المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل [تميز أهل السنة والجماعة عن الكفار والمبتدعين] - شرح العقيدة الأصفهانية

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌ترجمة المصنف

- ‌أوّلا اسمه ونسبه ومولده

- ‌ثانيا نشأته، وبداية حياته العلمية

- ‌ثالثا بعض الصفات التي اتصف بها

- ‌أ- صفاته الخلقية:

- ‌ب- صفاته الخلقية:

- ‌1 - كرمه:

- ‌2 - قوته وشجاعته:

- ‌3 - زهده وتواضعه:

- ‌رابعا مواقفه الجهادية

- ‌خامسا محنته ووفاته- رحمه الله

- ‌سادسا مكانته العلمية وثناء العلماء عليه

- ‌سابعا مؤلفاته وآثاره

- ‌ثامنا شيوخه وتلاميذه

- ‌[المدخل]

- ‌[مذهب السلف في الأسماء والصفات]

- ‌فصل [الرد على من نفى بعض صفات الله تعالى]

- ‌فصل [تميز أهل السنة والجماعة عن الكفار والمبتدعين]

- ‌فصل [الرد على نفاة الصفات]

- ‌فصل [الدليل على علم الله تعالى]

- ‌فصل [الدليل على قدرة الله تعالى]

- ‌فصل [الدليل على أنه سبحانه حي]

- ‌فصل [إثبات صفتي العلو والكلام والرد على النفاة]

- ‌[مذهب أهل الحديث في الصفات وذكر الآيات الدالة على ذلك]

- ‌[ذكر الأحاديث الدالة على الصفات]

- ‌فصل [طريقة إثبات السلف والأئمة لكلام الله سبحانه والرد على المشبهة]

- ‌فصل [طرق أخرى في إثبات كونه سبحانه متكلما]

- ‌فصل [إثبات كون الله تعالى سميعا بصيرا]

- ‌فصل [الدليل على نبوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام]

- ‌فصل [طرق دلالة المعجزة على الصدق]

- ‌فصل [مسألة التحسين والتقبيح العقليين]

- ‌فصل [دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم]

- ‌فصل [التصديق بما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأمور الغيبية]

- ‌[الفصل الاول]

- ‌الفصل الثاني

- ‌الفصل الثالث

- ‌الفصل الرابع

- ‌الفصل الخامس

- ‌الفصل السابع

الفصل: ‌فصل [تميز أهل السنة والجماعة عن الكفار والمبتدعين]

‌فصل [تميز أهل السنة والجماعة عن الكفار والمبتدعين]

ومن شأن المصنفين في العقائد المختصرة على مذهب أهل السنة والجماعة أن يذكروا ما يتميز به أهل السنة والجماعة عن الكفار والمبتدعين فيذكروا إثبات الصفات، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه تعالى يرى في الآخرة خلافا للجهمية من المعتزلة وغيرهم، ويذكرون أن الله خالق أفعال العباد وأنه مريد لجميع الكائنات وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، خلافا للقدرية «1» من المعتزلة وغيرهم، ويذكرون مسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد، وأن المؤمن لا يكفر بمجرد الذنب، ولا يخلد في النار خلافا للخوارج «2» والمعتزلة، ويحققون القول في الإيمان ويثبتون الوعيد لأهل الكبائر مجملا خلافا للمرجئة «3» ،

(1) هي إحدى الفرق الكلامية المنتسبة إلى الإسلام ذات المفاهيم والآراء الاعتقادية الخاطئة في مفهوم القدر، حيث قالوا بإسناد أفعال العباد إلى قدرتهم وأنه ليس لله دخل في ذلك ولا قدرة ولا مشيئة ولا قضاء، تعالى الله عمّا يقوله الظالمون علوّا كبيرا.

(2)

هي إحدى الفرق الضالة المنتسبة إلى الإسلام ذات المفاهيم والآراء والاعتقادات المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة، وقد عرّفهم الشهرستاني في الملل والنحل بقوله: كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت عليه الجماعة يسمى خارجيّا سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو غيرهم من التابعين لهم بإحسان.

والخوارج من أوائل الفرق التي ظهرت في الإسلام ثم انقسمت إلى فرق كثيرة، ومن عقائدهم:

تكفير مرتكب الكبيرة، وبهذا المعتقد استحلوا قتل المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ومن عقائدهم الأساسية: وجوب الخروج على الأئمة المسلمين لارتكاب الفسق أو الظلم، وإنكار الشفاعة، وتكفير بعض الصحابة كأهل التحكيم وأصحاب الجمل.

(3)

هي إحدى الفرق الكلامية التي تنتسب إلى الإسلام ذات المفاهيم والآراء العقدية الخاطئة في مفهوم الإيمان، التي لم يعد لها كيان واحد حيث انتشرت مقالتهم في كثير من الفرق، فمنهم من يقول: إن الإيمان قول اللسان، وتصديق القلب فقط، وبعضهم يقصره على قول اللسان والبعض الآخر يكتفي في تعريفه بأنه التصديق، وغالى آخرون منهم فقالوا إنه المعرفة.

ص: 48

ويذكرون إمامة الخلفاء الأربعة وفضائلهم خلافا للشيعة «1» من الرافضة وغيرهم.

وأما الإيمان بما اتفق عليه المسلمون من توحيد الله تعالى والإيمان برسله والإيمان باليوم الآخر فهذا لا بد منه، وأما دلائل هذه المسائل ففي الكتب المبسوطة الكبار وهذا المصنف لم يسلك هذا الطريق بل أشار إشارة مختصرة إلى دليل ما ذكره من الأحكام ولم يستوف الأحكام التي تذكر في المعتقدات وعذره في ذلك أن يقول: ذكرت جمل الإقرار بالربوبية والرسالة والمعاد فذكرت صفات الله الثبوتية، وذكرت الرسالة وما جاءت به النبوات من الإيمان بالمعاد.

وقوله إنه متكلم يناقض قول من قال: القرآن مخلوق، فإن حقيقة قول أولئك أنه ليس بمتكلم وإثبات الإرادة عامة يتناول جميع الكائنات وإثبات القدرة المطلقة تتضمن أنه خالق كل شيء بقدرته، وبهذين يخرج قول المعتزلة في الكلام والقدرة، والمعترض عليه يقول: اقتصرت على بعض الصفات دون بعض.

فإن كنت اقتصرت على ما يعلم العقل عندك فقد ذكرت السمع والبصر والكلام وأثبت ذلك بالسمع، وإن كنت ذكرت ما يتوقف تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فهو لا يتوقف عندك على إثبات السمع والبصر والكلام لأنك أثبت ذلك بالسمع، وحقيقة الأمر أنك أثبت هذه الصفات السبع لأنها هي المشهورة عند المتأخرين من الكلابية كأبي المعالي وأمثاله بأنها العقليات، ولكن لم يثبتها جميعها بالعقل، بل أثبت بعضها بالسمع موافقة للرازي فلهذا لم تطرد له في ذلك طريق واحد، وهو قد نبه على الأدلة تنبيها يعلم به جنس ما يثبت به من الأدلة وإلا فما ذكره من الأدلة لا يكفي في العلم بهذه الأحكام، فإن الدليل إن لم تقرر مقدماته ويجاب عمّا يعارضها

(1) قال الإمام الشهرستاني في الملل والنحل (1/ 145): الشيعة هم الذين شايعوا عليّا رضي الله عنه على الخصوص وقالوا بإمامته نصّا ووصية إمّا جليّا أو خفيّا، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده، قالوا: وليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة، وينتصب الإمام بنصبهم بل هي قضية أصولية، هو ركن الدين لا يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامة وإرساله، ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأئمة وجوبا عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولي، والتبري قولا وفعلا وعقدا لا في حال التقية، ولهم في تعدية الإمامة كلام وخلاف كثير، وعند كل تعدية وتوقف مقالة، ومذهب وخبط، وهم خمس فرق: كيسانية وزيدية وإمامية وغلاة وإسماعيلية، وبعضهم يميل في الأصول إلى الاعتزال وبعضهم إلى السنة، وبعضهم إلى التشبيه.

ص: 49

لم يتم، فكيف إذا لم تقرر مقدماته بل ولا تثبت ونحن نزيد على ما ذكره على وجه تقريره.

فأما قوله: (فالدليل على وجوده الممكنات لاستحالة وجودها بنفسها، واستحالة وجودها بممكن آخر ضرورة استغناء المعلول بعلته عن كل ما سواه وافتقار الممكن إلى علته)؛ فهذا الدليل مبني على مقدمتين:

إحداهما: أن الممكنات موجودة.

والثانية: أن الممكن لا يوجد إلا بواجب الوجود.

والمقدمة الأولى لم يقررها بحال ولا يمكن أن يسلك في ذلك طريقة ابن سينا «1» ، وأمثاله من المتفلسفة الذين قالوا: نفس الوجود يشهد بوجود واجب الوجود «2» ، فإن الوجود إما ممكن وإما واجب والممكن مستلزم للواجب فثبت وجود الواجب على هذا التقرير.

فإن هذه الطريقة وإن كانت صحيحة بلا ريب لكن نتيجتها إثبات وجود واجب، وهذا لم ينازع فيه أحد من العقلاء المعتبرين ولا هو من المطالب العالية، ولا فيه إثبات الخالق ولا إثبات وجود واجب أبدع السموات والأرض كما يسلمه الإلهيون من الفلاسفة كأرسطو وأتباعه المشائين، وإنما فيه أن الوجود وجود واجب، وهذا يسلمه منكروا الصانع كفرعون والدهرية المحضة من الفلاسفة والقرامطة «3» ونحوهم ويقولون إن هذا الوجود واجب الوجود بنفسه وإلى هذا يؤول أهل الوحدة القائلين بأن الوجود واحد فإنهم يقولون في آخر الأمر: ما ثم موجود مباين للسماوات والأرض، وما ثم غير وجود الموجود الممكن.

(1) هو الفيلسوف أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا البلخي ثم البخاري صاحب التصانيف في الطب والفلسفة والمنطق، ولد في صفر سنة سبعين وثلاث مائة، وتوفي في رمضان سنة ثمان وعشرين وأربع مائة.

انظر ترجمته في السير (17/ 531) والبداية والنهاية (12/ 42، 43) ولسان الميزان (2/ 291 - 293) وشذرات الذهب (3/ 234 - 237).

(2)

تقدم تعريفه.

(3)

القرامطة حركة باطنية هدّامة تنتسب إلى شخص اسمه حمدان بن الأشعث ويلقب بقرمط لقصر قامته وساقيه وهو من خوزستان في الأهواز ثم رحل إلى الكوفة، وقد اعتمدت هذه الحركة التنظيم السري العسكري وكان ظاهرها التشيع لآل البيت والانتساب إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وحقيقتها الإلحاد والإباحية وهدم الأخلاق والقضاء على الدولة الإسلامية.

ص: 50

ومصنف العقيدة أثبت الصانع بهذا الطريق فإنه لمّا أثبت أنه صنع الممكنات أثبت علمه وقدرته فلا بد أن يثبت أولا وجود شيء ممكن ليس بواجب ليبني عليه ثبوت وجود واجب مبدع لوجود ممكن يتم ما سلكه، وأما مجرد إثبات وجود واجب فلا يفيد هذا المطلوب، فليفهم اللبيب هذا.

ولا ريب أنه اختصر هذه العقيدة من كتب أبي عبد الله بن الخطيب، وقد تكلمنا على ما ذكره أبو عبد الله الرازي مبسوطا في مواضعه ونحن نقدر وجود الممكنات ليتم ما ذكره المصنف من الدليل، ويتبين أن هذا الطريق أصح في العقل وأبين مما يذكر في كتب الأصول والأمهات التي اختصرت منها هذه العقيدة لكونها موافقة لطريقة القرآن، فإن الفاضل إذا تأمل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما قد نبهنا على بعضه في غير هذا الموضع.

فنقول: إنه يمكن تقريرها بما نشاهد من حدوث الحوادث فإنا نشاهد من حدوث الحوادث حدوث الحيوان والنبات والمعادن، وهذه الحوادث ليست ممتنعة فإن الممتنع لا يوجد ولا واجبة الوجود بنفسها، فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم وهذه كانت معدومة ثم وجدت فعدمها ينفي وجوبها ووجودها ينفي امتناعها وهذا دليل قاطع واضح بيّن على ثبوت الممكنات لكن من سلك هذا الطريق لم يحتج إلى أن يثبت إمكانها بحدوثها ثم يستدل بإمكانها على الواجب بل نفس حدوثها دليل على إثبات المحدث لها فإن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين من العلم بأن الممكن لا بد له من واجب فتكون تلك الطريق أبين وأقصر، وهذه أخفى وأطول من حيث يستدل بالحدوث على الإمكان ثم بالإمكان على الواجب.

وإن كان بعض الناس يستدل بالحوادث على المحدث فإن الحوادث لا تختص بما هي عليه إلا بمخصص فإنه يجوز أن تقع على خلاف ما وقعت عليه فتخصيص أحد طرفي الممكن لا بد له مخصص فهذا الاستدلال وإن كان صحيحا فليس بمسلك سديد فإن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين من هذا المحتاج إلى هاتين المقدمتين اللتين هما أخفى من ذلك، ومن استدل على الجلي بالخفي فإنه وإن تكلم حقّا فلم يسلك طريق الاستدلال فإن كل مستلزم للشيء يصلح أن يكون دليلا عليه إذ يلزم من ثبوت اللزوم ثبوت اللازم والدليل، وهذا من شأن الدليل فإنه من ثبوته ثبوت المدلول عليه، ولهذا يجب طرد الدليل ولا يجب

ص: 51

عكسه، لكن إذا كان اللازم والمدلول عليه أظهر من الملزوم الذي هو الدليل كان الاستدلال باللزوم على اللازم خطأ في البيان والدلالة وإن سلك المصنف في إثبات الممكنات تقرير إمكان الأجسام كلها، فهذا دليل طويل وفيه مقدمات متنازع فيها نزاعا طويلا وكثير من الناس يقدح فيها بما لم يمكن دفعه، فإثبات الصانع بمثل هذه المقدمات لو كانت صحيحة كان الدليل باطلا.

وأما المقدمة الثانية: وهي أن الممكن لا بد له من واجب فقد نبه على هذه المقدمة بقوله: (لاستحالة وجودها بنفسها) فإن الممكن هو الذي يقبل الوجود والعدم كما نشاهده من المحدثات، وما كان قابلا للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35)«1» ، يقول سبحانه:

أحدثوا من غير محدث أم هم أحدثوا أنفسهم، ومعلوم أن الشيء لا يوجد نفسه فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجودا بنفسه بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوما، وكل ما أمكن وجوده بدل عن عدمه وعدمه بدل عن وجوده فليس له من نفسه وجود ولا عدم، وهذا بيّن.

ومما يقرره أن ما يمكن عدمه بدلا عن وجوده لا يكون وجوده بنفسه إذ لو كان وجوده بنفسه لكان واجبا بنفسه، ولو كان واجبا بنفسه لم يقبل العدم، وهو قد قبل العدم فليس موجودا بنفسه لكان واجبا بنفسه، يقرر ذلك أن ما كان موجودا فإما أن يكون مفتقرا في وجوده إلى غيره، وإما أن لا يكون، فإن كان مفتقرا في وجوده إلى غيره لم يكن وجوده بنفسه بل بذلك الغير الذي هو مفتقر إليه أو به وبذلك الغير، فعلى التقديرين لا يكون وجوده بنفسه، وإن لم يكن مفتقرا في وجوده إلى غيره كان موجودا بنفسه فالموجود بنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون موجودا بنفسه، فالموجود بنفسه الذي لا يفتقر إلى غيره واجب بنفسه، إذ نفسه كافية في وجوده فلا يتوقف وجوده على شيء غير إنيته، إن قدر أن إنيته شيء غير وجوده، وإن قدر أن إنيته هي وجوده كما هو قول أهل السنة كان قول القائل: موجودا بنفسه أي هويته ثابتة بهويته فحيث قدرت هويته لم يمكن عدمها، فالموجود بنفسه لا يقبل العدم، وما قبل العدم فليس موجودا بنفسه فيفتقر إلى غيره فكل ممكن مفتقر إلى غيره.

وهذه المقامات ثابتة في نفس الأمر ويمكن تحريرها بوجوه من الطرق

(1) سورة الطور، الآية:35.

ص: 52

والعبارات والمعنى فيها واحد فتبين قول المصنف لاستحالة وجود الممكنات بأنفسها.

وأما قوله: واستحالة وجودها بممكن آخر ضرورة استغناء المعلول بعلته عن كل ما سواه وافتقار المعلول إلى علته، فمقصوده أن يبيّن أن الممكنات كما لا توجد بأنفسها فلا توجد بممكن آخر.

فيلزم أنه لا بد له من واجب بنفسه وذلك لأنها لو وجدت بممكن استغنت به عمّا سواه لأن ذلك الممكن إن لم يكن علة تامة لوجودها لم توجد به، وإن كان علة تامة لوجودها استغنت به عمّا سواه، فإن العلة التامة تستلزم وجود المعلول فلا يفتقر المعلول إلى غيرها فلو وجدت الممكنات بممكن لزم أن يستغني به عمّا سواه، وذلك الممكن من جملة الممكنات والممكن مفتقر إلى غيره فيلزم أن يكون مفتقرا إلى علة غير نفسه، والمفتقر إلى غيره لا يكون مستغنيا بنفسه فيلزم أن يكون مفتقرا إلى غيره غير مفتقر إلى غيره، غنيّا بنفسه ليس بغني بنفسه، وهو جمع بين النقيضين، فلو كان فاعل الممكنات كلها ممكنا لزم أن يكون هذا الممكن غنيّا بنفسه ليس بغني بنفسه، فقيرا إلى غيره، غير فقير إلى غيره، حيث جعل ممكنا مفتقرا، وجعل معلولا بعلة تامة فلا يفتقر فيلزم التناقض، والأمر في هذا أوضح من هذا التطويل.

وإنما سلك هذا المصنف طريقة أبي عبد الله بن الخطيب الرازي فإن هذه طرقه وكان ينسج على منواله، وإلا فالعلم بأن جميع الممكنات تفتقر إلى غيرها كالعلم بأن هذا الممكن مفتقر إلى غيره، فإن الافتقار إذا كان من جهة كونه ممكنا سواء كان الإمكان دليل الافتقار أو علة الافتقار فهو يعمها كلها فأي شيء قدر ممكنا كان الفقر ثابتا فيه إلى غيره فلا بد لكل ممكن من مفتقر إليه كما لا بد لهذا الممكن من غير يفتقر به، ومعلوم إن افتقار الشيء إلى بعض أشد من افتقاره إلى نفسه فإذا كان الممكن لا يوجد بنفسه ولا يكون موجودا بنفسه فكيف يكون موجودا ببعضه وكيف يتصور أن يكون مجموع الممكنات موجودة بممكن من الممكنات وهي لا يكفي في وجودها مجموع الممكنات والهيئة الاجتماعية لا تخرجها عن الإمكان الذي هو علة الافتقار أو دليل الافتقار، وهذا بيّن ولله الحمد.

ص: 53