المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل [طرق أخرى في إثبات كونه سبحانه متكلما] - شرح العقيدة الأصفهانية

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌ترجمة المصنف

- ‌أوّلا اسمه ونسبه ومولده

- ‌ثانيا نشأته، وبداية حياته العلمية

- ‌ثالثا بعض الصفات التي اتصف بها

- ‌أ- صفاته الخلقية:

- ‌ب- صفاته الخلقية:

- ‌1 - كرمه:

- ‌2 - قوته وشجاعته:

- ‌3 - زهده وتواضعه:

- ‌رابعا مواقفه الجهادية

- ‌خامسا محنته ووفاته- رحمه الله

- ‌سادسا مكانته العلمية وثناء العلماء عليه

- ‌سابعا مؤلفاته وآثاره

- ‌ثامنا شيوخه وتلاميذه

- ‌[المدخل]

- ‌[مذهب السلف في الأسماء والصفات]

- ‌فصل [الرد على من نفى بعض صفات الله تعالى]

- ‌فصل [تميز أهل السنة والجماعة عن الكفار والمبتدعين]

- ‌فصل [الرد على نفاة الصفات]

- ‌فصل [الدليل على علم الله تعالى]

- ‌فصل [الدليل على قدرة الله تعالى]

- ‌فصل [الدليل على أنه سبحانه حي]

- ‌فصل [إثبات صفتي العلو والكلام والرد على النفاة]

- ‌[مذهب أهل الحديث في الصفات وذكر الآيات الدالة على ذلك]

- ‌[ذكر الأحاديث الدالة على الصفات]

- ‌فصل [طريقة إثبات السلف والأئمة لكلام الله سبحانه والرد على المشبهة]

- ‌فصل [طرق أخرى في إثبات كونه سبحانه متكلما]

- ‌فصل [إثبات كون الله تعالى سميعا بصيرا]

- ‌فصل [الدليل على نبوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام]

- ‌فصل [طرق دلالة المعجزة على الصدق]

- ‌فصل [مسألة التحسين والتقبيح العقليين]

- ‌فصل [دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم]

- ‌فصل [التصديق بما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأمور الغيبية]

- ‌[الفصل الاول]

- ‌الفصل الثاني

- ‌الفصل الثالث

- ‌الفصل الرابع

- ‌الفصل الخامس

- ‌الفصل السابع

الفصل: ‌فصل [طرق أخرى في إثبات كونه سبحانه متكلما]

‌فصل [طرق أخرى في إثبات كونه سبحانه متكلما]

وللناس طرق أخرى في إثبات كون الله متكلما، منها ما في القرآن من الإخبار عن ذلك كقوله تعالى: قال الله، ويقول الله، وقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً «1» وقوله: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ «2» وما ذكره في القرآن من كلمة وكلماته كقوله تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ «3» وقوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا «4» وما فيه من ذكر مناداته ومناجاته كقوله: وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52)«5» .

وقوله: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)«6» وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)«7» وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)«8» .

وما في القرآن من ذكر إنبائه وقصصه كقوله: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ «9» وقوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ «10» . وما في القرآن من ذكر حديثه كقوله:

اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)«11» وقوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ «12» من القول منه وقوله: وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «13» .

وقوله تعالى: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ «14» .

وما ذكر في القرآن أنه منه أو ما أضيف إليه فإن كان عينا قائمة بنفسها أو أمرا

(1) سورة النساء، الآية:164.

(2)

سورة الأعراف، الآية:143.

(3)

سورة يونس، الآية:19.

(4)

سورة الأنعام، الآية:115.

(5)

سورة مريم، الآية:52.

(6)

سورة القصص، الآية:62.

(7)

سورة القصص، الآية:65.

(8)

سورة الشعراء، الآية:10.

(9)

سورة التوبة، الآية:94.

(10)

سورة يوسف، الآية:3.

(11)

سورة النساء، الآية:87.

(12)

سورة الزمر، الآية:23.

(13)

سورة السجدة، الآية:13.

(14)

سورة الأنعام، الآية:73.

ص: 113

قائما بتلك العين كان مخلوقا كقوله في عيسى وَرُوحٌ مِنْهُ «1» وقوله: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ «2» وقوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ «3» .

وأما ما كان صفة لا تقوم بنفسها ولم يذكر لها محل غير الله كان صفة له فكالقول والعلم والأمر إذا أريد به المصدر كان المصدر من هذا الباب كقوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ «4» وإن أريد به المخلوق المكون بالأمر كان من الأول كقوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ «5» .

وبهذا يفرق بين كلام الله سبحانه، وعلم الله، وبين عبد الله وبيت الله وناقة الله وقوله: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا «6» وهذا أمر معقول في الخطاب فإذا قلت: علم فلان وكلامه ومشيئته لم يكن شيئا بائنا عنه، والسبب في ذلك أن هذه الأمور صفات لما تقوم به فإذا أضيفت إليه كان ذلك إضافة صفة لموصوف إذ لو قامت بغيره لكانت صفة لذلك الغير لا لغيره.

واعلم أن الاستدلال على الكلام بمثل هذه السمعيات أكمل من الاستدلال على السمع والبصر بالسمعيات لأن ما أخبر الله به عن نفسه من قوله وكلامه وإنبائه وقصصه وأمره ونهيه وتكليمه وندائه ومناجاته وأمثال ذلك أضعاف وأضعاف ما أخبر به من كونه سميعا بصيرا.

وأيضا فإنه نوّع الإخبار عن كل نوع من أنواع الكلام وثنى ذلك وكرره في مواضع ولا يحصى ما في القرآن من ذلك إلا بكلفة، ومن المعلوم بالاضطرار أن المخاطبين لا يفهمون من هذا الكلام عند الإطلاق أنه خلق صوتا في غيره وإنما يفهمون منه أنه هو الذي تكلم بذلك وقاله كما قالت عائشة في حديث الإفك:

«ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بوحي يتلى» «7» فلو كان المراد

(1) سورة النساء، الآية:171.

(2)

سورة الجاثية، الآية:13.

(3)

سورة النحل، الآية:53.

(4)

سورة الأعراف، الآية:54.

(5)

سورة النحل، الآية:1.

(6)

سورة مريم، الآية:17.

(7)

جزء من حديث الإفك المشهور، أخرجه البخاري في صحيحه بالأرقام (2879 و4025 و4690 و4750 و6661 و6662 و6679 و7500 و7545) ومسلم في صحيحه برقم (2770) وأحمد في المسند بالأرقام (25623، 25624 و25625 و25679، 26314) وابن حبان في صحيحه برقم (4212) والنسائي في سننه الكبرى برقم (11360) وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 114

بهذه الجمل الكثيرة العظيمة البينة الصريحة خلاف مفهومها ومقتضاها لوجب بيان ذلك إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ثم لا يقدر أحد أن يحكي عنهم أنهم جعلوا الكلام كلاما لمن أحدثه في غيره بل لا يوجد في كلامهم، قال ويقول، تكلم ويتكلم، إلا إذا كان الكلام قائما بذاته.

وإذا احتجت الجهمية من المعتزلة ونحوهم بأن أحدنا إنما كان متكلما لأنه فعل الكلام. قيل: هو لم يحدثه في غيره ولم يباين كلامه نفسه وأنتم تجعلون الكلام البائن للمتكلم كلاما له. فإن قالوا: ولا نعقل الكلام إلا كلاما لمن فعله بمشيئته وقدرته فإن كلام أحدنا لم يكن كلاما له بمجرد قيامه بذاته بل لكونه فعله.

قيل: أما كلام أحدنا فهو قائم به وهو تكلم به بذاته ومشيئته وقدرته فهو قد جمع الوصفين أنه قائم بذاته وأنه تكلم به بمشيئته وقدرته فليس جعلكم الكلام كلامه لمجرد كونه فعله بأولى من جعل غيركم الكلام كلاما له لمجرد كونه قام بذاته.

وهذا موضع تنازعت فيه الصفاتية بعد اتفاقهم على تضليل الجهمية من الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم على قولين مشهورين، حتى القائلين بأن الكلام معنى قائم بنفس المتكلم وراء الأصوات تنازعوا في ذلك كما ذكره أبو محمد بن كلاب فيما حكاه عنه أبو بكر بن فورك.

قال ابن فورك: فأما صريح عبارته وما نص عليه في كتاب الصفات الكبيرة في تحقيق الكلام فإنه قال: فأما الكلام فإنه على ما عاهدناه منه معنى قائم بالنفس فقوم يزعمون أنه نعت لها، وقوم يزعمون أنه فعل من أفعالها إلا أنهم يعبرون عنه بالألفاظ والكتاب والإيماء، وكل ذلك قد يسمى كلاما وقولا لأدائه ما يؤدى عن تلك المعاني الخفيات.

وكذلك أبو بكر عبد العزيز ذكر في كتابه ما ذكره القاضي أبو يعلى عنه أن أصحاب الإمام أحمد تنازعوا في معنى قولهم: القرآن غير مخلوق، هل المراد به أنه صفة لازمة له كالعلم والقدرة أو أنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء؟ وهذه المسألة متعلقة بمسألة قيام الأفعال بذاته المتعلقة بمشيئته، هل يجوز أم لا؟

كالإتيان والمجيء والاستواء ونحو ذلك، وتسمى مسألة حلول الحوادث، وكل طائفة من طوائف الأمة وغيرهم فيها على قولين حتى الفلاسفة لهم فيها قولان لمتقدميهم ومتأخريهم.

وذكر أبو عبد الله الرازي أن جميع الطوائف تلزمهم هذه المسألة وإن لم يلتزموها وأول من صرح بنفيها الجهمية من المعتزلة ونحوهم ووافقهم على ذلك

ص: 115

أبو محمد بن كلاب وأتباعه كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري، ومن وافقهم من أتباع الأئمة كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وهو قول طائفة من متأخرى أهل الحديث كأبي حاتم البستي «1» ، والخطابي «2» ونحوهما، وكثير من طوائف أهل الكلام يثبتها كالهشامية والكرامية والزهيرية، وأبي معاذ التومني وأمثالهم كما ذكره الأشعري عنهم في المقالات وهو قول أساطين فلسفة المتقدمين، كأبي البركات صاحب المعتبر وأمثاله من المتفلسفة وهو قول جمهور أئمة الحديث كما ذكره عثمان بن سعيد الدارمي وإمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة وغيرهما عن مذهب السلف والأئمة، وكما ذكره شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري، وأبو عمر بن عبد البر النميري.

وقاله طوائف من أصحاب أحمد كالخلال وصاحبه، وأبي حامد وأمثالهم وقاله داود بن علي الأصفهاني وأتباعه، وهو مقتضى ما ذكروه عن السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري صاحب الصحيح وأمثالهم، وعليه يدل كلام السلف فهؤلاء إذا قالوا:

المتكلم من قام به الكلام وهو يتكلم بمشيئته وقدرته خصموا المعتزلة وانقطعت حجتهم عنهم فإنهم اعتبروا الوصفين جميعا، فمن جعل المتكلم من قام به الكلام، وإن لم يكن متكلما بمشيئته وقدرته، أو جعله من فعله بمشيئته وقدرته وإن لم يكن قائما به لحذف أحد الوصفين.

(1) هو الإمام العلامة الحافظ المجود شيخ خراسان أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد بن شهيد بن هدية بن مرة بن سعد بن يزيد بن مرة بن زيد بن عبد الله بن دارم بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي الدارمي البستي صاحب الكتب المشهورة.

ولد سنة بضع وسبعين ومائتين وتوفي سنة أربع وخمسين وثلاث مائة، وهو في عشر الثمانين.

انظر ترجمته في السير (16/ 92) والكامل (8/ 566) وتذكرة الحفاظ (3/ 920 - 924) والبداية والنهاية (11/ 259).

(2)

هو الإمام العلامة الحافظ اللغوي أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطّاب البستي الخطابي صاحب التصانيف النافعة المفيدة، ولد سنة بضع عشرة وثلاث مائة.

قال أبو طاهر السلفي: وأما أبو سليمان الشارح لكتاب أبي داود فإذا وقف منصف على مصنفاته، واطلع على بديع تصرفاته في مؤلفاته، تحقق إمامته وديانته فيما يورده وأمانته.

توفي رحمه الله في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة.

انظر ترجمته في السير (17/ 23) والبداية والنهاية (11/ 236، 237)، وطبقات السبكي (3/ 282 - 290) وشذرات الذهب (3/ 127 - 128).

ص: 116

ولا ريب أن الطرق الدالة على الإثبات والنفي إما السمع وإما العقل، أما السمع فليس مع النفاة منه شيء بل القرآن والأحاديث هي من جانب الإثبات كقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)«1» وقوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)«2» .

وقوله: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ «3» وقوله: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ «4» وقوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ «5» .

وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ «6» .

وأمثال ذلك ممّا في القرآن فإنه كثير جدّا.

وكذلك الأحاديث الصحيحة كقوله عليه الصلاة والسلام، لما صلى بهم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل:«أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«فإنه قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهو كافر بي مؤمن بالكوكب» «7» وما يذكره من خطابه للعباد يوم القيامة وخطابه للملائكة، وأمثال ذلك، بل كل ما تحتج به المعتزلة على أن القرآن مخلوق من نحو هذا فإنه لا يدل على أنه بائن منه، وإنما يدل على أنه يتكلم بمشيئته وقدرته فيمكن هؤلاء التزامه ويكون قولهم متضمنا للإيمان بجميع ما أنزل الله ممّا يدل على أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وعلى أن كلامه غير مخلوق بخلاف غيرهم، فإنه يقرر بعض النصوص ويرد بعضها بتحريف أو تفويض ومن جعله متكلما بمشيئته وقدرته وقال: إن كلامه قائم به زال عنه هذا كله والمنازع لهم يحتاج أن يقرر بالعقل امتناع ذلك ثم يبين أنه يمكن تأويله.

فأما الطرق العقلية فالمثبتون يقولون إنها من جانبهم دون جانب النفاة كما تزعم النفاة أنها من جانبهم، وذلك أنهم قالوا: إن قدرته على ما يقوم به من الكلام، والفعل صفة كمال كما أن ما يقوم به من العلم والقدرة صفة كمال ومن المعلوم أن من قدر على أن يفعل ويتكلم أكمل ممن لا يقدر على ذلك،

(1) سورة يس، الآية:82.

(2)

سورة القصص، الآية:65.

(3)

سورة التوبة، الآية:105.

(4)

سورة الأعراف، الآية:54.

(5)

سورة فصلت، الآية:11.

(6)

سورة الأنعام، الآية:158.

(7)

تقدم تخريجه.

ص: 117

كما أن قدرته على أن يبدع الأشياء صفة كمال والقادر على الخلق أكمل ممن لا يقدر على الخلق.

وقالوا: الحي لا يخلو عن هذا، والحياة هي المصححة لهذا كما هي المصححة لسائر الصفات وإذا قدر حي لا يقدر على أن يفعل بنفسه ويتكلم بنفسه كان عاجزا بمنزلة الزمن والأخرس كما أنه إذا قدر حي لا يسمع ولا يبصر كان أصم أعمى، فما من طريق يسلكه الصفاتية في إثبات صفاته إلا يسلك هؤلاء نظيره من إثبات ذلك.

ولا ريب أن النفاة نوعان:

أحدهما:- وهم الأصل- المعتزلة ونحوهم من الجهمية فهؤلاء ينفون الصفات مطلقا وحجتهم على نفي قيام الأفعال به من جنس حجتهم على نفي الصفات به، وهم يسوون في النفي بين هذا وهذا كما صرحوا بذلك وليس لهم حجة تختص بنفس قيام الحوادث.

وأما مثبتة الصفات الذين ينفون الأفعال الاختيارية القائمة به كابن كلاب والأشعري فإنهم فرقوا بين هذين بأنه لو جاز قيام الحوادث به لم يخل منها لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وبهذا استدلوا على حدوث الأجسام لأنها لا تخلو من الأعراض الحادثة كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق فأجابهم الأولون بثلاثة أجوبة:

أحدها: أن استدلالكم بقيام الأفعال به على حدوثه هو نظير استدلال المعتزلة بقيام الصفات به على حدوثه. وقالوا: الصفات أعراض والأعراض لا تقوم إلا بجسم ففرقتم أنتم بين الصفات- وهي اللازمة- وبين الأعراض، وهو فرق صوري يرجع في الحقيقة إلى الاصطلاح فإن جاز أن تقوم به الصفات التي هي أعراض في غيره ولا يكون جسما محدثا جاز أن تقوم به الأفعال التي هي حركات في غيره ولا يكون جسما محدثا وهذا إلزام.

الثاني: قالوا لهم: لا نسلم أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وقد اعترف أبو عبد الله الرازي وأبو الحسن الآمدي «1» ونحوهما بفساد هذا الأصل

(1) هو العلامة المصنف فارس الكلام سيف الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي الآمدي الحنبلي ثم الشافعي، ولد سنة نيف وخمسين وخمسمائة وتوفي سنة إحدى وثلاثين وست مائة وله ثمانون سنة.

انظر ترجمته في السير (22/ 364) والبداية والنهاية (13/ 140 - 141) وشذرات الذهب (5/ 142 - 144) والعبر (5/ 124 - 125).

ص: 118

وعليه بنى الأشعري وأصحابه كلامهم في مسألة امتناع قيام الحوادث به ومسألة القرآن ونحوهما من المسائل.

الثالث: هب أنه لا يخلو عنه وعن ضده وأن ذلك يستلزم تعاقب الحوادث لكن لا نسلم أن ذلك يستلزم حدوث ما قام به، قالوا: والدليل الذي ذكرتموه على حدوث العالم من هذا الوجه دليل ضعيف وقد ألزمكم الفلاسفة فيه إلزاما لم تنفصلوا عنه ولا يمكنكم الانفصال عنه إلا بتجويز ذلك على القديم فإنهم قالوا: ما حدث بعد أن لم يكن فلا بد له من سبب حادث فإن ذلك الحادث ممكن والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح والمرجح إن لم يجب حصول الممكن عند حصوله لم يكن مرجحا تامّا فافتقر إلى تمامه.

ثم القول في حدوث ذلك التمام كالقول في حدوث الأول فلا بد من مرجح تام يجب عنده الحادث فلا بد لكل حادث من سبب تام يحصل الحادث عند تمام ذلك السبب، فإذا كان العالم محدثا بعد أن لم يكن ولم يحدث سبب يقتضي حدوثه فلم يكن حين إبداعه أمر يوجب ترجيحه لم يكن قبل إبداعه بل الحالان سواء فيلزم ترجيح الحدوث بلا مرجح.

وهذا الموضع هو أصعب المواضع على المتكلمين في بحثهم مع الفلاسفة في مسألة حدوث العالم. وهذه الشبهة أقوى شبه الفلاسفة فإنهم لما رأوا أن الحدوث يمتنع إلا بسبب حادث قالوا: والقول في ذلك الحادث كالقول في الأول.

وقال هؤلاء المثبتة لقيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى: وعلى أصلنا يبطل كلام الفلاسفة فإنه يقال لهم أنتم تجوزون قيام الحوادث بالقديم إذ الفلك قديم عندكم والحركات تقوم به، وتجوزون حوادث لا أول لها وتعاقب الحركات على الشيء لا يستلزم حدوثه وإذا كان كذلك فلم يجوز أن يكون الخالق للعالم له أفعال اختيارية تقوم به يحدث بها الحوادث ولا يكون تسلسلها وتعاقبها دليلا على حدوث ما قامت به.

قال هؤلاء لأصحابهم الذين أثبتوا حدوث العالم بهذه الطرق: تسلط عليكم الفلاسفة في مسألة حدوث العالم فإنكم إذا أثبتم حدوث العالم وقلتم المحدث لا بد له من محدث لأن تخصيص الحوادث ببعض الأوقات دون بعض لا بد من

ص: 119

مخصص، قال لكم الدهرية «1»: فأنتم تجوزون الحدوث من غير سبب حادث يقتضي التخصيص ببعض الحوادث دون بعض.

فإن قلتم: القديم يخصص مثلا عن مثل بلا سبب أصلا جوزتم تخصيص أحد المثلين على الآخر بغير مخصص وهذا يفسد عليكم إثبات العلم بالصانع وهو المقصود بطريقكم فسلكتم طريقا لم تحصل المقصود من العرفان، وسلطتم عليكم أهل الضلال والعدوان، كمن أراد أن يغزو بغير طريق شرعي فلا فتح بلادهم ولا حفظ بلادهم بل سلطهم حتى صاروا يحاربونه بعد أن كانوا عاجزين عنه.

ولهذا ذم السلف والأئمة أهل الكلام المحدث المخالف للكتاب والسنة «2» إذ كان فيه من الباطل في الأدلة والأحكام ما أوجب تكذيب بعض ما أخبر به الرسول وتسلط العدو على أهل الإسلام وليس هذا موضع بسط الكلام في هذه الأمور الكبيرة العظيمة، بل نبنهنا عليها تنبيها مختصرا بحسب ما يحتمله هذا المقام فإن الكلام في مسألة الكلام حير عقول أكثر الأنام الذين ضعفت معرفتهم واتباعهم لما بعث الله به رسله الكرام، ولهم طرق سمعية في تقريره يطول ذكرها.

وأما الطرق العقلية: فمن وجوه:

أحدها: أن الحي إذا لم يتصف بالكلام لزم اتصافه بضده كالسكوت والخرس وهذه آفة يتنزه الله عنها فتعين اتصافه بالكلام وهذا المسلك يسلكونه في إثبات كونه سميعا بصيرا أيضا فإنه إذا كان حيّا ولم يكن سميعا بصيرا لزم اتصافه بضد ذلك من الصمم والعمى.

الثاني: أن الكلام صفة كمال وهنالك من جعله صفة لا تتعلق بمشيئته واختياره جعله كالعلم والقدرة ومن قال إنه يتعلق بمشيئته وقدرته قال: كونه متكلما يتكلم إذا شاء صفة كمال وقد يقول بطرد ذلك في كونه فاعلا الأفعال الاختيارية القائمة بنفسه، ويجعل هذا كله من صفات الكمال وقد يقول القدرة على ذلك هي صفة الكمال إذ الكمال لا يجوز أن يفارق الذات فإنه لم يزل ولا يزال كاملا مستحقا لجميع صفات الكمال، فالقدرة على كونه يقول ما شاء ويفعل ما شاء صفة كمال فالقدرة وحدها غير القدرة مع ما يقترن بها من المقدورية، وهذا ينبني على

(1) الدهرية هم الذين عطلوا المصنوعات عن صانعها وقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [سورة الجاثية، الآية: 24].

(2)

وانظر في ذلك كتاب ذم الكلام وأهله للإمام الحافظ أبي إسماعيل الهروي رحمه الله تعالى.

ص: 120

أن ما يقوم به من ذلك هل كله مسبوق بالعدم أو لم يزل ذلك يقوم به؟ وفيه لهم قولان، أحدهما أنه مسبوق بالعدم كما تقوله الكرامية وغيرهم.

الثالث: أنه ليس مسبوقا بالعدم وهو مذهب أكثر أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفقه والتصوف.

الرابع: أن يقال: المخلوق ينقسم إلى متكلم وغير متكلم والمتكلم أكمل من غير المتكلم وكل كمال هو في المخلوق مستفاد من الخالق فالخالق به أحق وأولى ومن جعله لا يتكلم فقد شبهه بالموات الجماد الذي لا يتكلم وذلك صفة نقص إذ المتكلم أكمل من غيره، قال تعالى في ذم من يعبد من لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) «1» وقال في الآية الأخرى:

أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا «2» وقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)«3» .

فعاب الصنم بأنه أبكم لا يقدر على شيء إذ كان من المعلوم أن العجز عن النطق والفعل صفة نقص فالنطق والقدرة صفة كمال.

والفرق بين هذه الطريق وبين التي قبلها أن هذه استدلال بما في المخلوق من الكمال على أن الخالق أحق به وأنه يمتنع أن يكون مضاهيا للناقص، والأولى أنه مستحق لصفات الكمال من حيث هي مع قطع النظر عن كونها ثابتة في المخلوقات لامتناع النقص عليه بوجه من الوجوه سبحانه وتعالى.

(1) سورة طه، الآية:89.

(2)

سورة الأعراف، الآية:148.

(3)

سورة النحل، الآية:76.

ص: 121