الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [إثبات كون الله تعالى سميعا بصيرا]
قال: (والدليل على كونه سميعا بصيرا: السمعيات).
قلت: إثبات كونه سميعا بصيرا وأنه ليس هو مجرد العلم بالمسموعات والمرئيات هو قول أهل الإثبات قاطبة من أهل السنة والجماعة من السلف والأئمة وأهل الحديث والفقه والتصوف والمتكلمين من الصفاتية كأبي محمد بن كلاب وأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأصحابه وطائفة من المعتزلة البصريين بل قدماؤهم على ذلك ويجعلونه سميعا بصيرا لنفسه كما يجعلونه عالما قادرا لنفسه. وإثبات ذلك كإثبات كونه متكلما بل هو أقوى من بعض الوجوه فإن المعتزلة البصريين يثبتونه مدركا مثل كونه عليما قديرا بخلاف كونه متكلما فإنه من باب كونه خالقا.
وللناس في إثبات كونه سميعا بصيرا طرق:
أحدها: السمع كما ذكره وهو ما في الكتاب والسنة من وصفه بأنه سميع بصير ولا يجوز أن يراد بذلك مجرد العلم بما يسمع ويرى لأن الله فرّق بين العلم وبين السمع والبصر، وفرّق بين السمع والبصر وهو لا يفرق بين علم وعلم لتنوع المعلومات قال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)«1» وفي موضع آخر: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ قال تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)«2» ذكر سمعه لأقوالهم وعلمه ليتناول باطن أحوالهم.
وقال لموسى وهارون: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى «3» وفي السنن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على المنبر إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ
(1) سورة الأعراف، الآية:200.
(2)
سورة البقرة، الآية:227.
(3)
سورة طه، الآية:46.
النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)«1» ووضع إبهامه على أذنه وسبابته على عينه «2» ، ولا ريب أن مقصوده بذلك تحقيق الصفة لا تمثيل الخالق بالمخلوق فلو كان السمع والبصر: العلم لم يصح ذلك.
الطريق الثاني: إنه لو لم يتصف بالسمع والبصر لا تصف بضد ذلك وهو العمى والصمم كما قالوا مثل ذلك في الكلام وذلك لأن المصحّح لكون الشيء سميعا بصيرا متكلما هو الحياة فإذا انتفت الحياة امتنع اتصاف المتصف بذلك فالجمادات لا توصف بذلك لانتفاء الحياة فيها وإذا كان المصحح هو الحياة كان الحي قابلا لذلك فإن لم يتصف به لزم اتصافه بأضداده بناء على أن القابل للضدين لا يخلو من اتصاف بأحدهما إذ لو جاز خلو الموصوف عن جميع الصفات المتضادة لزم وجود عين لا صفة لها وهو وجود جوهر بلا عرض يقوم به.
وقد علم بالاضطرار امتناع خلو الجواهر عن الأعراض وهو امتناع خلو الأعيان والذات عن الصفات وذلك بمنزلة أن يقدر المقدر جسما لا متحركا ولا ساكنا ولا حيّا ولا ميتا ولا مستديرا ولا ذا جوانب ولهذا أطبق العقلاء من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم على إنكار زعم تجويز وجود جوهر خال عن جميع الأعراض وهو الذي يحكى عن قدماء الفلاسفة من تجويز وجود مادة خالية عن جميع الصور ويذكر هذا عن شيعة أفلاطون «3» وقد رد ذلك عليهم أرسطو وأتباعه.
وقد بسطنا الكلام في الرد على هؤلاء في غير هذا الموضع وبيّنّا أن ما يدعيه شيعة أفلاطون من إثبات مادة في الخارج خالية عن جميع الصور ومن إثبات خلاء موجود غير الأجسام وصفاتها ومن إثبات المثل الأفلاطونية وهو إثبات حقائق كلية خارجة عن الذهن غير مقارنة للأعيان الموجودة المعينة فظنوها ثابتة في الخارج عن أذهانهم كما ظن قدماؤهم الفيثاغورية أن العدد أمر موجود في الخارج بل وما ظنه
(1) سورة النساء، الآية:58.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه برقم (4728) وابن حبان في صحيحه برقم (265 إحسان) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 179) وابن خزيمة في التوحيد (ص 43) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والحديث صححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (3954).
(3)
هو أفلاطون بن أرسطن بن أرسطو قليس ولد في أثينا في سنة 427 ق. م وهو آخر المتقدمين الأوائل الأساطين، كان حدثا متعلما تتلمذ لسقراط ولما اغتيل سقراط بالسم ومات قام مقامه، وجلس على كرسيه، أخذ العلم من سقراط وطيماوس والغريبين غريب أثينا وغريب الناطس وضم إليه العلوم الطبيعية والرياضية، وتلمذ له أرسطوطاليس وطيماوس وثاوفرسطوس.
انظر الملل والنحل للشهرستاني (ص 405).
أرسطو وشيعته من إثبات مادة في الخارج مغايرة للجسم المحسوس وصفاته وإثبات ماهيات كلية للأعيان مقارنة لأشخاصها في الخارج هو أيضا من باب الخيال حيث اشتبه عليه ما في الذهن بما في الخارج وفرق بين الوجود والماهية في الخارج.
وأصل ذلك أن الماهية في غالب اصطلاحهم اسم لما يتصور في الأذهان والوجود اسم لما يوجد في الأعيان، والفرق بين ما في الذهن وبين ما في الخارج لا ينازع فيه عاقل فهمه، لكنهم بعدها ظنوا أن في الخارج ماهية للشيء الموجود مغايرة للشخص الموجود في الخارج.
وهذا غلط ما في النفس سواء سمي وجودا ذهنيا أو ماهية ذهنية أو غير ذلك هو مغاير لما في الخارج سواء سمي ذلك وجودا أو ماهية أو غير ذلك.
وأما أن يقال أن في الخارج في الجوهر المعين الموجود كالإنسان مثلا جوهرين أحدهما ماهيته والآخر وجوده فهذا باطل كبطلان قولهم أن فيه جوهرين أحدهما مادته والآخر صورته، وكقولهم أنه مركب من الحيوانية والناطقية فإن الحيوانية والناطقية إن أرادوا إنها جوهران وهما الحيوان والناطق فالشخص المعين هو الحيوان وهو الناطق، وليس هنا شخصان أحدهما حيوان والآخر ناطق، وإن أرادوا نفس الحياة والنطق فهذان صفتان قائمتان بالإنسان وصفة الموصوف قائمة به قيام العرض بالجوهر، والجوهر لا يتركب من أعراضه القائمة به، ولا يكون وجود أعراضه سابقا لذاته والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع «1» .
والمقصود هنا أن أرسطو وأتباعه وأمثاله من أهل الفلسفة أنكروا على من جوز منهم وجود مادة بلا صورة، فهم مع أصناف أهل الكلام وسائر العقلاء متفقون على امتناع خلو الجسم عن جميع الصفات والأعراض، وإن جوز ذلك الصالحي ابتداء فلم يجوزه دواما، والجمهور منعوه ابتداء ودواما، وإنما تنازع الناس في استلزامه لجميع أجناس الأعراض فقيل: إنه لا بد أن يقوم به من الأعراض المتضادة واحد منها، وما لا ضد له لا بد أن يقوم به واحد من جنسه، وهذا قول الأشعري ومن اتبعه، وقيل: لا بد أن يقوم به الأكوان وهي الحركة أو السكون والاجتماع والافتراق، ويجوز خلوه عن غيرها وهو قول البصريين من المعتزلة، وقيل: يجوز خلوه عن الأكوان دون الألوان كما يذكر الكعبي وأتباعه من البغداديين منهم وهؤلاء قد يتنازعون في قبول الشيء من الأجسام بكثير من الأعراض، ويتفقون على امتناع خلو الجسم عن العرض وضده بعد قبوله له،
(1) وقد بسط المصنف رحمه الله الكلام في ذلك في كتابه القيم: درء تعارض العقل والنقل.
وذلك لأن خلو الموصوف عن الضدين اللذين لا ثالث لهما مع قبوله لهما ممتنع في العقول، وبهذا يتبين أن الحي القابل للسمع والبصر والكلام إما أن يتصف بذلك، وإما أن يتصف بضده وهو الصمم والبكم والخرس، ومن قدّر خلوه عنهما فهو مشابه للقرامطة الذين قالوا لا يوصف بأنه حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز، بل قالوا: لا يوصف بالإيجاب ولا بالسلب، لا يقال: هو حي عالم ولا يقال: ليس بحي عالم، ولا يقال: هو عليم قدير ولا يقال: ليس بقدير عليم، ولا يقال: هو متكلم مريد ولا يقال: ليس بمتكلم مريد.
قالوا لأن من الإثبات تشبيها بما تثبت له هذه الصفات وفي النفي تشبيه له بما ينفي عنه هذه الصفات، وقد قاربهم في ذلك من قال من متكلمة الظاهرية «1» كابن حزم «2» أن أسماءه الحسنى كالحي والعليم والقدير بمنزلة أسماء الأعلام التي لا تدل على حياة ولا علم ولا قدرة وقال: لا فرق بين الحي وبين العليم وبين القدير في المعنى أصلا، ومعلوم أن مثل هذه المقالات سفسطة في العقليات وقرمطة في السمعيات فإنا نعلم بالاضطرار الفرق بين الحي والقدير والعليم والملك والقدوس والغفور.
وإن العبد إذا قال: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الغفور كان قد أحسن في مناجاة ربه وإذا قال: اغفر لي وتب عليّ إنك أنت الجبار المتكبر الشديد العقاب لم يكن محسنا في مناجاته، وإن الله أنكر على المشركين الذين امتنعوا من تسميته بالرحمن فقال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60)«3» وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180)«4» وقال تعالى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ
(1) الظاهرية تنسب إلى الإمام داود بن علي بن خلف أبو سليمان البغدادي المعروف بالأصبهاني رئيس أهل الظاهر ولد سنة مائتين ومات سنة سبعين ومائتين.
انظر ترجمته في السير (13/ 97) وتاريخ بغداد (8/ 369 - 375) والبداية والنهاية (11/ 47 - 48) وشذرات الذهب (2/ 158 - 159).
(2)
هو الإمام البحر ذو الفنون والمعارف أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الفارسي الأصل ثم الأندلسي القرطبي اليزيدي صاحب التصانيف ولد سنة أربع وثمانين وثلاث مائة وتوفي سنة ست وخمسين وأربع مائة.
انظر ترجمته في السير (18/ 184) وتذكرة الحفاظ (3/ 1146 - 1155) والبداية والنهاية (12/ 91 - 92) وشذرات الذهب (3/ 299 - 300).
(3)
سورة الفرقان، الآية:60.
(4)
سورة الأعراف، الآية:180.
قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30)«1» وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «2» .
ومعلوم أن الأسماء إذا كانت أعلاما وجامدات لا تدل على معنى لم يكن فرق فيها بين اسم واسم فلا يلحد أحد في اسم دون اسم ولا ينكر عاقل اسما دون اسم بل قد يمتنع عن تسميته مطلقا ولم يكن المشركون يمتنعون عن تسمية الله بكثير من أسمائه وإنما امتنعوا عن بعضها، وأيضا فالله له الأسماء الحسنى دون السوأى وإنما يتميز الاسم الحسن عن الاسم السيئ بمعناه فلو كانت كلها بمنزلة الأعلام الجامدات التي لا تدل على معنى لا تنقسم إلى حسنى وسوأى بل هذا القائل لو سمى معبوده بالميت والعاجز والجاهل بدل الحي والعالم والقادر لجاز ذلك عنده.
فهذا ونحوه قرمطة ظاهرة من هؤلاء الظاهرية الذي يدعون الوقوف مع الظاهر وقد قالوا بنحو مقالة القرامطة الباطنية في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته مع ادعائهم الحديث ومذهب السلف وإنكارهم على الأشعري وأصحابه أعظم إنكار «3» .
ومعلوم أن الأشعري وأصحابه أقرب إلى السلف والأئمة ومذهب أهل الحديث في هذا الباب من هؤلاء بكثير.
وأيضا فهم يدعون أنهم يوافقون أحمد بن حنبل ونحوه من الأئمة في مسائل القرآن والصفات وينكرون على الأشعري وأصحابه، والأشعري وأصحابه أقرب إلى أحمد بن حنبل ونحوه من الأئمة في مسائل القرآن والصفات منهم تحقيقا وانتسابا. أما تحقيقا فمن عرف مذهب الأشعري وأصحابه ومذهب ابن حزم وأمثاله من الظاهرية في باب الصفات تبين له ذلك وعلم هو وكل من فهم المقالتين أن هؤلاء الظاهرية الباطنية أقرب إلى المعتزلة بل إلى الفلاسفة من الأشعرية.
وأن الأشعرية أقرب إلى السلف والأئمة وأهل الحديث منهم وأيضا فإن إمامهم داود وأكابر أصحابه كانوا من المثبتين للصفات على مذهب أهل السنة
(1) سورة الرعد، الآية:30.
(2)
سورة الإسراء، الآية:110.
(3)
انظر الملل والنحل (2/ 111 - 112).
والحديث، ولكن من أصحابه طائفة سلكت مسلك المعتزلة وهؤلاء وافقوا المعتزلة في مسائل الصفات وإن خالفوهم في القدر والوعيد.
وأما الانتساب فانتساب الأشعري وأصحابه إلى الإمام أحمد خصوصا وسائر أئمة أهل الحديث عموما ظاهر مشهور في كتبهم كلها.
وما في كتب الأشعري ممّا يوجد مخالفا للإمام أحمد وغيره من الأئمة فيوجد في كلام كثير من المنتسبين إلى أحمد كأبي الوفاء بن عقيل وأبي الفرج بن الجوزي وصدقة بن الحسين وأمثالهم ما هو أبعد عن قول أحمد والأئمة من قول الأشعري وأئمة أصحابه ومن هو أقرب إلى أحمد والأئمة من مثل ابن عقيل وابن الجوزي ونحوهما كأبي الحسن التميمي وابنه أبي الفضل التميمي وابن ابنه رزق الله التميمي ونحوهم وأئمة أصحاب الأشعري كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني وشيخه أبي عبد الله بن عبد الله بن مجاهد وأصحابه كأبي علي بن شاذان وأبي محمد بن اللبان بل وشيوخ شيوخه كأبي العباس القلانسي وأمثاله، بل والحافظ أبو بكر البيهقي وأمثاله أقرب إلى السنة من كثير من أصحاب الأشعري المتأخرين الذين خرجوا عن كثير من قوله إلى قول المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة.
فإن كثير من متأخري أصحاب الأشعري خرجوا عن قوله إلى قول المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة إذ صاروا واقفين في ذلك كما سننبه عليه «1» .
وما في هذا الاعتقاد المشروح هو موافق لقول الواقفة الذين لا يقولون بقول الأشعري وغيره من متكلمة أهل الإثبات وأهل السنة والحديث والسلف بل يثبتون ما وافقه عليه المعتزلة البصريون فإن المعتزلة البصريين يثبتون ما في هذا الاعتقاد ولكن الأشعري وسائر متكلمة أهل الإثبات مع أئمة السنة والجماعة يثبتون الرؤية ويقولون: القرآن غير مخلوق ويقولون: إن الله حي بحياة عالم بعلم، قادر بقدرة، وليس في هذا الاعتقاد شيء من هذا الإثبات.
وقد رأيت اعتقادا مختصرا لصاحب مصنف هذا الاعتقاد المشروح وهو مشهور بالعلم والحديث، وهو في الظاهر أشعري عند الناس ورأيت اعتقاده على هذا النمط ذكر فيه أن الله متكلم آمر ناه كما يوافق عليه المعتزلة، ولم يذكر أن القرآن غير مخلوق، ولا أثبت الرؤية بل جعلها ممّا تأول وكان يميل إلى الجهمية الذين ناظروا أحمد بن حنبل وسائر أئمة السنة في القرآن ويرجح جانبهم، وحكى
(1) وانظر للفائدة كتاب موقف ابن تيمية من الأشاعرة للدكتور عبد الرحمن المحمود حفظه الله تعالى ونفع به.
عنهم ذم وسب لأحمد بن حنبل وهو بنى اعتقاده وركبه من قول الجهمية ومن قول الفلاسفة القائلين بقدم العقول والنفوس وهو من جنس القول المضاف إلى ديمقراطيس وليس هذا مذهب الأشعرية بل هم متفقون على أن القرآن غير مخلوق وعلى أن الله يرى في الآخرة، وإن قيل إن في ذلك تدليسا أو خطأ أو غير ذلك، فليس المقصود هنا تصويب قائل معين ولا تخطئته ولا بيان ما في مقالته من الخطأ والصواب وموافقة السلف ومخالفتهم، بل أن يعلم مقالة كل شخص على حقيقتها، ثم الحق يجب اتباعه بما أقام الله عليه من البرهان، ثم هذا الاعتقاد المشروح مع أنه ليس فيه زيادة على اعتقاد المعتزلة البصريين فاعتقاد المعتزلة البصريين خير منه فإن في هذا المعتقد من اعتقاد المتفلسفة في التوحيد ما لا يرضاه المعتزلة كما نبهنا عليه فيما تقدم وبيناه أن ما ذكره من التوحيد ودليله هو مأخوذ من أصول الفلاسفة وأنه من أبطل الكلام، وهذه الجمل نافعة فإن كثيرا من الناس ينسب إلى السنة أو الحديث أو اتباع مذهب السلف أو الأئمة أو مذهب الإمام أحمد أو غيره من الأئمة أو قول الأشعري أو غيره ويكون في أقواله ما ليس بموافق لقول من انتسب إليهم.
فمعرفة ذلك نافعة جدّا كما تقدم في الظاهرية الذين ينتسبون إلى الحديث والسنة حتى أنكروا القياس الشرعي المأثور على السلف والأئمة ودخلوا في الكلام الذي ذمه السلف والأئمة حتى نفوا حقيقة أسماء الله وصفاته وصاروا مشابهين للقرامطة الباطنية بحيث تكون مقالة المعتزلة في أسماء الله أحسن من مقالتهم فهم مع دعوى الظاهر يقرمطون في توحيد الله وأسمائه.
وأما السفسطة في العقليات فظاهرة، فإنه من المعلوم بصريح العقل امتناع ارتفاع نقيضين جميعا وإنه لا واسطة بين النفي والإثبات فمن قال إن لا يصف الرب بالإثبات فلا يقول إنه حي عليم قدير، ولا يصفه بالنفي فلا يقول ليس بحي عليم قدير فقد امتنع عن النقيضين جميعا، والامتناع عن النقيضين كالجمع بين النقيضين فإن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، وهذا ممّا رأيته قد اعتمد عليه أئمة القرامطة كصاحب «كتاب الأقاليد الملكوتية» أبي يعقوب السجستاني فإنهم قالوا نحن لم نجمع بين النقيضين فنقول أنه حي وليس بحي بل رفعنا النقيضين فقلنا: لا موصوف ولا لا موصوف.
قال هذا القرمطي المصنف الذي رأيته أفضل هؤلاء القرامطة: (الإقليد العاشر) في أن من عبد الله بنفي الصفات والحدود لم يعبده حق عبادته، إذ عبادته واقعة لبعض المخلوقين فإن قوما من الأوائل وجماعة من فرق الإسلام لم يعبدوا الله حق عبادته ولم يعرفوه بحقيقة المعرفة فقالوا إن الله غير موصوف ولا
محدود ولا منعوت ولا مرئي ولا في مكان وتوهموا أن هذا المقدار تمجيد لله عز وجل وتعظيم له وأنهم قد تخلصوا من الشرك والتشبيه، وإذا هم قد وقعوا في الحيرة والتيه لأنهم نفوا الصفات والحدود والنعوت عن الباري- تقدست عظمته- لئلا يكون بينه وبين خلقه مشابهة ولا مماثلة فنحن نسألهم بعد عن الموصوف من خلق أهو الصفة والحد والنعت أم الموصوف غير صفته والمحدود غير حده والمنعوت غير نعته.
فإن قالوا: إن الصفة هي الموصوف، والحد هو المحدود، والنعت هو المنعوت، لزمهم أن يقولوا: إن السواد هو الأسود، والبياض هو الأبيض.
وإن قالوا: الموصوف غير صفته، والمنعوت غير نعته، والمحدود غير حده، وهو- أعني الموصوف والمحدود والمنعوت جميعا- مخلوق هذا الخالق الذي نزهتموه عن الصفة والحد والنعت أشركتم الخالق بالمخلوق الذي هو الصفة والحد والنعت في باب أنها غير الموصوف عندكم وإن جاز أن يشارك المخلوق الخالق في وجه من الوجوه لم لا يجوز أن يشاركه في جميع الوجوه، قال: فإذا من عبد الله بنفي الصفات عنه واقع في التشبيه الخفي كما أن من عبده بسمة الصفات واقع في التشبيه الجلي.
ثم أخذ يرد على المعتزلة لكن رده عليهم ما أثبتوه من الحق واحتج عليهم بما وافقوه فيه من النفي، فإنه بهذا الطريق تمكنت القرامطة الزنادقة الملاحدة من إفساد دين الإسلام حيث احتجوا على كل مبتدع بما وافقهم عليه من البدعة من النفي والتعطيل وألزموه لازم قوله حتى قرروا التعطيل المحض.
قال القرمطي: ومن أعظم ما أتت به طائفة من أهل هذه النحلة في إقامة رأيهم من أن المبدع سبحانه غير موصوف ولا منعوت أنهم أثبتوا له الأسامي التي لا تتعرى عن الصفات والنعوت فقالوا إنه سميع بالذات بصير بالذات عالم بالذات ونفوا عنه السمع والبصر والعلم ولم يعلموا أن هذه الأسامي إذا لزمت ذاتا من الذوات لزمته الصفات التي من أجلها وقعت الأسامي، إذ لو جاز أن يكون عالما بغير علم، أو سميعا بغير سمع، أو بصيرا بغير بصر، لجاز أن يكون الجاهل مع عدم العلم عالما، والأعمى مع فقد البصر بصيرا، والأصم مع غيبوبة السمع سميعا، فلما لم يجز ما وصفناه صح أن العالم إنما صار عالما لوجود العلم، والبصير لوجود البصر، والسميع لوجود السمع.
قال: فإن قال قائل منهم: إنما نفينا عن البصير البصر إذ كان اسم البصير
متوجها نحو ذات الخالق لأنا هكذا شاهدنا أن من كان اسمه البصير لزمه من أجل البصر أن يجوز عليه العمى، ومن كان اسمه السميع يلزمه من أجل السمع أن يجوز عليه الصمم، ومن كان اسمه العالم يلحقه من أجل العلم أن يجوز عليه الجهل، والله تعالى لا يلحق به الجهل والعمى والصمم فنفينا عنه ما يلزم بزواله ضده، يقال له: ليس علة وجوب العمى البصر، ولا علة وجوب الصمم السمع، ولا علة وجوب الجهل العلم، ولو كانت العلة فيه ما ذكرناه كان واجبا أنه متى وجد البصر وجد العمى، أو متى وجد السمع وجد الصمم أو متى وجد العلم وجد الجهل، فلما وجد البصر في بعض ذوي البصر من غير ظهور عمى به، ووجد السمع كذلك في بعض ذوي السمع من غير وجود صمم يتبعه ووجد العلم في بعضهم من غير وجود جهل به صح أن العلة في ظهور الجهل والصمم، والعمى ليس هو العلم والسمع والبصر بل في قبول إمكان الآفة في بعض ذوي العلم والسمع والبصر، والله تعالى ذكره ليس بمحل الآفات، ولا الآفات بداخلة عليه فهو إذا كان اسم العالم والسميع والبصير يتوجه نحو ذاته ذا علم وسمع وبصر فتعالى الله عما أضاف إليه الجهلة المغترون من هذه الأسامي بأنها لازمة له لزوم الذوات بل هذه الأسامي ممّا تتوجه نحو الحدود المنصوبة من العلوي والسفلي والروحاني والجسماني لمصلحة العباد، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
قال: ويقال لهم إن كان الاستشهاد الذي استشهدتموه صحيحا فإن الاستشهاد الآخر الذي لا يفارق الاستشهاد الأول مثله في باب الصحة لأنكم إن كنتم هكذا شاهدتم أنّ من كان عالما من أجل علمه أو سميعا من أجل سمعه أو بصيرا من أجل بصره جاز عليه الجهل والعمى والصمم، فنحن كذلك شاهدنا أنّ من كان عالما فإن العلم سابقه، ومن كان بصيرا فإن البصر قرينه، ومن كان سميعا كان السمع شهيده، فإن جاز لكم أن تتعدوا حكم الشاهد على الغائب في أحدهما فتقولوا جاز أن يكون في الغائب عالم بغير علم وبصير بغير بصر وسميع بغير سمع، جاز لنا أن نتعدى حكم الشاهد على الغائب في الباب الآخر فنقول: إنا وإن كنّا لم نشاهد عالما بعلم إلا وقد جاز عليه الجهل، وبصيرا ببصر إلا وقد جاز عليه العمى، وسميعا بالسمع إلا وقد جاز عليه الصمم أن يكون في الغائب عالم بعلم لا يجوز عليه الجهل وبصير بالبصر لا يجوز عليه العمى وسميع بالسمع لا يجوز عليه الصمم، وإلا فما الفصل ولا سبيل لهم إلى التفصيل بين الاستشهادين فاعرفه.
فليتدبر المؤمن العليم كيف ألزم هؤلاء الزنادقة الملاحدة المنافقون الذين هم
أكفر من اليهود والنصارى ومشركي العرب كالمعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات نفي أسماء الله الحسنى، وأن تكون أسماؤه الحسنى لبعض المخلوقات فيكون المخلوق هو المسمى بأسمائه الحسنى كقولهم في الأول والآخر والظاهر والباطن أن الظاهر هو محمد الناطق، والباطن هو علي الأساس، ومحمد هو الأول وعلي هو الآخر، وتأويلهم قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ «1» أن اليد الواحدة هو محمد والأخرى علي، وقوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «2» ، أن يديه هما أبو بكر وعمر، لكونهما كانا مع أبي لهب في الباطن، فأمرهما بقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم فعجزا عن ذلك، فأنزل الله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وأمثال هذا من التأويلات المعروفة عن القرامطة، وأصل كلامهم استدلالهم بما يزعمونه من نفي التشبيه وإلزامهم لكل من وافقهم على شيء من النفي بطرد مقالته واتباع لوازمها ولازمها التعطيل الذي يقصدونه.
وقال القرمطي: وأيضا فمن نزه خالقه عن الصفة والحد والنعت ولم يجرده عمّا لا صفة له ولا حد ولا نعت فقد أثبته بما لم يجرده عنه، وإذا كان إثباته لمعبوده ينفي الصفة والحد والنعت فقد كان إثباته مهملا غير معروف لأن ما لا صفة له ولا حد ولا نعت ليس هو الله بزعمه فقط بل هو والنفس والعقل وجميع الجواهر البسيطة من الملائكة وغيرهم.
والله تعالى أثبت من أن يكون إثباته مهملا غير معلوم، فإذا الإثبات الذي يليق بمجد المبدع ولا يلحقها الإهمال هو نفي الصفة ونفي أن لا صفة ونفي الحد ونفي أن لا حد، لتبقى هذه العظمة لمبدع العالمين إذ لا يحتمل أن يكون معه لمخلوق شركة في هذا التقديس وامتنع أن يكون الإثبات من هذه الطريق مهملا فاعرفه.
قال: فإن قال إن من شريطة القضايا المتناقضة أن يكون أحد طرفيها صدقا والآخر كذبا فقولكم لا موصوفة ولا لا موصوفة قضيتان متناقضتان لا بد لأحدهما من أن تكون صادقة والأخرى كاذبة.
يقال له: غلطت في معرفة القضايا المتناقضة وذلك أن القضايا المتناقضة أحد طرفي النقيض منه موجب والآخر سالب، فإن كانت القضية كلية موجبة كان نقيضها جزئية سالبة كقولنا: كل إنسان حي وهي قضية كلية موجبة، نقيضة لا كل إنسان حي فلما كان من شرط النقيض من أنه لا بد من أن يكون أحد طرفيها موجبة
(1) سورة المائدة، الآية:64.
(2)
سورة المسد، الآية:1.
والآخرة سالبة رجعنا إلى قضيتنا في المبدع هل نجد فيها هذه الشريطة فوجدناها في كلتا طرفيها لم يوجب له شيئا بل كلتا طرفيها سالبتان وهي قولنا لا موصوف ولا لا موصوف، فهي إذا لم يناقض بعضها بعضا وإنما تناقض القضية في هذا الموضع أن نقول له صفة وأن ليس له صفة أو نقول له حد وأن لا حد له، أو إنه في مكان وإنه لا في مكان، فيلزمنا حينئذ إثبات لاجتماع طرفي النقيض على الصدق، فأما إذا كانت القضيتان سالبتين إحداهما سلب الصفة اللاحقة بالجسمانيين والأخرى نفي الصفة اللازمة للروحانيين كان من ذلك تجريد الخالق عن سمات المربوبين وصفات المخلوقين.
قال: فقد صح أن من نزه خالقه عن الصفة والحد والنعت، واقع في التشبيه الخفي كما أن من وصفه وحده ونعته واقع في التشبيه الجلي.
قلت: فهذا حقيقة مذهب القرامطة وهو قد رد على من وصفه منهم بالنفي دون الإثبات ونفي النفي قال: «لأن في الإثبات تشبيها له بالجسمانيين وفي النفي تشبيها له بالروحانيين» ، وهي العقول والنفوس عندهم أنها موصوفة عندهم بالنفي دون الإثبات ولهذا يقولون: بسائط ليس فيها تركيب عقلي من الجنس والفصل، كما أنه ليس فيها تركيب الأجسام.
وظن هذا الملحد وأمثاله أنهم بذلك خلصوا من الإلزامات ومعلوم عند من عرف حقيقة قولهم أن هذا القول من أفسد الأقوال شرعا وعقلا وأبعدها عن مذاهب المسلمين واليهود والنصارى، بل مع ما قد حققوه من الفلسفة وعرفوه من مذهب أهل الكلام وادعوه من العلوم الباطنة ومعرفة التأويل ودعوى العصمة في أئمتهم، وقد قرروا أنا لا نقول الجمع بين النقيضين، فليس في قولنا محال، فيقال لهم: ولكن سلبتم النقيضين جميعا وكما أنه يمتنع الجمع بين النقيضين فيمتنع الخلو من النقيضين، فالنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ولهذا كان المنطقيون يقسمون الشرطية المنفصلة إلى مانعة الجمع ومانعة الخلو ومانعتي الجمع والخلو، فالمانعة من الجمع والخلو كقول القائل: الشيء إما أن يكون موجودا وإما أن يكون معدوما، وإما أن يكون ثابتا وإما أن يكون منفيّا، فتفيد الاستثناءات الأربعة أنه موجود فليس بمعدوم أو هو معدوم فليس بموجود أو ليس بموجود فهو معدوم، أو ليس بمعدوم فهو موجود، وكذلك ما كان من الإثبات بمنزلة النقيضين كقول القائل: هذا العدد إما شفع وإما وتر فكونه شفعا ووترا لا يجتمعان ولا يرتفعان وهؤلاء ادعوا إثبات شيء يخلو عنه النقيضان فإن جوزوا خلوه عن النقيضين جاز اجتماع النقيضين فيه، وهذا مذهب أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود كصاحب
الفصوص وابن سبعين وابن أبي المنصور وابن الفارض «1» والقونوي وأمثالهم فإن قولهم وقول القرامطة من مشكاة واحدة والاتحادية «2» قد يصرحون باجتماع النقيضين.
وكذلك يذكرون مثل هذا عن الحلاج «3» ، والحلاج لما دخل بغداد كانوا ينادون عليه: هذا داعي القرامطة، وكان يظهر للشيعة أنه منهم، ودخل على ابن نوبخت رئيس الشيعة ليتبعه فطالبه بكرامات عجز عنها، ومقالات أهل الضلال كلها تستلزم الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين جميعا، لكن منهم من يعرف لازم قوله فيلتزمه، ومنهم من لا يعرف ذلك، وكل أمرين لا يجتمعان ولا يرتفعان فهما في المعنى نقيضان لكن هذا ظاهر في الوجود والعدم.
وقول مثبتة الحالين الذين يقولون لا موجودة ولا معدومة هو شعبة من مذهب القرامطة وإنما التحقيق إنها ليست موجودة في الأعيان ولا منتفية في الأذهان، ومن الأمور الثبوتية ما يكونان بمنزلة الوجود والعدم كقولنا: إن العدد إما شفع وإما وتر، وقولنا: أن كل موجودين إما أن يقترنا في الوجود أو يتقدم أحدهما على الآخر، وكل موجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وكل جسم إما متحرك وإما ساكن، وإما حي وإما ميت، وكل حي إما عالم وإما جاهل، وإما قادر وإما عاجز،
(1) قال الإمام الذهبي رحمه الله في السير (22/ 368):
هو شاعر الوقت شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي ثم المصري صاحب الاتحاد- أي يقول بوحدة الوجود- الذي قد ملأ به التائية- وهي قصيدته المعروفة- فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده فما في العالم زندقة ولا ضلال، اللهم ألهمنا التقوى وأعذنا من الهوى، فيا أئمة الدين ألا تغضبون لله؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
توفي سنة اثنتين وثلاثين وست مائة وله ست وخمسون سنة.
انظر ترجمته في البداية والنهاية (13/ 143) وميزان الاعتدال (2/ 266) ووفيات الأعيان (3/ 454 - 456) والنجوم الزاهرة (6/ 288 - 290).
(2)
الاتحادية تعني أن الموجود واحد أي أن الله تعالى والخلق واحد، والحاكم والمحكوم واحد- تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا، وهذا مذهب ابن عربي والسهروردي وابن الفارض والحلاج وغيرهم.
(3)
هو الحسين بن منصور بن محمي أبو عبد الله الحلاج الفارسي البيضاوي الصوفي، تبرأ منه المشايخ والعلماء لما رأوه من سوء سيرته ومروقه، فمنهم من نسبه إلى الحلول، ومنهم من نسبه إلى الزندقة، وإلى الشعبذة، وقد تستر به طائفة من ذوي الضلال والانحلال وانتحلوه وروجوا به على الجهال، نسأل الله العصمة في الدين.
انظر ترجمته في السير (14/ 313) والبداية والنهاية (11/ 174) وشذرات الذهب (2/ 28) والكامل في التاريخ (8/ 236).
وإما سميع وإما أصم، وإما أعمى وإما بصير، بل وكذلك كل موجودين فإما أن يكونا متجانسين، وإما أن يكونا متباينين وأمثال هذه القضايا.
وكل من رام سلب هذين جميعا كان من جنس القرامطة الرافعة للنقيضين لكن التناقض قد يظهر باللفظ كما إذا قلنا إما أن يكون وإما أن لا يكون وقد يظهر بالمعنى كما إذا قلنا إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره، وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع، بل وقد زدنا في جواب السائل عما هو مقصوده لكن نبهنا على أصول نافعة جامعة.
الطريق الثالث لأهل النظر في إثبات السمع والبصر أن السمع والبصر من صفات الكمال فإن الحي السميع البصير أكمل من حي ليس بسميع ولا بصير كما أن الموجود الحي أكمل من موجود ليس بحي، والموجود العالم أكمل من موجود ليس بعالم، وهذا معلوم بضرورة العقل، وإذا كانت صفة كمال فلو لم يتصف الرب بها لكان ناقصا والله منزه عن كل نقص، وكل كمال محض لا نقص فيه فهو جائز عليه، وما كان جائزا عليه من صفات الكمال فهو ثابت له فإنه لو لم يتصف به لكان ثبوته له موقوفا على غير نفسه فيكون مفتقرا إلى غيره في ثبوت الكمال له وهذا ممتنع إذا لم يتوقف كمال إلا على نفسه فيلزم من ثبوت نفسه ثبوت الكمال لها وكل ما ينزه عنه فإنه يستلزم نقصا يجب تنزيهه له.
وأيضا فلو لم يتصف بهذا الكلام لكان السميع البصير من مخلوقاته أكمل منه.
ومن المعلوم في بداهة العقول أن المخلوق لا يكون أكمل من الخالق إذ الكمال لا يكون إلا بأمر وجودي والعدم المحض ليس فيه كمال وكل موجود للمخلوق فالله خالقه ويمتنع أن يكون الوجود الناقص مبدعا وفاعلا للوجود الكامل إذ من المستقر في بداهة العقول أن وجود العلة أكمل من وجود المعلول دع وجود الخالق الباري الصانع فإنه من المعلوم بالاضطرار أنه أكمل من وجود المخلوق المصنوع المفعول.
وقد بسطنا الكلام على مثل هذه الطريقة في غير هذا الموضع وبينا أن الله سبحانه وتعالى يستعمل في حقه قياس الأولى كما جاء بذلك القرآن وهو الطريق التي كان يسلكها السلف والأئمة كأحمد وغيره من الأئمة، فكل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص ينزه عنه المخلوق فالخالق أولى أن ينزه عنه، كما قال تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ «1» .
وقال تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)«2» .
وقوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)«3» .
وذلك لأن صفات الكمال أمور وجودية أو أمور سلبية مستلزمة لأمور وجودية كقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ «4» فنفي السنة والنوم استلزم كمال صفة الحياة والقيومية وكذلك قوله: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «5» استلزم ثبوت العدل، وقوله تعالى: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ «6» استلزم كمال العلم ونظائر ذلك كثيرة. وأما العدم المحض فلا كمال فيه وإذا كان كذلك فكل كمال لا نقص فيه بوجه ثبت للمخلوق فالخالق أحق به من وجهين:
أحدهما: أن الخالق الموجود الواجب بذاته القديم أكمل من المخلوق القابل للعدم المحدث المربوب.
الثاني: أن كل كمال فيه فإنما استفاده من ربه وخالقه فإذا كان هو مبدعا للكمال وخالقا له كان من المعلوم بالاضطرار أن معطي الكمال وخالقه ومبدعه أولى بأن يكون متصفا به من المستفيد المبدع المعطي وقد قال الله تعالى:* ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)«7» .
وهذا المثل وإن كان يفيد الدعاء إلى عبادة الله وحده ودون عبادة ما سواه ونفي عبادة الأوثان لوجود هذا الفرقان. فإذا علم انتفاء التساوي بين الكامل والناقص وعلم أن الرب أكمل من خلقه وجب أن يكون أكمل منهم وأحق منهم بكل كمال بطريق الأولى والأحرى.
(1) سورة الروم، الآية:28.
(2)
سورة النحل، الآيات: 58 - 60.
(3)
سورة النحل، الآية:62.
(4)
سورة البقرة، الآية:255.
(5)
سورة فصلت، الآية:46.
(6)
سورة سبأ، الآية:3.
(7)
سورة النحل، الآيتان: 75 - 76.
الطريق الرابع في إثبات السمع والبصر والكلام: أن نفي هذه الصفات نقائص مطلقا سواء نفيت عن حي أو جماد وما انتفت عنه هذه الصفات لا يجوز أن يحدث عنه شيء ولا يخلقه ولا يجيب سائلا ولا يعبد ولا يدعى كما قال الخليل: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً «1» وقال إبراهيم لقومه: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74)«2» وقال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148)«3» وقال تعالى: فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)«4» .
وهذا لأنه من المستقر في الفطر أن ما لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم لا يكون ربّا معبودا كما أن ما لا يغني شيئا ولا يهدي ولا يملك ضرّا ولا نفعا لا يكون ربّا معبودا، ومن المعلوم أن خالق العالم هو الذي ينفع عباده بالرزق وغيره ويهديهم وهو الذي يملك أن يضرهم بأنواع الضرر فإن هذه الأمور من جملة الحوادث التي يحدثها رب العالمين فلو قدر أنه ليس محدثا لها كانت حادثة بغير محدث أو كان محدثها غيره، وإذا كان محدثها غيره فالقول في إحداث ذلك الغير كالقول في سائر الحوادث فلا بد أن تنتهي إلى قديم لا محدث، ولذلك من المستقر في العقول أن ما لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ناقص عن صفات الكمال لأنه لا يسمع كلام أحد ولا يبصر أحدا ولا يأمر بأمر ولا ينهى عن شيء ولا يخبر بشيء فإن لم يكن كالحي الأعمى الأصم كان بمنزلة ما هو شر منه وهو الجماد الذي ليس فيه قبول أن يسمع ويبصر ويتكلم ونفي قبول هذه الصفات أبلغ في النقص والعجز وأقرب إلى إنصاف المعدوم ممن يقبلها واتصف بأضدادها، إذ الإنسان الأعمى أكمل من الحجر، والإنسان الأبكم أكمل من التراب، ونحو ذلك ممّا لا يوصف بشيء من هذه الصفات، وإذا كان نفي هذه الصفات معلوما بالفطرة أنه من أعظم النقائص والعيوب وأقرب شبها بالمعدوم كان من المعلوم بالفطرة أن الخالق أبعد عن هذه النقائص والعيوب من كل ما ينفي عنه وأن اتصافه بهذه العيوب من أعظم الممتنعات، وهذه الطريق ليست الثانية ولا الثالثة فإن الثانية مبنية على أنه حي فلا بد من اتصافه بها أو بضدها. والثالثة مبنية على أنها صفات كمال فيجب اتصاف الرب بها وأما هذه فمبنية على أن نفي هذه الصفات نقائص ومعايب ومذام يمتنع وصف الرب بها. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1) سورة مريم، الآية:42.
(2)
سورة الشعراء، الآيات: 72 - 74.
(3)
سورة الأعراف، الآية:148.
(4)
سورة طه، الآيتان: 88 - 89.