النفع للخلائق أنه رحيم، وبما فيها من الغايات المحمودة أنه حكيم.
(1) سورة طه، الآية:14.
والقرآن يبين آيات الله الدالة على قدرته ومشيئته وآياته الدالة على إنعامه ورحمته وحكمته، ولعل هذا أكثر في القرآن كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)«1» .
وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)«2» .
وقوله سبحانه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15)«3» .
وقوله عز وجل: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)«4» .
وقوله جل وعز: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)«5» وهو سبحانه في سورة الرحمن يقول في عقب كل آية: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)«6» وهو يذكر فيها ما يدل على خلقه وعلمه وقدرته ومشيئته، وما يدل على إنعامه ورحمته وحكمته.
وكذلك ذكر في مخاطبة الرسل للكفار كقوله سبحانه: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49)
(1) سورة البقرة، الآيتان: 21 - 22.
(2)
سورة الواقعة، الآيات: 58 - 74.
(3)
سورة النبأ، الآيات: 6 - 15.
(4)
سورة عبس، الآيات: 24 - 32.
(5)
سورة السجدة، الآية:27.
(6)
سورة الرحمن، الآية:13.
قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54)«1» .
مثل هذا في القرآن كثير وما فطر فيه من المخلوقات دل على ذلك، وفي نفس الإنسان عبرة تامة فإن من نظر في خلق أعضائه وما فيها من المنافع له وما في تركيبها من الحكمة والمنفعة، مثل كون ماء العين مالحا ليحفظ شحمة العين من أن تذوب، وماء الأذن مرّا ليمنع الذباب من الولوج، وماء الفم عذبا ليطيب ما يمضغ من الطعام، وأمثال ذلك علم علما ضروريّا أن خالق ذلك له من الرحمة والحكمة ما يبهر العقول مع ما في ذلك من الدلالة على المشيئة، ثم إذا استقرأ ما يجده في نوع الإنسان من أن كل من عظم ظلمه للخلق وضراره لهم كانت عاقبته عاقبة سوء، واتبع اللعنة والذم.
ومن عظم نفعه للخلق وإحسانه إليهم كانت عاقبته عاقبة خير، وأمثال ذلك استدل بما علم ما لم يعلم حتى يعلم أن الدولة ذات الظلم والجبن والبخل سريعة الانقضاء كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)«2» .
وقال عز وجل: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)«3» .
كذلك سنته في الأنبياء الصادقين وأتباعهم من المؤمنين وفي الكذابين بالحق إن هؤلاء ينصرهم ويبقي لهم لسان صدق في الآخرين وأولئك ينتقم منهم ويجعل عليهم اللعنة.
فبهذا وأمثاله يعلم أنه لا يؤيد كذابا بالمعجزة لا معارض لها، لأن في ذلك من الفساد والضرر بالعباد ما تمنعه رحمته، وفيه من سوء العاقبة ما تمنعه حكمته،
(1) سورة طه، الآيات: 49 - 54.
(2)
سورة التوبة، الآيتان: 38 - 39.
(3)
سورة محمد، الآية:38.
وفيه من نقض سنته المعروفة وعادته المطردة ما تعلم به مشيئته، قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)«1» وقال تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)«2» وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ «3» .
ثم قال: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)«4» وقال تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)«5» قال تعالى: قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49)«6» .
(1) سورة الحاقة، الآيات: 44 - 47.
(2)
سورة الإسراء، الآيتان: 74 - 75.
(3)
سورة الشورى، الآية:24.
(4)
سورة الأنبياء، الآية:18.
(5)
سورة الإسراء، الآية:81.
(6)
سورة سبأ، الآية:49.