الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [طريقة إثبات السلف والأئمة لكلام الله سبحانه والرد على المشبهة]
وأما قوله: (والدليل على كونه متكلما أنه آمر وناه لأنه بعث الرسل لتبليغ أوامره ونواهيه ولا معنى لكونه متكلما إلا ذلك) فنقول: السلف والأئمة وغيرهم لهم في إثبات كونه متكلما طريقان فإنهم يثبتون ذلك بالسمع تارة وبالعقل أخرى كما يوجد مثل ذلك في كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وفي كلام متكلمة الصفاتية كعبد العزيز المكي وأبي محمد بن كلاب وأبي عبد الله بن كرام وأبي الحسن الأشعري ونحوهم، والطرق التي أظهروها من العقليات قد دل عليها القرآن، وأرشد إليها كما دل القرآن على الطرق العقلية التي يثبت بها سائر قواعد العقائد المسماة بأصول الدين.
لكن الدليل قد تتنوع عباراته وتراكيبه فإنه تارة يركب على وجه الشمول المنقسم إلى قياس تداخل وقياس تلازم وقياس تعاند الذي يسمى بالحملي والشرطي المتصل والشرطي المنفصل، وتارة يركب على وجه قياس التمثيل المفيد لليقين بأن يجعل المشترك بين الأصل والفرع الذي يسمى في قياس التمثيل: المناط والوصف والعلة والمشترك والجامع ونحو ذلك من العبارات هو الحد الأوسط في قياس الشمول فإذا قال ناظم القياس الأول: نبيذ الحبوب المسكر حرام قياسا على خمر العنب لأنه خمر فكان حراما قياسا عليه فهذا كمال في نظم قياس الشمول:
هذا خمر وكل خمر حرام، أو فيه الشدة المطربة وما فيه الشدة المطربة فهو حرام وما يثبت به هذه المقدمة الكبرى يثبت به كون المشترك علة الحكم.
وبهذا تبين أن قياس التمثيل قد يكون أتم في البيان من قياس الشمول، فأما ما يقوله طائفة من النظار من أن قياس الشمول هو الذي يفيد اليقين دون التمثيل فهذا لا يصح إلا بحسب المواد بأن يوجد ذلك في مادة يقينية وهذا في مادة ظنية، وحينئذ فقد يقال: بل ذلك يفيد اليقين دون هذا، وسبب غلطهم أنهم تعودوا كثيرا استعمال التمثيل في الظنيات واستعمال الشمول في اليقينيات عندهم فظنوا هذا من صور القياس، وليس الأمر كذلك بل هو من المادة.
وقد بسط الكلام على هذا في مواضع غير هذا الموضع كالرد على الغالطين في المنطق وغير ذلك، ثم القياس تارة يعتبر فيه القدر المشترك من غير اعتبار الأولوية، وتارة يعتبر فيه الأولوية فيؤلف على وجه قياس الأولى، وهو إن كان قد يجعل نوعا من قياس الشمول والتمثيل فله خاصة يمتاز بها عن سائر الأنواع وهو أن يكون الحكم المطلوب أولى بالثبوت من الصورة المذكورة في الدليل الدال عليه، وهذا النمط هو الذي كان السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره من السلف يسلكونه من القياس العقلي في أمر الربوبية وهو الذي جاء به القرآن وذلك أن الله سبحانه لا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قياس الشمول الذي تستوي أفراده ولا تحت قياس التمثيل الذي يستوي فيه حكم الأصل والفرع، فإن الله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء لا في نفسه المذكورة بأسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله ولكن يسلك في شأنه قياس الأولى كما قال:
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى «1» .
فإنه من المعلوم أن كل كمال ونعت ممدوح لنفسه لا نقص فيه يكون لبعض الموجودات المخلوقة المحدثة، فالرب الخالق الصمد القيوم القديم الواجب الوجود بنفسه هو أولى به، وكل نقص وعيب يجب أن ينزه عنه بعض المخلوقات المحدثة الممكنة فالرب القدوس السلام القديم الواجب وجوده بنفسه هو أولى بأن ينزه عنه.
وأما إذا سلك مسلك المشبهين لله بخلقه المشركين به الذين يجعلون له عدلا وندّا ومثلا، فيسوون بينه وبين غيره في الأمور كما يفعله أهل الضلال من أهل الفلسفة والكلام من المعتزلة وغيرهم، فإن ذلك يكون قولا باطلا من وجوه، منها:
أن تلك القضية الكلية التي تعمه وغيره قد لا يمكنها إثباتها عامة إلا بمجرد قياس التمثيل، وقياس التمثيل إن أفاد اليقين في غير هذا الموضع ففي هذا الموضع قد لا يفيد الظن للعلم بانتفاء الفارق.
ومنها: أنهم إذا حكموا على القدر المشترك الذي هو الحد الأوسط بحكم يتناوله والمخلوقات كانوا بين أمرين إما أن يجعلوه كالمخلوقات، أو يجعلوا المخلوقات مثله فينتقض عليهم طرد الدليل فيبطل.
ومثال ذلك إذا قال الفيلسوف: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وهو واحد فلا يصدر عنه إلا واحد، فإنه يحتاج أن يعلم أولا قوله الواحد لا يصدر عنه
(1) سورة النحل، الآية:60.
إلا واحد، فإن هذه قضية كلية، وكل قياس شمولي فلا بد فيه من قضية كلية، وعلله بأن كل واحد لا يصدر عنه إلا واحد إما أن يكون باستقراء الآحاد، وإما بقياس بعضها إلى بعض، وهذا استقراء ناقص وهذا تمثيل وهما عنده لا يفيدان اليقين. فإن قال: أعلم بالبديهة أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد كان هذا مكابرة لعقله فإن العلوم الكلية المطابقة للأمور الخارجية ليست مغروزة في الفطرة ابتداء بدون العلم بأمور معينة منها.
لكن لكثرة العلم بالأمور المعينة الجزئية يجرد العقل الكليات فتبقى القضية العامة ثابتة في العقل لا تحتاج إلى شواهد وأمثلة جزئية إلا أن يكون علم تلك القضية العقلية من تركيب قضايا أخر.
وقوله: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ليس من هذا ولا من هذا ثم إذا تصور مفردات هذه القضية علم يقينا أنه ليس عنده منها علم بل علم أن الواقع خلافها.
فإن قوله: الواحد إن عنى به الواحد الذي لا يعلم منه أمران ليس أحدهما الآخر فليس في الوجود واحد بهذا الاعتبار فإنه يعلم أن واجب الوجود موجود، وأنه عاقل ومعقول وعقل وأن له عناية، وأمثال هذه المعاني التي ليس أحدها هو الآخر فإن الوجوب ليس هو الوجود ولا الوجوب، والوجود هو العاقل ولا العاقل هو المعقول ولا العاقل الوجود والمعقول هو ذو العناية وإن قال هذه كلها سلوب وإضافات محضة كان مكابرا لعقله، فإن كون الشيء يعقل ليس هو كونه يعقل ولا كونه عالما مجرد نسبة محضة إلى المعلوم كالأمور الإضافية التي لا يتغير بها حال المضاف كالتيامن والتياسر، فإنه من المعلوم أن كون الشيء متيامنا أو متياسرا عنك لا يختلف به حالك في الموضعين.
وأما كون الشيء عالما فيخالف كونه غير عالم، كما أن كونه محبّا يخالف كونه غير محب، وكونه قادرا يخالف كونه غير قادر ومن جعل الشيء حال كونه عالما وحال كونه غير عالم سواء فهو مصاب في عقله، وهذا من أعظم السفسطة «1» ، وكذلك من جعل كونه ذا عناية هو مجرد كونه عاقلا فإن هذا من أعظم السفسطة والعقل الصريح يعلم أن كون الشيء عالما ليس هو مجرد كونه مريدا، ولا مجرد كونه مريدا هو مجرد كونه عالما، ولو قيل: إن أحدهما يستلزم الآخر فالتلازم لا يوجب كون الملزوم هو اللازم، وإذا قيل: في أي موجود فرض
(1) السفسطة: قياس مركب من الوهميات، والغرض منه تغليظ الخصم وإسكاته.
انظر التعريفات للجرجاني (ص 157).
أن علمه هو إرادته، وإرادته هي حياته، وأن ذلك هو وجوده كان فساد هذا من أبين الأمور في العقل كما إذا قيل: إن هذه التفاحة طعمها هو مجرد لونها، ولونها هو مجرد ريحها، وريحها هو مجرد شكلها، وشكلها هو عين ذاتها. فهذا الكلام من تصوره من الناس وفهمه حتى الصبيان المميزين علم أن قائله من أضل الناس وأجهلهم، فهذا الواحد الذي يصفونه يمتنع في الموجود الواجب فهو في غيره أشد امتناعا، ولهذا يؤول بهم الأمر إلى أن يجعلوه وجودا مطلقا بشرط الإطلاق كما يجعله المعتزلة ذاتا مجردة من الصفات وكلاهما ممّا يعلم بصريح العقل انتفاء ثبوته في الخارج بل المطلق لا بشرط يمتنع ثبوته في الخارج، وهم يجعلون موضوع العلم الإلهي هذا الموجود المنقسم إلى واجب وممكن «1» وجوهر «2» وعرض «3» وعلة «4» ومعلول، ويجعلون هذا هو الفلسفة الأولى والحكمة العظمى ولم يعلموا أن الكليات المقسومة سواء سميت جنسا أو لم تسم جنسا لا توجد في الخارج كلية فليس في الخارج الحيوان المنقسم إلى ناطق وأعجم ولا الوجود المنقسم إلى جوهر وعرض بل كل حيوان يوجد في الخارج فهو من هذا القسم، وكل موجود يوجد في الخارج فهو إما قائم بغيره، وهو المقسوم الصادق على أقسامه فهو مطلق لا بشرط الإطلاق فإنه لو شرط فيه الإطلاق لم يصدق على المعينات فإن المعين ليس مطلقا بشرط الإطلاق، فإذا كان المطلق لا بشرط الإطلاق لا يوجد في الخارج فلا يوجد فيه حيوان مطلق بشرط الإطلاق ولا إنسان مطلق بشرط الإطلاق وهذا بيّن لجميع العقلاء.
ثم قالوا في الموجود الواجب الوجود إنه وجود مطلق بشرط الإطلاق وقد علم بصريح العقل أن الوجود المطلق بشرط الإطلاق لا يكون في الخارج وإنما هو
(1) الممكن: هو ما يقتضي لذاته أن لا يقتضي شيئا من الوجود والعدم كالعالم.
انظر التعريفات للجرجاني (ص 286).
(2)
الجوهر: هو ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع، وهو منحصر في خمسة:
هيولى وصورة وجسم ونفس وعقل.
انظر التعريفات للجرجاني (ص 112).
(3)
العرض: ما يعرض في الجوهر مثل الألوان والطعوم والذوق واللمس وغيرها ممّا يستحيل بقاؤه بعد وجوده.
انظر التعريفات للجرجاني (ص 194).
(4)
العلة: هي ما يتوقف عليه وجود الشيء ويكون طارئا مؤثرا فيه، وعلة الشيء ما يتوقف عليه ذلك الشيء.
وانظر تفصيل ذلك في التعريفات للجرجاني (ص 199).
أمر يقدر في العقل لا حقيقة له في الخارج عن الذهن ولا ثبوت له في نفس الأمر وهذا عين التعطيل للموجود الواجب الذي شهد به الوجود من حيث هو وجود فإنّ الوجود من حيث هو وجود يشهد بوجود واجب الوجود كما قال ابن سينا «1» وغيره وأصابوا في ذلك فإنه لا ريب أن ثم وجودا وأنه إما واجب وإما ممكن والممكن لا بد له من واجب فثبت أنه لا بد في الوجود من موجود واجب.
فهذا البيان الذي ذكروه في إثبات واجب الوجود حق واضح مبيّن ولكنهم زعموا مع ذلك أنه وجود مطلق بشرط الإطلاق لا يتعين ولا يتخصص بحقيقة يمتاز بها عن سائر الموجودات بل حقيقته وجود محض مطلق بشرط نفي جميع القيود والمعينات والمخصصات وهم يعلمون في المنطق وكل عاقل تصور هذا الكلام أن هذا لا حقيقة له ولا وجود له إلا في الذهن لا في الخارج فصار الموجود الواجب الذي يشهد به الوجود في الخارج لا يوجد إلا في الذهن وهذا من أبين التناقض والاضطراب والجمع بين النقيضين حيث جعلوه بموجب البرهان الحق موجودا في الخارج وبموجب سلب الصفات هو التوحيد الذي تخيلوه معدوما في الخارج فصار قولهم مستلزما لوجوده وعدمه، وكذلك قول من سلك سبيلهم من القرامطة الباطنية «2» كأصحاب رسائل أخوان الصفا وأمثالهم من الاتحادية أهل وحدة الوجود كابن سبعين وابن عربي «3» ونحوهما، بل وسبيل نفاة الصفات من أهل الكلام كالمعتزلة وغيرهم بل وسبيل سائر من نفى شيئا من الصفات فإن لازم كلامه تعطيله ونفيه مع إقراره بثبوته فيكون جامعا بين النقيضين وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
وإنما المقصود هنا التنبيه على مثال أقيستهم الفاسدة التي يجعلونها براهين فيما خالفوا فيه الحق، ثم إذا تبين أن هذا الواحد ليس له حقيقة في الخارج قيل لمن قال: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد: ما معنى الصدور؟ أنت لا تعني به حدوثه عنه ولا فعله له بمشيئته وقدرته فعلا يسبق به الفاعل مفعوله وإنما تعني به
(1) تقدمت ترجمته.
(2)
تقدم تعريفها.
(3)
هو محيي الدين أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن أحمد الطائي المرسي ابن عربي النكرة الضال نزيل دمشق، وصاحب فصوص الحكم الذي قال فيه الإمام الذهبي رحمه الله: ومن أردإ تواليفه كتاب الفصوص فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر، نسأل الله العفو والنجاة فوا غوثاه بالله.
وقال الإمام العز بن عبد السلام: ابن عربي شيخ سوء كذاب.
توفي سنة ثمان وثلاثين وست مائة.
لزومه له ووجوبه به ونحن لا نتصور في الموجودات شيئا صدر عنه وحده شيء منفصل عنه كان لازما له قبل هذا الوجه بل ما لزمه وحده كان صفة له إما أن يكون اللازم للملزوم وحده شيئا منفصلا عنه فهذا بيان غير معقول ومعروف فهذا الصدور الذي ذكرته غير معروف.
فقولك في هذه القضية الكلية للواحد لا يصدر عنه إلا واحد يقتضي الحكم على كل ما يتصور أنه واحد بأنه لا يصدر عنه إلا واحد فإذا لم يتصور هذا الصدور ولا يعلم صدق هذا السلب في صورة معينة من صور هذه القضية الكلية فمن أين تعلم هذه القضية الكلية؟
وإذا استدلوا على ذلك بالنار التي لا يصدر عنها إلا الإحراق وبسائر الأجسام البسيطة كالماء أو بالشمس التي يصدر عنها الشعاع؛ لم يكن شيء من هذه المعينات داخلا في قضيتهم الكلية؛ فإن الإحراق لا يصدر عن النار وحدها، بل لا بد من محل قابل للإحراق ولهذا لا يصدر عنها الإحراق في السمندل والياقوت، ونحوهما من الأجسام التي لا تقبل الإحراق، وكذلك المبردات.
ثم إن الإحراق له موانع تمنعه فهو موقوف على ثبوت شروط وانتفاء موانع غير النار فلم يصر صادرا عن النار بالمعنى الذي أرادوه بالحجة وهو لزومه لذات النار بحيث لا ينفك عنها.
وإنما يعقل هذا اللزوم في صفات الملزوم كاستدارة الشمس والضوء القائم بها ونحو ذلك، فإن هذا لازم لا يفارق ذاتها بخلاف الضوء القائم بما يقابلها من الأجسام وهو الشعاع المنعكس على الأجسام المسطحة كالأرض والقائمة كأشخاص الجبال والحيوان والنبات والحيطان، فإن هذا ليس لازما لذات الشمس بل هو موقوف على وجود هذه الحال التي يقوم بها هذا العرض.
وهو أيضا ممنوع عنها بالحجب كالسحاب الكثيف والكسوف وغير ذلك وهذا الشعاع كالظل يكون بسبب الحجاب بينها وبين ما يظله الحجاب فيوجد تارة ويعدم أخرى ولهذا يوجد الليل تارة والنهار أخرى.
فهذا بيان أن ما قدروه من الواحد ومن الصدور عنه أمر لا يعقل في الخارج أصلا فضلا عن أن يكون قضية كلية عامة، وأما إذا قدروا واحدا يفرضونه في أنفسهم وصدورا يفرضونه في أنفسهم فلا ريب أن هذا ملازمة حكم يكون في أنفسهم لكن لا يعلم أنه مطابق للخارج حتى يعلم أن هذا الواجب الوجود هو هذا الواحد وأن إبداعه للعالم هو هذا الصدور ولو علموا ذلك لم يحتاجوا إلى هذا القياس.
فهذا القياس لا يفيدهم شيئا إذ مطلوبه علم معين بقضية كلية وتلك القضية لا مرد لها أصلا إلا ما يدعونه في ذلك المعين فهم إن علموا ثبوت الحكم لذلك المعين بدون تلك القضية لم يحتاجوا إليها وإن لم يعلموا ثبوت الحكم للمعين بدون تلك لم يعلم صدق القضية عليه فلا يفيد بل إذا عورضوا بنقيض ما قالوه كان أبين في القياس فيقال لهم: ليس في الوجود واحد يصدر عنه واحد بل كل صادر في الوجود فهو عن اثنين فصاعدا فلا حادث عن المخلوقات إلا عن أصلين كالولد بين أبوين والتسخين والتدبير والإحراق والإغراق وغير ذلك لا بد فيه من اثنين والشعاع المنبسط لا بد فيه من اثنين فإذا لم يكن في الوجود واحد لا يصدر عنه واحد كان قول القائل: ليس كل واحد لا يصدر عنه إلا واحد أصح في العقل والقياس من قولهم.
بل لو قال: الواحد الذي ذكروه لا يصدر عنه شيء أصلا لكان قوله أصح في العقل والقياس من قولهم، وكذلك إذا قيل: الواحد الذي ذكروه لا يصدر عنه شيء إلا مع غيره لكان قوله أصح من قولهم، وذلك يقتضي أن يكون للرب شريك وولد إذ مقصودهم بالصدور هو لزومه إياه وهذا هو التوليد العقلي، وحقيقة قولهم: إن العقول والنفوس متولدة عنه، وقولهم بالعلة والمعلول هو القول بالتولد والمتولد عنه- فاستطرد شيخ الإسلام كلامهم إلى أن قال «1» -:
فإنه يحتاج أن يعلم أولا أنهم: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)«2» .
وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع وبيّنا أن قول هؤلاء أفسد من قول مشركي العرب الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله، وقالوا: إن آلهتنا تشفع لنا فإن أولئك كانوا يقولون: إن الرب فاعل مختار والملائكة مخلوقون له، ولكن ضلوا في بعض ما وصفوه كما ضلت النصارى في بعض ما ذكروه، وأما هؤلاء أعظم ضلالا من اليهود والنصارى ومشركي العرب فإنهم في الحقيقة لا يجعلون الرب تعالى خالقا لشيء ولا يفعل فعلا بمشيئته واختياره ولا يجعلون الملائكة عباده بل
(1) هذا من كلام الناسخ.
(2)
سورة الأنعام، الآيات: 100 - 103.
يجعلون العقل الأول هو رب كل ما سوى الله، والشفاعة عندهم ليست سؤالا من الله تعالى من الشافع، بل توجه إلى الشافع حتى يفيض منه على المستشفع ما ليس لله ولا للشافع به علم عندهم ولا يحصل بقدرته ولا مشيئته.
والمقصود هنا التنبيه على أن طرق السلف والأئمة الموافقة للطرق التي دل القرآن عليها وأرشد إليها هي أكمل الطرق وأصحها وأكثر الناس صوابا في العقليات أقربهم إليهم كما أن أكثرهم صوابا في السمعيات أقربهم إليهم إذ العقل الصريح لا يخالف السمع الصحيح بل يصدقه ويوافقه كما قال تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ «1» وقال تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33)«2» .
ولهذا كان المتكلمة الصفاتية كابن كلاب والأشعري وابن كرام خيرا وأصح طريقا في العقليات والسمعيات من المعتزلة، والمعتزلة خيرا وأصح طريقا في العقليات ولا السمعيات من المتفلسفة وإن كان في قول كل من هؤلاء ما ينكر عليه وما خالف فيه العقل والسمع، ولكن من كان أكثر صوابا وأقوم قيلا كان أحق بأن يقدم على من هو دونه تنزيلا وتفضيلا.
قالت عائشة رضي الله عنها: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم» «3» وهذا من القسط الذي أمر الله به وأنزل به كتبه وبعث به رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ «4» وقال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ «5» .
والمقصود هنا: التنبيه على طرق الناس في إثبات كون الله تعالى متكلما تنبيها مختصرا بحسب ما يحتمله جواب هذا السؤال، والطرق نوعان: سمعية
(1) سورة سبأ، الآية:6.
(2)
سورة الفرقان، الآية:33.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه برقم (4842) عن ميمون عن عائشة رضي الله عنها أن سائلا مرّ بها فأعطته كسرة، ومرّ بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزلوا الناس منازلهم» .
وقال أبو داود بعد إخراجه للحديث: ميمون لم يدرك عائشة.
والحديث ضعفه العلامة الألباني في ضعيف سنن أبي داود برقم (1032) وفي الضعيفة برقم (1894).
(4)
سورة النساء، الآية:135.
(5)
سورة الحديد، الآية:25.
وعقلية، وإن كانت العقلية هي أيضا شرعية سمعية باعتبار أن السمع دل عليها وأرشد إليها وأن الشرع أحبها ودعا إليها لكن صاحب هذا المختصر إنما سلك طريقا سمعية اتباعا لمتبوعه أبي عبد الله بن الخطيب وهذه الطرق مبنية على مقدمتين.
إحداهما: أنه آمر ناه ومن كان كذلك فهو متكلم، والمقدمة الأولى مدلول عليها بأن الرسل بلّغوا أمره ونهيه وكل من المقدمتين واضحة فإن الكلام نوعان:
إنشاء وإخبار والإنشاء أمر ونهي وإباحة فإذا ثبت له نوع من أنواع الكلام ثبت مطلق الكلام فثبت أنه متكلم.
وأما الثانية: فقد علم بالاضطرار من دين جميع الرسل أنهم يخبرون عن الله بأنه أمر بكذا ونهى عن كذا فيلزم من ثبوت الرسالة ثبوت كلام الله تعالى وجحد كون الله متكلما هو جحد لما بلغت عنه الرسل من الأمر والنهي، فإن قيل: فما الفرق بين هذه الطرق وبين الطرق التي أثبت بها السمع والبصر وهو السمع، قيل:
هناك أثبت السمع والبصر بنفس الإخبار المنفصل مثل قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «1» وهنا أثبت تكلمه بمجرد إرسال الرسل من غير تعيين نص حيث قال:
علمنا أن الله تعالى أرسل رسله بتبليغ أمره ونهيه ولم يتعرض لإخبار السمع بأنه متكلم.
فإن قيل إذا أثبت المثبت تكلمه بالسمع وجب أن يكون السمع قد علمت صحته قبل العلم بكونه متكلما لكن الرسول إذا قال إن الله أرسلني إليكم يأمركم بتوحيده وينهاكم عن الإشراك به مثلا فإن لم يعلموا قبل ذلك جواز كونه متكلما لم يعلموا إمكان إرساله فلا يثبت السمع.
قيل: الجواب من وجهين: أحدهما أن ما علم بالسمع وقوعه يكفي فيه الإمكان الذهني وهو كونه غير معلوم الامتناع بل كل مخبر أخبرنا بخبر ولم نعلم كذبه جوزنا صدقه، ومتى كان فيه الصدق ممكنا لم يجز التكذيب بل أمكن أن يقام الدليل الدال على صدقه ووجوب تصديقه فيجب تصديقه، وهذا الموضع يغلط فيه كثير من النظار فيظنون أنه يحتاج فيما يطلب الدليل على وقوعه أو فيما قام الدليل على وجوده العلم بإمكانه قبل ذلك وإنما يجب أن لا يعلم امتناعه فالرسل صلوات الله عليهم تخبر بمجارات العقول، وما لا تعرفه العقول أو ما تعجز عن معرفته فما علم العقل إمكانه ولم يعلم هل يكون أم لا يكون تخبر الرسل بوقوعه
(1) سورة الشورى، الآية:11.
أم عدم وقوعه وما لم يعلم العقل إمكانه تخبر الرسل أيضا إمّا بإمكانه وإمّا بوقوعه المستلزم إمكانه، ولكن لا تخبر الرسل بوجوده ولا إمكانه وما علم عدمه لا تخبر بوجوده فلا تأتي الرسل صلوات الله عليهم بما يعلم نقيضه ولكن قد تأتي بما لم يكن يعلم كما قال تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)«1» .
وكذلك الوحي النازل على الأنبياء يعلمهم ما لم يكونوا يعلمون لا يأتيهم بما يعلمون خلافه، قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)«2» .
الوجه الثاني: أن يقال: إمكان التكلم معلوم بأدنى نظر العقل فإنه إذا عرف أنه حي عليم قدير علم أنه يمكن أن يكون متكلما، فإن الكلام من الصفات المشروطة بالحياة، والصفات المشروطة بالحياة إنما تمتنع عليه سبحانه ما يمتنع منها، كالنوم والأكل والشرب لتضمنها نقصا ينزه عنه، وليس في الكلام نقص، بل سنبيّن إن شاء الله أنه من صفات الكمال، ونبيّن ما يستحيل اتصافه به، فهذا تقرير ما ذكره ويمكن أن يسلك في ذلك طريقا أعم ممّا ذكره، فإنه استدل بالأمر والنهي، خاصة والتحقيق أن الخبر يدل أيضا على أنه متكلم، كما أن الأمر يدل على ذلك، والرسل يبلغون عنه تارة الأمر والنهي، وتارة الخبر. إما عن نفسه وإما عن مخلوقاته فيبلغون خبره عن نفسه بأسمائه وصفاته، وخبره عن مخلوقاته بالقصص، كما يبلغون الخبر عن ملائكته وأنبيائه، ومن تقدم من الأمم المؤمنين والمكذبين ويبلغون خبره عما يكون في القيامة من الثواب والعقاب، والوعد والوعيد بل ما تبلغه الرسل من خبره أكثر ممّا تبلغه من أمره، والخبر في القرآن أكثر من الأمر، وإذا قيل: لا معنى لكونه متكلما إلا أنه مخبر منبئ، والتحقيق أن يقال: لزم من كونه آمرا ناهيا أن يكون متكلما، ويلزم من كونه مخبرا منبئا أن يكون متكلما.
وأما قول القائل: لا معنى لكونه متكلما إلا أنه آمر ناه. وأنه مخبر ففيه نظر فإن المتكلم يكون تارة آمرا وتارة مخبرا، وهو في حالة كونه مخبرا متكلم وإن لم
(1) سورة البقرة، الآيتان: 151 - 152.
(2)
سورة النساء، الآية:113.
يكن آمرا، وفي حال كونه آمرا متكلم وإن لم يكن مخبرا سواء قدر إمكان انفكاك أحدهما عن الآخر أو قدر تلازمهما في حق بعض المتكلمين.
ولقائل أن يقول: هذا الذي ذكره قليل الفائدة فإنه إن كان المقصود به إثبات كونه متكلما على من يقر بالرسل فجميع هؤلاء يقرون بأنه متكلم إذ لا يمكن أحدا ممن يؤمن بالتوراة أو الإنجيل أو القرآن أن ينكر أن الله تكلم، وهذه الكتب مملوءة بذكر ذلك وأهل الملل مطبقون على ذلك وإن كان مقصوده إثبات ذلك على من لا يقر بالرسل، فتقرير المسألة تقرير لهذا، فحاصله أن ما ذكره من كونه متكلما هو حقيقة أن الرسل صادقون فيما أخبروا عنه فإذا أثبت ذلك بصدق الرسل كان إثباتا للشيء بنفسه.
وإنما المقصود إثبات أنه متكلم حقيقة بكلام يقوم بنفسه خلافا للمتفلسفة التي تحمل كلامه إنما هو تعريف فعلي وهو ما يفيض النفوس من التعريفات وللجهمية من المعتزلة وغيرهم الذين يجعلون كلامه ما يخلقه في غيره من الحروف والأصوات، وهذا الذي اعتنى به السلف في الرد على من يقول القرآن مخلوق خلقه الله في الهواء، لم يقم به كلام فكيف بمن يقول ليس كلامه إلا ما يحدث في النفوس من التعريف والإعلام من غير أن يكون له كلام منفصل عن نفوس الأنبياء والمرسلين، وقد بسطنا القول في مسألة الكلام واضطراب الناس فيها في غير هذا الموضع.
ولا ريب أنه سلك في هذا الاعتقاد مسلك الصفاتية المخالفين للمعتزلة، ولهذا عد الصفات السبع. وأما المعتزلة فيقتصرون على أنه حي عالم قادر. وقد يزيد البصريون الإدراك كالسمع والبصر.
وأما كونه متكلما ومريدا فهذا عندهم من باب المفعولات لا من باب الصفات، إذ معنى كونه متكلما عندهم أنه خلق كلاما في غيره كسائر ما يخلقه من المخلوقات بخلاف كونه حيّا عالما قادرا أو مدركا عند البصريين، فإن ذلك ثبت له لذاته سواء خلق شيئا أو لم يخلقه، ولهذا كان عام التعلق لا يختص بمعلوم دون معلوم كما تختص الإرادة والكلام بمراد دون مراد ومأمور دون مأمور.
وهذا القدر الذي أثبته من كونه متكلما آمرا ناهيا لا ينازعه فيه معتزلي بل ولا متفلسف إلهي يقر بالنبوات في الجملة كما يقر بها المتفلسفة الذين حقيقة أمرهم أنهم يؤمنون ببعض الصفات ويكفرون ببعض، كما أن اليهود والنصارى يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض.
ولقائل أن يقول إن هذا السؤال ليس لازما له في مسألة الكلام بل وفي سائر
المسائل فإنه لم يثبت شيئا من الصفات القائمة بنفسه، وإنما أثبت أحكام الصفات وأثبت الأسماء. والمعتزلة توافق على الأسماء والأحكام بل والفلاسفة أيضا توافق على إطلاق ما ذكره من الأسماء والصفات فلا يكون في هذا الاعتقاد فرق بين مذهب الصفاتية أهل الإثبات، كابن كلاب والأشعري وأتباعهما ولا بين المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري وأمثالهم، بل هذا الاعتقاد مشترك بين المعتزلة والأشعرية وغيرهم من الطوائف يبين هذا أنه لم يذكر في اعتقاده ما تتميز به الأشعرية عن المعتزلة ولا ذكر أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولا ذكر مسألة الرؤية، وأن رؤية الله جائزة في الدنيا واقعة في الآخرة، ولا ذكر أيضا مسائل القدر، وأن الله خالق أفعال العباد وإنه مريد للكائنات، ولا ذكر أيضا مسائل الأسماء والأحكام، وأن الفاسق لا يخرج عن الإيمان بالكلية، ولا يجب إنفاذ الوعيد، بل يجوز العفو عن أهل الكبائر، ولا ذكر مسائل الإمامة والتفضيل.
وكل هذه الأصول تذكر في مختصرات المعتقدات التي يصنفها متأخر والأشاعرة كالعقيدة القدسية لأبي حامد، والعقيدة البرهانية المختصرة من إرشاد أبي المعالي ونحوهما فضلا عن الاعتقاد الذي تذكره أئمة الأشعرية كالقاضي أبي بكر وذويه فإنهم يزيدون على ذلك إثبات الصفات الخبرية، وإثبات العلو وأمثال ذلك فضلا عن الاعتقاد الذي ذكره الأشعري في المقالات عن أهل السنة وأصحاب الحديث فإن فيه جملا مفصلة فضلا عمّا يذكره السلف والأئمة الكبار من الإثبات والتفصيل المبين للسنة الفاصل بينها وبين كل بدعة.
ولهذا كان أصحاب هذا المصنف مع انتسابهم إلى الأشعري إنما هم في باب الصفات مقرون بما تقر به المعتزلة ولا يقرون بما تقر به الأشعرية من الزيادات، وبحوث أبي عبد الله بن الخطيب تعطيهم ذلك فإن الوقف والحيرة ظاهر على كلامه في إثبات الصفات، ومسألة الرؤيا والكلام وأمثالها بخلاف مسائل القدر فإنه جازم فيها بمخالفة المعتزلة، وهذه الطريقة تشبه من بعض الوجوه طريقة ضرار بن عمرو وحسين النجار وأمثالهما ممن كان يقر بالقدر ولكنه في الصفات بين المعتزلة والأشعرية، أو تشبه طريقة الواقفية الذين كانوا يقفون في القرآن، فلا يقولون هو مخلوق ولا غير مخلوق.
وكلام أئمة السنة في ذم هؤلاء، وكلام متكلمة الصفاتية كالأشعري وغيره في ذلك مشهور معروف.
فإن قيل: فالمعتزلة لا تقر بمنكر ونكير، والصراط والميزان، ونحو ذلك ممّا ذكره هذا المصنف؟
قيل: المعتزلة في ذلك على قولين منهم من يثبت ذلك ومنهم من ينفيه على أن ما ذكره ليس فيه ما يدل على إثبات هذه الأمور، وإنما فيه الإقرار بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور، ليس في المعتزلة ولا غيرهم من المسلمين من يقول لا أقر بما أخبر به الرسول، بل كل مسلم يقول إن ما أخبر به الرسول فهو حق يجب تصديقه به.
وكل المسلمين من أهل السنة والبدعة يقولون: آمنت بالله، وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله، فإنه متى لم يقر بهذا فهو كافر كفرا ظاهرا، ولا يتميز بهذا القول المجمل مذهب أهل السنة عن غيرهم، ولهذا لا يكتفي إمام من أئمة السنة بمجرد هذا، ومن نقل عن الشافعي وغيره أنه اكتفى بهذا فقد كذب عليه، وإنما هذا قول بعض المتأخرين وهو قول صحيح لا يخالف فيه إلا كافر لكن العلم بالسنة مفصلا مقام آخر، فالمبتدع إذا نازع السني لا ينازعه في تصديق الرسول في كل ما أخبر به لكن ينازعه هل أخبر بذلك الرسول أم لا؟
وهل خبره على ظاهره أم لا؟ وهو لم يثبت لا هذا ولا هذا، إذ هما من علم النقل ودلالة الألفاظ وليس فيما ذكره شيء من هذا وهذا.
كما أن كلامه في التوحيد ليس مبنيّا على أصول الأشعرية ولا أصول المعتزلة بل على أصول المتفلسفة فهو متردد بين الفلسفة والاعتزال وأخذ من بحوث المنتسبين إلى الأشعرية كالرازي ونحوه ما قد يقوله هؤلاء وهؤلاء.
وكذلك يحكي عنه خواص أصحابه أنه كان في الباطن يميل إلى ذلك وقد ظهر ذلك في خواص المحدثين من أصحابه كالقشيري وغيره، ومعلوم أنه تكلم بمبلغ علمه وحسب اجتهاده ونهاية عقله وغاية نظره.
ولكن المقصود أن تعرف المقالات والمذاهب وما هي عليه من الدرجات والمراتب، ليعطى كل ذي حق حقه ويعرف المسلم أين يضع رجله.
إذا تبين هذا فنحن ننبه على ما يتميز به أهل السنة عن المعتزلة ومن هو أبعد عن الحق منهم كالمتفلسفة فنقول: إذا ثبت بهذا الدليل أنه سبحانه متكلم وثبت أن الرسل أخبروا بذلك فنقول الذي أخبرت به الرسل أنه متكلم بكلام قائم بنفسه، هذا هو الذي نبينه وهذا هو الذي فهمه عنهم أصحابهم ثم تابعوهم بإحسان بل علموا هذا من دين الرسل بالاضطرار ولم يكن في صدر الأمة وسلفها من ينكر ذلك، وأول من ابتدع خلاف ذلك الجعد بن درهم ثم صاحبه الجهم بن صفوان وكلاهما قتل.
أما الجعد بن درهم الذي كان يقال إنه معلم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وكان يقال له الجعدي نسبة إلى الجعد فإنه قتله خالد القسري؛ ضحى به بواسط يوم النحر وقال: (أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوّا كبيرا) ثم نزل فذبحه.
وكانوا أول ما أظهروا بدعتهم قالوا: إن الله لا يتكلم ولا يكلم كما حكى عن الجعد وهذه حقيقة قولهم.
فكل من قال القرآن مخلوق فحقيقة قوله: إن الله لم يتكلم ولا يكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يحب فلما رأوا ما في ذلك من مخالفة القرآن والمسلمين قالوا:
إنه يتكلم مجازا، يخلق شيئا يعبر عنه لا أنه في نفسه يتكلم، فلما شنع المسلمون عليهم قالوا: يتكلم حقيقة ولكن المتكلم هو من أحدث الكلام وفعله ولو في غيره، فكل من أحدث كلاما ولو في غيره كان متكلما بذلك الكلام حقيقة وقالوا:
المتكلم من فعل الكلام لا من قام به الكلام، وهذا الذي استقر عليه قول المعتزلة وهم يموهون على الناس فيقولون أجمع المسلمون على أن الله متكلم ولكن اختلفوا في معنى المتكلم هل هو من فعل الكلام أو من قام به الكلام وما زعموه من أن المتكلم يكون متكلما بكلام قائم بغيره قول خرجوا به عن العقل والشرع واللغة.
وكان قدماء الصفاتية من السلف والأئمة والكلابية والكرامية والأشعرية يحققون هذا المقام، ويثبتون ضلال الجهمية من المعتزلة وغيرهم فيه، ولكن الرازي ونحوه أعرض عنه وقال: هذا بحث لفظي وزعم أنه قليل الفائدة ثم سلك مسلكا ضعيفا في الرد عليهم قد بيناه في غير هذا الموضع.
وهذا غلط عظيم جدّا من وجهين:
أحدهما: أن المسألة إذا كانت سمعية وأنت إنما أثبت أنه متكلم بأن الرسل بلغت أمره ونهيه الذي هو كلامه كان من تمام ذلك البحث عن مراد الرسل بكونه آمرا ناهيا متكلما هل مرادهم بذلك أنه خلق كلاما في غيره أو أنه قام به، كلام تكلم به والدلائل السمعية مقرونة بالبحث عن ألفاظ الرسل ولغاتهم التي بها خاطبوا الخلق فصارت هذه المقدمة هي الركن المعتمد في الرد على المعتزلة كما سلكه قدماء الصفاتية وأئمتهم بل هي الركن المعتمد في معنى كونه متكلما إذا ثبت ذلك بالطرق السمعية.
الثاني: إن المسألة ليست لغوية فقط بل كون الصفة إذا قامت بمحل هل يعود حكمها على ذلك المحل أو على غيره، هو من البحوث العقلية النافعة في هذا المقام، والسلف رضي الله عنهم عرفوا حقيقة المذهب وردوه بناء على هذا الأصل كما ذكره البخاري في كتاب خلق أفعال العباد وقال: قال ابن مقاتل سمعت ابن المبارك يقول: من قال: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا «1» مخلوق فهو كافر ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك «2» ، وقال: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية «3» .
وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «4» وزعموا أن هذا مخلوق ومن قال: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي «5» مخلوق فهذا أيضا قد ادعى ما ادعى فرعون فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار من هذا وكلاهما عنده مخلوق، فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه وأعجبه «6» .
قال البخاري: قال أبو الوليد: سمعت يحيى بن سعيد وذكر له أن قوما يقولون: القرآن مخلوق، فقال: كيف يصنعون ب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)«7» وبقوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا «8» «9» .
وروى عن وكيع بن الجراح أنه قال: لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق فإنه من شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل «10» .
ومعنى كلام السلف أن من قال: «إن كلام الله مخلوق فحقيقة قوله أن الله تعالى لا يتكلم وأن المحل الذي قام به إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا «11» هو المدعى
(1) سورة طه، الآية:14.
(2)
أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة برقم (15).
(3)
أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد برقم (16) وإسناده صحيح.
(4)
سورة النازعات، الآية:24.
(5)
سورة طه، الآية:14.
(6)
أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد برقم (59).
(7)
سورة الإخلاص، الآيتان: 1 - 2.
(8)
سورة طه، الآية:14.
(9)
أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد برقم (30).
(10)
أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد برقم (68).
(11)
سورة طه، الآية:14.
الإلهية كما أن فرعون لما قام به أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «1» كان مدعيا للربوبية، وكلام السلف مبني على ما يعلمونه من أن الله خالق أفعال العباد وأقوالهم وإذا كان كلامه ما خلقه في غيره كان كل كلام كلامه وكان كلام فرعون كلامه إذ المتكلم من قام به الكلام فلا يكون متكلما بكلام يكون في غيره كسائر الصفات والأفعال فإنه لا يكون عالما بعلم يقوم بغيره ولا قادرا بقدرة تقوم بغيره، ولا حيّا بحياة تقوم بغيره. وكسائر الموصوفين فإن الشيء لا يكون حيّا عالما قادرا بحياة أو علم أو قدرة تقوم بغيره ولا يكون متحركا أو ساكنا بحركة أو سكون يقوم بغيره كما لا يكون متلونا بلون يقوم بغيره.
وهنا أربع مسائل، مسألتان عقليتان ومسألتان سمعيتان لغويتان:
الأولى: أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها إلى ذلك المحل فكان هو الموصوف بها فالعلم والقدرة والكلام والحركة والسكون إذا قام بمحل كان ذلك المحل هو العالم القادر المتكلم أو المتحرك أو الساكن.
الثانية: أن حكمها لا يعود على غير ذلك المحل فلا يكون عالما بعلم يقوم بغيره ولا قادرا بقدرة تقوم بغيره ولا متكلما بكلام يقوم بغيره ولا متحركا بحركة تقوم بغيره وهاتان عقليتان.
الثالثة: أنه يشتق لذلك المحل من تلك الصفة اسم إذا كانت تلك الصفة ممّا يشتق لمحلها منها اسم، كما إذا قام العلم أو القدرة أو الكلام أو الحركة بمحل، قيل: عالم أو قادر أو متكلم أو متحرك بخلاف أصناف الروائح التي لا يشتق لمحلها منها اسم.
الرابعة: أنه لا يشتق الاسم لمحل لم يقم به تلك الصفة، فلا يقال لمحل لم يقم به العلم أو القدرة أو الإرادة أو الكلام أو الحركة إنه عالم أو قادر أو مريد أو متكلم أو متحرك.
والجهمية والمعتزلة عارضوا هذا بالصفات الفعلية، فقالوا: إنه كما أنه خالق عادل بخلق وعدل لا يقوم به بل هو موجود في غيره، فكذلك هو متكلم مريد بكلام وإرادة، لا تقوم به بل يقوم الكلام بغيره ممن سلم لهم هذا النقص، كالأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد أظهر تناقضهم ولم يجيبوهم بجواب مستقيم.
وأما السلف وجمهور المسلمين من جميع الطوائف فإنهم طردوا أصلهم وقالوا: بل الأفعال تقوم به كما تقوم به الصفات والخلق ليس هو المخلوق، وذكر
(1) سورة النازعات، الآية:24.
البخاري أن هذا إجماع العلماء، ومن قال الصفات تنقسم إلى صفات ذاتية وفعلية، ولم يجعل الأفعال تقوم به، فكلامه فيه تلبيس فإنه سبحانه لا يوصف بشيء لا يقوم به وإن سلم أنه يتصف بما لا يقوم به، فهذا هو أصل الجهمية الذين يصفونه بمخلوقاته يقولون: إنه متكلم ومريد وراض وغضبان ومحب ومبغض وراحم لمخلوقات يخلقها منفصلة عنه لا بأمور تقوم بذاته.
إذا تبين ذلك فالسلف لما علموا هذا علموا أن قول من قال: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا «1» مخلوق يوجب أن يكون هذا الكلام كلاما للشجرة لا كلاما لله لأنه قام بالشجرة لم يقم بالله. كما أن كلام فرعون قام به، وإن كان الله خالق ذلك كله فإنه خالق العباد وأفعالهم وكلامهم وهذا أيضا ممّا يبين أنه لو كان من يخلق الكلام في غيره متكلما لوجب أن يكون كل كلام في الوجود كلامه وهذا يقوله غالية الجهمية الاتحادية كصاحب الفصوص «2» ونحوه فإنه يقول:
وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه ومعلوم أن هذا الكلام أعظم من كفر عباد الأصنام، كما ذكر ابن المبارك وغيره من السلف، وأيضا فإن الله تعالى قد أنطق أشياء كما قال تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)«3» وقال: حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ «4» .
وقال: فهو منطق كل شيء وخالق نطقه ولا نزاع أنه خالق النطق في غير الحي المختار، وإنما تنازعت القدرية في خلق أقوال الأحياء وأفعالهم، فإن كان حقيقة كلامه ما خلقه في غيره من الكلام فهذا جميعه كلامه وما في هذا الكلام المخلوق من ضمير المتكلم إما أن يعود إلى خالقه أو إلى محله، فإن عاد إلى خالقه كانت شهادة الأعضاء شهادة الله وكان قول فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «5» ؟
قولا لله وكان قولهم لجلودهم «لم شهدتهم علينا» قولا لله وكان قول الجلود «أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء» بمعنى أنطقت نفسي.
(1) سورة طه، الآية:14.
(2)
هو ابن عربي- النكرة- وقد تقدمت ترجمته.
(3)
سورة النور، الآيتان: 24 - 25.
(4)
سورة فصلت، الآيتان: 20 - 21.
(5)
سورة النازعات، الآية:24.
ولم يكن فرق عندهم بين نطق وأنطق، وإن عاد الضمير إلى محله كان الكلام المخلوق في الشجرة إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي «1» كلاما للشجرة فتكون الشجرة هي القائلة: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي «2» ، وهذه حقيقة قولهم لما ثبت من أن الكلام كلام لمن قام به، فيكون ضمير المتكلم فيه عائدا إلى محله.
ولما كان هذا المعنى مستقرّا في فطر الناس وعقولهم كان السلف يقصدون بمجرد قولهم: القرآن كلام الله. الرد على هؤلاء الجهمية الذين حقيقة قولهم إن القرآن ليس كلام الله وإنما هو كلام لجسم مخلوق، وحقيقة قولهم: إن الله لم يكلم موسى وإنما كلمه مخلوق من مخلوقاته.
قال البخاري: قال عبد الرحمن بن عفان: سمعت سفيان بن عيينة في السنة التي ضرب فيها المريسي، فقام ابن عيينة من مجلسه مغضبا، قال: ويحكم القرآن كلام الله قد صحبت الناس وأدركتهم، هذا عمرو بن دينار وهذا ابن المنكدر حتى ذكر منصور والأعمش ومسعر بن كدام، فقال ابن عيينة: قد تكلموا في الاعتزال والرفض والقدر وأمرونا باجتناب القوم فما نعرف القرآن إلا كلام الله ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله، وما أشبه هذا القول بقول النصارى، لا تجالسوهم ولا تسمعوا كلامهم.
وابن عيينة أخرج هذا القول عن الرفض والاعتزال لأن المعتزلة أولا الذين كانوا في زمن عمرو بن عبيد وأمثاله لم يكونوا جهمية، وإنما كانوا يتكلمون في الوعيد وإنكار القدر، وإنما حدث فيهم نفي الصفات بعد هذا، ولهذا لما ذكر الإمام أحمد بن حنبل في رده على الجهمية قول جهم قال: فاتبعه قوم من أصحاب عمرو بن عبيد وغيره واشتهر هذا القول عن أبي الهذيل العلاف والنظام وأشباههم من أهل الكلام.
وأما الرافضة فلم يكن في قدمائهم من يقول بنفي الصفات بل كان الغلو في التجسم مشهورا عن شيوخهم هشام بن الحكم وأمثاله.
وقال البخاري: حدثني الحكم بن محمد الطبري كتبت عنه بمكة قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة منهم عمرو بن دينار، يقولون: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. قلت: كان المريسي قد صنف كتابا في
(1) سورة طه، الآية:14.
(2)
سورة طه، الآية:14.
نفي الصفات وجعل يقرؤه بمكة في أواخر حياة ابن عيينة، فشاع بين علماء أهل مكة ذلك، وقالوا: صنف كتابا في التعطيل فسعوا في عقوبته وحبسه، وذلك قبل أن يتصل بالمأمون ويجري من المحنة ما جرى.
وقول ابن عيينة: ما أشبه هذا الكلام بكلام النصارى هو كما قال كما قد بسط في غير هذا الموضع، فإن عيسى مخلوق، وهم يجعلونه نفس الكلمة لا يجعلونه المخلوق بالكلمة، وأيضا فأئمة نصارى كغشتكين أحد فضلائهم الأكابر يقولون: إن الله ظهر في صورة البشر مترائيا لنا كما ظهر كلامه لموسى في الشجرة فالصوت المسموع هو كلام الله وإن كان خلقه في غيره وهذا المرئي هو الله وإن كان قد حل في غيره.
قال البخاري: وقال علي بن عاصم: ما الذين قالوا بأن لله ولد أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم «1» .
قال: وقال علي بن عبد الله يعني ابن المديني: القرآن كلام الله من قال إنه مخلوق فهو كافر لا يصلى خلفه «2» .
قال: وقال أبو الوليد: من قال القرآن مخلوق فهو كافر ومن لم يعقد قلبه على أن القرآن ليس بمخلوق فهو خارج عن الإسلام «3» .
قال: وقال أبو عبيد: نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم «4» .
قال: وقال معاوية بن عمار: سمعت جعفر بن محمد يقول: القرآن كلام الله ليس بمخلوق «5» .
وهذا باب واسع كبير منتشر في كتب السنة والحديث: فهذا تمام ما قرره في مسألة الكلام.
(1) أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد برقم (22).
(2)
أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد برقم (32).
(3)
أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد برقم (34).
(4)
أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد برقم (35).
(5)
أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد برقم (17).