المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل [الدليل على نبوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام] - شرح العقيدة الأصفهانية

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌ترجمة المصنف

- ‌أوّلا اسمه ونسبه ومولده

- ‌ثانيا نشأته، وبداية حياته العلمية

- ‌ثالثا بعض الصفات التي اتصف بها

- ‌أ- صفاته الخلقية:

- ‌ب- صفاته الخلقية:

- ‌1 - كرمه:

- ‌2 - قوته وشجاعته:

- ‌3 - زهده وتواضعه:

- ‌رابعا مواقفه الجهادية

- ‌خامسا محنته ووفاته- رحمه الله

- ‌سادسا مكانته العلمية وثناء العلماء عليه

- ‌سابعا مؤلفاته وآثاره

- ‌ثامنا شيوخه وتلاميذه

- ‌[المدخل]

- ‌[مذهب السلف في الأسماء والصفات]

- ‌فصل [الرد على من نفى بعض صفات الله تعالى]

- ‌فصل [تميز أهل السنة والجماعة عن الكفار والمبتدعين]

- ‌فصل [الرد على نفاة الصفات]

- ‌فصل [الدليل على علم الله تعالى]

- ‌فصل [الدليل على قدرة الله تعالى]

- ‌فصل [الدليل على أنه سبحانه حي]

- ‌فصل [إثبات صفتي العلو والكلام والرد على النفاة]

- ‌[مذهب أهل الحديث في الصفات وذكر الآيات الدالة على ذلك]

- ‌[ذكر الأحاديث الدالة على الصفات]

- ‌فصل [طريقة إثبات السلف والأئمة لكلام الله سبحانه والرد على المشبهة]

- ‌فصل [طرق أخرى في إثبات كونه سبحانه متكلما]

- ‌فصل [إثبات كون الله تعالى سميعا بصيرا]

- ‌فصل [الدليل على نبوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام]

- ‌فصل [طرق دلالة المعجزة على الصدق]

- ‌فصل [مسألة التحسين والتقبيح العقليين]

- ‌فصل [دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم]

- ‌فصل [التصديق بما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأمور الغيبية]

- ‌[الفصل الاول]

- ‌الفصل الثاني

- ‌الفصل الثالث

- ‌الفصل الرابع

- ‌الفصل الخامس

- ‌الفصل السابع

الفصل: ‌فصل [الدليل على نبوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام]

‌فصل [الدليل على نبوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام]

ثم قال المصنف: (والدليل على نبوة الأنبياء المعجزات والدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن المعجز نظمه ومعناه).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه الطريقة هي من أعظم الطرق عند أهل الكلام والنظر حيث يقررون نبوة الأنبياء بالمعجزات ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح لتقرير نبوة الأنبياء لكن كثير من هؤلاء كل من بنى إيمانه عليها يظن أن لا نعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات.

ثم لهم في تقرير دلالة المعجزة على الصدق طرق متنوعة وفي بعضها من التنازع والاضطراب ما سننبه عليه، والتزم كثير من هؤلاء إنكار خرق العادات لغير الأنبياء حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر ونحو ذلك.

وللنظار هنا طرق متعددة؛ منهم من لا يجعل المعجزة دليلا بل يجعل الدليل استواء ما يدعو إليه وصحته وسلامته من التناقض كما يقول طائفة من النظار، ومنهم من يوجب تصديقه بدون هذا وهذا، ومنهم من يجعل المعجزة دليلا ويجعل أدلة أخرى غير المعجزة وهذا أصح الطرق، ومن لم يجعل طريقها إلا المعجزة اضطر لهذه الأمور التي فيها تكذيب لحق أو تصديق لباطل، ولهذا كان السلف والأئمة يذمون الكلام المبتدع فإن أصحابه يخطئون إما في مسائلهم وإما في دلائلهم فكثيرا ما يثبتون دين المسلمين في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على أصول ضعيفة بل فاسدة يلتزمون لذلك لوازم يخالفون بها السمع الصحيح والعقل الصريح.

وهذا حال الجهمية من المعتزلة وغيرهم حيث أثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام وأثبتوا ذلك بحدوث صفاتها التي هي الأعراض فاضطرهم ذلك إلى القول بحدوث كل موصوف فنفوا عن الله الصفات وقالوا بأن القرآن مخلوق وأنه لا يرى في الآخرة وقالوا إنّه لا مباين ولا محايث وأمثال ذلك من مقالات النفاة التي تستلزم التعطيل كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وليس الأمر كذلك بل معرفتها بغير المعجزات ممكنة فإن المقصود إنما هو معرفة صدق مدعي النبوة أو كذبه فإنه إذا قال إني رسول الله فهذا الكلام إما أن يكون صدقا وإما أن يكون

ص: 137

كذبا، وإن شئت قلت: هذا خبر فإما أن يكون مطابقا للمخبر وإما أن يكون مخالفا له، سواء كانت مخالفته له على وجه العمد أو الخطأ، إذ قد يظن الرجل في نفسه أو غيره أنه رسول الله غير متعمد للكذب بل خطأ وضلال مثل كثير ممن يتمثل له الشيطان ويقول: إني ربك ويخاطبه بأشياء وقد يقول له: أحللت لك ما حرمت على غيرك وأنت عبدي ورسولي وأنت أفضل أهل الأرض، وأمثال هذه الأكاذيب، فإن مثل هذا قد وقع لكثير من الناس فإذا كان مدعي الرسالة لم يكن صادقا فلا بد أن يكون كاذبا عمدا أو ضلالا فالتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما هو دون دعوى النبوة فكيف بدعوى النبوة «1» .

ومعلوم أن مدعي الرسالة إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم وإما أن يكون من أنقص الخلق وأرذلهم، ولهذا قال أحد أكابر ثقيف للنبيّ صلى الله عليه وسلم لما بلغهم الرسالة ودعاهم إلى الإسلام: والله لا أقول لك كلمة واحدة، إن كنت صادقا فأنت أجلّ في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذبا فأنت أحقر من أن أرد عليك.

فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأرذلهم، وما أحسن قول حسان:

لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز.

وما من أحد ادعى النبوة من الصادقين إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز فإن الرسول لا بد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور ولا بد أن يفعل أمور.

والكذاب في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة، والصادق يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه ويفعله ما يظهر به صدقه من وجوه كثيرة بل كل شخصين ادعيا أمرا من الأمور أحدهما صادق في دعواه والآخر كاذب فلا بد أن يبين صدق هذا وكذب هذا من وجوه كثيرة، إذ الصدق مستلزم للبر والكذب مستلزم للفجور كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى

(1) وانظر للفائدة كتاب النبوات للمصنف رحمه الله فإنه نفيس.

ص: 138

الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» «1» .

ولهذا قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226)«2» بين سبحانه أنه ليس بكاهن تنزل عليه الشياطين ولا شاعر حيث كانوا يقولون ساحر وشاعر، فبين أن الشياطين تنزل على الكاذب الفاجر يلقون إليهم السمع وأكثرهم كاذبون فهؤلاء الكهان ونحوهم وإن كانوا يخبرون أحيانا بشيء من المغيبات ويكون صدقا فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن ملك وليسوا بأنبياء.

ولهذا لما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لابن صياد: «قد خبأت لك خبيئا» ، قال: هو الدخ، قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:«اخسأ فلن تعدو قدرك» «3» يعني إنما أنت كاهن، كما قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يأتيني صادق وكاذب، وقال: أرى عرشا على الماء، وذلك هو عرش الشيطان كما ثبت مثل ذلك في الصحيح «4» عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وبين الله تعالى أن الشعراء يتبعهم الغاوون، والغاوي الذي يتبع هواه وشهوته، وإن كان ذلك مضرّا له في العاقبة قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226)«5» .

(1) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6094) وفي الأدب برقم (386) ومسلم في صحيحه برقم (2607) وأحمد في المسند بالأرقام (3638، 3727، 3896، 4022، 4095، 4108، 4160، 4187) وأبو داود في سننه برقم (4989) وابن حبان في صحيحه برقم (272) والترمذي في سننه برقم (1971) والبغوي في شرح السنة برقم (3574) والبيهقي في سننه (10/ 196) والطيالسي في مسنده برقم (247) والطبراني في معجمه الصغير برقم (683) وأبو نعيم في الحلية (5/ 43) وأبو يعلى في مسنده برقم (5138) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(2)

سورة الشعراء، الآيات: 221 - 226.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه بالأرقام (1354، 3055، 6173، 6618) وفي الأدب المفرد برقم (958) ومسلم في صحيحه برقم (2930) وأبو داود في سننه برقم (4329) والترمذي في سننه برقم (2249) وأحمد في المسند بالأرقام (6360 و6361 و6362 و6363 و6364) وعبد الرزاق في المصنف برقم (20817) وابن حبان في صحيحه برقم (6785) والبغوي في شرح السنة برقم (4270) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2813) وأحمد في المسند (3/ 314) من حديث جابر رضي الله عنه.

(5)

سورة الشعراء، الآيتان: 225 - 226.

ص: 139

فهذه صفة الشعراء كما أن تلك صفة من تنزل عليه الشياطين، فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله علم علما يقينيا أنه ليس بشاعر ولا كاهن ولا كاذب.

والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة حتى في المدعين للصناعات والمقالات كالفلاحة والنساجة والكتابة، وعلم النحو والطب والفقه وغير ذلك، فما من أحد يدعي العلم بصناعة أو مقالة إلا والتفريق في ذلك بين الصادق والكاذب له وجوه كثيرة، وكذلك من أظهر قصدا وعملا كمن يظهر الديانة والأمانة والنصيحة والمحبة وأمثال ذلك من الأخلاق فإنه لا بد أن يتبين صدقه وكذبه من وجوه متعددة.

والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرسول بها وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب، ولا يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب من وجوه كثيرة لا سيما والعالم لا يخلو من آثار نبي من لدن آدم إلى زماننا، وقد علم جنس ما جاءت به الأنبياء والمرسلون وما كانوا يدعون إليه ويأمرون به، ولم تزل آثار المرسلين في الأرض ولم يزل عند الناس من آثار الرسل ما يعرفون به جنس ما جاءت به الرسل ويفرقون به بين الرسل وغير الرسل.

فلو قدر أن رجلا جاء في زمان إمكان بعث الرسل وأمر بالشرك وعبادة الأوثان وإباحة الفواحش والظلم والكذب، ولم يأمر بعبادة الله ولا بالإيمان باليوم الآخر هل كان مثل هذا يحتاج أن يطالب بمعجزة أو يشك في كذبه أنه نبي، ولو قدر أنه أتى بما يظن أنه معجزة لعلم أنه من جنس المخاريق أو الفتن والمحنة، ولهذا لما كان الدجال يدعي الإلهية لم يكن ما يأتي به دالّا على صدقه للعلم بأن دعواه ممتنعة في نفسها وأنه كذاب، وكذلك من نشأ في بني إسرائيل معروفا بينهم بالصدق والبر والتقوى بحيث قد خبر خبرة باطنة يعلم منها تمام عقله ودينه، ثم أخبر بأن الله نبأه وأرسله إليهم فإن هذا لا يكون أولى بالرد من أن يخبرنا الرجل الذي لا يشك في عقله ودينه وصدقه إنه رأى رؤيا.

وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه تنازع الناس في أن خبر الواحد هل يجوز أن يقترن به من القرائن والضمائم ما يفيد معه العلم، ولا ريب أن المحققين من كل طائفة على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري بخبر المخبر، بل القرائن وحدها قد تفيد العلم الضروري كما يعرف الرجل رضاء الرجل وغضبه وحبه وبغضه وفرحه وحزنه وغير ذلك ممّا في

ص: 140

نفسه بأمور تظهر على وجهه قد لا يمكنه التعبير عنها كما قال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ «1» ثم قال: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ «2» فأقسم أنه لا بد أن يعرف المنافقين في لحن القول، وعلق معرفتهم بالسيماء على المشيئة لأن ظهور ما في نفس الإنسان من كلامه أبين من ظهوره على صفحات وجهه، وقد قيل: ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، فإذا كان مثل هذا يعلم به ما في نفس الإنسان من غير إخبار فإذا اقترن بذلك إخباره كان أولى بحصول العلم، ولا يقول عاقل من العقلاء: إن مجرد خبر الواحد أو خبر كل واحد يفيد العلم بل ولا خبر كل خمسة أو عشرة، بل قد يخبر ألف أو أكثر من ألف ويكونون كاذبين إذا كانوا متواطئين، وإذا كان صدق المخبر أو كذبه يعلم بما يقترن به من القرائن بل في لحن قوله وصفحات وجهه، ويحصل بذلك علم ضروري لا يمكن للمرء أن يدفعه عن نفسه فكيف بدعوى المدعي إنه رسول الله؟

كيف يخفى صدقه وكذبه أم كيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة لا تعد ولا تحصى؟

وإذا كان الكاذب إنما يأتي من وجهين إما أن يتعمد الكذب وإما أن يلبس عليه كمن يأتيه الشيطان، فمن المعلوم الذي لا ريب فيه أن من الناس من يعلم منه إنه لا يتعمد الكذب بل كثير ممن خبره الناس وجربوه من شيوخهم ومعامليهم يعلمون منهم علما قاطعا إنهم لا يتعمدون الكذب وإن كانوا يعلمون أن ذلك ممكن فليس كل ما علم إمكانه جوّز وقوعه، فإنّا نعلم أنّ الله قادر على قلب الجبال ياقوتا والبحار دما.

ونعلم إنه لا يفعل ذلك ونعلم من حال البشر من حيث الجملة إنه يجوز أن يكون أحدهم يهوديّا ونصرانيّا ونحو ذلك.

ونعلم مع هذا أن هذا لم يقع من الأشخاص، وإن من أخبرنا بوقوعه منهم كذبناه قطعا.

ونحن لا ننكر أن الرجل قد يتغير ويصير متعمد الكذب بعد أن لم يكن كذلك لكن إذا استحال وتغير ظهر ذلك لمن يخبره ويطلع على أموره.

ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبيّ صلى الله عليه وسلم إنه الصادق البار، قال لها لما جاءه الوحي:«إني قد خشيت على عقلي» فقالت: «كلا والله لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتقري

(1) سورة محمد، الآية:30.

(2)

سورة محمد، الآية:30.

ص: 141

الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق» «1» فهو لم يخف من تعمد الكذب فإنه يعلم من نفسه صلى الله عليه وسلم إنه لم يكذب لكن خاف في أول الأمر أن يكون قد عرض له عارض سوء، وهو المقام الثاني فذكرت خديجة ما ينفي هذا وهو ما كان مجبولا عليه من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم والأعمال، وهو الصدق المستلزم للعدل والإحسان إلى الخلق، ومن جمع فيه الصدق والعدل والإحسان لم يكن ممّا يخزيه الله، وصلة الرحم وقرى الضيف وحمل الكل وإعطاء المعدوم والإعانة على نوائب الحق هي من أعظم أنواع البر والإحسان.

وقد علم من سنة الله أن من جبله الله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة فإنه لا يخزيه، وأيضا فالنبوة في الآدميين هي من عهد آدم عليه السلام فإنه كان نبيّا وكان بنوه يعلمون نبوته وأحواله بالاضطرار.

وقد علم جنس ما يدعوا إليه الرسل وجنس أحوالهم فالمدعي للرسالة في زمن الإمكان إذا أتى بما ظهر به مخالفته للرسل علم أنه ليس منهم.

وإذا أتى بما هو من خصائص الرسل علم أنه منهم لا سيما إذا علم أنه لا بد من رسول منتظر، وعلم أن لذلك الرسول صفات متعددة تميزه عمن سواه، فهذا قد يبلغ بصاحبه إلى العلم الضروري بأن هذا هو الرسول المنتظر ولهذا قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)«2» .

والمسلك الأول: النوعي، هو ممّا استدل به النجاشي على نبوته فإنه لما استخبرهم عما يخبر به واستقرأهم القرآن فقرءوه عليه قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.

وكذلك قبله ورقة بن نوفل لما أخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم بما رآه وكان ورقة قد تنصر وكان يكتب الإنجيل بالعبرانية، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك ما يقول، فأخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم بخبره فقال: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى، وإن قومك سيخرجونك؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«أو مخرجيّ هم» ؟ فقال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي «3» .

(1) أخرجه البخاري في صحيحه بالأرقام (3، 3392، 4953، 4955، 4956، 4957، 6982) ومسلم في صحيحه بالأرقام (401 - 403) وأحمد في المسند (6/ 223 و233) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

سورة البقرة، الآية:146.

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 142

المسلك الثاني: الشخصي: استدل به هرقل ملك الروم، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما كتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام طلب هرقل من كان هنا من العرب وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى غزة فطلبهم وسألهم عن أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأل أبا سفيان وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه، فصار يجدهم موافقين له في الإخبار، فسألهم: هل كان في آبائه من ملك؟ قالوا: لا. وهل قال هذا القول أحد قبله؟ قالوا: لا.

وسألهم أهو ذو نسب فيكم؟ قالوا: نعم، وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقالوا: لا ما جربنا عليه كذبا، وسألهم: هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه، وسألهم هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكروا أنهم يزيدون، وسألهم هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه، فقالوا: لا، وسألهم: هل قاتلتموه؟ قالوا: نعم، وسألهم عن الحرب بينهم وبينه؟ فقالوا: يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى، وسألهم هل يغدر؟ فذكروا أنه لا يغدر، وسألهم بماذا يأمركم فقالوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا وينهانا عمّا كان يعبد آباؤنا ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة «1» ، فهذه أكثر من عشر مسائل.

ثم تبين لهم ما في هذه المسائل من الدلالة وأنه سألهم عن أسباب الكذب وعلاماته فرآها منتفية، وسألهم عن علامات الصدق فوجدها ثابتة، فسألهم هل كان في آبائه من ملك فقالوا: لا، قال: قلت: فلو كان في آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟ فقلت: لا، فقلت:

لو قال هذا القول أحد قبله لقلت رجل ائتم بقول قيل قبله، ولا ريب أن اتباع الرجل لعادة آبائه واقتدائه بمن كان قبله كثيرا ما يكون في الآدميين، بخلاف الابتداء بقول لم يعرف في تلك الأمة قبله، وطلب أمر لا يناسب حال أهل بيته، فإن هذا قليل في العادة لكنه قد يقع.

ولهذا أردفه بقوله: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فقالوا:

لا، قال: فقد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله، وذلك أن مثل هذا يكون كذبا محضا يكذبه لغير عادة جرت، وهذا لا يفعله إلا من يكون من شأنه أن يكذب، فإذا لم يكن من خلقه الكذب قط بل لم

(1) أحرجه البخاري في صحيحه برقم (2940) ومسلم في صحيحه برقم (1773) من حديث أبي سفيان رضي الله عنه.

ص: 143

يعرف منه إلا الصدق وهو يتورع أن يكذب على الناس كان تورعه عن أن يكذب على الله أولى وأحق، والإنسان قد يخرج عن عادته في نفسه إلى عادة بني جنسه، فإذا انتفى هذا وهذا كان هذا أبعد عن الكذب وأقرب إلى الصدق.

ثم أردف ذلك بالسؤال عن علامات الصدق فقال: وسألتكم أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلتم: ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل، وقال: فهذه علامات من علامات الرسل، وهو اتباع الضعفاء له ابتداء.

قال تعالى حكاية عن قوم نوح:* قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)«1» وقالوا: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ «2» .

وقال تعالى في قصة صالح: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76)«3» .

وقال تعالى في قصة شعيب:* قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)«4» .

ثم قال هرقل: وسألتكم أيزيدون أم ينقصون فقلتم بل يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتكم هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه فقلتم لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، فسألهم عن زيادة أتباعه ودوامهم على اتباعه، فأخبروه أنهم يزيدون ويدومون، وهذا من علامات الصدق والحق، فإن الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه ويمتنع عنه من لم يدخل فيه.

ولهذا أخبرت الأنبياء المتقدمون أن المتنبّئ الكذاب لا يدوم إلا مدة يسيرة وهذه من بعض حجج ملوك النصارى الذين يقال لهم إنهم من ولد قيصر هذا أو غيرهم حيث رأى رجلا يسب النبيّ صلى الله عليه وسلم من رءوس النصارى

(1) سورة الشعراء، الآية:111.

(2)

سورة هود، الآية:27.

(3)

سورة الأعراف، الآيتان: 75 - 76.

(4)

سورة الأعراف، الآيتان: 88 - 89.

ص: 144

ويرميه بالكذب فجمع علماء النصارى وسألهم عن المتنبّئ الكذاب كم تبقى نبوته؟

فأخبروه بما عندهم من النقل عن الأنبياء: إن الكذاب المفتري لا يبقى إلا كذا وكذا سنة لمدة قريبة، إما ثلاثين سنة أو نحوها، فقال لهم: هذا دين محمد له أكثر من خمسمائة سنة أو ستمائة سنة وهو ظاهر مقبول متبوع فكيف يكون هذا كذابا ثم ضرب عنق ذلك الرجل.

وسألهم هرقل عن محاربته ومسألته فأخبروه أنه في الحرب تارة يغلب كما غلب يوم بدر وتارة يغلب كما غلب يوم أحد، وإنه إذا عاهد لا يغدر فقال لهم: وسألتكم كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم إنها دول، يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى، وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها، قال: وسألتكم هل يغدر؟ فقلتم إنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر، فهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون علم أن هذا من علامات الرسل فإن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أنه يبتليهم بالسراء والضراء لينالوا درجة الشكر والصبر كما في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» «1» .

والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة فقال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)«2» .

فمن الحكم تمييز المؤمن عن غيره، فإنهم إذا كانوا دائما منصورين لم يظهر لهم وليهم وعدوهم إذ الجميع يظهرون الموالاة فإذا غلبوا ظهر عدوهم قال تعالى:

وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ

(1) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2999) وأحمد في المسند برقم (18934 و18939) وابن حبان في صحيحه برقم (2896) والطبراني في معجمه الكبير برقم (7316، 7317) والبيهقي في سننه (3/ 375) وأبو نعيم في الحلية (1/ 154) من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه.

(2)

سورة آل عمران، الآيات: 139 - 141.

ص: 145

يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)«1» .

وقال تعالى: الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3)«2» إلى قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)«3» وقال تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ «4» وأمثال ذلك.

ومن الحكم أن يتخذ منكم شهداء فإن منزلة الشهادة منزلة علية في الجنة، ولا بد من الموت فموت العبد شهيدا أكمل له وأعظم لأجره وثوابه ويكفر عنه بالشهادة ذنوبه وظلمه لنفسه، والله لا يحب الظالمين.

ومن ذلك أن يمحص الله الذين آمنوا فيخلصهم من الذنوب فإنهم إذا انتصروا دائما حصل للنفوس من الطغيان وضعف الإيمان ما يوجب لها العقوبة والهوان قال تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «5» وقال تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7)«6» .

وفي الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تقيمها الرياح تقومها تارة وتميلها أخرى، ومثل المنافق كمثل الأرزة لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة» «7» .

وسئل صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء؟ فقال: «الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل

(1) سورة آل عمران، الآيات: 166 - 168.

(2)

سورة العنكبوت، الآيات: 1 - 3.

(3)

سورة العنكبوت، الآيتان: 10، 11.

(4)

سورة آل عمران، الآية:179.

(5)

سورة آل عمران، الآية:178.

(6)

سورة العلق، الآيتان: 6 - 7.

(7)

أخرجه البخاري في صحيحه برقم (7466) ومسلم في صحيحه برقم (2809) والترمذي في سننه برقم (2866) وأحمد في المسند بالأرقام (7192 و7814 و10775) وابن حبان في صحيحه برقم (2915) وعبد الرزاق في المصنف برقم (20307) والبغوي في شرح السنة برقم (1437) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 146

فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه رقة خفف عنه وإن كان في دينه صلابة زيد له في بلائه، ولا يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وأهله وماله حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة» «1» .

وقد قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)«2» .

وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)«3» .

وفي الأثر فيما روي عن الله تعالى: «يا ابن آدم البلاء يجمع بيني وبينك والعافية تجمع بينك وبين نفسك» ، وفي الأثر أيضا:«إنهم إذا قالوا للمريض اللهم ارحمه يقول الله: كيف أرحمه من شيء به أرحمه» .

وقد شهدنا أن العسكر إذا انكسر خشع لله وذل وتاب إلى الله من الذنوب وطلب النصر من الله وبرئ من حوله وقوته متوكلا على الله ولهذا ذكرهم الله بحالهم يوم بدر وبحالهم يوم حنين فقال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)«4» وقال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26)«5» .

وشواهد هذا الأصل كثيرة وهو أمر يجده الناس بقلوبهم ويحسونه ويعرفونه

(1) أخرجه الترمذي في سننه برقم (2398) وابن ماجه في سننه برقم (4023) وأحمد في المسند بالأرقام (1481 و1494 و1555 و1607) والدارمي في سننه برقم (2783) والحاكم في المستدرك (1/ 41) وابن حبان في صحيحه برقم (2900 و2901 و2921) وابن أبي شيبة في المصنف (3/ 233) والطيالسي في مسنده برقم (215) وعبد بن حميد في مسنده برقم (146) والبزار في مسنده برقم (1155) والبيهقي في سننه (3/ 372 - 373) وأبو نعيم في الحلية (1/ 368) والبغوي في شرح السند برقم (1434) وأبو يعلى في مسنده برقم (830) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

والحديث صححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجه برقم (3249).

(2)

سورة البقرة، الآية:214.

(3)

سورة آل عمران، الآية:142.

(4)

سورة آل عمران، الآية:123.

(5)

سورة التوبة، الآيتان: 25 - 26.

ص: 147

من أنفسهم ومن غيرهم وهو من المعارف الضرورية الحاصلة بالتجربة لمن جربها، والأخبار المتواترة لمن سمعها، ثم ذكر حكمة أخرى فقال تعالى: وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ «1» ذلك أن الله سبحانه إنما يعاقب الناس بأعمالهم، والكافر إذا كانت له حسنات أطعمه الله بحسناته في الدنيا فإذا لم تبقى له حسنة عاقبه بكفره، والكفار إذا أديلوا يحصل لهم من الطغيان والعدوان وشدة الكفر والتكذيب ما يستحقون به المحق ففي إدالتهم ما يمحقهم الله به.

وأما الغدر فإن الرسل لا تغدر أصلا إذ الغدر قرين الكذب كما في الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» «2» .

وفي الصحيحين أيضا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» «3» .

قلت: الغدر ونحوه داخل في الكذب كما قال تعالى:* وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77)«4» .

وقال تعالى:* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ

(1) سورة آل عمران، الآية:141.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه بالأرقام (33 و2682 و2749 و6095) ومسلم في صحيحه برقم (59) والترمذي في سننه برقم (2631) والنسائي في سننه (8/ 116 - 117) وفي الكبرى برقم (11127) وأحمد في المسند بالأرقام (8685 و9158 و10925) والبغوي في شرح السنة برقم (35) والبيهقي في سننه (6/ 288) وأبو يعلى في مسنده برقم (6533) وأبو عوانة في صحيحه (1/ 21) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه بالأرقام (34 و2459 و3178) ومسلم في صحيحه برقم (58) وأبو داود في سننه برقم (4688) والترمذي في سننه برقم (2632) والنسائي في سننه (8/ 116) وفي الكبرى برقم (8734) وأحمد في المسند برقم (6768) وابن حبان في صحيحه برقم (254 و255) وابن أبي شيبة في المصنف (8/ 593) وعبد بن حميد في المنتخب برقم (322) وأبو نعيم في الحلية (7/ 204) والبيهقي في سننه (9/ 230 و10/ 74) والبغوي في شرح السنة برقم (37) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(4)

سورة التوبة، الآيات: 75 - 77.

ص: 148

لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12)«1» .

فالغدر يتضمن كذبا في المستقبل والرسل صلوات الله عليهم منزهون عن ذلك فكان هذا من العلامات.

قال: وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، يأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم وهذه صفة نبي، وقد كنت أعلم أن نبيّا يبعث ولم أكن أظن أنه منكم ولوددت أن أخلص إليه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه، وإن يكن ما يقول حقّا فسيملك موضع قدميّ هاتين، وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب وهو حينئذ كافر من أشد الناس بغضا وعداوة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال أبو سفيان: فقلت لأصحابي ونحن خروج: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر، وما زلت موقنا بأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام وأنا كاره.

قلت: فمثل هذا السؤال والبحث أفاد هذا العاقل اللبيب علما جازما بأن هذا هو النبيّ الذي ينتظره.

وقد اعترض على هذا بعض من لم يدرك غور كلامه وسؤاله، كالمازري ونحوه، وقال: إنه بمثل هذا لا تعلم النبوة، وإنما تعلم بالمعجزة. وليس الأمر على ما قال، بل كل عاقل سليم الفطرة إذا سمع هذا السؤال والبحث علم أنه من أدل الأمور على عقل السائل وخبرته واستنباطه ممّا يتميز به هل هو صادق أو كاذب، وأنه بهذه الأمور تميز له ذلك، وممّا ينبغي أن يعرف أن ما يحصل في القلب لمجموع أمور قد يستقل بعضها به، بل كل ما يحصل للإنسان من شبع وري وسكن وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها لكن بعضها قد يحصل بعض العلم.

وكذلك العلم بمجرد الإخبار وبما جربه من المجربات وبما في نفس الإنسان من الأمور فإن الخبر الواحد يحصل في القلب نوع ظن ثم الآخر يقويه إلى أن ينتهي إلى العلم حتى يتزايد فيقوى وكذلك ما يجربه الإنسان من الأمور وما يراه من أحوال الشخص.

(1) سورة الحشر، الآيتان: 11 - 12.

ص: 149

وكذلك ما يستدل به على كذبه وصدقه، وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى أبقى في العالم الآثار الدالة على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة وما فعله بمكذبيهم من العقوبة، وذلك أيضا معلوم بالتواتر كتواتر الطوفان وإغراق فرعون وجنوده.

والله تعالى كثيرا ما يذكر ذلك في القرآن كقوله: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)«1» .

وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)«2» .

وقال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5)«3» إلى قوله:* أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)«4» إلى قوله سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)«5» إلى قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)«6» إلى قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ

(1) سورة الحج، الآيات: 42 - 46.

(2)

سورة ق، الآيتان: 36 - 37.

(3)

سورة غافر، الآية:5.

(4)

سورة غافر، الآيتان: 21 - 22.

(5)

سورة غافر، الآية:51.

(6)

سورة غافر، الآية:78.

ص: 150

مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)«1» .

ولما ذكر في سورة الشعراء قصص الأنبياء نبيّا بعد نبي كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده يقول في آخر كل قصة: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)«2» كقوله تعالى: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)«3» .

وكذلك قال في آخر كل قصة إلى أن قال في قصة شعيب: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)«4» .

وقال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14)«5» .

وقال تعالى في قوم شعيب: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ (43)«6» .

(1) سورة غافر، الآيات: 82 - 85.

(2)

سورة الشعراء، الآيتان: 139 - 140.

(3)

سورة الشعراء، الآيات: 61 - 68.

(4)

سورة الشعراء، الآيات: 189 - 191.

(5)

سورة ص، الآيات: 12 - 14.

(6)

سورة العنكبوت، الآيات: 37 - 43.

ص: 151

وقال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)«1» .

فهو سبحانه يذكر ما ظهر للموحدين من مساكنهم التي كانت حول أهل مكة فإن عامة من قص الله نبأه من الرسل وأممهم بعثوا حول مكة كهود في اليمن وصالح بالحجر من ناحية الشام، وإبراهيم وموسى وعيسى ويونس ولوط وأنبياء بني إسرائيل بأرض الشام ومصر والجزيرة وما يليها من العراق.

وقد قال تعالى لما قص قصة قوم لوط: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)«2» .

وقال تعالى: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)«3» .

وقال تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)«4» .

وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)«5» .

وقال تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)«6» .

وقال تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)«7» .

وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ

(1) سورة الأحقاف، الآيتان: 27 - 28.

(2)

سورة الحجر، الآيات: 73 - 79.

(3)

سورة الصافات، الآيات: 133 - 138.

(4)

سورة الذاريات، الآيات: 35 - 37.

(5)

سورة الفيل، الآيات: 1 - 5.

(6)

سورة قريش، الآيات: 1 - 4.

(7)

سورة آل عمران، الآية:13.

ص: 152

أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)«1» .

وقال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)«2» .

ومثل هذا في القرآن متعدد في غير موضع يذكر الله تعالى قصص رسله ومن آمن بهم وما حصل لهم من النصر والسعادة وحسن العاقبة وقصص من كفر بهم وكذبهم وما حصل لهم من البلاء والعذاب وسوء العاقبة، وهذا من أعظم الأدلة والبراهين على صدق الرسل وبرّهم وكذب من خالفهم وفجوره، ثم إنه سبحانه بيّن أن ذلك يعلم بالبصر أو السمع أو بهما.

فالبصر والمشاهدة لمن رآهم أو رأى آثارهم الدالة عليهم كمن شاهد أصحاب الفيل وما أحاط بهم، ومن شاهد آثارهم بأرض الشام واليمن والحجاز وغير ذلك كآثار أصحاب الحجر وقوم لوط ونحو ذلك.

والسمع فبالأخبار التي تفيد العلم كتواتر الأخبار بما جرى في قصة موسى وفرعون وغرق فرعون في القلزم، وكذلك تواتر الأخبار بقصة الخليل مع النمروذ، وتواتر الأخبار بقصة نوح وإغراق أهل الأرض، وأمثال ذلك من الأخبار المتواترة عند أهل الملل وغير أهل الملل مع أن في بعض قصص من تواترت به هذه الأخبار ما يحصل العلم بخبرهم، واشتراك البصر والسمع كما يشاهد بعض الآثار من تواتر الأخبار، وممّا يبين الحال كما نشاهد السفن ويعلم بالخبر أن ابتداءها كان سفينة نوح كما قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42)«3» وقوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)«4» ، وكذلك نشاهد أرض الحجر وما فيها من البيوت المنقورة في الجبال، ونعلم بالخبر تفصيل الحال وأمثال ذلك.

(1) سورة الحشر، الآية:2.

(2)

سورة يوسف، الآيات: 109 - 111.

(3)

سورة يس، الآيتان: 41 - 42.

(4)

سورة الحاقة، الآيتان: 11 - 12.

ص: 153

وبالجملة فالعلم بأنه كان في الأرض من يقول بأنهم رسل الله، وأن أقواما اتبعوهم وأن أقواما خالفوهم، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين وجعل العاقبة لهم وعاقب أعداءهم، هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها، ونقل هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار ملوك الفرس والعرب في جاهليتها وأخبار اليونان وعلماء الطب والنجوم والفلسفة اليونانية كبقراط «1» وجالينوس «2» وبطليموس «3» وسقراط «4» وأفلاطون «5» وأرسطو «6» وأتباعه.

فكل عاقل يعلم أن نقل أخبار الأنبياء وأتباعهم ينقلها من أهل الملل من لا يحصى عدده إلا الله ويدونونها في الكتب وأهلها من أعظم الناس تدينا بوجوب الصدق وتحريم الكذب ففي العادة المشتركة بينهم وبين سائر بني آدم ما يمنع اتفاقهم وتواطأهم على الكذب، بل ما يمنع اتفاقهم على كتمان ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، وفي عادتهم الخاصة ودينهم الخاص برهان آخر أخص من الأول وأكمل وهذا معلوم على سبيل التفصيل من حال أمتنا فإنا نعلم علما ضروريّا بالنقل المتواتر من عادة سلف الأمة ودينهم الموجب للصدق والبيان المانع من الكذب والكتمان ما يوجب علما ضروريّا لنا بما تواتر لنا عنهم وبانتفاء أمور لو كانت موجودة لنقلوها.

وأهل الكتابين قبلنا عندهم من التواتر بجمل أمور ما يحصل به المقصود في هذا الموضع، وإن كان قد يجيء كذب أو كتمان في بعض التفاصيل من أهل الكتابين قبلنا، وفي بعض أمتنا فهذا أقل بكثير ممّا يقع من الكذب والكتمان بأخبار الفرس واليونان والهند وغيرهم ممن ينقل أخبار ملوكهم وعلمائهم ونحو ذلك، وما

(1) هو بقراط أبو الطب ولد بجزيرة كوس سنة 460 ق. م. وكان أكثر حكمته في الطب وشهرته به حيث تعلمها من أبيه إيرقليدس، ورأى أن صناعة الطب كادت تبيد فرأى أن يذيعها في جميع الأرض وينقلها إلى سائر الناس.

انظر الملل والنحل للشهرستاني (ص 432).

(2)

هو جالينوس طبيب يوناني بعد بقراط انظر ترجمته في الفهرس (350).

(3)

هو بطليموس القلوذي صاحب المجسطي الذي تكلم في هيئة الفلك وأخرج علم الهندسة من القوة إلى الفعل.

انظر الملل والنحل للشهرستاني (ص 438).

(4)

هو سقراط بن سفرنيسقوس الحكيم من أهل أتينية ولد حوالي سنة 470 ق. م وكان قد اقتبس الحكمة من فيثاغورس وأرسالاوس واقتصر من أصنافها على الإلهيات والأخلاقيات.

انظر الملل والنحل للشهرستاني (ص 399 - 400).

(5)

تقدمت ترجمته.

(6)

تقدمت ترجمته.

ص: 154

من عاقل يسمع الخبر عن هؤلاء وعن هؤلاء كما هو موجود في هذا الزمان في الكتب والألسنة، إلا ويحصل له من العلوم الضرورية بأحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم أعظم ممّا يحصل من العلوم بأحوال ملوك الفرس والروم وعلمائهم وأوليائهم وأعدائهم وهذا بيّن ولله الحمد.

ولولا أن هذا الجواب إنما كان القصد به الكلام على هذه العقيدة المختصرة لكان البسط لي في هذا الموضع أولى من ذلك، فإن هذه المقامات تحتمل بسطا عظيما لكن نبهنا على مقدمات نافعة فإن أكثر أهل الكلام مقصرون في حجج الاستدلال على تقرير ما يجب تقريره من التوحيد والنبوة تقصيرا كثيرا جدّا، كما أنهم كثيرا ما يخطئون فيما يذكرونه من المسائل، ومن لا يعرف الحقائق يظن أن ما ذكروه هو الغاية في أصول الدين، والنهاية في دلائله ومسائله فيورثه ذلك مخالفة الكتاب والسنة بل وصريح العقل في مواضع، ويورثه استضعافا لكثير من أصولهم وشكّا فيما ذكروه من أصول الدين استرابة بل قد يروثه ترجيحا لأقوال من يخالف الرسل من متفلسفة وصابئين ومشركين ونحوهم حتى يبقى في الباطن منافقا زنديقا وفي الظاهر متكلما يذب عن النبوات.

ولهذا قال أحمد وغيره ممن قال من السلف: علماء الكلام زنادقة، وما ارتدى أحد بالكلام إلا كان في قلبه غل على أهل الإسلام لأنهم بنوا أمرهم على أصول فاسدة أوقعتهم في الضلال، وليس هذا موضع بسط هذا، وقد بسطناه في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أن طرق العلم بالرسالة كثيرة جدّا متنوعة ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر بأحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم علمنا علما يقينا أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة.

منها: أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم أخبارا كثيرة في أمور كثيرة هي كلها صادقة لم يقع في شيء منها تخلف ولا غلط بخلاف من يخبر به من ليس متبعا لهم ممن تنزل عليه الشياطين أو يستدل على ذلك بالأحوال الفلكية وغيره.

وهؤلاء لا بد أن يكونوا كثيرا بل الغالب من أخبارهم الكذب وإن صدقوا أحيانا.

ومن ذلك: أن ما أحدثه الله تعالى من نصرهم وإهلاك عدوهم إذا عرف الوجه الذي حصل عليه كحصول الغرق لفرعون وقومه بعد أن دخل البحر خلف موسى وقومه كان هذا ممّا يورث علما ضروريّا أن الله تعالى أحدث هذا نصرا

ص: 155

لموسى عليه السلام وقومه ونجاة لهم، وعقوبة لفرعون وقومه ونكالا لهم، وكذلك أمر نوح والخليل عليهما السلام، وكذلك قصة الفيل وغير ذلك.

ومن الطرق أيضا: أن من تأمل ما جاء به الرسل عليهم السلام فيما أخبرت به وما أمرت به علم بالضرورة أن مثل هذا لا يصدر إلا عن أعلم الناس وأصدقهم وأبرهم وأن مثل هذا يمتنع صدوره عن كاذب متعمد للكذب مفتر على الله يخبر عنه بالكذب الصريح، أو مخطئ جاهل ضال يظن أن الله تعالى أرسله ولم يرسله، وذلك لأن فيما أخبروا به وما أمروا به من الإحكام والإتقان وكشف الحقائق وهدى الخلائق وبيان ما يعلمه العقل جملة ويعجز عن معرفته تفصيلا ما يبين أنهم من العلم والمعرفة والخبرة في الغاية التي باينوا بها أعلم الخلق ممن سواهم فيمتنع أن يصدر مثل ذلك عن جاهل ضال، وفيها من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم ما يبين أن ذلك صدر عن راحم بار يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق، وإذا كان ذلك يدل على كمال علمهم وكمال حسن قصدهم، فمن تم علمه وتم حسن قصده امتنع أن يكون كاذبا على الله يدعي عليه هذه الدعوى العظيمة التي لا يكون أفجر من صاحبها إذا كان كاذبا متعمدا، ولا أجهل منه إن كان مخطئا.

وهذه الطريق تسلك جملة في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتفصيلا في حق واحد واحد بعينه فيستدل المستدل بما يعلمه من الحق والخير جملة على علم صاحبه وصدقه ثم يستدل بعلمه وصدقه على ما لم يعلمه تفصيلا، والعلم بجنس الحق والباطل والخير والشر والصدق والكذب معلوم بالفطرة والعقل الصريح بل جملة ذلك ممّا اتفق عليه بنو آدم، ولذلك يسمى ذلك معروفا ومنكرا، فإذا علم أنه فيما علم الناس أنه الحق وأنه خير هو أحق منهم به، وأنصح الخلق فيه وأصدقهم فيما يقول علم بذلك أنه صادق عالم ناصح لا كاذب ولا جاهل ولا غاش.

وهذه الطريق يسلكها كل أحد بحسبه ولا يحتاج في هذه الطريق إلى أن يعلم أولا خواص النبوة وحقيقتها وكيفيتها بل أن يعلم أنه صادق بار فيما يخبر به ويأمر به ثم من خبره يعلم حقيقة النبوة والرسالة.

وقد سلك آخرون من المتكلمين والمتفلسفة والمتصوفة وغيرهم طريق أخرى تشبه هذه من وجه دون وجه وهو أن يعلم النبوة أولا وأنها موجودة في بني آدم وأنهم محتاجون إليها ويعلم صفاتها ثم يعلم عين النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم المتكلمون من المعتزلة

ص: 156

وغيرهم يوجبون النبوة على الله على طريقتهم في إيجاب ما يوجبونه عليه، والمتفلسفة قد يوجبون ذلك على طريقتهم فيما يجب وجوده في العالم وغيرهم يوجب ذلك لما علم من عادته في حكمته ورحمته وإعطائه الخلق ما يحتاجون إليه.

وبالجملة فيعلمون نوعها في العالم ثم يعلمون الواحد من الجنس بثبوت حقيقة النوع فيه، وهذه الطريقة يسلكها كثير من المتكلمة والمتصوفة والمتفلسفة والعامة غيرهم، لكن المتفلسفة كابن سينا وأمثاله أدركوا من النبوة بقدر ما أعطتهم موادهم الفلسفية التي علموا بها أن النبيّ يكون له كمال القوة العلمية وكمال قوة السمع والبصر وكمال قوة النفس بحيث يعلم ويسمع ويبصر ما يقصر غيره عنه، ويفعل في العالم بهمته ما يعجز غيره عنه، وهؤلاء يجعلون نفس النبوة ثلاثة أمور:

أحدها: أن تكون له قوة عقلية بل نسبة ينال بها العلم من غير تعلم.

الثاني: أن تكون له قوة خيالية يتخيل بها الحقائق العقلية موجودة خالية وثقة من أجناس منام النائم فيرى في نفسه ضوءا وذلك هو الرسالة عندهم ويسمع، ذلك هو كلام الله عندهم.

الثالث: أن تكون لنفسه قوة على أن تؤثر في العالم.

وهذه الأقوال الثلاثة تحصل لخلق كثير هم دون رتبة الصالحين فضلا عن النبوة، ولهذا كانت النبوة عندهم مكتسبة فصار كثير منهم يطلب أن يصير نبيّا كما جرى للسهروردي المقتول «1» ولابن سبعين.

ولهذا كان ابن سبعين يقول: لقد زدت في حديث قال: «لا نبي بعد نبي عربي» وهؤلاء يجعلون النبوة إنما هي من جنس واحدة وقوة الناس في العلم والقدرة لكن يقول بينهما من الفصل بإرادة النبي الخير، وإرادة الساحر الشر، ويقولون: الملك والشيطان قوى لكن قوة الملك قوة صالحة وقوة الشيطان قوة فاسدة.

وأما من يقول الملائكة والجن هم جنس واحد لا فرق بينهما في الصفات

(1) هو شهاب الدين أبو حفص وأبو عبد الله عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سعد بن حسين بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري السهروردي الصوفي ثم البغدادي.

ولد سنة تسع وثلاثين وخمس مائة وتوفي سنة اثنتين وثلاثين وست مائة.

انظر ترجمته في السير (22/ 373) والبداية والنهاية (13/ 138 - 143) ووفيات الأعيان (3/ 446 - 448).

ص: 157

فهؤلاء يقولون إن هذا القدر يحصل نوع منه لغيرهم من الأولياء لكن يحصل لهم ما هو دون ذلك وهذا على طريقة عقلاء المتفلسفة الذين يفضلون النبي على الفيلسوف والولي كابن سينا وأمثالهم.

وأما غلاتهم كالفارابي «1» وأمثاله الذين قد يفضلون الفيلسوف على النبي كما يفضل أشباههم كابن عربي الطائي «2» صاحب الفتوحات المكية وفصوص الحكم وغيرهما فإنهم يفضلون الولي على النبيّ.

وكان يدعي أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى النبي، وإن الملك على أصلهم هو الخيال الذي في نفس النبي، والنبي بزعمهم يأخذ عن ذلك الخيال، والخيال يأخذ عن العقل، ثم زعم هذا أنه يأخذ عن العقل الذي في هذا الخيال، فلهذا قال إنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك ما يوحي به إلى النبيّ، فهؤلاء شاركوهم في أصل طريقهم لكن عظم ضلالهم وجهلهم بقدر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أن أصل معرفة هؤلاء بقدر النبوة معرفة ناقصة بتراء، بل من عرف ما جاءت به الأنبياء وما يذكرونه في قدر النبوة علم أنهم آمنوا ببعض ما جاءت به الرسل وكفروا ببعض، فكما أن اليهود والنصارى آمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض فهؤلاء آمنوا ببعض صفات النبوة وكفروا ببعض، ولهذا قد يكون فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى، وقد يكون في اليهود والنصارى من هو أكفر منهم بحسب ما آمن به كل من هؤلاء بما جاءت به الرسل وما كفروا به.

وأبو حامد كثيرا ما يسلك هذا الطريق في كتبه لكنه لا يوافق المتفلسفة على كل ما يقولونه بل يكفرهم ببعض ويضللهم في موضع، وإن كان في الكتب المضافة إليه ما قد يوافق بعض أصولهم بل في الكتب التي يقال إنها مضنون بها على غير أهلها ما هو فلسفة محضة مخالفة لدين المسلمين واليهود والنصارى، وإن كانت قد عبر عنها بعبارات إسلامية لكن هذه الكتب من الناس من يقول إنها

(1) هو شيخ الفلسفة أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ التركي الفارابي المنطقي له تصانيف مشهورة، من ابتغى الهدى منها ضلّ وحار، منها تخرّج ابن سينا، نسأل الله العافية والسلامة.

توفي سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة عن نحو من ثمانين سنة.

انظر ترجمته في السير (15/ 416) ووفيات الأعيان (5/ 153 - 157) والبداية والنهاية (11/ 224) وشذرات الذهب (2/ 350 - 354).

(2)

تقدمت ترجمته.

ص: 158

مكذوبة على أبي حامد ومنهم من يقول بل رجع عنها، ولا ريب أنه صرح في مواضع ببعض ما قاله في هذه الكتب وأخبر في المنقذ من الضلال وغيره من كتبه بما في ذلك من الضلال، وذكر كيف كان طلبه للعلوم أولا حتى قال: أقبلت بحد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها فانتهى بي طول التسلسل إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا.

وأخذ يتبع الشك فيها وذكر بعض شبه السوفسطائية في الحسيات إلى أن قال: فلما خطر لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجا فلم يتيسر إذ لم يمكن دفعه إلا بدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية وإذا لم تكن مسلمة لم يمكن ترتيب الدليل فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين أنا فيها على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم المنطق والمقال حتى شفى الله تعالى عني ذلك المرض والإعلال وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على إيمان ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، قال: فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة، إلى أن قال:

والمقصود من هذه الحكاية أن يعلم أنه كمل الجد في الطلب حتى انتهى إلى طلب ما لا يطلب لأن الأوليات ليست مطلوبة فإنها حاضرة والحاضر إذا طلب بعد واختفى.

قال: ولما كفاني الله تعالى هذا المرض انحصرت أصناف الطالبين عندي في أربع فرق:

المتكلمون: وهم يدعون أنهم أهل الرأي والنظر.

والباطنية: وهم يدعون أنهم أصحاب التعليم والمخصصون بالاقتباس من الإمام المعصوم.

الفلاسفة: وهم يزعمون أنهم أصحاب المنطق والبرهان.

والصوفية: وهم يدعون أنهم خاصة الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة.

فقلت في نفسي: الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة فهؤلاء السالكون سبيل طلب الحق فإن شذ الحق عنهم فلا يبقى في درك الحق مطمع.

إلى أن قال: فابتدأت لسلوك هذه الطرق واستقصاء ما عند هؤلاء الفرق مبتدئا بعلم الكلام، ومثنيا بطريق الفلسفة، ومثلثا بتعليمات الباطنية، ومربعا بطريق الصوفية.

ص: 159

قال: ثم إني ابتدأت بعلم الكلام فحصلته وعقلته وطالعت كتب المحققين منهم وصنفت فيه ما أردت أن أصنف فصادفته علما وافيا بمقصوده غير واف بمقصودي، وإنما المقصود منه حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش المبتدعة فقد ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عقيدة هي الحق على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كما نطق بمقدماته القرآن والأخبار ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورا مخالفة للسنة فلهجوا بها وكادوا يشوشون عقيدة أهل الحق على أهلها.

فأنشأ الله تعالى طائفة من المتكلمين وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدع المحدثة على خلاف السنة المأثورة.

إلى أن قال: وكان أكثر حرصهم في استخراج مناقضات الخصوم ومؤاخذاتهم بلوازمهم ومسلّماتهم.

إلى أن قال: فلم يكن الكلام في حقي كافيا ولا لدائي الذي أشكوه شافيا.

إلى أن قال: فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق ولا أبعد أن يكون قد حصل ذلك لغيري بل لا أشك في حصول ذلك لطائفة ولكن حصولا مشوبا بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات.

إلى أن قال: ثم إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة وعلمت يقينا أنه لا يقف على فساد نوع من المعلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوي أعلمهم في أصل العلم ثم يزيد عليه ويجاوز درجته فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة.

إلى أن قال: لم أزل حتى اطلعت على ما فيه من خداع وتلبيس وتحقيق تخييل اطلاعا لم أشك فيه، فاستمع الآن حكايته وحكاية حاصل علومهم فإني رأيتهم أصنافا ورأيت علومهم أقساما، وهم على كثرة أصنافهم تلزمهم وصمة الكفر والإلحاد وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين وبين الأواخر منهم والأوائل تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه.

ثم قال: اعلم أنهم على كثرة فرقهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: الدهريون والطبائعيون والإلهيون «1» .

الصنف الأول الدهريون: وهم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبر للعالم القادر وزعموا أن العالم، ولم يزل موجودا كذلك، ولم يزل الحيوان من

(1) انظر الملل والنحل للشهرستاني (ص 510 - 544).

ص: 160

نطفة والنطفة من حيوان كذلك كان وكذلك يكون أبدا وهؤلاء الزنادقة.

الصنف الثاني: الطبيعيون: وهم قوم أكثر بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائب الحيوان والنبات.

إلى أن قال: إلا أن هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة ظهر عندهم لاعتدال المزاج تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان به فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضا وأنها تبطل ببطلان مزاجه فتنعدم ثم إذا انعدمت فلا تعقل إعادة المعدوم كما زعموا فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود فجحدوا الآخرة وأنكروا الجنة والنار والقيامة والحساب فلم يبق عندهم للطاعة ثواب ولا للمعصية عقاب، فانحل عنهم اللجام وانهمكوا في الشهوات انهماك الأنعام.

وهؤلاء أيضا زنادقة لأن أصل الإيمان هو الإيمان بالله واليوم الآخر وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر، وإن آمنوا بالله تعالى وصفاته.

والصنف الثالث الإلهيون: وهم المتأخرون مثل سقراط وهو أستاذ أفلاطون، وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس، وأرسطاطاليس هو الذي رتب لهم المنطق وهذب لهم العلوم وخمر لهم ما لم يكن مخمرا من قبل، وأوضح لهم ما كان أحجى من علومهم، وهم بجملتهم ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم وكفى الله المؤمنين القتال بقتالهم، ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبله من الإلهيين ردّا لم يقصر فيه حتى تبرأ عن جميعهم إلا أنه استبقى أيضا من رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزوع عنها فوجب تكفيرهم وتكفير متبعيهم من المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهما، على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين وما نقله غيرهما ليس يخلو عن تخبيط وتخليط يتشوش فيه قلب المطالع حتى لا يفهم ومن لا يفهم كيف يرد أو يقبل.

ومجموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس بحسب نقل هذين الرجلين ينحصر في أقسام: قسم يجب التكفير به، وقسم يجب التبديع به، وقسم لا يجب إنكاره أصلا فلنفصله

ثم ذكر أنها ستة أقسام: رياضية ومنطقية وطبيعية وإلاهية وسياسية وخلقية وتكلم على ذلك بما ليس هذا موضعه.

وقد بينا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.

إلى أن قال: ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهيمه وتزييف ما تزيف منه علمت أن ذلك أيضا غير واف بكمال الغرض فإن العقل ليس مستقلّا

ص: 161

بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفا للغطاء عن جميع المعضلات.

ثم ذكر مذهب الباطنية وتلبيسهم وأنه ليس معهم شيء من الشفاء المنجي من ظلمات الآراء ثم هم مع عجزهم عن إقامة البرهان عن تعيين الإمام المعصوم صدقناهم في الحاجة إلى التعليم وإلى المعلم المعصوم وأنه هو الذي عينوه.

ثم سألناهم عن العلم الذي تعلموه من هذا المعصوم وعرضنا عليهم إشكالات فلم يفهموها فضلا عن القيام بحلها، فلما عجزوا أحالوا على الإمام الغائب، وقالوا لا بد من السفر إليه، والعجب أنهم ضيعوا عمرهم في طلب المعلم والنجاح في الظفر به، ولم يتعلموا منه شيئا أصلا كالمتضمخ بالنجاسة يتعب في طلب الماء فإذا وجد ما يستعمله بقي مضمخا بالنجاسة.

ومنهم من ادعى شيئا من علمهم، وكان حاصل ما ذكره من ركيك فلسفة فيثاغورس وهو رجل من قدماء الأوائل ومذهبه أول مذاهب الفلاسفة وقد رد عليه أرسطاطاليس بل استدرك كلامه واسترذله وهو المحكي في كتاب رسائل إخوان الصفا وهو على التحقيق حشو الفلسفة.

فالعجب ممن يتعب طول العمر في طلب العلم ثم يتبع لمثل ذلك العلم الركيك المستغث ويظن أنه ظفر بأقصى مقاصد العلوم فهؤلاء أيضا جربناهم وسبرنا باطنهم وظاهرهم، فرجع حاصلهم إلى استدراج العوام وضعفاء العقول ببيان الحاجة إلى المعلم ومجادلتهم في إنكارهم الحاجة إلى التعليم بكلام قوي مفحم، حتى إذا ساعدهم على الحاجة إلى المعلم ساعد، وقال: هات علمه وأفدنا من تعليمه، وقف فقال: الآن إذا سلمت لي هذا فاطلبه فإنما غرضي هذا القدر فقط، إذ علم أنه لو زاد على ذلك لافتضح ولعجز عن حل أدنى المشكلات بل عجز عن فهمه فضلا عن جوابه.

ثم قال: ثم إني لما فرغت من هذه أقبلت بهمتي على طريق الصوفية وعلمت أن طريقهم إنما يتم بعلم وعمل وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله، وكان العلم أيسر عليّ من العمل فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي وكتب الحارث المحاسبي والمتفرقات المنثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي قدس الله أرواحهم وغير ذلك من كلام المشايخ، حتى اطلعت على كثير من مقاصدهم العلمية وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع، وظهر لي أن أخص

ص: 162

خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات، وكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما وبين أن يكون صحيحا شبعان، وبين أن يعرف حد السكر وأنه عبارة عن حالة تحصل عن استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة إلى معادن الفكر وبين أن يكون سكرانا بل السكران لا يعرف حد السكر وأركانه وهو سكران وما معه من علمه شيء، والطبيب يعرف حد السكر وأركانه وما معه من السكر شيء، والطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأدويتها وهو فاقد الصحة.

فكذلك الفرق بين من يعرف حقيقة الزهد وشروطها وأسبابها وبين من هو يكون حالة الزهد عزوف النفس عن الدنيا، فعلمت يقينا أنهم أرباب أحوال لا أصحاب أقوال وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم قد حصلته.

ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالتعلم والسماع بل بالذوق والسلوك وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها، والمسالك التي سلكتها في تفتيشي عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى وبالنبوة وباليوم الآخر.

وهذه الأصول الثلاثة كانت رسخت في نفسي بلا دليل محرر بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها، وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى وكف النفس عن الهوى، وإن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا، والتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وإن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال.

وذكر حاله في خروجه عن ذلك ومجيئه إلى الشام ثم الحجاز.

إلى أن قال: وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها والقدر الذي أذكره لينتفع به أني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطرق الله تعالى الخاصة وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشريعة من العلماء ليغيروا شيئا من سيرتهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في باطنهم وظاهرهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، فليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.

إلى أن قال: وممّا بان لي بالضرورة من ممارسة طريقهم حقيقة النبوة وخاصتها.

ثم تكلم في حقيقة النبوة واضطرار كافة الخلق إليها، فقال: اعلم أن جوهر

ص: 163

الإنسان من أول الفطرة خلق خاليا ساذجا لا خبر معه من عوالم الله تعالى، والعوالم كثيرة لا يحصيها إلا الله كما قال سبحانه: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ «1» ثم ذكر ما يدركه بالحواس ثم بالتمييز ثم يترقى في طور آخر فيخلق له العقل، فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات وأمورا لا توجد في الأطوار التي قبله وراء العقل طور آخر يتفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأمور أخرى العقل معزول عنها لعزل قوة الحس عن مدركات التمييز وكما أن المميز لو عرض عليه مدركات العقل لأباه واستبعده، فكذلك بعض العقلاء أبوا مدركات النبوة فاستبعدوها، وذلك عين الجهل إذ لا مستند له إلا أنه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه، فظن أنه غير موجود في نفسه، والأكمه لو لم يعلم بالتواتر والتسامع الألوان والأشكال وحكى له ابتداء لم يفهمها ولم يقر بها، وقد قرب الله منها ذلك إلى خلقه بأن أعطاهم أنموذجا من خاصة النبوة وهو النائم إذ النائم لم يدرك ما سيكون في الغيب إما صريحا وإما في كونه مثال يكشف عنه التعبير.

وهذا لو لم يجز به الإنسان من نفسه، وقيل له إن من الناس من يسقط مغشيّا عليه كالميت ويزول إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب لأنكره ولأقام البرهان على استحالته.

وقال: القوى الحساسة أسباب الإدراك فمن لا يدرك الشيء مع وجودها وحضورها فبأن لا يدرك مع ركودها أولى.

وهذا نوع قياس يكذبه الوجود والمشاهدة فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي يحصل فيه عين أخرى يبصر بها أنواعا من المعقولات الحواس معزولة عنها فالنبوة أيضا عبارة عن طور يحصل فيه عين أخرى لها نور يظهر في نورها الغيب وأمور لا يدركها العقل، والشك في النبوة إما أن يقع في إمكانها أو في وجودها أو وقوعها أو في حصولها لشخص معين.

ودليل إمكانها وجودها، ودليل وجودها وجود معارف في العالم لا يتصور أن تنال بالعقل كعلم الطب والنجوم، فإن من بحث عنها علم بالضرورة أنها لا تدرك إلا بإلهام إلهي «2» وتوفيق من جهة الله تعالى ولا سبيل إليه بالتجربة فمن

(1) سورة المدثر، الآية:31.

(2)

الإلهام هو ما يلقى في الروع بطريق الفيض، وقيل: الإلهام ما وقع في القلب من علم وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بآية ولا نظر في حجة، وهو ليس بحجة عند العلماء إلا عند الصوفيين.

انظر التعريفات للجرجاني (ص 57).

ص: 164

الأحكام النجومية ما لا يقع إلا في كل ألف سنة مرة فكيف ينال ذلك بالتجربة، وكذلك خواص الأدوية فتبين بهذا البرهان أن في الإمكان وجود طريق لإدراك هذه الأمور التي لا يدركها العقل وهو المراد بالنبوة، لا أن النبوة عينها فقط بل إدراك هذا الجنس الخارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة وله خواص كثيرة سواها، وما ذكرناه فقطرة من بحرها، إنما ذكرناها لأن معك أنموذجا منها وهي مدركاتك في النوم ومعك علوم من جنسها في الطب والنجوم.

فأما معجزات الأنبياء فلا سبيل إليها للعقلاء ببضاعة العقل أصلا، وأما ما عداها من خواص النبوة فإنما يدركه بالذوق «1» من سلك طريق التصوف لأن هذا إنما فهمته بأنموذج رزقته وهو النوم، ولولاه ما صدقت به فإن كان للنبيّ خاصة ليس لك منها أنموذج فلا تفهمها أصلا فكيف تصدق بها، وإنما التصديق بعد التفهيم، وذلك الأنموذج يحصل في أول طريق التصوف فيحصل به نوع من الذوق بالقدر الحاصل ونوع من التصديق بما لم يحصل بالقياس إليه فهذه الخاصة الواحدة تكفيك للإيمان بأصل النبوة، فإن وقع لك الشك في شخص معين أنه نبي أم لا فلا يحصل اليقين إلا بمعرفة أحواله إما بالمشاهدة أو بالتواتر والتسامع فإنك إذا عرفت الطب والفقه يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم وسماع أقوالهم إن لم تشاهدهم.

فمعرفة كون الشافعي فقيها وكون جالينوس طبيبا معروف بالحقيقة لا بالتقليد بأن تتعلم شيئا من الطب والفقه، وتطالع كتبهما وتصانيفهما فيحصل لك علم ضروري بحالهما، وكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثر النظر في القرآن والأخبار يحصل لك العلم الضروري لكونه صلى الله عليه وسلم في أعلى درجات النبوة وأعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب، وكيف صدق في كذا وكذا، فإذا جربت ذلك في ألف وألفين وآلاف حصل لك علم ضروري لا تتمارى فيه، فمن هذا القبيل طلب اليقين بالنبوة لا من قلب العصا ثعبانا وشق القمر، فإن ذلك إذا نظرت إليه وحده ولم تنضم إليه القرائن الكثيرة الخارجة عن حد الحصر ربما ظننت أنه سحر وأنه تخييل، وأنه من الله تعالى إضلال، فإنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء.

ويرد عليك أسئلة المعجزات فإذا كان مستند إيمانك كلاما منظوما في وجه

(1) الذوق هي قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان تدرك بها الطعوم بمخالفة الرطوبة اللعابية في الفم بالمطعوم ووصولها إلى العصب. وفي مفهوم الصوفية هو نور عرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه يفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره.

انظر التعريفات للجرجاني (ص 143).

ص: 165

دلالة المعجزة ينخرم إيمانك بكلام مرتب من وجه الإشكال والشبه عليهما فليكن مثل هذه الخوارق إحدى القرائن والدلائل في جملة نظرك حتى يحصل لك علم ضروري لا يمكنك ذكر مستنده على التعيين كالذي يخبره جماعة بخبر متواتر لا يمكنه أن يقول: اليقين مستفاد من قول واحد معين بل من حيث لا يدري ولا يخرج عن جملة ذلك، ولا تتعين الآحاد فهذا هو الإيمان القوي العلمي.

وأما الذوق فهو كالمشاهدة والأخذ باليد ولا يوجد إلا في طريق الصوفية.

قال: ثم إني واظبت على العزلة والخلوة قريبا من عشر سنين وبان لي في أثناء ذلك على الضرورة من أسباب لا أحصيها وبان لي من حقيقة الذوق أن للإنسان بدنا وقلبا وأعني بالقلب حقيقة روحه التي هي محل معرفة الله تعالى دون اللحم الذي يشاركه فيه الميت والبهيمة وأن البدن له صحة بها سعادته ومرض فيه هلاكه، وأن القلب كذلك له صحة وسلامة ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم، وله مرض فيه هلاكه إن لم يتدارك كما قال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «1» .

وإن الجهل بالله سم مهلك، وإن معصية الله تعالى بمتابعة الهوى داؤه الممرض، وإن معرفة الله تعالى ترياقه المحيي، وطاعته بمخالفة الهوى دواؤه الشافي، وأنه لا سبيل إلى معالجته بإزالة مرضه وكسب صحته إلا بأدوية، كما لا سبيل إلى معالجة البدن إلا بذلك، وكما أن أدوية البدن تؤثر في كسب الصحة بخاصية فيها لا تدركها العقلاء ببضاعة العقل بل تجب فيها تقليد الأطباء الذين أخذوها عن الأنبياء الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص الأشياء فكذلك بان لي على الضرورة أن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة الأنبياء لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص لا ببضاعة العقل، وكما أن الأدوية تركب من أخلاط مختلفة النوع والمقدار وبعضها ضعف لبعض في الوزن فلا يخلو اختلاف مقاديرها عن سر من قبل الخواص فكذلك العبادات التي هي أدوية القلوب مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار حتى أن السجود ضعف الركوع وصلاة الصبح نصف صلاة الظهر ولا يخلو عن سر من الأسرار هو من قبيل الخواص التي لا يطلع عليه إلا بنور النبوة.

لقد تحامق وتجاهل جدّا من أراد أن يستنبط بطريق العقل لها حكمة وظن أنها ذكرت على الاتفاق لا عن سر إلهي فيها يقتضيها بطريق الخاصية وكما أن في الأدوية أصولا هي أركانها وزوائد هي متمماتها لكل واحد منها خصوص تأثير في

(1) سورة البقرة، الآية:10.

ص: 166

أعمال أصولها كذلك السنن والنوافل لتكميل آثار أركان العبادات، وعلى الجملة فالأنبياء أطباء أمراض القلوب.

وأما فائدة العقل وتصرفه أن عرفنا ذلك وشهد بصدق النبوة وبعجز نفسه عن درك ما يدرك بعين النبوة وأخذنا بأيدينا وسلمنا إليها تسليم العميان إلى القائدين، وتسليم المرضى المتحيرين إلى الأطباء المشفقين.

فإلى هاهنا مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عمّا بعد ذلك إلا عن تفهيم ما يلقيه الطبيب إليه فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة في مدة الخلوة والعزلة.

ثم رأينا فتور الاعتقاد في أصل النبوة ثم في حقيقة النبوة، ثم العمل بما شرحته النبوة وتحققنا شيوع ذلك بين الخلق ونظرت إلى أسباب فتور الخلق وضعف إيمانهم بها فإذا هي أربعة:

سبب من الخائضين في علم الفلسفة، وسبب من الخائضين في طريق التصوف، وسبب من المنتسبين إلى دعوى التعليم، وسبب من معاملة المتوسمين من العلماء فيما بين الناس، فإني تتبعت مدة آحاد الخلق أسأل من يقصر منهم في متابعة الشرع وأسأله شبهته وأبحث عن عقيدته وسره، وأقول له: ما لك تقصر فيها؟

فإن كنت تؤمن بالآخرة ولست تستعد لها وتبيعها بالدنيا فهذه حماقة فإنك لا تبيع الاثنين بواحد فكيف تبيع ما لا نهاية له بأيام معدودة؟

وإن كنت لا تؤمن فأنت كافر فدبر لنفسك في طلب الإيمان وانظر ما سبب كفرك الخفي الذي هو مذهبك باطنا وهو سبب جراءتك ظاهرا، وإن كنت لا تصرح به تجملا بالإيمان وتشرفا بذكر الشرع فقائل يقول: هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه لكان العلماء أجدر بذلك، وفلان من المشهورين من الفضلاء لا يصلي وفلان يشرب الخمر وفلان يأكل الأموال من الأوقاف وأموال اليتامى وفلان يأكل أدرار السلطان ولا يحترز من الحرام، وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة وهلم جرّا، إلى أمثاله.

وقائل ثان يدعي علم التصوف فيقول: إني بلغت مبلغا ترقيت عن الحاجة إلى العبادة.

وقائل ثالث تعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل الإباحة وهم الذين ضلوا عن طريق التصوف، وقائل رابع لقي أهل التعليم ويقول: الحق مشكل والطريق إليه عسير منسد والاختلاف كثير، وليس بعض المذاهب أولى من بعض، وأدلة العقول

ص: 167

متعارضة فلا ثقة برأي أهل الرأي، والداعي إلى التعليم متحكم لا حجة له فكيف ندع اليقين بالشك.

وقائل خامس يقول: لست أفعل هذا تقليدا ولكني قرأت علم الفلسفة وأدركت حقيقة النبوة وأن حاصلها يرجع إلى المصلحة والحكمة وأن المقصود من تعبداتها ضبط عوام الخلق وتقييدهم عن التقاتل والتنازع والاسترسال في الشهوات فما أنا من العوام الجهال حتى أدخل في حجر التكليف، وإنما أنا من الحكماء أتبع الحكمة وأنا بصير بها مستغني فيها عن التقليد.

هذا منتهى من قرأ فلسفة الإلهيين منهم ويعلم ذلك من كتب ابن سينا وأبي نصر الفارابي وهؤلاء المتجملون منهم بالإسلام وربما يرى الواحد منهم يقرأ القرآن ويحضر الجماعات والصلوات ويعظم الشريعة بلسانه ولكنه مع ذلك لا يترك شرب الخمر وأنواعا من الفسق والفجور وإذا قيل له إن كانت النبوة غير صحيحة فلم تصلي؟

فربما يقول: رياضة الجسد وعادة البلد وحفظ الذرية والولد، وربما قال:

الشريعة صحيحة والنبوة حق فيقال له: فلم تشرب الخمر؟ فيقول: إنما نهي عن الخمر لأنها تورث العداوة والبغضاء وأنا بحكمتي محترز عن ذلك، وإني أقصد بها تشحيذ خاطري حتى أن ابن سينا ذكر في وصية له كتب فيها أنه عاهد الله تعالى على كذا وكذا وأن يعظم الأوضاع الشرعية ولا يقصر في العبادات الدينية ولا يشرب الخمر تلهيا بل تداويا وتشفّيا، وكان منتهى حالته في صفاء الإيمان والتزام العبادات أن يستثني شرب الخمر لغرض التشفي فهذا إيمان من يدعي الإيمان منهم وقد انخدع إلى ذكر ما رد به على أهل التعليم وأهل الإباحة.

قال: وأما من فسد إيمانه بطريق الفلسفة حتى أنكر أصل النبوة فقد ذكرنا حقيقة النبوة ووجودها بالضرورة بدليل وجود خواص الأدوية والنجوم وغيرها وإنما قدمنا هذه المقدمة لأجل ذلك، وأوردنا الدليل من خواص النجوم والطب لأنه من نفس علمهم ونحن نبين لكل عالم بفن من العلوم كالنجوم والطب والطبيعة والسحر والطلسمات مثلا من نفس علمه برهان النبوة.

وأما من أثبت النبوة بلسانه وسوى أوضاع الشرع على الحكمة فهو على التحقيق كافر بالنبوة وإنما هو مؤمن بحكيم له طالع مخصوص يقتضي طالعه أن يكون متبوعا وليس هذا من النبوة في شيء بل الإيمان بالنبوة أن يقر بإثبات طور وراء طور العقل تنفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصة، والعقل معزول عنها

ص: 168

كعزل اللمس عن إدراك الأصوات وجميع الحواس عن إدراك المعقولات فإن لم يجوز هذا فقد أقمنا البرهان على إمكانه بل على وجوده.

وأخذ يستدل بالخواص الموجودة في الطبيعيات على إمكان خواص ثابتة في الشرعيات وأن تلك إذا لم تعرف بقياس العقل فكذلك الأخرى.

قال: وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة، قال: والعجب أنا لو غيرنا العبارة إلى عبارة المنجمين لصدقوا باختلاف هذه الأوقات، فنقول: ليس يختلف الحكم والطالع بأن تكون الشمس في وسط السماء أو في الطالع أو في الغارب حتى بنوا على هذا في تسييراتهم اختلاف الصلاح وتفاوت الأعمار والآجال.

فلا فرق بين الزوال وبين كون الشمس في وسط السماء ولا بين المغرب وبين كونه في الغارب فلم يكن لتصديقه سبب إلا أن ذلك سمعه بعبارة منجم جرب كذبه مائة مرة، ولا يزال يعاود تصديقه حتى لو قال له المنجم إذا كانت الشمس في وسط السماء ونظر الكوكب الفلاني فلبست ثوبا جديدا في ذلك الوقت قتلت في ذلك الوقت، فإنه لا يلبس الثوب في ذلك الوقت وربما يقاسي فيه البرد الشديد، وربما سمعه من منجم قد جرب كذبه مرات فليت شعري من يتسع عقله لقبول هذه البدائع ويضطر إلى الاعتراف بأنها خواص معرفتها معجزة لبعض الأنبياء كيف ينكر مثل ذلك فيما يسمعه من قول نبي صادق مؤيد بالمعجزات لم يعرف قط بالكذب ولم لا يتسع لإمكان هذه الخواص في أعداد الركعات ورمي الجمار وعدد أركان الحج، وسائر تعبدات الشرع، ولم نجد بينها وبين خواص الأدوية والنجوم فرقا أصلا فإن قال: قد جربت شيئا من النجوم وشيئا من الطب فوجدت بعضه صادقا فانقدح في نفسي تصديقه وسقط عن قلبي استبعاده ونفرته.

وهذا لم أجربه فيما أعلم وجوده وتحققه وإن أقررت بإمكانه فأقول: إنك لا تقتصر على تصديق ما جربته بل سمعت أخبار المجربين وقلدتهم فاسمع أقوال الأنبياء فقد جربوه وشاهدوا الحق في جميع ما ورد به الشرع أو اسلك سبيلهم تدرك بالمشاهدة بعض ذلك على أني أقول: وإن لم تجرب فيقتضي عقلك بوجوب التصديق والاتباع قطعا.

فإنّا لو فرضنا رجلا بلغ وعقل ولم يجرب ومرض وله والد مشفق حاذق بالطب يسمع دعواه في معرفة الطب منذ عقل فعجن له والده دواء وقال: هذا يصلح لمرضك ويشفيك من سقمك، فماذا يقتضيه عقله وإن كان الدواء كريها مرّ المذاق أن يتناول أو يكذب ويقول: أنا لا أعرف مناسبة هذا الدواء لتحصيل الشفاء ولم أجربه، فلا شك أنك تستحمقه إن فعل ذلك، فكذلك يستحمقك أهل البصائر

ص: 169

في توقفك، فإن قلت فلم أعرف شفقة النبيّ ومعرفته بهذا الطب فأقول وبم عرفت شفقة أبيك فإن ذلك أمر ليس محسوسا بل عرفتها بقرائن أحواله وشواهد أعماله في موارده ومصادره علما ضروريّا لا يتمارى فيه.

ومن نظر في أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ورد من الأخبار في اهتمامه بإرشاد الخلق وتلطفه في حق الناس بأنواع اللين واللطف إلى تحسين الأخلاق وإصلاح ذات البين، وبالجملة إلى ما يصلح به دينهم ودنياهم حصل له علم ضروري بأن شفقته على أمته أعظم من شفقة الوالد على ولده، وإذا نظر إلى عجائب ما ظهر عليه من الأفعال وإلى عجائب الغيب التي أخبر عنها في القرآن على لسانه وفي الأخبار وإلى ما ذكره في آخر الزمان وظهر ذلك كما ذكره علما ضروريّا أنه بلغ الطور الذي وراء العقل وانفتحت له العين التي ينكشف منها الغيب والخواص والأمور التي لا يدركها العقل وهذا هو منهاج يحصل العلم الضروري بصدق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتأمل في القرآن وطالع الأخبار إلى أن تعرف ذلك بالعيان، وهذا القدر يكفي في تنبيه المتفلسفة ذكرناه لشدة الحاجة إليه في هذا الزمان.

قلت: فهذه الطريق التي ذكرها أبو حامد الغزالي تفضي أيضا إلى العلم بالنبوة والتصديق بها بأكثر من القدر الذي تقر به المتفلسفة وما ذكره من المشاهدات والكشوفات التي تحصل للصوفية وأنهم يشهدون تحقيق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ونفع ما أمر به فهذا أيضا حق في كثير ممّا أخبر به وأمر به ثم إذا علم ذلك صار حجة على صدقه فيما لم يعلمه كمن سلك طريقا من العلم بفن من الفنون إذا رأى كلام متكلم في ذلك العلم ورآه يحقق ما عنده ويأتي بزيادات لا يستطيعها فإنه يعلم بما رآه من مزيد تحقيقه لما شاركه في أصل معرفته أنه أعلم منه بما وراء ذلك كمن نظر في الطب إذا رأى كلام بقراط «1» ومن نظر في النحو إذا رأى كلام الخليل «2» وسيبويه «3» ، ومن نظر في العلوم الدينية إذا رأى كلام أئمة

(1) تقدمت ترجمته.

(2)

هو الإمام صاحب العربية ومنشئ علم العروض أبو عبد الرحمن بن أحمد الفراهيدي البصري أحد الأعلام، ولد سنة مائة، وكان رأسا في لسان العرب، دينا ورعا، مانعا متواضعا، كبير الشأن، مفرط الذكاء، يقال إنه دعا الله أن يرزقه علما لا يسبق إليه ففتح له بالعروض، وله كتاب العين في اللغة. مات سنة بضع وستين ومائة.

انظر ترجمته في السير (7/ 429) والبداية والنهاية (10/ 161 - 162) ووفيات الأعيان (2/ 244 - 248) وشذرات الذهب (1/ 275 - 277).

(3)

هو إمام النحو حجة العرب أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الفارسي ثم البصري، طلب الفقه والحديث مرة ثم أقبل على العربية فبرع وساد أهل العصر، وألف منها كتابه الكبير الذي لا-

ص: 170

السلف وكذلك من سلك مسلك الزهد والعبادة إذا بلغه سير زهاد السلف وعبادتهم، ومن والى الناس وساسهم إذا رأى سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز ونحوهما، فهذا كله يبين له عظمة قدر هؤلاء وأنهم كانوا أئمة في هذه الأمور وفيما يصلح ويجب من ذلك، ويعلم كل أحد الفرق بين سيرة العمرين وسيرة الحجاج «1» ، والمختار بن أبي عبيد «2» ونحوهما بل يعلم الفرق بين سيرة بني أمية وبني العباس وبين سيرة بني بويه وبني عبيد وأمثال ذلك، كذلك يعلم الفرق بين نبينا محمد وموسى وعيسى عليهم السلام وبين مسيلمة والأسود العنسي وأمثالهما بأدنى تأمل، وهذه الطريق ينقسم الناس فيها إلى عام وخاص بسبب علمهم بالخير والشر والصدق والكذب ونحو ذلك، وهذه تفيد العلم القطعي بأن الأنبياء أكمل الخلق وأفضلهم وأنه لا يصلح لأحد أن يعارضهم برأيه ولا يخالفهم بهواه لكن لا يفيد العلم بحقيقة النبوة إلا أن يعترف أن النبي أعلم منه فلا يمكنه أن يقول هو أعلم منه فكل من حصل له من المخاطبات ومن المشاهدات ما يحصل للأولياء فإنه يعلم أن الذي للأنبياء فوق الذي له من ذلك كعمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه قد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال:«إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر» «3» .

- يدرك شأوه فيه. مات سنة ثمانين ومائة وعاش اثنين وثلاثين سنة وقيل نحو الأربعين.

انظر ترجمته في السير (8/ 351) والبداية والنهاية (1/ 176 - 177) وشذرات الذهب (1/ 252) والعبر (1/ 278، 350، 448).

(1)

هو الحجاج بن يوسف الثقفي، قال الإمام الذهبي في السير (4/ 343): أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين كهلا، وكان ظلوما جبارا ناصبا خبيثا سفاكا للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن. قد سقت من سوء سيرته في تاريخي الكبير، وحصاره لابن الزبير بالكعبة ورميه إياها بالمنجنيق، وإذلاله لأهل الحرمين، ثم ولايته على العراق والمشرق كله عشرين سنة، وحروب ابن الأشعث له، وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله، فنسبّه ولا نحبه بل نبغضه في الله فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان.

وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله، وله توحيد في الجملة ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء.

وانظر ترجمته أيضا في البداية والنهاية (9/ 117)، وتهذيب التهذيب (2/ 210) ولسان الميزان (2/ 180).

(2)

هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب، وهو كذاب ثقيف الذي ادعى أنه يعلم الغيب وأن الوحي يأتيه قبحه الله.

انظر ترجمته في السير (3/ 538) والبداية والنهاية (8/ 298) وشذرات الذهب (1/ 74، 75) وتاريخ الإسلام (2/ 377 و3/ 70).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2398) والترمذي في سننه برقم (3693) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 171

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه» «1» .

وفي الترمذي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» «2» وكان عمر بهذا يعلم أن ما يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم من الوحي والملائكة وما يخبر به من الغيب وما يأمر به وينهى عنه أمر زائد على قدره ومجاوز لطاقته بل يجد بينه وبين ذلك من التفاوت ما يعجز القلب واللسان عن معرفته وتبيانه بل كان عمر بما حصل له من المكاشفة «3» والمخاطبة يعلم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أكمل منه معرفة ويقينا وأتم صدقا وأخلاقا وأعلم منه بقدر الرسول صلى الله عليه وسلم فكان خضوع عمر هذا الذي هو أفضل الأولياء المحدثين الملهمين المخاطبين لأبي بكر الصديق كخضوع من رأى غيره من مشاركيه في فنه أكمل منه، كخضوع الأخفش «4» لسيبويه «5» وزفر «6» لأبي حنيفة «7»

(1) أخرجه الترمذي في سننه برقم (3947) وأحمد في المسند برقم (5145 و5697) وعبد بن حميد في المنتخب برقم (857) والطبراني في الأوسط برقم (291) والبغوي في شرح السنة برقم (3875) وابن حبان في صحيحه برقم (6895) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

والحديث صححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (2908).

(2)

لم أجده بهذا اللفظ، وإنما أخرجه الترمذي في سننه برقم (3951) وأحمد في المسند (4/ 154) والطبراني في معجمه الكبير (17/ 257) والحاكم في المستدرك (3/ 85) والقطيعي في الفوائد المنتقاة (17/ 1 - 2) والروياني في مسنده (50/ 1) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان نبي بعدي لكان عمر بن الخطاب» .

والحديث حسنه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (2909) وفي الصحيحة برقم (327).

(3)

الكشف في اللغة رفع الحجاب، وفي الاصطلاح عند الصوفية هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا.

انظر التعريفات للجرجاني (ص 235).

(4)

هو العلامة النحوي أبو الحسن علي بن سليمان بن الفضل البغدادي، لازم ثعلبا والمبرّد، وبرع في العربية. توفي في شعبان سنة خمس عشرة وثلاث مائة.

انظر ترجمته في السير (14/ 480) والبداية والنهاية (11/ 157) والمنتظم (6/ 214 - 215) ومعجم الأدباء (13/ 246 - 257) وشذرات الذهب (2/ 270).

(5)

تقدمت ترجمته.

(6)

هو الفقيه المجتهد الرباني العلامة زفر بن الهذيل بن قيس بن سلم العنبري، ولد سنة عشر ومائة وتفقه على أبي حنيفة وهو أكبر تلامذته وكان ممن جمع بين العلم والعمل وكان يدري الحديث ويتقنه. مات سنة ثمان وخمسين ومائة.

انظر ترجمته في السير (8/ 38) والطبقات (6/ 387 - 388) وشذرات الذهب (1/ 243) ولسان الميزان (2/ 476 - 478).

(7)

هو الإمام العلامة فقيه الملة عالم العراق أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي التيمي الكوفي،-

ص: 172

وابن وهب «1» لمالك ونحو ذلك، أو خضوع فقهاء المدينة لسعيد بن المسيب «2» وعلماء البصرة للحسن البصري «3» وفقهاء مكة لعطاء بن أبي رباح «4» .

وإذا كان هذا مثل عمر مع أبي بكر لأن أبا بكر صديق يأخذ ما يأخذه عن الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي قد عصم أن يستقر فيما جاء به خطأ، فهو لخبرته بحال صديق النبيّ بهذه المثابة، وكل من كان عالما بالصحابة يعلم أن عمر رضي الله عنه كان متأدبا معظما بقلبه لأبي بكر رضي الله عنه مشاهدا أنه أعلى منه إيمانا ويقينا فكيف يكون حال عمر وغيره مع النبيّ صلى الله عليه وسلم.

- ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة، وعني بطلب الآثار وارتحل في ذلك، وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه فإليه المنتهى والناس عليه عيال في ذلك، توفي في سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة.

انظر ترجمته في السير (6/ 390) وتاريخ بغداد (13/ 323) والبداية والنهاية (10/ 107) وتذكرة الحفاظ (1/ 168) وشذرات الذهب (1/ 227 - 229) وميزان الاعتدال (4/ 265).

(1)

هو عبد الله بن وهب بن مسلم الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبو محمد الفهري مولاهم المصري، ولد سنة خمس وعشرين ومائة، وطلب العلم في صغره وكان من أوعية العلم ومن كنوز العمل، وحدث عنه خلق كثير وانتشر علمه وبعد صيته. توفي في شعبان سنة سبع وتسعين ومائة.

انظر ترجمته في السير (9/ 223) والعبر (1/ 322) وميزان الاعتدال (2/ 521) وشذرات الذهب (1/ 347) والطبقات (7/ 518).

(2)

هو الإمام العلم سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة أبو محمد القرشي المخزومي عالم أهل المدينة وسيد التابعين في زمانه، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه، رأى عمر وسمع عثمان وعليّا وزيد بن ثابت وأبا موسى وسعدا وعائشة وأبا هريرة وابن عباس وأم سلمة وخلقا كثيرا، وروى عنه خلق كثير، وكان ممن برز في العلم والعمل توفي سنة ثلاث وتسعين.

انظر ترجمته في السير (4/ 217) وتهذيب الكمال (ص 505) وتذكرة الحفاظ (1/ 51) والبداية والنهاية (9/ 99) وتهذيب التهذيب (4/ 84) وشذرات الذهب (1/ 102).

(3)

هو الإمام الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد البصري مولى زيد بن ثابت الأنصاري ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر وكان سيد أهل زمانه علما وعملا مات في أول رجب سنة عشر ومائة.

انظر ترجمته في السير (4/ 563) والطبقات (7/ 156) والبداية والنهاية (9/ 266) وتاريخ الإسلام (4/ 98) وتهذيب الكمال (ص 256) وتهذيب التهذيب (2/ 263).

(4)

هو الإمام شيخ الإسلام مفتي الحرم عطاء بن أبي رباح أبو محمد القرشي مولاهم المكي، ولد في أثناء خلافة عثمان وحدث عن جمّ غفير من الصحابة منهم عائشة وأم سلمة وابن عباس رضي الله عنهم، مات سنة أربع عشرة ومائة.

انظر ترجمته في السير (5/ 78) والطبقات (5/ 467) وتهذيب الكمال (ص 938) والبداية والنهاية (9/ 306) وشذرات الذهب (1/ 147).

ص: 173

وإذا كان هذا حال أفضل المحدثين المخاطبين فكيف حال سائرهم، ولا ريب أن الرجل كلما عظمت ولايته وعظم نصيبه من انكشاف الحقائق له كان تعظيمه للنبوة أعظم، والناس في هذه الطريق متفاوتون بحسب درجاتهم لكن طريق الصوفية لا ينهض بانكشاف جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بل ولا بأكثره، بل عامة ما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أبو بكر وعمر فضلا عن غيرهما أن يعلمه بدون خبره، وإن كان عند المخبرين علم بجمل ذلك أو أصله لكن ما يخبر به من التفصيل لا يعلم بدون خبره أصلا، وما يوجد في كلام أبي حامد وغيره من أن الكشف يحصل ذلك، وقول القائل أن الأولياء شاهدوا الحق في جميع ما ورد به الشرع ليس بسديد، بل لا يزال الأولياء مع الأنبياء في إيمان بالغيب ولا يتصور أن الولي يعطى ما أعطيه النبيّ من المشاهدة والمخالطة.

وأفضل الأولياء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم، وليس في هؤلاء من شاهد ما شاهده النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ولا شاهد الملائكة الذين كانوا ينزلون بالوحي على النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا سمع أحد منهم كلام الله الذي كلم به نبيه ليلة المعراج ولا سمع عامة الأنبياء فضلا عن الأولياء كلام الله كما سمعه موسى بن عمران عليه السلام، ولا كلم الله تكليما، لداود وسليمان بل ولا إبراهيم ولا عيسى فضلا عن أن يكون يحصل لأحد من الأولياء، والإيمان بكل ما جاء به الأنبياء واجب فإنهم معصومون ولا يجب الإيمان بكل ما يقوله الولي بل ولا يجوز فإنه ما من أحد من الناس إلا يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سب نبيّا من الأنبياء قتل وكان كافرا مرتدا بخلاف الولي، قال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)«1» .

وقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «2» وقال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)«3» .

فإن قيل ففي قراءة ابن عباس «ولا محدث» قيل: هذه القراءة ليست متواترة

(1) سورة البقرة، الآية:136.

(2)

سورة البقرة، الآية:285.

(3)

سورة الحج، الآية:52.

ص: 174

ولا معلومة الصحة، ولا يجوز الاحتجاج بها في أصول الدين، وإن كانت صحيحة فالمعنى أن المحدث كان فيمن كان قبلنا، وكانوا يحتاجون إليه وكان ينسخ ما يلقيه الشيطان إليه كذلك وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تحتاج إلى غير محمد صلى الله عليه وسلم.

ولهذا كانت الأمم قبلنا لا يكفيهم نبي واحد بل يحيلهم هذا النبيّ في بعض الأمور على النبيّ الآخر، وكانوا يحتاجون إلى عدد من الأنبياء، ويحتاجون إلى المحدث، وأمة محمد أغناهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم وعن غيره من الأنبياء والرسل فكيف لا يغنيهم عن المحدث، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» «1» فعلق ذلك ب «إن» ولا يجزم به، لأنه علم استغناء أمته عن محدث كما استغنت عن غيره من الأنبياء، سواء كان فيها محدث أو لا، أو كان ذلك لكمالها برسولها الذي هو أكمل الرسل وأجملهم، وهؤلاء كبعض في أمته عن الأمم قبلهم.

وقد وقع في كلام أبي حامد وغيره نحو من هذا في مواضع أخر حتى ذكر فيما يتأول وما لا يتأول أن ذلك لا يعلم إلا بتوفيق إلهي يشاهد به الحقائق على ما هي عليه ثم ينظر في السمع والألفاظ الواردة فيه فما وافق مشهوده أقره وما خالفه تأوله، وذكر في موضع آخر أن الواحد من الأولياء قد يسمع كلام الله سبحانه كما سمعه موسى بن عمران وأمثال هذه الأمور، ولهذا تبين له في آخر عمره إن طريق الصوفية لا تحصل مقصوده فطلب الهدى من طريق الآثار النبوية وأخذ يشتغل بالبخاري ومسلم، ومات في أثناء ذلك على أحسن أحواله وكان كارها ما وقع في كتبه من نحو هذه الأمور ممّا أنكره الناس عليه، حتى قال المازري وغيره ما معناه:

إن كلامه يؤثر في الإيمان بالنبوة فينقص قدرها أو نحو هذا، وكذلك ما ذكره من أن النبوة انفتاح قوة أخرى فوق العقل.

ولا ريب أن هذا ممّا يكون للنبيّ، وليست النبوة قوة تدرك بها الأمور وإنما يشبه هذا أصول الفلاسفة الذين يزعمون أن الفيض دائم من العقل الفعال وإنما يحصل في القلوب بسبب استعداد الأشخاص، فأي عبد كان استعداده أتم كان الفيض عليه أتم من غير أن يكون من الملأ الأعلى سبب يخص شخصا دون شخص بالخطاب والتكليم.

وليس هذا مذهب المسلمين بل ولا اليهود ولا النصارى بل هؤلاء كلهم إلا من ألحد منهم متفقون على أن الله سبحانه خصص موسى بالتكليم دون هارون

(1) تقدم تخريجه.

ص: 175

وغيره، وإنه يخص بالنبوة من يشاء من عباده لا أنه بمجرد استعداده يفيض عليه العلوم من غير تخصيص إلهي.

وهنا صار الناس ثلاث أصناف: صنف يقولون: ليست النبوة إلا مجرد إنباء الله تعالى للعبد وهو تعلق كلامه كما يقولون: إن الأحكام الشرعية ليست إلا مجرد خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين من غير أن يكون للفعل في نفسه صفة اقتضت تخصيصه بالحكم.

وكذلك يقول هؤلاء: ليس للنبي في نفسه صفة اقتضت تخصيصه بالنبوة وهذا يقوله طوائف من متكلمة أهل الإثبات القدريين أصحاب جهم وأبي الحسن وغيرهما الذين يخالفون المعتزلة والفلاسفة فيما يقولونه في فعل الرب وحكمه إذ المتفلسفة يقولون بالطبع والعلة الموجبة، والمعتزلة يقولون بالاختيار المتضمن لشريعة عقلية ألزموه بها في التعديل والتجوير ونحو ذلك، والمنتسبون إلى السنة والجماعة من الكلابية والأشعرية والكرامية وسائر المنتسبين إلى السنة والجماعة يردون عليهم الأصول التي فارقوا بها أهل السنة والجماعة بالتكذيب من القدر والصفات وتخليد أهل الكبائر كما يردون على المتفلسفة ما فارقوا به المسلمين لكن لهؤلاء في مسائل الحكمة والمصالح وتعليل الأفعال والأحكام وهل للأفعال صفات يدرك بها حسنها وقبحها؟ نزاع ليس هذا موضع تفصيله، إنما نذكره مجملا، ومعلوم أن الإنباء والإرسال من باب كلام الله تعالى، وكذلك الأمر والنهي هو من باب كلام الله تعالى، والأمر متعلق بالفعل، والإرسال والإنباء متعلق بالرسول والنبيّ وللناس في هذا وهذا ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه ليس ذلك إلا مجرد كلام الله تعالى المتعلق بذلك، أو تعلق الخطاب بذلك وهو من الصفات النسبية الإضافية عندهم، قالوا: لأنه ليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية وهذا قول هؤلاء.

والقول الثاني: أن ذلك يعود إلى صفة قائمة بالنبيّ وبالفعل.

والقول الثالث: أن ذلك يتضمن الأمرين فالحكم الشرعي يتضمن خطاب الشارع وصفة قائمة بالفعل، والنبوة تتضمن خطاب الرب لتضمن صفة قائمة بالنبيّ أيضا، وهذا معنى قول السلف والأئمة وجمهور المسلمين والفلاسفة والمعتزلة أيضا يثبتون فيه أيضا حسن الفعل وقبحه إلى صفة فيه توجب الحمد والذم، وخطاب الشارع كاشف لها لا مثبت لها والمتفلسفة عندهم يعود ذلك إلى صفة في الفعل توجب كمال النفس أو نقصها، ولذلك يقولون: إن النبوة هي كمال للنفس الناطقة تستعد به لأن تفيض عليها المعارف من العقل الفعال من غير أن يكون هناك

ص: 176

خطاب حقيقي لله تعالى، ولكن كلام الله سبحانه عندهم ما يحدث في نفس النبيّ من أصوات يسمعها في نفسه لا خارجا عن نفسه، والملائكة عبارة عن أشكال نورانية يراها تكون في نفسه لا خارجا عن نفسه كما يرى النائم في منامه صورا يخاطبها وكلاما يسمعه وذلك في نفسه، ولهذا جعل أبو حامد هذا طريقا لهم في إثبات النبوة كما سلك ابن سينا وغيره، ولا ريب أن كل ما يقر به من مقر من الحق فإن أهل الإيمان يقرون به لكن يعلمون أشياء فوق ذلك لا يعلمها أهل الباطل فما علمته المتفلسفة من هذه الأمور لا ينكرها أهل الإيمان لكن ينكرون عليهم اقتصارهم في التصديق عليها.

وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في جواب المسألة الخراسانية التي سئلت فيها عن ما يتعلق بالقرآن العظيم وكلام الله سبحانه وتعالى وذكرت مراتب تكليم الله تعالى لخلقه، وأنها درجات وأن المتفلسفة أقروا ببعض الدرجات دون بعض بل لعلهم لم يتجاوزوا أدنى الدرجات وهي درجات الإلهام وما يناسبه وما أعطوا هذه الدرجة حقها، وأما المعتزلة فهم خير منهم فإنهم يقرون بما أخبر به القرآن عن أصناف الملائكة وأوصافهم لكنهم مع هذا لا يقرون بأن لله كلاما قائما به فحقيقة مذهبهم أن الله سبحانه لا يتكلم إنما يخلق كلاما في غيره ولما ابتدعت الجهمية هذه المقالة كانوا يقولون: إن الله تعالى لا يتكلم أو يتكلم مجازا.

لكن المعتزلة امتنعت من هذا الإطلاق وقالوا: إنه متكلم أو يتكلم حقيقة لكنهم فسروا ذلك بأنه خلق كلاما في غيره فلم ينازعوا قدماء الجهمية في حقيقة المذهب وإنما نازعوهم في اللفظ.

والسلف والأئمة لما عرفوا حقيقة مذهبهم عرفوا أن هذا كفر وأن هذا في الحقيقة تعطيل للرسالة وأنه يمتنع أن يكون متكلم بكلام لا يقوم به بل بغيره، كما يمتنع أن يكون عالما بعلم لا يقوم به بل بغيره، وأن يكون قادرا بقدرة لا تقوم به بل بغيره، وأنه لو كان كذلك لكان ما يخلقه من الكلام في مخلوقاته كلاما له.

وقد قال تعالى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ «1» ، وقال عز وجل: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)«2» ، بل لما ثبت أن الله خالق كل شيء فيجب أن يكون على قولهم كل كلام في الوجود كلامه وقد أفصح بذلك الاتحادية الذين يقولون:

(1) سورة فصلت، الآية:21.

(2)

سورة يس، الآية:65.

ص: 177

الوجود واحد كابن عربي صاحب الفصوص ونحوه وقالوا:

وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه ومذهبهم منتهى مذهب الجهمية، وهو في الحقيقة تعطيل الخالق والقول بأن هذا الوجود هو الوجود الواجب كما ذكر ذلك أبو حامد عن دهرية الفلاسفة فإن قول هؤلاء هو قول أولئك وهو قول فرعون الذي أظهره، لكن فرعون وغيره من الدهرية لا يقولون: هذا الوجود هو الله، وهؤلاء بجهلهم يقولون: إن الوجود هو الله، وقد أضلوا طوائف من الشيوخ الذين لهم عبادة وزهادة حتى أنه كان في بيت المقدس رجل من أعبد الناس وأزهدهم وكان طوال ليله يقول: الوجود واحد وهو الله ولا أرى الواحد ولا أرى الله، وهؤلاء سلكوا في كثير من أصولهم ما ذكره أبو حامد الغزالي وبنوا على ما في كتابه المضنون به وغيره من أصول الفلاسفة المكسوة عبادة الصوفية فالأمور التي أنكرها عليه علماء المسلمين ما عليها هؤلاء حتى جعل ابن سبعين الناس خمس طبقات أدناها الفقيه ثم المتكلم ثم الأشعري ثم الفيلسوف ثم الصوفي ثم الخامس هو المحقق، وهؤلاء يجعلون ما أشار إليه أبو حامد من الكشف هو ما حصل لهم وإنه لتعبده بالشريعة، لم يصل إلى القول بوحدة الوجود، وهم ينتقصونه بما يحمده عليه المسلمون من الأقوال التي اعتصم فيها بالكتاب والسنة وبالأقوال التي يعلم صحتها بصريح العقل، ويرون أن ذلك هو الذي حجبه عن أن يشهد حقيقتهم التي هي وحدة الوجود، وإنما طمعوا فيه هذا الطمع لما وجدوه في الكلام المضاف إليه ممّا يوافق أصول الجهمية المتفلسفة ونحوهم.

والمقصود هنا: أن المعتزلة خير من المتفلسفة حيث يثبتون لله كلاما منفصلا ويقولون: إن الرسالة والنبوة تتضمن نزول كلام لله تعالى منفصلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ينزل عليه كما يقول سائر المسلمين، ثم قد يقول من يقول من المعتزلة: أن النبوة جزاء على عمل متقدم وأن النبيّ لما قام بواجبات عقلية أكرمه الله تعالى عليها بالنبوة مع كون النبيّ متميزا بصفات خصه الله تعالى بها وهذا القول موافق في الجملة قول أكثر الناس وهو أن النبوة والرسالة تتضمن كلام الله سبحانه الذي ينزل على رسوله ونبيه وأنه مع ذلك مختص بصفات اختصه الله تعالى بها دون غيره من الأنبياء وأنه لا يكون النبيّ والرسول كسائر الناس في العقل والخلق وغير ذلك، بل هو متميز عن الناس بذلك، والنبوة فضل الله يؤتيه من يشاء لكن مع ذلك الله أعلم حيث يجعل رسالته.

وما ذكره أبو حامد فيه من تقرير النبوة في الجملة على الأصول التي يسلمها

ص: 178

المتفلسفة ويعرفونها ما ينتفع به من كان متفلسفا محضا فإن ذلك يوجب أن يدخل في الإسلام نوع دخول وكلام أبي حامد في هذا ونحوه يصلح أن يكون برزخا بين المتفلسفة وبين أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، فالمتفلسفة تنتفع به حيث يصير عندهم من الإيمان والعلم ما لا يحصل لهم بمجرد الفلسفة.

وأما من كان مسلما يريد أن يستكمل العلم والإيمان فإن ذلك يضره من وجه ويرده عن كثير من كمال الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وإن كان ينفعه من حيث يحول بينه وبين الفلسفة المحضة إلا أن يكون حسن الظن بالفلسفة دون أصول الإسلام فإنه يخرجه إلى الإلحاد المحض كما أصاب ابن عربي الطائي وابن سبعين وأمثالهما، وقد أخبر هو بما حصل له من السفسطة وأنه انحصرت فرق الطالبين عنده في أربع فرق: المتكلمين والباطنية والفلاسفة والصوفية.

ومعلوم أن هذه الفرق كلها حادث بعد عصر الصحابة بل وبعد عصر التابعين بل إنما ظهرت وانتشرت بعد القرون الثلاثة الصحابة والتابعين وتابعيهم، ثم الفلاسفة والباطنية هم كفار كفرهم ظاهر عند المسلمين كما ذكر هو وغيره، وكفرهم ظاهر عند أقل من له علم وإيمان من المسلمين إذا عرفوا حقيقة قولهم لكن لا يعرف كفرهم من لم يعرف حقيقة قولهم، وقد يكون قد تشبث ببعض أقوالهم من لم يعلم أنه كفر فيكون معذورا لجهله، ولكن في المتكلمين والصوفية ممن له علم وإيمان طوائف كثيرون بل فيمن بعد الصوفية مثل الفضيل بن عياض «1» وأبي سليمان الداراني «2» وإبراهيم بن أدهم «3» ومعروف الكرخي «4» وأمثالهم ممن

(1) هو الإمام القدوة الثبت شيخ الإسلام أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي اليربوعي الخراساني المجاور بحرم الله تعالى. ولد بسمرقند ورحل في طلب العلم فتعلم وعلّم وكان من الزهاد العابدين. انظر ترجمته في السير (8/ 421) والتاريخ الكبير (7/ 123) وتهذيب التهذيب (3/ 141/ 2) وتذكرة الحفاظ (1/ 245) وشذرات الذهب (1/ 361).

(2)

هو الإمام زاهد العصر أبو سليمان عبد الرحمن بن أحمد العنسي الداراني ولد في حدود الأربعين ومائة وتوفي سنة خمس عشرة ومائتين.

انظر ترجمته في السير (10/ 182) والبداية والنهاية (10/ 255) ووفيات الأعيان (3/ 131) وتاريخ بغداد (10/ 248 - 250) وشذرات الذهب (2/ 13).

(3)

هو الإمام القدوة العارف سيد الزهاد إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر أبو إسحاق العجلي وقيل التميمي الخراساني البلخي نزيل الشام. ولد في حدود المائة وطلب العلم وسمع من كثير من العلماء. توفي سنة اثنتين وستين ومائة.

انظر ترجمته في السير (7/ 387) وشذرات الذهب (1/ 255 - 256) وتهذيب التهذيب (1/ 102 - 103) وحلية الأولياء (7/ 367).

(4)

هو علم الزهاد معروف الكرخي أبو محفوظ البغدادي مات سنة مائتين رحمه الله تعالى.-

ص: 179

هو من خيار المسلمين وساداتهم عند المسلمين وفي عصرهم حدث اسم الصوفية وظهر الكلام أيضا.

وكلام سلف الأمة والأئمة في ذم البدع الكلامية في العلم والبدع المحدثة في طريقة الزهد والعبادة مشهور كثير مستفيض، ولم يتنازع أهل العلم والإيمان فيما استفاض عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من قوله:«خير القرون قرني، الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» «1» وكل من له لسان صدق من مشهور بعلم أو دين معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة، وأن المتبع لهم أفضل من غير المتبع لهم ولم يكن في زمنهم أحد من هذه الصنوف الأربعة ولا تجد إماما في العلم والدين كمالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ومثل الفضيل بن عياض وأبي سليمان ومعروف الكرخي وأمثالهم إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين فيه بعلم الصحابة وهم يرون أن الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضل والمناقب، والذين اتبعوهم من أهل الآثار النبوية وهم أهل الحديث والسنة العالمون بطريقهم المتبعون لها وهم أهل العلم بالكتاب والسنة في كل عصر ومصر.

فهؤلاء الذين هم أفضل الخلق من الأولين والآخرين لم يذكرهم أبو حامد وذلك لأن هؤلاء لا يعرف طريقهم إلا من كان خبيرا بمعاني القرآن خبيرا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيرا بآثار الصحابة فقيها في ذلك عاملا بذلك، وهؤلاء هم أفضل الخلق من المنتسبين إلى العلم والعبادة، وأبو حامد لم ينشأ بين من كان يعرف طريقة هؤلاء ولا تلقى عن هذه الطبقة ولا كان خبيرا بطريقة الصحابة والتابعين بل كان يقول عن نفسه أنه مزجي البضاعة في الحديث ولهذا يوجد في كتبه من الأحاديث الموضوعة والحكايات الموضوعة ما لا يعتمد عليه من له علم بالآثار، ولكن نفعه الله تعالى بما وجده في كتب الصوفية والفقهاء من ذلك كتاب أبي طالب «2» ورسالة القشيري «3» وغير ذلك،

- انظر ترجمته في السير (9/ 339) وتاريخ بغداد (13/ 199) وطبقات الحنابلة (1/ 381) ووفيات الأعيان (5/ 231) والعبر (1/ 335) وشذرات الذهب (1/ 360).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5/ 199 و7/ 6 و11/ 460) ومسلم في صحيحه (7/ 184 - 185) وابن ماجه في سننه (2/ 63 - 64) وأحمد في المسند (1/ 378 و417 و434 و438 و442) وابن حبان في صحيحه (9/ 177) برقم (7183) والطيالسي في مسنده برقم (299) والخطيب في تاريخه (12/ 53) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم

» الحديث.

(2)

وهو كتاب قوت القلوب وفيه من المخالفات الشيء الكثير.

(3)

وهي الرسالة القشيرية وقد رد عليه المصنف رحمه الله تعالى في كتابه: الاستقامة.

ص: 180

وبما وجده في كتب أصحاب الشافعي ونحو ذلك فخيار ما يأتي به ما يأخذ من هؤلاء وهؤلاء.

ومعلوم أن طريقة أئمة الصوفية وأئمة الفقهاء أكمل من طريقة أبي القاسم القشيري ومن طريقة أبي طالب والحارث ومن طريقة أبي المعالي وأمثاله، وأولئك الأئمة كانوا أعلم بطريقة الصحابة وأتبع لها من أتباعهم، فالقاضي أبو بكر الباقلاني وأمثاله أعلم بالأصول والسنة وأتبع لها من أبي المعالي وأمثاله، والأشعري والقلانسي ونحوهما أعلى طبقة في ذلك من القاضي أبي بكر وعبد الله بن سعيد بن كلاب، والحارث المحاسبي أعلى طبقة في ذلك من هؤلاء، ومالك والأوزاعي وحماد بن زيد والليث بن سعد وأمثالهم أعلى طبقة من هؤلاء، والتابعون أعلى من هؤلاء، والصحابة أعلى من التابعين.

وكذلك أبو طالب المكي يأخذ عن شيخه ابن سالم، وابن سالم يأخذ عن سهل بن عبد الله التستري، وسهل أعلى درجة عند الناس من أبي طالب ثم الفضل وأبو سليمان وأمثالهما أعلى درجة من سهل وأمثاله، وأيوب السختياني وعبد الله بن عون ويونس بن عبيد وغيرهم من أصحاب الحسن أعلى طبقة من هؤلاء، وأويس القرني وعامر بن عبد قيس وأبو مسلم الخولاني وأمثالهم أعلى طبقة من هؤلاء، وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي وأبو الدرداء وأمثالهم أعلى طبقة من هؤلاء.

ومعلوم أن كل من سلك إلى الله جل وعز علما وعملا بطريق ليست مشروعة موافقة للكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأئمة وأئمتها فلا بد أن يقع في بدعة قولية أو عملية، فإن السائر إذا سار على غير الطريق المهيأ فلا بد أن يسلك بينات الطرق وإن كان ما يفعله الرجل من ذلك قد يكون مجتهدا فيه مخطئا مغفورا له خطؤه، وقد يكون ذنبا، وقد يكون فسقا، وقد يكون كفرا، بخلاف الطريقة المشروعة في العلم والعمل فإنها أقوم الطرق ليس فيها عوج كما قال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «1» .

وقال عبد الله بن مسعود: خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّا وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال: «هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم

(1) سورة الإسراء، الآية:9.

ص: 181

قرأ: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ «1» » «2» .

وقال الزهري: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، ولهذا قيل:«مثل السنة مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق» وهو يروى عن مالك.

ومن سلك الطرق الشرعية النبوية لم يحتج في إثباتها إلى أن يشك في إيمانه الذي كان عليه قبل البلوغ ثم يحدث نظرا يعلم به وجود الصانع، ولم يحتج إلى أن يبقى شاكّا مرتابا في كل شيء وإنما كان مثل هذا يعرض للجهم بن صفوان وأمثاله فإنهم ذكروا أنه بقي أربعين يوما لا يصلي حتى يثبت أن له ربّا يعبده، فهذه الحالة كثيرا ما تعرض للجهمية وأهل الكلام الذين ذمهم السلف والأئمة، وأما المؤمن المحض فيعرض له الوسواس فتعرض له الشكوك والشبهات وهو يدفعها عن قلبه، فإن هذا لا بد منه كما ثبت في الصحيح أن الصحابة قالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به، فقال:«أفقد وجدتموه؟» قالوا: نعم، قال:«ذلك صريح الإيمان» «3» .

وفي السنن من وجه آخر أنهم قالوا: إن أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به، فقال:«الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» «4» .

قال غير واحد من العلماء: معناه أن ما تجدونه في قلوبكم من كراهة الوساوس والنفرة عنه وبغضه ودفعه هو صريح الإيمان.

(1) سورة الأنعام، الآية:153.

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 318) وابن نصر في السنة برقم (5) وابن أبي عاصم في السنة برقم (17) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

والحديث حسنه العلامة الألباني في ظلال الجنة (ص 13).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه برقم (132) وأبو داود في سننه برقم (5111) والنسائي في عمل اليوم والليلة برقم (664) وأحمد في المسند بالأرقام (9156 و9694 و9876 و9877) وابن حبان في صحيحه برقم (148) والبيهقي في شعب الإيمان برقم (337، 338) وأبو عوانة في صحيحه (1/ 78 - 79) وابن أبي عاصم في السنة برقم (657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه برقم (5112) وأحمد في المسند برقم (2097 و3161) وعبد بن حميد في مسنده برقم (701) وابن حبان في صحيحه برقم (147) والبيهقي في شعب الإيمان برقم (341) والنسائي في عمل اليوم والليلة برقم (668) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

والحديث صححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (4264).

ص: 182

وهذا من الزبد الذي قال الله تعالى فيه: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ «1» . وهذا مذكور في غير هذا الموضع وكلام السلف والأئمة فيما أحدث من الكلام وما أحدث من الزهد مبسوط في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا: أن يعرف مراتب الناس في العلم بالنبوة ومعرفة قدرها وتعدد الطرق في ذلك وأن عامة الطرق التي سلكها الناس في ذلك هي طرق مفيدة نافعة لكن تختلف مقادير فوائدها ومنافعها، وفيها ما يضر من وجه كما ينفع من وجه، وفيها ما ينتفع به من كان عديم الإيمان أو ضعيف الإيمان فيحصل به له بعض الإيمان ويقوى إيمانه، وإن كان ذلك يضر من كان قوي الإيمان ويكون رجوعه إليه ردة في حقه بمنزلة من كان معتصما بحبل قوي وعروة وثقى لا انفصام لها فاعتاض عن ذلك بحبل ضعيف يكاد ينقطع به وهذا باب يطول وصف حال الناس فيه.

وأما ما ذكره أبو حامد من أن هذه الطريقة التي سلكها تفيد العلم الضروري بالنبوة دون طريقة المعجزات، فالإنسان خبير بما حصل له من العلم الضروري وغيره ليس هو خبير بما حصل لغيره من ذلك، وكثير من أهل النظر والكلام يقولون نقيض هذا، يقولون لا يحصل العلم بالنبوة إلا بطريقة المعجزات دون غيرها كما قال أكثر أهل الكلام ومن اتبعهم كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي والمازري وأمثال هؤلاء.

والتحقيق ما عليه أكثر الناس أن العلم بالنبوة يحصل بطرق متعدد:

المعجزات وغير المعجزات ويحصل له العلم الضروري بها كما ذكره أبو حامد بل يحصل له العلم الضروري بالنبوة على الجمل كما ذكره، وعامة من حصر العلم بهذا أو غيره في طريق معينة وزعم أنه لا يحصل بغيرها فإنه يكون مخطئا وهذا كثير ما سلكه كثير من أهل الكلام في إثبات العلم بالصانع أو إثبات حدوث العالم أو إثبات التوحيد أو العلم بالنبوة أو غير ذلك، يسلك أحدهم طريقا يزعم أنه لا يحصل العلم إلا به، وقد يكون طريقا فاسدا وربما قدح خصومه في طريقه الصحيحة وادعوا أنها فاسدة.

وكثيرا ما يكون سبب العلم الحاصل في القلب غير الحجة الجدلية التي يناظر بها غيره فإن الإنسان يحصل له العلم بكثير من المعلومات بطريق وأسباب قد لا يستحضرها ولا يحصيها ولو استحضرها لا توافقه عبارته على بيانها ومع هذا فإذا طلب

(1) سورة الرعد، الآية:17.

ص: 183

منه بيان الدليل الدال على ذلك قد لا يعلم دليلا يدل به غيره إذا لم يكن ذلك الغير شاركه في سبب العلم، وقد لا يمكنه التعبير عن الدليل إذا تصوره، فالدليل الذي يعلم به المناظر شيء، والحجة التي يحتج بها المناظر شيء آخر وكثيرا ما يتفقان كما يفترقان.

وليس هذا موضع بسط ذلك، وإنما المقصود التنبيه على تعدد طرق العلم بالنبوة، وغيرها وكلام أكثر الناس في هذا الباب ونحوه على درجات متفاوتة فيحمد كلام الرجل بالنسبة إلى من دونه، وإن كان مذموما بالنسبة إلى من فوقه إذ الإيمان يتفاضل، وكل له من الإيمان بقدر ما حصل له منه.

ولهذا كان أبو حامد مع ما يوجد في كلامه من الرد على الفلاسفة وتكفيره لهم، وتعظيم النبوة وغير ذلك ومع ما يوجد فيه أشياء صحيحة حسنة بل عظيمة القدر نافعة يوجد في بعض كلامه مادة فلسفية وأمور أضيفت إليه توافق أصول الفلاسفة الفاسدة المخالفة للنبوة بل المخالفة لصريح العقل حتى تكلم فيه جماعات من علماء خراسان والعراق والمغرب كرفيقه أبي إسحاق المرغيناني وأبي الوفاء بن عقيل والقشيري والطرطوشي «1» وابن رشد «2» والمازري «3» وجماعات من الأولين حتى ذكر ذلك الشيخ أبو عمرو بن الصلاح فيما جمعه من طبقات أصحاب

(1) هو الإمام العلامة القدوة الزاهد شيخ المالكية أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الأندلسي الطرطوشي الفقيه عالم الإسكندرية ولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، كان إماما عالما زاهدا ورعا، دينا متواضعا متقشفا متقللا من الدنيا، راضيا باليسير رحمه الله تعالى توفي سنة عشرين وخمسمائة.

انظر ترجمته في السير (19/ 490) والعبر (4/ 48) وشذرات الذهب (4/ 62) والأنساب (8/ 235) ومرآة الجنان (3/ 225 - 227).

(2)

هو الإمام العلامة شيخ المالكية قاضي الجماعة بقرطبة أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي كان فقيها عالما حافظا للفقه مقدما فيه على جميع أهل عصره عارفا بالفتوى بصيرا بأقوال أئمة المالكية، ناقدا في علم الفرائض والأصول من أهل الرئاسة في العلم والبراعة والفهم مع الدين والفضل والوقار والحلم والسمت الحسن والهدي الصالح.

عاش سبعين سنة وتوفي في سنة عشرين وخمسمائة.

انظر ترجمته في السير (19/ 501) وتذكرة الحفاظ (4/ 1271) وشذرات الذهب (4/ 62) والعبر (4/ 47).

(3)

هو الشيخ الإمام العلامة البحر المتفنن أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري المالكي، ولد بمدينة المهدية من إفريقية وبها مات في ربيع الأول سنة ست وثلاثين وخمسمائة وله ثلاث وثمانون سنة.

انظر ترجمته في السير (20/ 104) ووفيات الأعيان (4/ 285) والعبر (4/ 100، 201) والنجوم الزاهرة (5/ 269) وشذرات الذهب (4/ 114).

ص: 184

الشافعي وقرره الشيخ أبو زكريا النووي قال في هذا الكتاب: فصل في بيان أشياء مهمة أنكرت على الإمام الغزالي في مصنفاته ولم يرتضيها أهل مذهبه وغيرهم من الشذوذ في تصرفاته، منها قوله في مقدمة المنطق في أول المستصفى «1»:«هذه مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط فلا ثقة له بعلومه أصلا» .

قال الشيخ أبو عمرو «2» : وسمعت الشيخ العماد بن يونس يحكي عن يوسف الدمشقي مدرس النظامية ببغداد وكان من النظار المعروفين أنه كان ينكر هذا الكلام ويقول: فأبو بكر وعمر وفلان وفلان يعني أن أولئك السادة عظمت حظوظهم من الثلج واليقين ولم يحيطوا بهذه المقدمة وأسبابها، قال الشيخ أبو عمرو: قد ذكرت بهذا ما حكى صاحب كتاب الإمتاع والمؤانسة يعني أبا حيان التوحيدي أن الوزير ابن الفرات احتفل مجلسه ببغداد بأصناف من الفضلاء من المتكلمين وغيرهم وفي المجلس متى الفيلسوف النصراني، فقال الوزير: أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في قوله: إنه لا سبل إلى معرفة الحق من الباطل والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق واستفدناه من واضعه على مراتبه، فانتدب له أبو سعيد السيرافي وكان فاضلا في علوم غير النجوم وكلمه في ذلك حتى أفحمه وفضحه، قال أبو محمد: وليس هذا موضع التطويل بذكره.

قال الشيخ أبو عمرو: وغير خاف استغناء العقلاء والعلماء قبل واضع المنطق أرسطاطاليس وبعده عن معارفهم الجمة عن تعلم المنطق، وإنما المنطق عندهم بزعمهم آلة قانونية صناعية تعصم الذهن من الخطأ وكل ذي ذهن صحيح منطقي بالطبع قال: فكيف غفل الغزالي عن حال شيخه إمام الحرمين ومن قبله من كل

(1) وهو كتاب في أصول الفقه للإمام الغزالي رحمه الله تعالى.

(2)

هو الإمام الحافظ العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن المفتي صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري الموصلي الشافعي صاحب علوم الحديث. ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة وطلب العلم على عدد من العلماء، وأفتى وجمع وألف وكان من كبار الأئمة.

قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله: كان ذا صلابة عجيبة ووقار وهيبة وفصاحة وعلم نافع، وكان متين الديانة سلفي الجملة صحيح النحلة، كافّا عن الخوض في مزلات الأقدام، مؤمنا بالله وبما جاء عن الله من أسمائه ونعوته، حسن البزة، وافر الحرمة، معظما عند السلطان.

توفي رحمه الله في سحر يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة.

انظر ترجمته في السير (23/ 140) والبداية والنهاية (13/ 168 - 169) وشذرات الذهب (5/ 221) وتذكرة الحفاظ (4/ 430 - 433).

ص: 185

إمام هو له مقدم ولمحله في تحقيق الحقائق رافع معظم ثم لم يرفع أحد منهم بالمنطق رأسا ولا بنى عليه في شيء من تصرفاته أسّا.

ولقد أتى بخلطه المنطق بأصول الفقه بدعة عظم شؤمها على المتفقهة حتى كثر فيهم المتفلسفة، والله المستعان.

قال: ولأبي عبد الله المازري الفقيه المتكلم الأصولي وكان إماما محققا بارعا في مذهبي مالك والأشعري وله تصانيف في فنون منها شرح الإرشاد والبرهان لإمام الحرمين، ورسالة يذكر فيها حال الغزالي وحال كتابه الإحياء أصدرها في حال حيدة الغزالية جوابا لما كوتب به من الغرب والشرق في سؤاله عن ذلك عند اختلافهم في ذلك فذكر فيها ما اختصاره أن الغزالي كان قد خاض في علوم وصنف فيها واشتهر بالإمامة في إقليمه حتى تضاءل له المنازعون واستبحر في الفقه وفي أصول الدين وهو بالفقه أعرف.

وأما أصول الدين فليس بالمستبحر فيها شغله عن ذلك قراءته في علوم الفلسفة وأكسبته قراءة الفلسفة جراءة على المعاني وتسهيلا للهجوم على الحقائق لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها وليس لها شرع يزغها ولا تخاف من مخالفة أئمة تتبعها، فلذلك خامره ضرب من الإدلال على المعاني فاسترسل فيها استرسال من لا يبالي بغيره.

قال: وقد عرفني بعض أصحابه أنه كان له عكوف على قراءة رسائل إخوان الصفا، وهذه الرسائل هي إحدى وخمسون، كل رسالة مستقلة بنفسها وقد ظن في مؤلفها ظنون، وفي الجملة هو- يعني واضع الرسائل- رجل فيلسوف قد خاض في علوم الشرع فمزج ما بين العلمين وحسن الفلسفة في قلوب أهل الشرع بآيات وأحاديث يذكرها عندها.

ثم إنه كان في هذا الزمان المتأخر فيلسوف يعرف بابن سينا ملأ الدنيا تآليف في علوم الفلسفة وكان ينتمي إلى الشرع ويتحلى بحلية المسلمين وأدته قوته في علم الفلسفة إلى أن تلطف جهده في رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة وتم له من ذلك ما لم يتم لغيره من الفلاسفة.

قال: ووجدت هذا الغزالي يعول عليه في أكثر ما يشير إليه في علوم الفلسفة حتى إنه في بعض الأحايين ينقل نص كلامه من غير تغيير وأحيانا يغيره وينقله إلى الشرعيات أكثر ممّا ينقل ابن سينا لكونه أعلم بأسرار الشرع منه، فعلى ابن سينا ومؤلف رسائل إخوان الصفا عوّل الغزالي في علم الفلسفة.

ص: 186

قال: وأما مذهب المتصوفة فلست أدري على من عوّل فيها ولا من ينتسب إليه في علمها، قال: وعندي إنه على أبي حيان التوحيدي الصوفي عوّل في مذاهب الصوفية.

وقد علمت أن أبا حيان هذا ألف ديوانا عظيما في هذا الفن، ولم يصل إلينا منه شيء.

ثم ذكر أن في الإحياء فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له مثل ما استحسن في قص الأظافر أن يبدأ بالسبابة لأن لها الفضل على بقية الأصابع لكونها المسبحة ثم بالوسطى لأنها ناحية اليمين ثم باليسرى على هيئة دائرة وكن الأصابع عنده دائرة فإذا أراد أصابعه مر عليها مرور الدائرة ثم يختم بإبهام اليمنى هكذا حدثني به من أثق به عن الكتاب.

قال: فانظر إلى هذا كيف أفاد قراءة الهندسة وعلم الدوائر وأحكامها أن نقله إلى الشرع فأفتى به المسلمين.

قال: وحمل إلى بعض الأصحاب من هذا الإملاء الجزء الأول فوجدته يذكر فيه أن من مات بعد بلوغه ولم يعلم أن الباري قديم مات مسلما إجماعا، ومن تساهل في حكاية الإجماع في مثل هذا الذي الأقرب أن يكون فيه الإجماع بعكس ما قال فحقيق أن لا يوثق بكل ما ينقل وأن يظن به التساهل في رواية ما لم يثبت عنده صحته.

قال: ثم تكلم المازري في محاسن الإحياء ومذامه ومنافعه ومضاره بكلام طويل ختمه بأن من لم يكن عنده من البسطة في العلم ما يعتصم به من غوائل هذا الكتاب فإن قراءته لا تجوز له، وإن كان فيه ما ينتفع به، ومن كان عنده من العلم ما يأمن على نفسه من غوائل هذا الكتاب ويعلم ما فيه من الرموز فيجتنب مقتضى ظواهرها ويكل أمر مؤلفها إلى الله تعالى، وإن كان كلها تقبل التأويل فقراءته له سائغة به، اللهم إلا أن يكون قارئه ممن يقتدى به ويغتر به فإنه ينهى عن قراءته وعن مدحه والثناء عليه.

قال: ولولا أن علمنا أن إملاءنا هذا إنما يقرؤه الخاصة ومن عنده علم يأمن به على نفسه لم نتبع محاسن هذا الكتاب الثناء ولم نتعرض لذكرها ولكنّا نحن أمنّا من التغرير، ولئلا يظن أيضا من يتعصب للرجل أنا جانبنا الإنصاف في الكلام على كتابه ويكون اعتقاده هذا فينا سببا لئلا يقبل نصيحتنا.

ص: 187

قال الشيخ أبو عمرو: وهذا آخر ما نقلناه عن المازري.

قلت: ما ذكره المازري في مادة أبي حامد الغزالي من الصوفية فهو كما قال المازري عن نفسه: لم يدر على من عول فيها، ولم يكن للمازري من الاعتناء بكتب الصوفية وأخبارهم ومذاهبهم ما له من الاعتناء بطريقة الكلام وما يتبعه من الفلسفة ونحوها، فلذلك لم يعرف، ولم تكن مادة أبي حامد من كلام أبي حيان التوحيدي وحده بل ولا غالب كلامه منه، فإن أبا حيان تغلب عليه الخطابة والفصاحة وهو مركب من فنون أدبية وفلسفية وكلامية وغير ذلك، وإن كان قد شهد عليه بالزندقة غير واحد وقرنوه بابن الراوندي كما ذكر ذلك ابن عقيل وغيره وإنما كان غالب استمداد أبي حامد من كتاب أبي طالب المكي الذي سماه قوت القلوب، ومن كتب الحارث المحاسبي وغيرها، ومن رسالة القشيري ومن منثورات وصلت إليه من كلام المشايخ، وما نقله في الإحياء عن الأئمة في ذم الكلام فإنه من كتاب أبي عمر بن عبد البر في فضل العلم وأهله «1» ، وما نقله من الأدعية والأذكار نقله من كتاب الذكر لابن خزيمة، ولهذا كانت أحاديث هذا الباب جيدة وقد جالس من اتفق له من مشايخ الطرق لكنه يأخذ من كلام الصوفية في الغالب ما يتعلق بالأعمال والأخلاق والزهد والرياضة والعبادة وهي التي يسميها علوم المعاملة.

وأما التي يسميها علوم المكاشفة ويرمز إليها في الإحياء وغيره ففيها يستمد من كلام المتفلسفة وغيرهم كما في مشكاة الأنوار والمضنون به على غير أهله وغير ذلك، وبسبب خلطه التصوف بالفلسفة كما خلط الأصول بالفلسفة صار ينسب إلى التصوف من ليس هو موافقا للمشايخ المقبولين الذين لهم في الأمة لسان صدق رضي الله تعالى عنهم، بل يكون مباينا لهم في أصول الإيمان كالإيمان بالتوحيد والرسالة واليوم الآخر ويجعلون هذه مذاهب الصوفية كما يذكر ذلك ابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان وأبو الوليد بن رشد الحفيد، وصاحب خلع العلم، وابن العربي صاحب الفتوحات وفصوص الحكم، وابن سبعين، وأمثال هؤلاء ممن يتظاهر بمذاهب مشايخ الصوفية وأهل الطريق وهو في التحقيق منافق زنديق ينتهي إلى القول بالحلول والاتحاد، واتباع القرامطة أهل الإلحاد، ومذهب الإباحية الدافعين للأمر والنهي والوعد والوعيد ملاحظين لحقيقة القدر التي لا يفرق فيها بين الأنبياء والمرسلين وبين كل جبار عنيد وقائلين مع ذلك بنوع من الحقائق

(1) وهو كتابه النفيس جامع بيان العلم وفضله.

ص: 188

البدعية، غير عارفين بالحقائق الدينية الشرعية ولا سالكين مسلك أولياء الله الذين هم بعد الأنبياء خير البرية فهم في نهاية تحقيقهم يسقطون الأمر والنهي والطاعة والعبادة مشاقّين للرسول، متبعين غير سبيل المؤمنين، ويفارقون سبيل أولياء الله المتقين إلى سبيل أولياء الشياطين، ثم يقولون بالحلول والاتحاد، وهو غاية الكفر ونهاية الإلحاد، ولهذا في كلام العارفين كأبي القاسم الجنيد وأمثاله من بيان أن التوحيد هو إفراد الحدوث عن القدم ونحو ذلك.

ومن بيان وجوب اتباع الأمر والنهي ولزوم العبادة إلى الموت ما يبين به أن أولئك السادة المهتدين حذروا من طريق هؤلاء الملحدين، ولهذا نجد هؤلاء كابن عربي وابن سبعين وأمثالهما يردون على مثل الجنيد وأمثاله من أئمة المشايخ ويدعون أنهم ظفروا في التحقيق بنهاية الرسوخ وإنما ظفروا بتحقيق الإلحاد، والدخول في الحلول والاتحاد، وما زال شيوخ الصوفية المؤمنون يحذرون من مثل هؤلاء الملبسين كما حذر أئمة الفقهاء من سبيل أهل البدعة والنفاق من أهل الفلسفة والكلام ونحوهم، حتى ذكر ذلك أبو نعيم «1» الحافظ في أول حلية الأولياء، وأبو القاسم القشيري في رسالته، دع من هو أجل منهما وأعلم منهما بطريق الصوفية وأقل غلطا وأبعد عن الاعتماد على المنقولات الضعيفة والمنقولات المبتدعة، قال أبو نعيم في أول الحلية:

أما بعد أحسن الله تعالى توفيقك فقد استعنت بالله عز وجل وأجبتك إلى ما أبغيت من جمع كتاب يتضمن أسامي جماعة وبعض أحاديثهم وكلامهم من أعلام المحققين من المتصوفة وأئمتهم وترتيب طبقاتهم من النساك ومحجتهم، من قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم ممن عرف الأدلة والحقائق وباشر الأحوال والطرائق وساكن الرياض والحدائق، وفارق العوارض والعلائق، وتبرأ من المنقطعين والمتعمقين، ومن أهل الدعاوى المسوفين، ومن الكسالى والمثبطين، المتشبهين بهم في اللباس والمقال، والمخالفين لهم في العقيدة والفعال، وذلك لما بلغك من بسط ألسنتنا وألسنة أهل الفقه والأثر في كل الأقطار والأمصار، في المنتسبين إليهم من الفسقة الفجار، والمباحية والحلولية الكفار، وليس ما حل

(1) هو الإمام الحافظ الثقة العلامة أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران أبو نعيم المهراني الأصبهاني صاحب التصانيف. ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وتوفي في العشرين من المحرم سنة ثلاثين وأربعمائة وله أربع وتسعون سنة.

انظر ترجمته في السير (17/ 453) وتذكرة الحفاظ (3/ 1092) والعبر (3/ 170) والبداية والنهاية (12/ 45) ولسان الميزان (1/ 201).

ص: 189

بالكذبة من الوقيعة والإنكار، بقادح في منقبة البررة الأخيار، وواضع من درجة الصفوة الأطهار، بل في إظهار البراءة من الكذابين، والنكير على الحشوية البطالين، نزاهة الصادقين، ورفعة المحققين، ولو لم نكشف عن مخازي المبطلين ومساويهم ديانة، للزمنا إبانتها وإشاعتها حمية وصيانة، إذ لأسلافنا في التصوف العلم المنشور، والصيت والذكر المشهور، فقد كان جدي رحمه الله تعالى أحد من يسر الله تعالى به ذكر بعض المنقطعين إليه، وكيف يستجيز نقيصة أولياء الله تعالى ومؤذيهم مؤذن بمحاربة ربه.

ثم أسند حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى قال: من آذى لي وليّا» وفي الرواية الأخرى:

«من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه» «1» .

قلت: قد ذم أهل العلم والإيمان من أئمة العلم والدين من جميع الطوائف من خرج عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأعمال باطنا أو ظاهرا ومدحهم هو لمن وافق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كان موافقا من وجه ومخالفا من وجه كالعاصي الذي يعلم أنه عاص فهو ممدوح من جهة موافقته، مذموم من جهة مخالفته.

وهذا مذهب سلف الأئمة وأئمتها من الصحابة ومن سلك سبيلهم في مسائل الأسماء والأحكام، والخلاف فيها أول خلاف حدث في مسائل الأصول حيث كفرت الخوارج بالذنب وجعلوا صاحب الكبيرة كافرا مخلدا في النار، ووافقتهم المعتزلة على زوال جميع إيمانه وإسلامه وعلى خلوده في النار، لكن نازعوهم في الاسم فلم يسموه كافرا بل قالوا: هو فاسق لا مؤمن ولا كافر ننزله منزلة بين المنزلتين، فهم وإن كانوا في الاسم إلى السنة أقرب فهم في الحكم في الآخرة مع الخوارج.

وأصل هؤلاء أنهم ظنوا أن الشخص الواحد لا يكون مستحقّا للثواب

(1) تقدم تخريجه.

ص: 190

والعقاب والوعد والوعيد والحمد والذم بل إما لهذا وإما لهذا فأحبطوا جميع حسناته بالكبيرة التي فعلها، وقالوا: الإيمان هو الطاعة فيزول بزوال بعض الطاعة، ثم تنازعوا هل يخلفه الكفر على القولين، ووافقتهم المرجئة والجهمية على أن الإيمان يزول كله بزوال شيء منه، وأنه لا يتبعض ولا يتفاضل فلا يزيد ولا ينقص وقالوا: إن إيمان الفساق كإيمان الأنبياء والمؤمنين، لكن فقهاء المرجئة قالوا: إنه الاعتقاد والقول، وقالوا: إنه لا بد من أن يدخل النار من فساق الملة من شاء الله تعالى كما قالت الجماعة، فكان خلاف كثير من كلامهم للجماعة إنما هو في الاسم لا في الحكم، وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبيّنا الفرق بين دلالة الاسم مفردا ودلالته مقرونا بغيره كاسم الفقير والمسكين فإنه إذا أفرد أحدهما يتناول معنى الآخر كقوله تعالى: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» ، فإنه يدخل فيهم المساكين وقوله تعالى: إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ «2» ، فإنه يدخل فيهم الفقراء، وأما إذا قرن بينهما كقوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ «3» فهما صنفان، وكذلك قوله تعالى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ «4» ، يدخل في المعروف كل واجب وفي المنكر كل قبيح، والقبائح هي السيئات وهي المحظورات كالشرك والكذب والظلم والفواحش.

فإذا قال: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ «5» وقال: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ «6» فخص بعض أنواع المنكر بالذكر وعطف أحدهما على الآخر صارت دلالة اللفظ عليه نصّا مقصودا بطريق المطابقة بعد أن كانت بطريق العموم والتضمن سواء قيل إنه داخل في اللفظ العام أيضا فيكون مذكورا مرتين أو قيل إنه باقترانه بالاسم العام تبين أنه لم يدخل في الاسم العام لتغيير الدلالة بالإفراد والتجرد بالافتراق والاجتماع كما قدمنا، وهكذا اسم الإيمان فإنه تارة يذكر مفردا مجردا لا يقرن بالعمل الواجب فيدخل فيه العمل الواجب تضمنا ولزوما، وتارة يقرن بالعمل فيكون العمل حينئذ مذكورا بالمطابقة والنص ولفظ الإيمان يكون مسلوب الدلالة عليه حال الاقتران أو دالّا عليه كما في قوله تعالى: وَالَّذِينَ

(1) سورة البقرة، الآية:273.

(2)

سورة المائدة، الآية:89.

(3)

سورة التوبة، الآية:60.

(4)

سورة الأعراف، الآية:157.

(5)

سورة العنكبوت، الآية:45.

(6)

سورة النحل، الآية:90.

ص: 191

يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ «1» ، وقوله سبحانه لموسى عليه السلام: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)«2» وقوله تعالى: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ «3» ونظائر ذلك كثيرة.

فالأعمال داخلة في الإيمان تضمنا، ولزوما في مثل قوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا «4» .

وفي مثل قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)«5» ، وقوله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ «6» ، وأمثال ذلك من الكتاب والسنة.

ومن استقرأ ذلك علم أن الاسم الشرعي كالإيمان، والصلاة والوضوء والصيام لا ينفيه الشارع عن شيء إلا لانتفاء ما هو واجب فيه لا لانتفاء ما هو مستحب فيه، وأما قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)«7» ونحو ذلك فالعمل مخصوص بالذكر، إما توكيد وإما لأن الاقتران لا يغير دلالة الاسم فهذا موقف يزول فيه كثير من النزاع اللفظي في ذلك، وأيضا فإن الإيمان يتنوع بتنوع ما أمر الله تعالى به العبد فحين بعث الرسول لم يكن الإيمان الواجب ولا الإقرار ولا العمل مثل الإيمان الواجب في آخر الدعوة فإنه لم يكن يجب إذ ذاك الإقرار بما أنزله الله تعالى بعد ذلك من الإيجاب والتحريم والخبر ولا العمل بموجب ذلك، بل كان الإيمان الذي أوجبه الله تعالى يزيد شيئا فشيئا كما كان القرآن ينزل شيئا فشيئا، والدين يظهر شيئا فشيئا حتى أنزل الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «8» .

(1) سورة الأعراف، الآية:170.

(2)

سورة طه، الآية:14.

(3)

سورة العنكبوت، الآية:45.

(4)

سورة الأنفال، الآيات: 2 - 4.

(5)

سورة الحجرات، الآية:15.

(6)

سورة النور، الآية:82.

(7)

سورة البينة، الآية:7.

(8)

سورة المائدة، الآية:3.

ص: 192

وكذلك العبد أول ما يبلغه خطاب الرسول عليه أكمل الصلاة وأكمل السلام إنما يجب عليه الشهادتان، فإذا مات قبل أن يدخل عليه وقت الصلاة لم يجب عليه شيء غير الإقرار، ومات مؤمنا كامل الإيمان الذي وجب عليه وإن كان إيمان غيره الذي دخلت عليه الأوقات أكمل منه فهذا إيمانه ناقص كنقص دين النساء حيث قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«إنكن ناقصات عقل ودين، أما نقصان عقلكن فشهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، وأما نقصان دينكن فإن إحداكن إذا حاضت لم تصل» «1» ومعلوم أن الصلاة حينئذ ليس واجبة عليها، وهذا نقص لا تلام عليه المرأة، لكن من جعل كاملا كان أفضل منها بخلاف من نقص شيئا ممّا وجب عليه، فصار النقص في الدين والإيمان نوعين نوعا لا يذم العبد عليه لكونه لم يجب عليه لعجزه عنه حسّا أو شرعا، وإما لكونه مستحبّا ليس بواجب، ونوعا يذم عليه وهو ترك الواجبات.

فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لجارية معاوية بن الحكم السلمي لما قال لها: «أين الله» ؟

قالت: في السماء، قال:«من أنا» قالت: أنت رسول الله، قال:«اعتقها فإنها مؤمنة» «2» . ليس فيه حجة على أن من وجبت عليه العبادات فتركها وارتكب المحظورات يستحق الاسم المطلق كما استحقته هذه التي لم يظهر منها بعد ترك مأمور ولا فعل محظور، ومن عرف هذا تبين أن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لهذه إنها مؤمنة لا ينافي قوله:«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» «3» .

فإن ذلك نفي عنه الاسم لانتفاء بعض ما يجب عليه من ترك هذه الكبائر وتلك لم تترك واجبا تستحق بتركه أن تكون هكذا، ويتبع هذا أن من آمن بما جاء

(1) أخرجه البخاري في صحيحه بالأرقام (304، 1462، 1951، 2658) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1/ 253 نووي) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه برقم (537) وأبو داود في سننه برقم (930) والنسائي في سننه (3/ 14) وأحمد في المسند (5/ 447) والطيالسي في مسنده برقم (1105) وابن أبي عاصم في السنة برقم (489، 490) وابن خزيمة في التوحيد (ص 81) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 422) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه بالأرقام (2475، 5578، 6772، 6810) ومسلم في صحيحه برقم (57) وأبو داود في سننه برقم (4689) والترمذي في سننه برقم (2625) والنسائي في سننه (8/ 65) وأحمد في المسند بالأرقام (7318 و8895 و10216) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 193

به الرسل مجملا ثم بلغه مفصلا فأقر به مفصلا وعمل به كان قد زاد ما عنده من الدين والإيمان بحسب ذلك.

ومن أذنب ثم تاب أو غفل ثم ذكر أو فرط ثم أقبل فإنه يزيد دينه وإيمانه بحسب ذلك، كما قال من قال من الصحابة كعمير بن حبيب الخطمي وغيره:

الإيمان يزيد وينقص، قيل له: فما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا حمدنا الله وذكرناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وأضعنا فذلك نقصانه «1» .

فذكر زيادته بالطاعات وإن كانت مستحبة ونقصانه بما أضاعه من واجب وغيره، وأيضا فإن تصديق القلب يتبعه عمل القلب، فالقلب إذا صدق بما يستحقه الله تعالى من الألوهية وما يستحقه الرسول من الرسالة تبع ذلك لا محالة محبة الله سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام وتعظيم الله عز وجل ورسوله، والطاعة لله تعالى ورسوله أمر لازم لهذا التصديق لا يفارقه إلا لعارض من كبر أو حسد أو نحو ذلك من الأمور التي توجب الاستكبار عن عبادة الله تعالى والبغض لرسوله عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك من الأمور التي توجب الكفر ككفر إبليس وفرعون وقومه واليهود وكفار مكة وغير هؤلاء من المعاندين والجاحدين.

ثم هؤلاء إذا لم يتبعوا التصديق بموجبه من عمل القلب واللسان وغير ذلك فإنه قد يطبع على قلوبهم حتى يزول عنها التصديق كما قال تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «2» ، فهؤلاء كانوا عالمين فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، وقال موسى لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ «3» ، وقال تعالى: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ «4» إلى قوله سبحانه: وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ «5» .

قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ

(1) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة برقم (1721) والآجري في الشريعة (ص 112) وابن أبي شيبة في الإيمان برقم (14) وعبد الله بن أحمد في السنة (75، 81) وإسناده ضعيف.

(2)

سورة الصف، الآية:5.

(3)

سورة الإسراء، الآية:102.

(4)

سورة غافر، الآية:35.

(5)

سورة غافر، الآية:37.

ص: 194

وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)«1» ، فبين سبحانه أن مجيء الآيات لا يوجب الإيمان بقوله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ «2» أي فتكون هذه الأمور الثلاثة: أن لا يؤمنوا وأن نقلب أفئدتهم وأبصارهم، وأن نذرهم في طغيانهم يعمهون؛ أي وما يدريكم أن الآيات إذا جاءت تحصل هذه الأمور الثلاثة، وبهذا المعنى تبين أن قراءة الفتح أحسن وأن من قرأ «أن» المفتوحة بمعنى «لعل» فظن أن قوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ كلام مبتدأ لم يفهم معنى الآية، وإذا جعل ونقلب أفئدتهم داخلا في خبر أن تبين معنى الآية، فإن كثيرا من الناس يؤمنون ولا تقلب قلوبهم لكن قد يحصل تقليب أفئدتهم وأبصارهم وقد لا يحصل أي فما يدريكم أنهم لا يؤمنون، والمراد وما يشعركم إنها إذا جاءت لا يؤمنون بل نقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، والمعنى وما يدريكم أن الأمر بخلاف ما تظنونه من إيمانهم عند مجيء الآيات وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فيعاقبون على ترك الإيمان أول مرة بعد وجوبه عليهم إما لكونهم عرفوا الحق وما أقروا به أو تمكنوا من معرفته فلم يطلبوا معرفته ومثل هذا كثير.

والمقصود هنا: أن ترك ما يجب من العمل بالعلم الذي هو مقتضى التصديق، والعلم قد يفضي إلى سلب التصديق، والعلم كما قيل:

العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل «3» .

وكما قيل: كنا نستعين على حفظ العمل بالعمل به «4» .

فما في القلب من التصديق بما جاء به الرسول إذا لم يتبعه موجبه ومقتضاه من العمل قد يزول إذ وجود العلة يقتضي وجود المعلول، وعدم المعلول يقتضي عدم العلة، فكما أن العلم والتصديق سبب للإرادة والعمل فعدم الإرادة والعمل سبب لعدم العلم والتصديق، ثم إن كانت العلة تامة فعدم المعلول دليل يقتضي عدمها.

وإن كانت سببا قد يتخلف معلولها كان له بخلفه أمارة على عدم المعلول قد يتخلف مدلولها، وأيضا فالتصديق الجازم في القلب يتبعه موجبه بحسب الإمكان

(1) سورة الأنعام، الآيتان: 109 - 110.

(2)

سورة الأنعام، الآيتان:109.

(3)

انظر اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي برقم (41).

(4)

انظر اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي برقم (149).

ص: 195

كالإرادة الجازمة في القلب فكما إن الإرادة الجازمة في القلب إذا اقترنت بها القدرة حصل بها المراد أو المقدور من المراد لا محالة كانت القدرة حاصلة ولم يقع الفعل كان الحاصل هي لا إرادة جازمة وهذا هو الذي عفي عنه.

فكذلك التصديق الجازم إذا حصل في القلب تبعه عمل من عمل القلب لا محالة لا يتصور أن ينفك عنه بل يتبعه الممكن من عمل الجوارح فمتى لم يتبعه شيء من عمل القلب علم أنه ليس بتصديق جازم فلا يكون إيمانا لكن التصديق الجازم قد لا يتبعه عمل القلب بتمامه لعارض من الأهواء كالكبر والحسد ونحو ذلك من أهواء النفس لكن الأصل أن التصديق يتبعه الحب وإذا تخلف الحب كان لضعف التصديق الموجب له، ولهذا قال الصحابة: كل من يعص الله فهو جاهل.

وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار جهلا.

ولهذا كان التكلم بالكفر من غير إكراه كفرا في نفس الأمر عند الجماعة وأئمة الفقهاء حتى المرجئة خلافا للجهمية ومن اتبعهم، ومن هذا الباب سب الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام وبغضه، وسب القرآن وبغضه، وكذلك سب الله سبحانه وبغضه ونحو ذلك ممّا ليس من باب التصديق والحب والتعظيم والموالاة بل من باب التكذيب والبغض والمعاداة والاستخفاف.

ولما كان إيمان القلب له موجبات في الظاهر كان الظاهر دليلا على إيمان القلب ثبوتا وانتفاء كقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» وقوله عز وجل: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ «2» وأمثال ذلك.

وبعد هذا فنزاع المنازع في أن الإيمان في اللغة هو اسم لمجرد التصديق دون مقتضاه أو اسم للأمرين يؤول إلى نزاع لفظي، وقد يقال أن الدلالة تختلف بالإفراد والاقتران والناس منهم من يقول أن أصل الإيمان في اللغة التصديق ثم يقول والتصديق يكون باللسان ويكون بالجوارح، والقول يسمى تصديقا والعمل يسمى تصديقا كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:«العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» «3» .

(1) سورة المجادلة، الآية:22.

(2)

سورة المائدة، الآية:81.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6612 و6243) ومسلم في صحيحه برقم (2657) -

ص: 196

وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن بما وقر في القلب وصدقه العمل.

ومنهم من يقول بل الإيمان هو الإقرار وليس هو مرادفا للتصديق، فإن التصديق يقال على كل خبر عن شهادة أو غيب، وأما الإيمان فهو أخص منه فإنه قد قيل لخبر إخوة يوسف وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وقيل: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ إذ الإيمان بالنبيّ عليه الصلاة والسلام تصديق به والإيمان له تصديق له في ذلك الخبر وهذا في المخبر ويقال لمن قال: الواحد نصف الاثنين والسماء فوق الأرض: قد صدقت، ولا يقال: آمنت له، ويقال: أصدق بهذا ولا يقال: أؤمن به، إذ لفظ الإيمان أفعال من الأمن فهو يقتضي طمأنينة وسكونا فيما من شأنه أن يستريب فيه القلب ويخفق ويضطرب وهذا إنما يكون في الإخبار بالمغيبات لا بالمشاهدات.

والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع وإنما المقصود أن فقهاء المرجئة خلافهم مع أهل السنة يسير وبعضه لفظي ولم يعرف بين الأئمة المشهورين بالفتيا خلاف إلا في هذا فإن ذلك قول طائفة من فقهاء الكوفيين كحماد بن أبي سليمان وصاحبه أبي حنيفة وأصحاب أبي حنيفة، وأما قول الجهمية وهو أن الإيمان مجرد تصديق القلب دون اللسان فهذا لم يقله أحد من المشهورين بالإمامة، ولا كان قديما فيضاف هذا إلى المرجئة، وإنما وافق الجهمية عليه طائفة من المتأخرين من أصحاب الأشعري.

وأما ابن كلاب فكلامه يوافق كلام المرجئة لا الجهمية وآخر الأقوال حدوثا في ذلك قول الكرامية أن الإيمان اسم للقول باللسان وإن لم يكن معه اعتقاد القلب، وهذا القول أفسد الأقوال لكن أصحابه لا يخالفون في الحكم فإنهم يقولون إن هذا الإيمان باللسان دون القلب هو إيمان المنافقين، وأنه لا ينفع في الآخرة وإنما أوقع هؤلاء كلهم ما أوقع الخوارج والمعتزلة في ظنهم أن الإيمان لا يتبعض بل إذا ذهب بعضه ذهب كله ومذهب أهل السنة والجماعة أنه يتبعض وأنه ينقص ولا يزول جميعه كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان» «1» .

- والنسائي في سننه الكبرى برقم (11544) وأبو داود في سننه رقم (2152، 2153) وابن حبان في صحيحه برقم (4420) وأحمد في المسند بالأرقام (7719، 8526، 8932، 10920) والبغوي في شرح السنة برقم (75) والبيهقي في سننه (7/ 89) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه بالأرقام (44، 4476، 6565، 7410، 7440، 7509،-

ص: 197

فالأقوال في ذلك ثلاثة: الخوارج والمعتزلة نازعوا في الاسم والحكم فلم يقولوا بالتبعيض لا في الاسم ولا في الحكم فرفعوا عن صاحب الكبيرة بالكلية اسم الإيمان وأوجبوا له الخلود في النيران، وأما الجهمية والمرجئة فنازعوا في الاسم لا في الحكم فقالوا يجوز أن يكون مثابا معاقبا محمودا مذموما لكن لا يجوز أن يكون معه بعض الإيمان دون بعض وكثير من المرجئة والجهمية من يقف في الوعيد فلا يجزم بنفوذ الوعيد في حق أحد من أرباب الكبائر كما قال ذلك من قاله من مرجئة الشيعة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره، ويذكر عن غلاتهم أنهم نفوا الوعيد بالكلية لكن لا أعلم معينا معروفا أذكر عنه هذا القول، ولكن حكي هذا عن مقاتل بن سليمان والأشبه أنه كذب عليه.

وأما أئمة السنة والجماعة: فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم فيكون مع الرجل بعض الإيمان لا كله ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب ما معه كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه، وولاية الله تعالى بحسب إيمان العبد وتقواه، فيكون مع العبد من ولاية الله تعالى بحسب ما معه من الإيمان والتقوى فإن أولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63)«1» .

وعلى هذا فالمتأول الذي أخطأ في تأويله في المسائل الخبرية والأمرية وإن كان في قوله بدعة يخالف بها نصّا أو إجماعا قديما وهو لا يعلم أنه يخالف ذلك بل قد أخطأ فيه كما يخطئ المفتي والقاضي في كثير من مسائل الفتيا والقضاء باجتهاده؛ يكون أيضا مثابا من جهة اجتهاده الموافق لطاعة الله تعالى غير مثاب من جهة ما أخطأ فيه وإن كان معفوّا عنه، ثم قد يحصل فيه تفريط في الواجب أو اتباع لهوى يكون ذنبا منه، وقد يقوى فيكون كبيرة وقد تقوم عليه الحجة التي بعث الله عز وجل بها رسله ويعاندها مشاقّا للرسول من بعد ما تبين له الهدى متبعا غير سبيل المؤمنين فيكون مرتدّا منافقا أو مرتدّا ردة ظاهرة، فالكلام في الأشخاص لا بد فيه من هذا التفصيل، وأما الكلام في أنواع الأقوال والأعمال باطنا وظاهرا من الاعتقاد والإرادات وغير ذلك فالواجب فيما تنوزع في ذلك أن يرد إلى الله والرسول فما وافق الكتاب والسنة فهو حق، وما خالفهما فهو باطل، وما وافقهما من وجه دون وجه فهو ما اشتمل على حق وباطل فهذا هو.

- 7510، 7516) ومسلم في صحيحه (3/ 56 نووي) والترمذي في سننه برقم (2593) وأحمد في المسند برقم (12153) وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(1)

سورة يونس، الآيتان: 62 - 63.

ص: 198

والمقصود هنا: أن أهل العلم والإيمان في تصديقهم لما يصدقون به وتكذيبهم لما يكذبون به وحمدهم لما يحمدونه وذمهم لما يذمونه متفقون على هذا الأصل فلهذا يوجد أئمة أهل العلم والدين من المنتسبين إلى الفقه والزهد يذمون أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة في الاعتقادات والأعمال من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف ونحوهم وإن كان في أولئك من هو مجتهد له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور له.

وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» «1» .

فكان القرن الأول من كمال العلم والإيمان على حال لم يصل إليها القرن الثاني، وكذلك الثالث وكان ظهور البدع والنفاق بحسب البعد عن السنن والإيمان، وكلما كانت البدعة أشد تأخر ظهورها، وكلما كانت أخف كانت إلى الحدوث أقرب، فلهذا حدث أولا بدعة الخوارج والشيعة ثم بدعة القدرية والمرجئة وكان آخر ما حدث بدعة الجهمية حتى قال ابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، إن الجهمية ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة بل هم زنادقة، وهذا مع أن كثيرا من بدعهم دخل فيها قوم ليسوا بزنادقة بل قبلوا كلام الزنادقة جهلا وخطأ، قال الله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ «2» فأخبر سبحانه أن في المؤمنين من هو مستجيب للمنافقين فما يقع فيه بعض أهل الإيمان من أمور بعض المنافقين، هو من هذا الباب.

والمقصود هنا: أن يعلم أنه لم يزل في أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن أمته لا تبقى على ضلالة بل إذا وقع منكر من لبس حق بباطل أو غير ذلك، فلا بد أن يقيم الله تعالى من يميز ذلك فلا بد من بيان ذلك ولا بد من إعطاء الناس حقوقهم كما قالت عائشة رضي الله عنها:«أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم» رواه أبو داود وغيره «3» .

وهذا الموضع لا يحتمل من السعة وكلام الناس في مثل هذه الأمور التي

(1) تقدم تخريجه.

(2)

سورة التوبة، الآية:47.

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 199

وقعت ممن وقعت منه؛ بل المقصود التنبيه على جمل ذلك لأن هذا محتاج إليه في هذه الأوقات، فكتب الزهد والتصوف فيها من جنس ما في كتب الفقه والرأي وفي كلاهما منقولات صحيحة وضعيفة بل وموضوعة، ومقالات صحيحة وضعيفة بل وباطلة، وأما كتب الكلام ففيها من الباطل أعظم من ذلك بكثير بل فيها أنواع من الزندقة والنفاق.

وأما كتب الفلسفة فالباطل غالب عليها بل الكفر الصريح كثير فيها وكتاب الإحياء له حكم نظائره ففيه أحاديث كثيرة صحيحة وأحاديث كثيرة ضعيفة أو موضوعة، فإن مادة المصنف في الحديث والآثار وكلام السلف وتفسيرهم للقرآن مادة ضعيفة، وأجود ماله من المواد المادة الصوفية، ولو سلك فيها مسلك الصوفية أهل العلم بالآثار النبوية واحترز عن تصوف المتفلسفة الصابئين لحصل مطلوبه ونال مقصوده، لكنه في آخر عمره سلك هذا السبيل، وأحسن ما في كتابه أو أحسن ما فيه ما يأخذه من كتاب أبي طالب في مقامات العارفين ونحو ذلك فإن أبا طالب أخبر بذوق الصوفية حالا وأعلم بكلامهم وآثارهم سماعا وأكثر مباشرة لشيوخهم الأكابر.

والمقصود هنا: أن طرق العلم بصدق النبيّ عليه أفضل الصلاة والسلام بل وتفاوت الطرق في معرفة قدر النبوة والنبيّ متعددة تعددا كثيرا إذ النبيّ يخبر عن الله سبحانه أنه قال ذلك إما إخبارا من الله تعالى وإما أمرا أو نهيا ولكل من حال المخبر عنه والمخبر به بل ومن حال المخبرين- مصدقهم ومكذبهم- دلالة على المطلوب سوى ما ينفصل عن ذلك من الخوارق وأخبار الأولين والهواتف والكهان وغير ذلك، فالمخبر مطلقا يعلم صدقه وكذبه أمور كثيرة لا يحصل العلم بآحادها كما يحصل العلم بمخبر الأخبار المتواترة بل بمخبر الخبر الواحد الذي احتف بخبره قرائن أفادت العلم.

ومن هذا الباب علم الإنسان بعدالة الشاهد والمحدث والمفتي حتى يزكيهم ويفتي بخبرهم ويحكم بشهادتهم وحتى لا يحتاج الحاكم في عدالة كل شاهد إلى تزكيته فإنه لو احتاج كل مزكّ إلى مزكي لزم التسلسل، بل يعلم صدق الشخص تارة باختباره ومباشرته، وتارة باستفاضة صدقه بين الناس، ولهذا قال العلماء: إن التعديل لا يحتاج إلى بيان السبب فإن كون الشخص عدلا صادقا لا يكذب لا يتبين بذكر شيء معين بخلاف الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسرا عند جمهور العلماء لوجهين:

أحدهما: أن سبب الجرح ينضبط.

ص: 200

الثاني: أنه قد يظن ما ليس بجرح جرحا، وأما كونه صادقا متحريا للصدق لا يكذب فهذا لا يعرف بشيء واحد حتى يخبر به وإنما يعرف ذلك من خلقه وعادته بطول المباشرة له والخبرة له، ثم إذا استفاض ذلك عند عامة من يعرفه كان ذلك طريقا للعلم لمن لم يباشره كما يعرف الإنسان عدل عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وظلم الحجاج.

ولهذا قال الفقهاء: إن العدالة والفسق يثبتان بالاستفاضة وقالوا في الجرح المفسر يجرحه بما رآه أو سمعه أو استفاض عنه، وصدق الإنسان في العادة مستلزم لخصال البر كما أن كذبه مستلزم لخصال الفجور كما ثبت في الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:«عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابا» «1» .

وكما أن الخبر المتواتر يعلم لكونه خبر من يمتنع في العادة اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب، والخبر المنكر المكذب يعلم لكونه لم يخبر به من يمتنع في العادة اتفاقهم على الكتمان فخلق الشخص وعادته في الصدق والكذب يمتنع في العادة أن يخفى على الناس فلا يوجد أحد يظهر تحري الصدق وهو يكذب إذا أراد إلا ولا بد أن يتبين كذبه، فإن الإنسان حيوان ناطق فالكلام له وصف لازم ذاتي لا يفارقه، والكلام إما خبر وإما إنشاء والخبر أكثر من الإنشاء وأصل له كما أن العلم أعم من الإرادة وأصل لها والمعلوم أعظم من المراد، فالعلم يتناول الموجود والمعدوم والواجب والممكن والممتنع وما كان وما سيكون وما يختاره العالم وما لا يختاره.

وإما الإرادة فتختص ببعض الأمور دون بعض والخبر يطابق العلم فكل ما يعلم يمكن الخبر به، والإنشاء يطابق الإرادة، فإن الأمر إما محبوب يؤمر به أو مكروه ينهى عنه، وأما ما ليس بمحبوب ولا مكروه فلا يؤمر به ولا ينهى عنه وإذا كان كذلك فالإنسان إذا كان متحريا للصدق عرف ذلك منه وإذا كان يكذب أحيانا لغرض من الأغراض لجلب ما يهواه أو دفع ما يبغضه أو غير ذلك، فإن ذلك لا بد أن يعرف منه، وهذا أمر جرت به العادات كما جرت بنظائره فلا تجد أحدا بين طائفة من الطوائف طالت مباشرتهم له إلا وهم يعرفونه هل يكذب أو لا يكذب؟

(1) تقدم تخريجه.

ص: 201

ولهذا كان من سنة القضاة إذا شهد عندهم من لا يعرفونه كان لهم أصحاب مسائل يسألون عنه جيرانه ومعامليه ونحوهم ممن له به خبرة فمن خبر شخصا خبرة باطنة فإنه يعلم من عادته علما يقينيّا أنه لا يكذب لا سيما في الأمور العظام، ومن خبر عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وسفيان الثوري ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وأضعاف أضعافهم حصل عنده علم ضروري من أعظم العلوم الضرورية أن الواحد من هؤلاء لا يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تواترت عنه أخبارهم من أهل زماننا وغيرهم حصل له هذا العلم الضروري ولكن قد يجوز على أحدهم الغلط الذي يليق به، ثم خبر الفاسق والكافر بل ومن عرف الكذب قد تقترن به قرائن تفيد علما ضروريّا أن المخبر صادق في ذلك الخبر فكيف ممن عرف منه الصدق في الأشياء فمن كان خبيرا بحال النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل زوجته خديجة وصديقه أبي بكر إذا أخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم بما رآه أو سمعه حصل له علم ضروري بأنه صادق في ذلك ليس هو كاذبا في ذلك ثم أن النبيّ لا بد أن يحصل له علم ضروري بأن ما أتاه صادق أو كاذب فيصير إخباره عمّا علمه بالضرورة كأخبار أهل التواتر عما علموه بالضرورة.

وأيضا فالمتنبئ الكذاب كمسيلمة والعنسي ونحوهما يظهر لمخاطبه من كذبه في أثناء الأمور أعظم ما يظهر من كذب غيره فإنه إذا كان الإخبار عن الأمور المشاهدة لا بد أن يظهر فيه كذب الكاذب فما الظن بمن يخبر عن الأمور الغائبة التي تطلب منه، ومن لوازم النبيّ التي لا بد منها الإخبار عن الغيب الذي أنبأ الله تعالى به فإن لم يخبر عن غيب لا يكون نبيّا فإذا أخبرهم المتنبئ عن الأمور الغائبة عن حواسهم من الحاضرات والمستقبلات والماضيات فلا بد أن يكذب فيها ويظهر لهم كذبه، وإن كان قد يصدق أحيانا في شيء كما يظهر كذب الكهان والمنجمين ونحوهم وكذب المدعين للدين والولاية والمشيخة بالباطل فإن الواحد من هؤلاء وإن صدق في بعض الوقائع فلا بد أن يكذب في غيرها بل يكون كذبه أغلب من صدقه بل تتناقض أخباره وأوامره، وهذا أمر جرت به سنة الله التي لن تجد لها تبديلا قال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1» .

وأما النبيّ الصادق المصدوق فهو فيما يخبر به عن الغيوب توجد أخباره صادقة مطابقة وكلما زادت أخباره ظهر صدقه، وكلما قويت مباشرته وامتحانه ظهر صدقه كالذهب الخالص الذي كلما سبك خلص وظهر جوهره بخلاف المغشوش

(1) سورة النساء، الآية:82.

ص: 202

فإنه عند المحنة ينكشف ويظهر أن باطنه خلاف ظاهره، ولهذا جاء في النبوات المتقدمة أن الكذاب لا يدوم أمره أكثر من مدة قليلة إما ثلاثين سنة وإما أقل فلا يوجد مدعي النبوة كذبا إلا ولا بد أن ينكشف ستره ويظهر أمره، والأنبياء الصادقون لا يزال يظهر صدقهم بل الذين يظهرون العلم ببعض الفنون والخبرة ببعض الصناعات والصلاح والدين والزهد لا بد أن يتميز هذا من هذا وينكشف، فالصادقون يدوم أمرهم، والكذابون ينقطع أمرهم، هذا أمر جرت به العادة وسنة الله التي لن تجد لها تبديلا.

وأما المخبر عنه وبه كالنبيّ يخبر عن الله تعالى بأنه أخبر بكذا أو أنه أمر بكذا فلا بد أن يكون خبره صدقا وأمره عدلا قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)«1» والأمور التي يخبر بها ويأمر بها تارة تنبه العقول على الأمثال والأدلة العقلية التي يعلم بها صحتها فيكون ما علمته العقول بدلالته وإرشاده من الحق الذي أخبر به، والخبر الذي أمر به شاهد بأنه هاد ومرشد معلم للخبر ليس بمضل ولا مغو ولا معلم للشر، وهذه حال الصادق البر دون الكاذب الفاجر، فإن الكاذب الفاجر لا يتصور أن يكون ما يأمر به عدلا وما يخبر به حقّا وإذا كان أحيانا يخبر ببعض الأمور الغائبة كشيطان يقرن به يلقي إليه ذلك أو غير ذلك فلا بد أن يكون كاذبا فاجرا كما قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223)«2» .

وهذا بيان لأن الذي يأتيه ملك لا شيطان، فإن الشيطان لا ينزل على الصادق البار ما دام صادقا بارا إذ لا يحصل مقصوده بذلك وإنما ينزل على من يناسبه في التشطين وهو الكاذب الأثيم، والأثيم الفاجر.

وتارة يخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمور ويأمر بأمور لا يتبين للعقول صدقها ومنفعتها في أول الأمر، فإذا صدق الإنسان خبره وأطاع أمره وجد في ذلك من البيان للحقائق والمنفعة والفوائد ما يعلم به أن عنده من عظيم العلم والصدق والحكمة ما لا يعلمه إلا الله تعالى أعظم ما يتبين به صدق الطبيب إذا استعمل ما يصفه من الأدوية، وصدق العقل المشير إذا استعمل ما يراه من الآراء وأمثال ذلك، وحينئذ فيحصل للنفوس علم ضروري بكمال عقله وصدقه فإذا أخبر بعد ذلك عن أمور ضرورية يراها أو يسمعها حصل للنفوس علم ضروري بأنه صادق لا يتعمد الكذب وأنه

(1) سورة الأنعام، الآية:115.

(2)

سورة الشعراء، الآيات: 221 - 223.

ص: 203

متيقن لما أخبر به ليس فيه خطأ ولا غلط أعظم ما يتبين به صدق من أخبر عما رآه من الرؤيا أو عما رآه من العجائب وأمثال ذلك، فإن الخبر إنما تأتيه الآفة من تعمد الكذب أو الخطأ بأن يظن الأمر على خلاف ما هو عليه فإن كان من العلوم الضرورية التي كلما دامت قويت وظهرت وزادت زال احتمال الخطأ وما كان يتحرى الصدق الذي يعلم معه بالضرورة انتفاء تعمد الكذب هو وغيره من الأمور التي يعلم معها انتفاء تعمد الكذب ويزول معه احتمال تعمده، وأما العلم بالعدل فيما يؤمر به وبالعدل الفاضل فيما يأمره فهذا يعلم تارة ممّا نبينه من الأدلة العقلية ونضربه من الأمثال وهذا هو الغالب على ما يذكره الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أصول الدين علما وعملا وتارة يظهر ذلك بالتجربة والامتحان وتارة يستدل بما علم على ما يعلم.

وأيضا فقد علم أن العالم ما زال فيه نبوة من آدم عليه السلام إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فالنبيّ الثاني يعلم صدقه بأمور منها إخبار النبيّ الأول به كما بشر بنبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام الأنبياء من قبله، وكذلك بشر بالمسيح الأنبياء من قبله.

وتارة يعلم صدقه بأن يأتي بمثل ما أتوا به من الخبر والأمر فإن الكذاب الفاجر لا يتصور أن يكون في أخباره وأوامره موافقا للأنبياء بل لا بد أن يخالفهم في الأصول الكلية التي اتفق عليها الأنبياء كالتوحيد والنبوات والمعاد كما أن القاضي الجاهل أو الظالم لا بد أن يخالف سنة القضاة العالمين العادلين، وكذلك المفتي الجاهل أو الكاذب، والطبيب الكاذب أو الجاهل فإن كل هؤلاء لا بد أن يتبين كذبهم أو جهلهم بمخالفتهم لما مضت به سنة أهل العلم والصدق، وإن كان قد يخالف بعضهم بعضا في أمور اجتهادية فإنه يعلم الفرق بين ذلك وبين المخالفة في الأصول الكلية التي لا يمكن انخرامها ولهذا يتميز للناس في الأمراء والحكام والمفتين والمحدثين والأطباء وسائر الأصناف بين العالم الصادق وإن خالف غيره من أهل العلم في الصدق في أشياء وبين من يكون جاهلا أو كاذبا ظالما ويفرقون بين هذا وهذا كما أنهم يعلمون من سيرة أبي بكر وعمر من العلم والعدل ما لا يرتابون فيه وإن كان بينهما منازعات في أمور اجتهادية كالتفضيل في العطاء ونحو ذلك.

وأيضا فإذا أخبر اثنان عن قضية طويلة ذات أجزاء وشعب لم يتواطآ عليها ويمتنع في العادة اتفاقهما فيها على تعمد الكذب والخطأ علمنا صدقهما مثل أن يشهد رجلان واقعة من وقائع الحروب أو يشهدا الجمعة أو العيد أو موت ملك أو

ص: 204

تغير دولة ونحو ذلك أو يشهدا خطبة خطيب أو كتابا لبعض الولاة أو يطالعا كتابا من الكتب أو يحفظاه ونعلم أنهما لم يتواطآ ثم يجيء أحدهما فيخبر بذلك كله مفصلا شيئا فشيئا من غير تواطؤ فيعلم أنهما صادقان ويخبر الآخر بمثل ما أخبر به الأول مفصلا شيئا فشيئا من غير تواطؤ فيعلم أنهما صادقان حتى لو كان رجلان يحفظان بعض قصائد العرب كقصيدة امرئ القيس أو غيرها وهناك من لا يحفظها، وهناك شخصان لا يعرف أحدهما الآخر فقال الذي لا يحفظها لأحدهما:

أنشدنيها فأنشدها، ثم طلب الآخر وقال له: أنشدنيها فأنشدها كما أنشدها الأول علم المستمع أنها هي هي، بل وكذلك كتب الفقه والحديث واللغة والطب وغير ذلك، ولو بعث بعض الملوك رسلا إلى أمرائه ونوابه في أمر من الأمور ثم أخبر أحد الرسولين بأنه أمر بأمر ذكره وفصّله وأخبر الآخر بمثل ذلك للقوم الذين أرسل إليهم من غير علم منه بإرسال الآخر لعلم قطعا أن ذلك الأمر هو الذي أمر به المرسل وأنهما صادقان فإنه يعلم علما ضروريّا أنه يمتنع في الكذب والخطأ أن يتفق في مثل هذا.

ومعلوم أن موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين كانوا قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد أخبروا عن الله سبحانه وتعالى من توحيده وأسماءه وصفاته وملائكته وأمره ونهيه ووعده ووعيده وإرساله بما أخبروا به، ومعلوم أيضا لمن علم حال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان رجلا أمّيّا نشأ بين قوم أميّين ولم يكن يقرأ كتابا ولا يكتب بخطه كما قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48)«1» وأن قومه الذين نشأ بينهم لم يكونوا يعلمون علوم الأنبياء بل كانوا من أشد الناس شركا وجهلا وتبديلا وتكذيبا بالمعاد، وكانوا من أبعد الأمم عن توحيد الله سبحانه، ومن أعظم الأمم إشراكا بالله عز وجل، ثم إذا تدبرت القرآن والتوراة وجدتهما يتفقان في عامة المقاصد الكلية من التوحيد والنبوات والأعمال الكلية وسائر الأسماء والصفات ومن كان له علم بهذا علم علما ضروريّا ما قاله النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، وما قاله ورقة بن نوفل: إن هذا الناموس الذي كان يأتي موسى.

قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ «2» وقال تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ

(1) سورة العنكبوت، الآية:48.

(2)

سورة الأحقاف، الآية:10.

ص: 205

قَبْلِكَ «1» وقال تعالى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «2» .

وأمثال ذلك ممّا يذكر فيه شهادة الكتب المتقدمة بمثل ما أخبر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الأخبار منقولة عند أهل الكتاب بالتواتر كما نقل عندهم بالتواتر معجزات موسى وعيسى عليهما السلام وإن كان كثيرا ممّا يدعونه من أدق الأمور لم يتواتر عندهم لانقطاع التواتر فيهم فالفرق بين الجمل الكلية المشهورة التي هي أصل الشرائع التي يعلمها أهل الملل كلهم وبين الجزئيات الدقيقة التي لا يعلمها إلا خواص الناس ظاهر ولهذا كان وجوب الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وحج البيت وتحريم الفواحش والكذب ونحو ذلك متواترا عند عامة المسلمين وأكثرهم لا يعلمون تفاصيل الأحكام والسنن المتواترة عند الخاصة فإذا كان في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب وفيما ينقلونه بالتواتر ما يوافق ما أخبر به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كان في ذلك فوائد جليلة هي من بعض حكمه إقرارهم بالجزية:

أحدها: أنه إذا علم اتفاق الرسل على مثل هذا علم صدقهم فيما أخبروا به عن الله تعالى حيث أخبر محمد صلى الله عليه وسلم بمثل ما أخبر به موسى من غير تواطؤ ولا تشاعر.

الثاني: أن ذلك دليل على اتفاق الرسل كلهم في أصول الدين كما يعلم أن رسل الله قبله كانوا رجالا من البشر لم يكونوا ملائكة فلا يجعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بها كما قال تعالى: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ «3» وقال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)«4» .

الثالث: أن هذه آية على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بمثل ما أخبرت به الأنبياء من غير تعلم من بشر وهذه الأمور هي من الغيب قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)«5» .

وقال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ

(1) سورة يونس، الآية:94.

(2)

سورة الرعد، الآية:43.

(3)

سورة الأحقاف، الآية:9.

(4)

سورة يوسف، الآيات: 109 - 111.

(5)

سورة هود، الآية:49.

ص: 206

يَمْكُرُونَ (102)«1» وقال تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) * وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)«2» .

وكثير من أهل الكتاب آمنوا بمثل هذه الطرق، قال تعالى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً* (109)«3» وقال تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)«4» وقال تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)«5» .

ولا ريب أن منكري النبوات لهم شبه؛ منها: إنكار أن يكون رسول الله بشرا ومنها: دعوى أن الذي يأتيه شيطان لا ملك وغير ذلك وكل ذلك قد أجاب الله تعالى عنه في القرآن العظيم وقرر ذلك بأبلغ تقرير لكن جواب هذا السؤال لا يتسع لبسط ذلك في القرآن، قال تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ «6» .

(1) سورة يوسف، الآية:102.

(2)

سورة القصص، الآيات: 44 - 55.

(3)

سورة الإسراء، الآيات: 107 - 109.

(4)

سورة الرعد، الآية:36.

(5)

سورة سبأ، الآية:6.

(6)

سورة يونس، الآيتان: 1 - 2.

ص: 207

وقال تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (95)«1» .

وقال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)«2» بين أن الرسول لو كان ملكا لكان في صورة رجل إذ لا يستطيعون الأخذ عن الملك على صورته ولو كان في صورة رجل لعاد اللبس وقالوا: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا.

وقال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «3» وقال تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8)«4» فأمر سبحانه بمسألة أهل الذكر إذ ذلك ممّا تواتر عندهم أن الرسل كانوا رجالا، وقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً «5» .

وبالجملة: فتقرير النبوات من القرآن أعظم من أن يشرح في هذا المقام إذ ذلك هو عماد الدين وأصل الدعوة النبوية وينبوع كل خير وجماع كل هدى وأما حال المخبر عنه فإن النبيّ والرسول يخبر عن الله تعالى بأنه أرسله ولا أعظم فرية ممن يكذب على الله عز وجل كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ «6» ذكر هذا بعد قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ «7» .

فنقض سبحانه دعوى الجاحد النافي للنبوة بقوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ

(1) سورة الإسراء، الآيتان: 94 - 95.

(2)

سورة الأنعام، الآيات: 7 - 9.

(3)

سورة يوسف، الآية:109.

(4)

سورة الأنبياء، الآيتان: 7 - 8.

(5)

سورة الرعد، الآية:38.

(6)

سورة الأنعام، الآية:93.

(7)

سورة الأنعام، الآيات: 91 - 93.

ص: 208

بِهِ مُوسى «1» وهذا الكتاب ظهر فيه من الآيات والبينات واتبعه كل الأنبياء والمؤمنين وحصل فيه ما لم يحصل في غيره، فكانت البراهين والدلائل على صدقه أكثر وأظهر من أن تذكر بخلاف الإنجيل وغيره.

وأيضا فإنه أصل والإنجيل تبع له إلا فيما أحله المسيح وهذا كما يقول سبحانه: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا «2» أي القرآن والتوراة، وفي القراءة الأخرى قالوا: ساحران أي محمد والقرآن وكذلك قوله:

إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)«3» وكذلك قوله: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً «4» وكذلك قول الجن: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ «5» ، ولهذا كانت قصة موسى هي أعظم قصص الأنبياء المذكورين في القرآن وهي أكبر من غيرها وتبسط أكثر من غيرها.

قال عبد الله بن مسعود: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة نهاره يحدثنا عن بني إسرائيل «6» .

ولما قرر الصدق بين حال الكذابين بأنهم ثلاثة أصناف، إذ لا يخلو الكذاب من أن يضيف الكذب إلى الله تعالى ويقول: إنه أنزله أو يحذف فاعله ولا يضيفه إلى أحد أو أن يقول إنه هو الذي وضعه معارضا، فقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ «7» .

وأما المخبر عنه فإنه الله تعالى، ولا ريب أنه يعلم من أمور الرب سبحانه

(1) سورة الأنعام، الآية:91.

(2)

سورة القصص، الآية:48.

(3)

سورة المزمل، الآية:15.

(4)

سورة هود، الآية:17.

(5)

سورة الأحقاف، الآية:30.

(6)

أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (6255 إحسان) وأبو داود في سننه برقم (3663) وأحمد في المسند (4/ 437 و444) والطبراني في معجمه الكبير (18/ 510) والبزار في مسنده برقم (223 و230) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ولفظ ابن حبان:«لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا اليوم والليلة عن بني إسرائيل ما يقوم إلا لحاجة» .

ولفظ أبي داود: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح ما يقوم إلا إلى عظم صلاة» .

والحديث صححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (3111).

(7)

سورة الأنعام، الآية:93.

ص: 209

بما نصبه من الأدلة المعاينة الحسية التي يعقل بها نفسها وبالأمثال المضروبة وهي الأقيسة العقلية ما يمتنع معه خفاء كذب الكاذب بل يمتنع معه خفاء كذب الكاذب بل يمتنع معه خفاء صدق الصادق، فالدجال مثلا قد علم بوجوه متعددة ضرورية أنه ليس هو الله وأنه كافر مفتقر وإذا كانت دعواه معلوما كذبها ضرورة لم يكن ما يأتي به من الشبهات مصدقا لها، إذ العصمة الضرورية لا تقدح فيها الطرق النظرية فإن الضروريات أصل النظريات فلو قدح بها فيها لزم إبطال الأصل بالفرع فيبطلان جميعا فإنه يظهر أيضا من عجزه ما ينفي دعواه.

وكذلك من أباح الفواحش والمظالم والشرك والكذب مدعيا للنبوة يعلم بالاضطرار كذبه، للعلم الضروري بأن الله سبحانه لا يأمر بهذا سواء قيل أن العقل يعلم به حسن الأفعال وقبحها أو لا يعلم به، فليس كلما أمكن في العقل وقوعه، وكان الله قادرا عليه يشك في وقوعه، بل نحن نعلم بالضرورة أن البحار لم تقلب دما، وأن الجبال لم تقلب يواقيت وأمثال ذلك من المعادن، وإن لم يسند ذلك إلى دليل معين، وإن كنّا عالمين بأن الله تعالى قادر على قلب ذلك لكن العلم بالوقوع وعدمه شيء، والعلم بإمكان ذلك من قدرة الله سبحانه شيء، وكل ذي فطرة سليمة يعلم بالاضطرار أن الله تعالى لا يأمر عباده بالكذب والظلم والشرك والفواحش وأمثال ذلك ممّا قد يأتي به كثير من الكذابين بل يعلم بفطرته السليمة ما يناسب حال الربوبية، وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه ولكن نذكر ما أشار إليه مصنف العقيدة.

ص: 210