المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: الأصوات - البحث اللغوي عند العرب

[أحمد مختار عمر]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌الفصل الثاني: الأصوات

‌الفصل الثاني: الأصوات

عرض تاريخي:

يعتبر علماء اللغة المحدثون دراسة الأصوات أول خطوة في أي دراسة لغوية، لأنها تتناول أصغر وحدات اللغة، ونعني بها الصوت، الذي هو المادة الخام للكلام الإنساني.

أما اللغويون العرب فلم ينظروا إلى الدراسة الصوتية هذه النظرة، ولم يعالجوا الأصوات علاجًا مستقلًّا، وإنما تناولوها دائمًا مختلطة بغيرها من البحوث وذلك على النحو التالي:

1-

بالنسبة للنحاة: خصصوا بعض الأبواب في كتبهم النحوية لهذه الدراسة. بل إنهم لم يقصدوها لذاتها وإنما لغيرها، حيث اعتبروها تمهيدًا أو مدخلًا لدراسة ظاهرة الإدغام، والحديث عن قواعد الإعلال والإبدال، وقد عالج سيبويه "الإدغام" في نهاية مؤلفه "الكتاب"، وعالج الأصوات قبل معالجة الإدغام. وعالج المبرد في كتابه "المقتضب" الإدغام في الجزء الأول وقدم له بدراسة للأصوات ومخارجها. كذلك أنهى الزجاجي كتابه "الجمل" بالحديث عن الإدغام، ومهد لحديثه ببعض الأفكار الصوتية. وأنهى الزمخشري كتابه "المفصل" بالإدغام، وقدم بين يديه دراسة للأصوات.

2 كما تناول أصحاب المعاجم بعض المشكلات الصوتية، إما في مقدمات معاجمهم. أو في ثنايا المادة اللغوية المجموعة. ويبدو الاهتمام بهذا النوع من الدراسة في المعاجم التي رتبت صوتيًّا واتبعت نظام

ص: 93

التقليبات "كالعين" للخليل، أو اتبعت نظام التقليبات فقط "كالجمهرة" لابن دريد.

وقد تناولت مقدمة "العين" -التي شغلت ست عشرة صفحة من المطبوعة- المشكلات الصوتية الآتية:

أ- ترتيب الحروف ترتيبًا صوتيًّا1.

ب- اعتبار الراء واللام والنون ذات وضع خاص وتسميتها بحروف الذلاقة لأنها تخرج من ذلق اللسان أي بطرف أسلته. ولا ينطق طرف اللسان إلا بالراء واللام والنون فقط. وألحق الخليل بهذه الثلاثة، ألفاء والباء والميم لأنها شفوية، وسحب عليها اسم الذلاقة كذلك2.

حـ تصريحه بأن حروف الذلاقة الستة أسهل من غيرها في النطق، ولذا تكثر في أبنية الكلام، ولا يخلو أي بناء رباعي أو خماسي منها أو من بعضها3.

د الحديث عن مخارج الأصوات تفصيلًا4.

وسوف نتعرض لبعض هذه المباحث بشيء من التفصيل فيما بعد.

أما مقدمة "الجمهرة" فقد تناولت جميع النقاط السابقة مع شيء من التفصيل في بعضها، وزادت ما يأتي:

1 صفحة 53.

2 ص 57، 58.

3 ص 58، ص 64، 65 على التوالي.

4 نفس المرجع.

ص: 94

"أ" الحديث عن نسج الكلمة العربية والحروف التي تأتلف أو لا تأتلف كقولها: لم تأتلف القاف والكاف في كلمة واحدة إلا بحواجز، وكذلك حالهما مع الجيم- بقاف والكاف جاءت مع الشين- جمعوا بين الشين والجيم- الحروف إذا تقاربت مخارجها كانت أثقل على اللسان منها إذا تباعدت- الحاء والعين لم تأتلف في كلمة واحدة - أصعب الحروف حروف الحلق.

ب- حديثها عن الأصوات الرخوة والأصوات المطبقة والأصوات الشديدة.

حـ- تعرضها لنسبة تردد الأصوات في اللغة العربية، وادعاؤها أن أكثر الحروف استعمالًا في اللغة هي الواو والياء والهاء، وأقلها الظاء ثم الذال ثم الثاء ثم الشين ثم القاف ثم الخاء ثم النون ثم اللام ثم الراء ثم الباء ثم الميم1.

3 وأسهم علماء التجويد والقراءات القرآنية بقدر لا يجحد في هذا الميدان، ولسنا نملك لهذا النوع من الدراسة مادة كافية تسمح بتتبع تطوره ووصف المراحل التي قطعها حتى صار علمًا مستقلًّا هو "علم التجويد" وكل الذي يعرف عن مراحله الأولى أن أول من استخدام هذه الكلمة في معنى قريب من معانها هو ابن مسعود الصحابي الذي كان ينصح المسلمين بقوله:"جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات".

والذي يروي البخاري مسلم في شأنه أنه كان يتفنن في تجويد القرآن وترتيله وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجهش بالبكاء حينما يسمع القرآن بترتيل ابن مسعود. ويبدو أن نشأة علم التجويد جاءت استجابة لدعوة ابن مسعود، ومحاولة لتقنين قواعد القراءة اقتفاء لأثره. وأصبح كل كتاب للتجويد -فيما بعد- يشتمل - إلى جانب قواعد

1 الجمهرة 1/ 6 - 13.

ص: 95

التلاوة - على فصل في مخارج الحروف وطريقة نطقها وصفاتها كما فعل ابن الجزري في كتابه "النشر" الذي خصص سبع صفحات فيه لهذا المبحث وحده. كذلك ترددت في كتب التجويد مصطلحات صوتية مثل الإشمام، والإشباع، والاختلاس، والمد، والتفخيم، والترفيق، ونحوها1.

4-

وأدلى المؤلفون في إعجاز القرآن وعلوم البلاغة بدلوهم مع الدلاء وزودونا بمعلومات صوتية ذات قيمة. ومعظم ما شغلهم من مباحث الأصوات يتعلق بتنافر الأصوات وتآلفها. واستتبع هذا بالضرورة حديثًا عن مخارج الحروف وهل للقرب أو البعد المخرجي دخل في التنافر أو التآلف ونضرب على هذا النوع من الدراسة الأمثلة الآتية:

أ- يقول الرماني "القرن الرابع" في رسالته "النكت في إعجاز القرآن" بعد أن قسم الكلام إلى متنافر، ومتلائم في الطبقة الوسطى، ومتلائم في الطبقة العليا: "والمتلائم في الطبقة العليا القرآن كله.

والسبب في التلاؤم تعديل الحروف في التأليف. فكلما كان أعدل، كان أشد تلاؤمًا وأما التنافر فالسبب فيه ما ذكره الخليل من البعد الشديد أو القرب الشديد وذلك أنه إذا بعد البعد الشديد كان بمنزلة الطفر، وإذا قرب القرب الشديد كان بمنزلة مشي المقيد، لأنه بمنزلة رفع اللسان ورده إلى مكانه، وكلاهما صعب على اللسان

ومخارج الحروف مختلفة فمنها ما هو من أقصى الحلق، ومنها ما هو من أدنى الفم، ومنها ما هو في الوسائط بين ذلك"2.

1 Tajwid as a Source in Phonetic Research صفحات 114، 118، 119. وانظر دائرة المعارف الإسلامية- مادة تجويد، ففيها معلومات عن موضوعات فن التجويد وإن لم يكن فيها أي ترتيب تاريخي.

2 ص 87 - 79.

ص: 96

"ب" ويقول ابن سنان الخفاجي "القرن الخامس" في كتابه "سر الفصاحه". "وقد ذهب علي بن عيسى1 أيضًا إلى أن التنافر أن تتقارب الحروف في المخارج أو تتباعد بعدًا شديدًا، وحكي ذلك عن الخليل ابن أحمد، ويقال: إنه إذا بعد البعد الشديد كان بمنزلة الطفر، وإذا قرب القرب الشديد كان بمنزلة مشي المقيد، لأنه بمنزلة رفع اللسان ورده إلى مكانه وكلاهما صعب على اللسان. والسهولة من ذلك في الاعتدال، ولذلك وقع في الكلام الإدغام والإبدال" ويعقب ابن سنان الخفاجي على ذلك بقوله:

"والذي أذهب أنا إليه

لا أرى التنافر في بُعد ما بين مخارج الحروف وإنما هو في القرب. ويدل على صحة ذلك الاعتبار كلمة "ألم" فهي غير متنافرة، وهي مع ذلك مبنية من حروف متباعدة المخارج؛ لأن الهمزة من أقصى الحلق، والميم من الشفتين، واللام متوسطة بينهما وعلى مذهبه كان يجب أن يكون هذا التأليف متنافرًا؛ لأنه على غاية ما يمكن من البعد

ومتى اعتبرت جميع الأمثلة لم ترد للبعد الشديد وجهًا في التنافر على ما ذكره. فأما الإدغام والإبدال فشاهدان على أن التنافر في قرب الحروف دون بعدها لأنهما لا يكادان يردان في الكلام إلا فرارًا من تقارب الحروف. وهذا الذي يجب عندي اعتماده، لأن التتبع والتأمل قاضيان بصحته"2.

حـ- وقد ضمن أبو بكر الباقلاني "القرن الرابع" كتابه المشهور "إعجاز القرآن" كثيرًا من المباحث الصوتية، بقصد تحليل آيات القرآن، وبيان أوجه إعجازها. وأهم ما ذكره في هذه الخصوص يتعلق بفواتح السور وسر اختيار حروف معينة لها. ومن ذلك قوله:

1-

"إن الحروف التي بني عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفًا

1 هو الرماني.

2 ملحق بمجموعة "ثلاث رسائل في إعجاز القرآن" ص 169.

ص: 97

وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة. وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفًا؛ ليدل بالمذكور على غيره. والذي تنقسم إليه هذه الحروف

أقسام.. فمن ذلك أنهم قسموها إلى حروف مهموسة وأخرى مجهورة.

فالمهموسة منها عشرة وهي الحاء والهاء والخاء والكاف والشين والثاء والفاء والتاء والصاد والسين. وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة. وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور، وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء لا زيادة ولا نقصان"1.

2-

ويذكر الباقلاني كذلك أن نصف حروف الحلق "العين والحاء والهمزة والهاء والخاء والغين" وهو العين والحاء والهاء قد ورد في هذه الفواتح. وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف حلق. كما يذكر أن نصف الحروف الشديدة "الهمزة والقاف والكاف والجيم والتاء والدال والطاء والباء" وهو الطاء والقاف والكاف والهمزة مذكورة في جملة تلك الحروف: وكذلك نصف الحروف المطبقة "الطاء والضاد والصاد والظاء" وهو الطاء والصاد مذكور في الفواتح2.

3-

ويقول عن البدء بحروف "ألم": "لأن الألف المبدوء بها هي أقصاها مطلقًا، واللام متوسطة، والميم متطرفة، لأنها تأخذ في الشفة، فنبه بذكرها على غيرها من الحروف، وبين أنه إنما أتاهم بكلام منظوم مما يتعارفون من الحروف التي تتردد بين هذين الطرفين"3.

4-

كذلك شارك أصحاب الموسوعات الأدبية في هذا الحقل، وعلى

1 ص 66.

2 ص 67 - 68.

3 ص 68 - 69.

ص: 98

رأسهم الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين". ونكتفي بضرب بعض الأمثلة من بيان الجاحظ باعتبارها تمثل هذا النوع من البحوث:

"أ" مما تعرض له الجاحظ عيوب النطق سواء كانت ناتجة عن سرعة أو سبب عضوي، أو لثغة، أو لكنة أجنبية.

أما العيب الناتج عن السرعة فقد سماه اللفف، وعرفه بأن يدخل المتكلم الكلام بعضه في بعض.

وأما العيب الناتج عن سبب عضوي مثل سقوط بعض الأسنان فقد مثل له الجاحظ بخطيب اسمه الجمحي أصاب في خطبته، ولكنه كان نازعًا بعض أسنانه فكان في كلامه صفير يخرج من موضع ثناياه المنزوعة.

ونقل الجاحظ في مكان آخر ملاحظة لمحمد بن عمرو الرومي عن سقوط جميع الأسنان وهي "قد صحت التجربة، وقامت العبرة على أن سقوط جميع الأسنان أصلح في الإبانة عن الحروف منه إذا سقط أكثرها، وخالف أحد شطريها الشطر الآخر".

أما اللثغة فقد عالجها الجاحظ في شيء من الاستفاضة، وتعرض للحروف التي تدخلها، وذكر أنها أربعة هي القاف والسين واللام والراء فلثغة القاف تكون بقلبها طاء، والسين بقلبها ثاء، واللام بقلبها ياء أو كافًا، والراء بقلبها ياء أو عينًا أو ذالًا أو ظاء.

وتعرض الجاحظ كذلك للكنة التي تبدو في كلام الأعجمي إذا نطق اللغة العربية كنطق السدي الجيم زايًا، والنبطي الزاي سينًا والعين همزة1.

ب كذلك تناول الجاحظ نسج الكلمة العربية، وعدم اجتماع

1 1/ 34 - 38، 58، 70، 74. وانظر كذلك ص 15. وتعرض الجاحظ كذلك لجملة من عيوب النطق مثل التمتمة والحبسة والعقلة والحكة والتلعثم

"انظر.. بعض البحوث اللغوية عند الجاحظ ص 61، 62".

ص: 99

بعض الحروف مع بعض، وذلك في قوله:"فأما اقتران الجروف فإن الجيم لا تقارن الظاء ولا القاف ولا الطاء ولا الغين بتقديم ولا بتأخير. والزاي لا تقارن الظاء ولا السين ولا الضاد ولا الذال.. وهذا باب كبير، وقد يكتفى بذكر القليل حتى يستدل به على الغاية التي إليها يجري"1.

"ح" وينقل الجاحظ الزعم أن الياء واللام والألف والراء أكثر الحروف ترددًا من غيرها، وأن الحاجة إليها أشد، ثم يعقب بقوله:"واعتبر ذلك بأن تأخذ عدة رسائل، وعدة خطب من جملة خطب الناس ورسائلهم، فإنك متى حصلت جميع حروفها وعددت كل شكل على حدة علمت أن هذه الحروف الحاجة إليها أشد"2.

ومنهج الجاحظ في هذه التجربة الصوتية يعد أحدث منهج متبع الآن، وهو أخذ عينة من المادة اللغوية المدروسة ثم استخلاص النتائج منها والانتهاء بتعميم الحكم.

وأول من أفرد المباحث الصوتية بمؤلف مستقل ونظر إليها على أنها علم قائم بذاته ابن جني المتوفي عام 392 هـ في كتابه "سر صناعة الإعراب"3 الذي تناول الموضوعات الصوتية الآتية:

1-

عدد حروف الهجاء وترتيبها ووصف مخارجها.

2 بيان الصفات العامة للأصوات وتقسيمها باعتبارات مختلفة.

3 ما يعرض للصوت في بنية الكلمة من تغيير يؤدي إلى الإعلال أو الإبدال أو الإدغام أو النقل أو الحذف.

1- 1/ 69.

2-

1/ 22.

3 رجعنا إلى تحقيق مصطفى السقا للجزء الأول. وقد حقق الكتاب كاملًا ونشر مؤخرًا في دمشق بتحقيق الدكتور حسن هنداوي.

ص: 100

4-

نظرية الفصاحة في اللفظ المفرد ورجوعها إلى تأليفه من أصوات متباعدة المخارج1. ويقول ابن جني في مقدمة كتابه.

"وأذكر أحوال هذه الحروف في مخارجها ومدارجها، وانقسام أصنافها، وأحكام مجهورها ومهموسها، وشديدها ورخوها، وصحيحها ومعتلها، ومطبقها ومنفتحها وساكنها ومتحركها

إلى غير ذلك من أجناسها. وأذكر فرق ما بين الحرف والحركة. وأذكر أيضًا الحروف التي هي فروع مستحسنة والحروف التي هي فروع مستقبحة، والحركات التي هي فروع متولدة عن الحركات كتولد الحروف عن الحروف. وأذكر أيضًا ما كان من الحروف في حال سكونه له مخرج؛ فإذا حرك أقلقته الحركة وأزالته عن محله في حال سكونه"2:

ويجدر بنا ونحن نتحدث عن ابن جني أن ننبه إلى شيئين اثنين:

أ- أن ابن جني كان أول من استعمل مصطلحًا لغويًّا للدلالة على هذا العلم ما زلنا نستعمله حتى الآن وهو "علم الأصوات"3.

ب- أن ابن جني يعتبر الرائد في هذه الدراسة، وكان على حق في قوله في كتابه:"وما علمت أن أحدًا من أصحابنا خاض في هذا الفن هذا الخوض ولا أشبعه هذا الإشباع"4.

وسوف نعرض فيما بعد نتفًا من آراء ابن جني الصوتية.

وأخيرًا نشير إلى عمل لابن سينا الفيلسوف المشهور يدخل تحت الدراسة الصوتية وهو رسالته "أسباب حدوث الحروف" التي طبعت بالقاهرة عام 1332 هـ بتحقيق محب الدين الخطيب، وفي طهران عام

1 مقدمة المحققين ص 14.

2 مقدمة المؤلف ص 3. وانظر التفكير الصوتي عند العرب ص 4.

3 ص 10.

ص: 101

1333هـ1، وف بيروت عام 1962 بتحقيق فؤاد حنا ترزي، وفي دمشق عام 1983. والرسالة -بالإضافة إلى مقدمتها- مقسمة إلى الفصول الستة الآتية:

1-

الفصل الأول سبب حدوث الصوت.

2-

الفصل الثاني جعل عنوانه "سبب حدوث الحروف" وفيه يتحدث عن مخارج الأصوات ومحابسها.

3-

وخصص ابن سينا الفصل الثالث لتشريح الحنجرة واللسان.

4-

وفي الفصل الرابع يعالج ابن سينا الحروف العربية ويبين كيفية صدور كل حرف منها ويصف العملية العضوية مع كل حرف وصفا مفصلا.

5-

أما الفصل الخامس فقد خصصه ابن سينا لأصوات سمعها في لغات أخرى غير العربية مثل السين الزائية والزاي السينية والزاي الظائية والفاء الشبيهة بالباء.

6-

وأنهى ابن سينا رسالته بفصل فريد بين فيه كيفية إنتاج هذه الأصوات بحركات غير نطقية، كالشين التي تسمع "عن نشيش الرطوبات" والطاء التي "تحدث عن تصفيق اليدين بحيث لا تنطبق الراحتان"2.

1 مقدمة التحقيق لطبعة دمشق. وقد ترجمت إلى الإنجليزية والروسية والألمانية كما أعيد طبعها في طهران عام 1349.

2 أصوات اللغة عند ابن سينا للدكتور إبراهيم أنيس في أماكن متعددة، إلى جانب الرسالة نفسها. وقد ولد ابن سينا عام 370 أو 373 أو 375 هـ في قرية أفشنة قرب بخارى، وتوفي عام 428 هـ في همذان، بعد أن ترك ما يزيد على مائتين وخمسين مؤلفًا من بينها أربعة مؤلفات في اللغة والنحو.

ص: 102

آراء ابن سينا الصوتية:

"أ" طبيعة الصوت:

تناول ابن سينا طبيعة الصوت في رسالته "أسباب حدوث الحروف"، وفي كتابه "الشفاء" في فصل السمع. وقد انتهى إلى أن العملية الصوتية تتضمن عناصر ثلاثة هي:

1-

وجود جسم في حالة تذبذب.

2-

وجود وسط تنتقل فيه الذبذبة الصادرة عن الجسم المتذبذب.

3-

وجود جسم يستقبل هذه الذبذبات.

وهو نفس ما انتهى إليه المحدثون من علماء الأصوات.

وقد عبّر ابن سينا عن العنصر الأول باشتراط وجود قرع أو قلع "أما القرع فمثل ما تقرع صخرة أو خشبة فيحدث صوت. وأما القلع فمثل ما قلع أحد شقي مشقوق عن الآخر، كخشبة تنحى عليها بأن تبين أحد شقيها عن الآخر طولًا". واشترط لإحداث القرع أو القلع صوتًا أن يكون كل منهما بقوة معينة "فإن قرعت جسمًا كالصووف بقرع لين جدًّا لم تحسن صوتًا. بل يجب أن يكون للجسم الذي تقرعه مقاومة ما، وأن يكون للحركة التي للمقروع به إلى المقروع عنف صادم

وكذلك إذا شققت شيئًا يسيرًا وكان الشيء لا صلابة له لم يكن للقلع صوت ألبتة"1.

وعبر عن العنصر الثاني، وهو وجود وسط ناقل للذبذبات بقوله:"أظن أن الصوت سببه القريب تموج الهواء ودفعه بسرعة وبقوة من أي سبب كان". وقوله: "وهذا الشيء الذي فيه هذه الحركات شيء

1 الشفاء ص 82. وأسباب حدوث الحروف. الفصل الأول.

ص: 103

رطب سيال لا محالة، إما ماء، وإما هواء، فيكون مع كل قرع وقلع حركة للهواء أو ما يجري مجراه، إما قليلًا برفق، وإما دفعة على سبيل تموج أو انجذاب بقوة. فقد وجب أن ها هنا شيئًا لا بد أن يكون موجودًا عند حدوث الصوت، وهو حركة قوية من الهواء، أو ما يجري مجراه"1.

أما الجسم المستقبل للذبذبات فقد تحدث عنه في كتابيه الشفاء وأسباب حدوث الحروف، وذلك في قوله الأول:" فإذا انتهى التموج من الهواء أو الماء إلى الصماخ، وهناك تجويف فيه هواء راكد يتموج بتموج ما ينتهي إليه، ووراءه، كالجدار مفروش عليه العصب الحاس للصوت أحس بالصوت"2. وفي الثاني: "ثم ذلك الموج يتأدى إلى الهواء الراكد في الصماخ فيموجه فيحس به العصبة المفروشة في سطحه"3.

ومن اللافت للنظر كذلك أن يتنبه ابن سينا إلى قابلية الأذن لإدراك الأصوات بمعدلات معينة للتردد والتوتر لها حد أدنى وحد أعلى، وأن ينتبه إلى أن زيادة شدة الصوت عن مقدار معين تسبب الأذى والإزعاج للسامع، وذلك في قوله:"القرع الشديد يحدث صوتًا يضر السمع" وقوله: "والتموج الفاعل للصوت قد يحس حتى يؤلم". بل يصرح ابن سينا بقدرة الأصوات الشديدة على تحطيم الأشياء "فإن صوت الرعد قد يعرض منه أن يدك الجبال، وربما ضرب حيوانًا فأفسده. وكثيرًا ما يستظهر على هدم الحصون العالية بأصوات البوقات"4.

1 الشفاء ص 83، وأسباب حدوث الحروف - الفصل الأول.

2 ص 84.

3 الفصل الأول.

4 الشفاء ص 83، 84.

ص: 104

"ب" مخرج الصوت الإنساني وصفاته:

يستخدم ابن سينا للتعبير عن إنتاج الصوت لفظ الحبس ومشتقاته. أما كلمة المخرج؛ فيبدو أنه يستخدمها للإشارة إلى مجرى الهواء أو طريقه الذي يكون إما نحو الأنف أو الفم. وقد تردد في كلامه ألفاظ المخرج والمخارج والحبس والحابس والمحبوس والمحابس..

ويرى ابن سينا أن الذي يميز الحرف "الصوت" عن الحرف "الصوت" جملة عوامل منها:

1-

اختلاف نقطة التحكم في مجرى الهواء "بسبب اختلاف الأجرام التي يقع عندها وبها الحبس والإطلاق، فإنها ربما كانت ألين، وربما كانت أصلب، وربما كانت أيبس، وربما كانت أرطب.. وقد يكون الحابس أصغر وأعظم، والمحبوس أكثر وأقل، والمخرج أضيق وأوسع، ومستدير الشكل، ومستعرض الشكل مع دقة، والحبس أشد وألين، والضغط بعد الإطلاق أحفز وأسلس.."1.

2-

اختلاف حال التموج "بعد أن ذكر أن نفس التموج إنما يفعل الصوت": "وأما حال التموج في نفسه من اتصال أجزائه وتماسها، أو تشظيها بها فيفعل الحدة والثقل. أما الحدة فيفعلها الأولان، وأما الثقل فيفعله الثانيان"2.

ويفسر الدكتور إبراهيم أنيس الحدة والثقل بأحد تفسيرين:

أولهما وأرجحهما: أن ابن سينا هنا يشير إلى درجة الصوت pitch لأن طول الموجة مع الصوت الحاد أقل منه مع الصوت الثقيل. فأجزاء الموجه في الصوت الحاد متقاربة متمساكة، على حين أن أجزاءها مع الصوت الثقيل متباعدة.

1 أسباب حدوث الحروف - الفصل الثاني.

2 السابق - الرواية الأولى من طبعة إيران.

ص: 105

الأمر الثاني أن ابن سينا في هذا النص أراد فعلًا أن يصف لنا حدة الصوت وثقله high and low pitch، وجعل حدة الصوت أو ثقله متوقفًا على طبيعة الجسم المقروع. فهو في حالة اتصال أجزائه وتماسكها، أي: حين تكون ذات كثافة كبيرة كالأجسام الصلبة من معادن ونحوها يكون الصوت عادة حادًّا على حين أن الصوت مع الجسم الأقل كثافة كالخشب مثلًا يكون ثقيلًا1.

3-

اختلاف طريقة التحكم في الهواء عند نقطة الإنتاج "المحبس".

وقد ذكر ابن سينا في هذا الخصوص طريقتين هما:

أ- الحبس التام للصوت.

ب- الحبس غير التام للصوت.

وقد عبر عن هذين بقوله: "والحروف بعضها -في الحقيقة- مفردة، وحدوثها عن حبسات تامة للصوت أو للهواء الفاعل للصوت يتبعها إطلاق دفعة. وبعضها مركبة وحدوثها عن حبسات غير تامة لكن مع إطلاقات2.

وهنا نلاحظ أن ابن سينا يستعمل المصطلحين: مفردة ومركبة في مقابل مصطلحي سيبويه: شديدة ورخوة، والمصطلحين الحديثين: انفجارية "وقفية" واحتكاكية.

وقد فرق ابن سينا بين الحروف المفردة والحروف المركبة قائلًا: "وهذه المفردة تشترك في أن وجودها وحدوثها في الآن الفاصل بين زمان الحبس وزمان الإطلاق. وذلك لأن زمان الحبس التام لا يمكن أن يحدث فيه صوت حادث عن الهواء وهو مسكن بالحبس، وزمان الإطلاق ليس يسمع فيه شيء من هذه الحروف؛ لأنها لا تمتد ألبتة، إنما هي مع إزالة

1 أصوات اللغة عند ابن سينا ص 178، 179.

2 أسباب حدوث الحروف - الفصل الثاني.

ص: 106

الحبس فقط: وأما الحروف الأخرى فإنها تشترك في أنها تمتد

في الزمان الذي يجتمع فيه الحبس مع الإطلاق 1.

وقد قسم ابن سينا الحروف المفردة "الوقفية" إلى نوعين:

أ- مفردة "على الإطلاق".

ب- مفردة من وجه.

أما المفردة على الإطلاق فهي: الباء والتاء والجيم والدال والطاء والقاف والكاف والهمزة.

وأما المفردة من وجه فهي: الضاد واللام والميم والنون.

وقد أصاب ابن سينا في هذه التفرقة بين النوعين، واعتباره الحبس في الأصوات الأربعة الأخيرة حبسًا جزئيًّا في مكان يصحبه تسريح في مكان آخر. فالضاد -كما يذكر القدماء- "إن شئت تكلفتها من الجانب الأيمن، وإن شئت من الجانب الأيسر"، وكلام سيبويه يدل على أنها تكون من الجانبين. واللام -على حد تعبير سيبويه- صوت منحرف جرى فيه الصوت لانحراف اللسان مع الصوت، ولم يعترض على الصوت كاعتراض الحروف الشديدة.

والميم والنون صوتان شديدان عند سيبويه يجري معهما الصوت. لأن ذلك الصوت غنة من الأنف، فإنما تخرجه من أنفك.

وقد اعتبر بعض المتأخرين "ابن جني والزمخشري وابن الجزري وغيرهم" النون والميم واللام مع حروف أخرى" ضمن الحروف المتوسطة أو بين الشديدة والرخوة.

وأما الحروف المركبة "الاحتكاكية" فلم يذكرها ابن سينا بالاسم

1 السابق.

ص: 107

مكتفيًا بذكر مقابلاتها المفردة "الوقفية" ولك أن تعدها عدًّا".

وبعملية إسقاط للحروف المفردة يتبين أن المركبة عنده هي: الثاء - الحاء - الخاء - الذال - الراء - الزاي - السين - الشين - الصاد - الضاد - العين - الغين - الفاء - الهاء.

ويبقى تعليق على صوت الراء. فإذا كان التقسيم الثنائي إلى شديد ورخو لم يستطع أن يشملها، فاختصها اللغويون باسم "المكرر""وإن اعتبروها نوعًا من الشديد" فإن مصطلح "المركب" عند ابن سينا يمكن أن يشملها بسهولة؛ لأن شرط التركيب في الصوت أن "يمتد في الزمان الذي يجتمع فيه الحبس مع الإطلاق"، وهو ما ينطبق على الصوت المكرر: الراء، كما ينطبق على الأصوات الاحتكاكية.

جـ- أصوات العربية:

خص ابن سينا أصوات اللغة العربية بفصل في رسالته، هو الفصل الرابع الذي عنونه "في الأسباب الجزئية لحرف حرف من حروف العرب".

وقد عالج ابن سينا في هذا الفصل الأصوات صوتًا صوتًا على الترتيب التالي:

الهمزة - الهاء - العين - الحاء - الخاء - الغين - القاف - الكاف - الجيم - الشين - الضاد - السين - الصاد - الزاي - الطاء - التاء - الدال - الثاء - الذال - الظاء - اللام - الراء - الفاء - الباء - الميم - النون - الواو الصامتة - الياء الصامتة - المصوتات: الألف الصغرى والكبرى - الواو الصغرى والكبرى - الياء الصغرى والكبرى.

وأول ما يلفت النظر في ترتيب ابن سينا ما يأتي:

1-

تفريقه بين السواكن والعلل، وتسميته الأولى صوامت والثانية مصوتات.

ص: 108

2-

تفريقه بين نوعين من الواو والياء. فنوع أدرجه في الصوامت، ونوع أدرجة في المصوتات.

3-

تفريقه بين الحركة القصيرة والحركة الطويلة "الصغرى والكبرى".

4-

اتباعه الطريقة العربية التي ترتب الأصوات من الداخل إلى الخارج.

ويتميز ترتيب ابن سينا بما يأتي:

1-

عدم وضعه الألف بجوار الهمزة بخلاف ما فعل سيبويه وابن جني. وإن وضع الألف مع أصوات الحلق من أخطاء اللغويين القدماء، وإن حاول بعضهم الدفاع عنه.

2-

تقديم القاف على الكاف مخالفًا في ذلك سيبويه.

3-

إبعاد الواو والياء إلى ما بعد الانتهاء من الصوامت.

4-

تأخير أحرف العلة الثلاثة "قصيرها وطويلها" إلى ذيل القائمة.

فكأن ابن سينا قد راعى البدء بالصوامت ثم أشباه المصوتات ثم المصوتات.

5-

وضع الميم والنون متتاليتين رغم اختلاف مخرجهما لاشتراكهما في صفة الأنفية.

6-

أما وضع الراء واللام عند ابن سينا ففيه نظر. ولعله تبع فيه ترتيب الخليل بن أحمد في معجمه العين.

أما حديثه عن مخارج الأصوات وصفاتها وكيفيات نطقها فنجد فيه تفصيلًا دقيقًا لا نجده في كتب اللغويين. وقد أعانه على ذكر الحركات العضوية، وعلى تحديد العضلات والمفاصل المشتركة في انتاج الصوت.

ص: 109

خبرته العملية الواسعة بتركيب جسم الإنسان وبتشريح أعضائه. ومن أمثلة ذلك قوله:

1-

أما الهمزة فإنها تحدث عن حفز قوي من الحجاب وعضل الصدر لهواء كثير، ومن مقاومة الطرجهالي الحاصر زمانًا قليلًا لحفز الهواء ثم اندفاعه إلى الانقلاع بالعضلة الفاتحة وضغط الهواء معًا له.

2-

وأما الحاء وإن شاركت العين؛ فإنها تخالف العين في هيئة المخرج وفي المحبس وفي القوة وفي جهة مخلص الهواء. فإن الفرجة بين الغضروفين السافلين تكون أضيق، والهواء يندفع أميل إلى قدام، ويصدم حافة التقعير الذي كان يصدمه هواء العين عند الخروج. وتلك الحافة صلبة والدفع فيها أشد فيقسر الرطوبة ويميلها إلى قدام

3-

وأما الثاء فتخرج باعتماد من الهواء عند موضع التاء بلا حبس وتحبس عند طرف الأسنان ليصير الخلل أضيق؛ فيكون صفير قليل مع القلع.

وكأن الثناء سين تلوفيت بحبس فرج مسلك هوائها الصفار.

4-

وحدوث اللام بحبس من طرف اللسان رطب غير قوي جدًّا، ثم قلع إلى قدام قليلًا، والاعتماد على الجزء المتأخر من اللسان المماس لما فوقه أكثر من الاعتماد على طرف اللسان. وليس الحفز للهواء بقوي. ولو كان الحفز والشد قويًّا خرج حرف كالطاء.

5-

وإن كان طرف اللسان متعرضًا للموضع الذي يمسه في اللام من غير مس صادق، ولا التصاق رطوبة، ثم عرض حافتاه بالعضلتين المطولتين تعريضًا أقوى من تعريض الطرف نفسه، وحمل عليه الهواء حتى نفضه وأرعده كما يفعل الريح بكل لين متعرض له متعلق.

1 هو الغضروف الثالث من غضاريف الحنجرة في تشريح ابن سينا.

ص: 110

من طرف منه بشيء ثابت حدث منه حرف الراء، وسمع التكرير الذي فيه للارتعاد قدمًا.

6-

وأما الميم فإن الحبس فيها تام وبأجرام من الشفة أيبس وأخرج. وليس تسريب الهواء مع القلع إلى خارج الفم كله، بل يصرف بعضه بحفز قوي إلى التجويف الذي في آخر المنخر ليدور فيه ويفعل دويًّا، ثم يطلقان معًا.

وقد فطن ابن سينا إلى وجود أثر سمعي يصاحب نطق بعض الأصوات كالزاي والذال والغين

"وهو ما سماه اللغويون بالجهر" وحاول تفسيره من الناحية العضوية. وعلى الرغم من أن تفسيره تعوزه الدقة العلمية فهو أقرب إلى القبول من تفسير اللغويين. يقول سيبويه معرفًا الصوت المجهور بأنه "حرف أشبع الاعتماد في موضعه ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد ويجري الصوت" ونفس التعريف بألفاظه نجده عند ابن جني وغيره.

أما ابن سينا فيقول عن صوت الزاي مفرقًا بينه وبين السين والصاد: "وأما الزاي فإنها تحدث أيضًا قريبًا من الموضع الذي يحدث فيه السين والصاد. ولكن يكون طرف اللسان فيها أخفض، وما بعده أرفع وأقرب من سطح الحنك كالمماس بالعرض أجزاء دون أجزاء.

ولكنها أقل أخذًا في الطول مما يأخذه المقرب من سطح الشجر والحنك في السين. والغرض من ذلك أن يحدث هناك اهتزاز على سطح اللسان وسطح الحنك ليجتمع ذلك الاهتزاز مع الصفير. وأما في سائر الأشياء فهو كالسين. ويكاد للاهتزاز الذي يقع في الزاي أن يكون تكريرًا كالتكرير الواقع في الراء".

ويقول عن صوت الغين: "ويكون الاهتزاز في تلك الرطوبة أكثر منها فيما سلف"مع الخاء". ويقول عن الذال: إنها "تفارق الثاء في الاهتزاز".

ص: 111

ومعنى هذا أن ابن سينا قد فطن إلى وجود اهتزاز يصاحب نطق الزاي والذالوالغين.. وأن هذا الاهتزاز في تكراره يشبه التكرار الواقع في الراء. وهذه نقطة تحسب في صالحه. ولكن الشيء الذي يؤخذ عليه هو عدم اهتدائه إلى العضو المهتز. إذ جعله ابن سينا سطح اللسان، أو سطح الحنك أو الرطوبة، مع أنه في الواقع الوتران الصوتيان في منطقة الحنجرة.

ويبدو أن وجود الوترين الصوتيين في موضعهما المذكور لم يهتد إليه القدماء، ولذا لم يرد لهما ذكر في الكتب الطبية والتشريحية العربية. نعم قد ورد في كتابات ابن سينا وغيره مصطلح "الجسم الشبيه بلسان المزمار" أو "الشيء الذي يُسمى لسان المزمار" أو "الجسم المعروف بلسان المزمار" كما ورد في كتابات ابن سينا أن آلة الصوت "الحنجرة والجسم الشبيه بلسان المزمار، وهي الآلة الأولى الحقيقية، وسائر الآلات بواعث ومعينات"1.

وذكر ابن القف أن لسان المزمار "هو الآلة الأولى في الصوت، ويسمى بهذا الاسم لأنه يشبه لسان المزمار في شكله وفعله ووضعه.. فإنه موضوع في الحنجرة في الموضع الذي يوضع فيه لسان المزمار في المزمار.. وقد جعل له الفعل الذي للسان المزمار في المزمار وهو التلحين"2 ولكن ليس من السهل التسليم بأنهما يريدان بلسان المزمار الفرجة التي بين الأوتار الصوتية كما يرجح الدكتور أنيس3.

وأغلب الظن أنهما يريدان به ما يقابل المصطلح الأجنبي Epiglottis وهو مصطلح يطلق على الغضروف المفرد أعلى غضاريف الحنجرة الذي يقع في مقدمة الحنجرة وخلف جذر اللسان مباشرة مشكلًا جدارًا أماميًّا منحرفًا لمدخل الحنجرة.. ويقوم لسان المزمار بالفصل بين الهواء والغذاء أثناء البلع وذلك باندفاعه إلى أسفل تبعًا لحركة جذر اللسان والعظم

1- انظر القانون ص 394، والعمدة في الجراحة ص 102.

2-

العمدة ص 102.

3-

الأصوات اللغوية ص 144.

ص: 112

اللامي ليغلق مدخل الحنجرة1. ومما يدل على أن هذا هو المراد بلسان المزمار، وليس الفرجة التي بين الأوتار الصوتية ما ورد في كتاب "العمد" من أن جالينوس سماه "طبق الحنجرة"، وما ورد فيه من أنه "حال ازدراد الطعام وشرب الشراب بنطبق الجميع ويحيط بالحنجرة من داخل غشاء ملبس عليها جميعها"2.

وعلى هذا يكون تفسير الجهر عند ابن سينا تفسيرًا مقاربًا إذ ربطه بالاهتزاز، ولكن يظل غير دقيق لعدم اهتدائه للعضو الأساسي في ظاهرة الجهر وهو الوتران الصوتيان.

كذلك تحدث ابن سينا عما سماه سيبويه بالإطباق، وما يمكن تسميته كذلك بالتفخيم، وهو الوصف الذي تتميز به الأصوات: ص - ض - ط - ظ.

وقد أشار سيبويه إلى الإطباق بقوله3: "أما المطبقة فالصاد والضاد والطاء والظاء.. وهذه الحروف الأربعة إذا وضعت لسانك في مواضعهن انطبق لسان من مواضعهن إلى ما حاذى الحنك الأعلى من اللسان ترفعه إلى الحنك. فإذا وضعت لسانك فالصوت محصور فيما بين اللسان والحنك إلى موضع الحروف" وأشار إليه ابن جني بقوله: "والإطباق أن ترفع ظهر لسانك إلى الحنك الأعلى مطبقًا له"4.

ولكننا نجد ابن سينا يتميز عليهما بوصفه التفصيلي المعتمد على تحديد ما يلحق الأعضاء المشاركة في النطق من تعديلات. فحين يتحدث عن الصاد يقول: "ويحدث في اللسان كالتقعير حتى يكون لانقلاب الهواء كالدوي". وحين يتحدث عن الطاء يقول بعد أن حدد مخرجها

1 دراسة السمع والكلام ص 109.

2 العمدة ص 102، 103.

3 الكتاب "4/ 436.

4 سر الصناعة 1/ 70.

ص: 113

وربطه بمخرج التاء والدال: "لكن الطاء يحبس في ذلك الموضع بجزء من طرف اللسان أعظم.. وتقعر وسط اللسان خلف ذلك المحبس ليحدث هناك للهواء دوي عند الإخراج، ثم يقلع ويكون الحبس بشد قوي" وحين يفرق بين التاء والطاء يقول: "وأما التاء فيكون مثله في كل شيء إلا أن الحبس بطرف اللسان فقط".

فهنا نجد لأول مرة حديثًا عن تقعر اللسان مع الأصوات المفخمة، وعن اشتراك جزءين من اللسان في عملية نطقها، وهو ما لم نجده بهذا الوضوح عند اللغويين القدماء1.

بعض النتائج الصوتية التي توصل إليها العرب:

كان للقدماء من علماء العربية بحوث في الأصوات اللغوية شهد المحدثون أنها جليلة القدر بالنسبة إلى عصورهم، بل حتى بالنسبة للعصر الحديث، برغم ما فيه من إمكانات هائلة لم تتح للقدماء، من آلات وأجهزة للتصوير والتسجيل وتحليل الأصوات وغيرها. ويكفي العرب فخرًا في مجال الأصوات أن يشهد لهم عالمان غربيان كبيران هما برجشتراسر الألماني، وفيرث الإنجليزي. يقول الأول: "لم يسبق الأوربيين في هذا العلم إلا قومان من أقوام الشرق وهما أهل الهند

والعرب" 2 ويقول الثاني: "إن علم الأصوات قد نما وشب في خدمة لغتين مقدستين هما السنسكريتية والعربية".

أما أهم النتائج الصوتية التي توصل إليها العرب فهي باختصار:

1-

وضع العرب أبجدية صوتية للغة العربية رتبت أصواتها بحسب المخارج ابتداء من أقصاها في الحلق حتى الشفتين. وقد وضع

1 تجد تطابقًا بين ما قاله ابن سينا وما يقوله المحدثون. فالدكتور إبراهيم أنيس مثلًا يقول عن الظاء: "في حالة النطق بالظاء يرتفع طرف اللسان وأقصاه نحو الحنك وينقعر وسطه""الأصوات اللغوية ص 47، 48".

2 التطور النحوي ص 5.

ص: 114

الخليل بن أحمد أول أبجدية من هذا النوع عرفتها اللغة العربية تشتمل على تسعة وعشرين رمزًا، وسار فيها على النحو التالي.

ع ح هـ خ غ - ق ك - ج ش ض - ص س ز - ط د ت - ظ ث ذ - ر ل ن - ف ب م - وا ي همزة 1.

ولكن سيبويه في كتابه قد خالف أستاذه مخالفات جوهرية، إذ رتبها على النحو التالي: همزة اهـ ع ح غ خ ك ق ض ج ش ي ل ر ن ط د ت ص ز س ظ ذ ث ف ب م و.

أما ترتيب ابن جني فقد جاء موافقًا -في معظمه- لترتيب سيبويه، فيما عدا وضعهالقاف قبل الكاف، وتأخيره الضاد إلى ما بعد الياء2.

2-

تحدث العرب عن أعضاء النطق وسموا كلًّا منها مثل الرئة والحنجرة والحلق واللسان والشفتين، وقسموا الحلق إلى أقصى ووسط وأدنى، واللسان إلى أصل وأقصى ووسط وظهر وحافة وطرف3.

وتحدثوا عن مخارج الأصوات بطريقة تفصيلية، وصنفوا الأصوات بحسب المكان الذي يتم فيه التحكم في الهواء الخارج من الرئتين. وقد حصر الخليل المخارج في ثمانية4، وبعضهم حدد مخارج الأصوات بطريقة أدق فوصل بالرقم إلى ستة عشر أو سبعة عشر مثل سيبويه وابن دريد وابن جني وعلماء التجويد5.

وقد شبه ابن جني مجرى الهواء في الحلق والفم بالناي قائلًا: "إذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المنسوقة، وراوح بين أنامله اختلفت الأصوات وسمع لكل خرق منها صوت لا يشبه صاحبه. فكذلك.

1 العين للخليل 1/ 53.

2 سر صناعة الإعراب 1/ 50 - 51.

3 دروس في علم الأصوات العربية لكانتينو ص 18، 19.

4 العين للخليل 1/ 65.

5 سر صناعة الإعراب 1/ 52، 53، وجمهرة ابن دريد 1/ 8.

ص: 115

إذا قطع الصوت في الحلق والفم باعتماد على جهات مختلفة كان سبب استماعنا هذه الأصوات المختلفة"1.

3-

توصل العرب إلى أن طريقة التحكم في مجرى الهواء هامة في إنتاج الصوت. وقد قسموا الأصوات على أساسها إلى شديدة ورخوة ومتوسطة. وفسروا الشديد بأنه الحرف الذي يمنع الصوت من أن يجري فيه، والرخو بأنه الذي يجري فيه الصوت. ووضعوا قائمة بأصوات كل نوع بطريقة يوافقهم عليها في جملتها التحليل الصوتي الحديث2.

4-

فصل العرب الأصوات المطبقة عن غيرها، وهي الأصوات المفخمة التي يتشرك مؤخر اللسان في النطق بها، وذكروا أنها هي الصاد والضاد والطاء والظاء3.

5-

اهتدى العرب إلى وجود رنين معين يصحب نطق الأصوات المجهورة، ولذا قسموا الأصوات من حيث وجود هذا الرنين أو عدم وجوده إلى مجهورة ومهموسة، ووضعوا لنا قائمة بكل نوع4. وقد ذكر أبو الحسن الأخفش أنه سأله سيبويه عن الفرق بين المهموس والمجهور فقال له: "المهموس إذا أخفيته ثم كررته أمكنك ذلك، وأما المجهور فلا يمكنك فيه. ثم كرر سيبويه التاء بلسانه وأخفى فقال: ألا ترى كيف يمكن؟ وكرر الطاء والدال وهما من مخرج التاء فلم يمكن. قال: وإنما فرق بين المجهور والمهموس أنك لا تصل إلى تبين المجهور إلا أن تدخله الصوت الذي يخرج من الصدر. فالمجهورة كلها هكذا يخرج صوتهن من الصدر ويجري في الحلق.. أما المهموسة فتخرج أصواتها من مخارجها.. والدليل على ذلك أنك إذا أخفيت همست بهذه الحروف ولا تصل إلى ذلك في المجهور

"5.

1 سر صناعة الإعراب 1/ 9.

2 المرجع 1/ 69، 70 وجمهرة ابن دريد 1/ 8، وكانتينو ص 35، 36.

3 جمهرة ابن دريد 1/ 8.

4 سر صناعة الإعراب 1/ 68، 69.

5 الأصوات اللغوية للدكتور أنيس، ص 89 نقلًا عن مخطوطة دار الكتب لشرح السيرافي لكتاب سيبويه.

ص: 116

ويعلق الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس على عبارة سيبويه بقوله: إنها تتضمن آراء قيمة في الدراسة الصوتية تتفق مع أحدث النظريات الحديثة إلى حد كبير. فسيبويه يرشدنا هنا إلى وسيلة أخرى لتمييز المهموس من المجهور وذلك عن طريق إخفاء الصوت، وأنه يمكن هذا الإخفاء في المهموسات دون أن تفقد معالمها. أما الإخفاء في المجهورات فيترتب عليه أن الحروف تضيع صفتها المميزة فلا نسمع الدال دالًا حينئذ وإنما نسمع صوتًا آخر هو التاء

وكذلك يحدثنا سيبويه عما يسميه بصوت الصدر ويراه صفة مميزة للمجهور. ولعل هذا الصوت هو صدى الذبذبات التي تحدث في الوترين الصوتيين بالحنجرة1.

6-

قسم العرب الأصوات إلى صحيحة ومعتلة على أساس اتساع المخرج من العلة دون الصحيحة. واهتدوا أيضًا إلى السمات الخاصة التي تميز بعض الأصوات، مثل اللام التي وصفوها بأنها حرف منحرف، والراء التي وصفوها بأنها حرف مكرر2. كذلك ميزوا في أصوات العلة بين الفتحة والألف من ناحية، والكسرة والياء والضمة والواو من ناحية أخرى يقول ابن جني: "والحروف التي اتسعت مخارجها ثلاثة: الألف ثم الياء ثم الواو. وأوسعها وألينها الألف، إلا أن الصوت الذي يجري في الألف مخالف للصوت الذي يجري في الياء والواو. والصوت الذي يجري في الياء مخالف للصوت الذي يجري في الألف والواو. والصوت الذي يجري في الياء مخالف للصوت الذي يجري في الألف والواو.

والصوت الذي يجري في الياء مخالف للصوت الذي يجري في الألف والواو. والعلة في ذلك أنك تجد الفم والحلق في ثلاثة الأحوال مختلف الأشكال أما الألف فتجد الحلق والفم معها منفتحين.. وأما الياء فتجد الأضراس معها سفلًا وعلوًا قد اكتنفت جنبتي اللسان وضغطته

وأما الواو فتضم لها معظم الشفتين وتدع بينهما بعض الانفراج ليخرج فيه النفس"3:

7-

تحدث العرب عن أطوال أصوات العلة وقسموها إلى قصيرة

1 الأصوات اللغوية ص 90.

2 سر صناعة الإعراب 1/ 8، 70، 71، 72.

3 سر صناعة الإعراب 1/ 8، 9.

ص: 117

وطويلة وأطول. يقول ابن جني: "اعلم أن الحركات أبعاض حروف المد واللين، وهي الألف والواو والياء. فكما أن هذه الحروف ثلاثة، فكذلك الحركات ثلاث، وهي الكسرة والفتحة والضمة. فالفتحة بعض الألف والكسرة بعض الياء، والضمة بعض الواو، وقد كان متقدمو النحويين يسمون الفتحة الألف الصغيرة، والكسرة الياء الصغيرة، والضمة الواو الصغيرة، وقد كانوا في ذلك على طريق مستقيمة. ألا ترى أن الألف والياء والواو اللواتي هن توام كوامل قد تجدهن في بعض الأحيان أطول وأتم منهن في بعض، وذلك قولك: يخاف وينام ويسير ويطير ويقوم ويسوم. فتجد فيهن امتدادًا واستطالة ما، فإذا أوقعت بعدهن الهمزة أو الحرف المدغم ازددن طولًا وامتدادًا وذلك نحو يشاء.. وتقول مع الإدغام شابة ودابة"1.

ولكن تبقى فكرة ابن جني في البعضية غامضة حيث "لم يقل لنا ما إذا كان الفرق بين حرف المد والحركة معتبرًا بالثلث أو النصف أو بأي كسر آخر"2.

8-

ومن الدراسات الصوتية التي قدمها العرب حديثهم عن ائتلاف الحروف وكيفية بناء الكلمة العربية. وقد لاحظ الخليل أن اللغات تختلف في ذلك، وما قد يتلاءم مع أمة ربما لا يتلاءم مع أمة أخرى. ولاحظ أيضًا أن الأذن العربية قد تستسيغ أصواتًا معينة لا يستسيغها غيرها، وأن اللسان العربي قد ينطق بتركيب خاص لا ينطق به لسان غيره، وأن العرب كانوا يأبون تأليفًا خاصًّا من الكلمات لا يأباه غيرهم، مثل إبائهم اجتماع واوين أول الكلمة، والابتداء بالساكن، واجتماع حرفين ساكنين.

كذلك تحدث الخليل وسيبويه عما يسمى بالانسجام الصوتي مثل

1 المرجع ص 19، 20.

2 التفكير الصوتي عند العرب ص 16.

ص: 118

إبدال السين صادًا في كلمة مثل السويق، وإبدال الصاد زايًا في بعض اللغات إذا كانت الصاد ساكنة وبعدها صوت مجهور مثل "يصدق" التي ينطقها بعضهم "يزدق". وعللا هذه الظاهرة بقولهما:"ليكون عمل اللسان من وجه واحد".

ويعنيان بذلك الاقتصاد في الجهد العضلي. وتلك نظرية يقرهما عليها علم اللغة الحديث، وممن نادى بها Andre Martinet إذ صرح بأن التغييرات الصوتية الهامة في اللغة ترجع أساسًا إلى الميل إلى استعمال الوسائل الفونيمية في اللغة اقتصاديًّا، وبطريقة سهلة بقدر الإمكان.

تعقيب:

ولنا على آراء العرب الصوتية الملاحظات الآتية:

1-

أننا إذا تصفحنا الكتب العربية التي عرضت للأصوات وصفاتها وأسمائها، وجدنا أصحابها مقلدين لا مجددين وتابعين لا متبوعين، فهم لم يزيدوا على ما وضعه الخليل وسيبويه إلا قليلًا. بل إنك لتجد العبارة هي العبارة وحتى الغموض هو الغموض. وتتبع تعريف "المجهور" بعد سيبويه تجده هو تعريف سيبويه برغم ما فيه من إبهام وتعقيد

فسيبويه يعرفه بأنه "حرف أشبع الاعتماد في موضعه ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه ويجري الصوت" والتعريف بحروفه في "سر صناعة الإعراب" لابن جني وكذا في "شرح مفصل" الزمخشري1.

2-

عدم توحيد المصطلحات بينهم وغموض بعضها. ومن ذلك "الحروف المصمتة"2 و "الشجرية" و "المتفشية" ومن ذلك استخدام سيبويه مصطلح الإطباق في مقابل مصطلح الخليل: الاستعلاء. واستخدام ابن جني "المقطع" وابن سينا "المحبس" بمعنى "المخرج".

1 الأصوات اللغوية، ص 120.

2 الجمهرة 1/ 7، 13.

ص: 119

3-

أهمل العلماء العرب دراسة النبر إهمالًا تامًّا، ولهذا فإننا لا نستطيع أن نتبين مواضع النبر في العصور الإسلامية الأولى.

ولعل سرّ هذا الإهمال أن النبر ليس فونيمًا في اللغة العربية.

4-

أهمل العلماء العرب دراسة المقاطع وأشكالها وأجزائها إهمالًا تامًّا.

5-

افترض اللغويون العرب وجود حركة قبل أصوات العلة الطويلة من جنسها فزعموا وجود فتحة قبل الألف في "قال" وكسرة قبل الياء في "يرمي" وهذا خطأ، لأنه ليس هناك فتحة ولا كسرة؛ لأن الألف نفسها هي الحركة والياء نفسها هي الحركة، ولكن كلًّا منهما حركة طويلة.

6-

عدم تمثيلهم أصوات العلة القصيرة في الكتابة أول الأمر، ثم تمثيلهم لها في فترة متأخرة برموز تثبت فوق الصوت الساكن أو تحته1 أي مع النظرة إليها باعتبارها أصواتًا ثانوية، على الرغم من أنها أكثر أهمية من الأصوات الساكنة، وأكثر وضوحًا في السمع منها، وهي التي تكون قمم المقاطع في اللغة العربية.

7-

ذكر سيبويه ومن تبعه الهمزة والألف معًا، ونسبوهما إلى مخرج واحد هو الحنجرة. والألف باعتبارها حركة، أو صوت علة طويلًا لا تنسب إلى الحنجرة، فذكرها في هذا المقام فيه نظر. وقد اختلفت الآراء حوله:

"أ" فمن قائل بأن سيبويه قد أخطأ، لأن الأبجدية التي ذكرها أبجدية للأصوات الساكنة، والألف من الحركات فلا مجال لذكرها.

1 سهيلة جبوري: الخط العربي، ص 57، 60.

ص: 120

وعلى فرض التجاوز عن ذلك، فإن الألف كحركة لا تخرج من هذا المخرج، ومن ثم لا يصح وضعها مع الهمزة أو الهاء. فالألف لا تنسب إلى الحنجرة، وإنما إلى اللسان وطبيعة وضعه وضعًا معينًا يسمح بخروج الهواء في أثناء النطق حرًّا طليقًا لا يقف في طريقه عائق.

"ب" ويرى الدكتور أيوب أن وجود ذبذبة في الأوتار الصوتية في أثناء النطق بالألف ربما كان السبب في وضعه الألف مع الهمزة والهاء.

ولكن حركة الأوتار الصوتية مع الهمزة أصلية فنسبت إلى الحنجرة ومع الألف إضافية فلم يكن يصح أن ينسبها إليها. أو أن سيبويه قد وصف ذلك النوع من الألف المشوب بهمزة "ومن العرب من يقلب الألف همزة قلبًا كاملًا فيقول دأبة في دابة وهكذا" وهي خاصة في بعض اللهجات العربية1.

8-

ذكر سيبويه صوت القاف بين المجهورات. فهل هذا خطأ منه؟ الحقيقة أن هذا الصوت قد لحقه تطور في النطق الحديث وأنه كان ينطق مجهورًا في القديم.

والصوت الذي وصفه سيبويه قد يكون منطبقًا على نطق القاف جيمًا قاهرية، أو غينًا. وكلا النطقين ما يزال موجودًا حتى الآن في أماكن مختلفة من البلاد العربية2.

وقد لحقت صوت القاف تطورات كثيرة في اللهجات الدارجة مما يدل على كثرة تعرضه للتطور والتغير. ومن ذلك نطقه همزة في القاهرة وكثير من المدن العربية3. وقد ثبت أن نطق القاف همزة ليس نطقًا حديثًا وإنما له أصول قديمة. وقد ذكر أنولتمان في بحث له بعنوان "بقايا".

1 انظر بحث: الدراسات اللغوية عند العرب للدكتور أيوب - محاضرات عام 67 - 68 ص 27 - 28.

2 راجع: علم اللغة العام - الأصوات للدكتور بشر، ص 138 وما بعدها.

3 راجع: كانتينو، دروس في علم الأصوات ص 108 وما بعدها وص 109 بخاصة.

ص: 121

اللهجات العربية في الأدب العربي العربي"1 أن هذا التغير موجود في أسماء الأعلام الفينيقية. وقد ذكرت كتب اللغة. تصوأ بمعنى تصوق "أي توسخ" وأفز بمعنى قفز واستنشأ بمعنى استنشق.

9-

عد القدماء صوت الهمزة من الأصوات المجهورة. وهذا لا يتفق بحال مع حقيقة وضع الأوتار الصوتية حال النطق بهذا الصوت، إذ الأوتار الصوتية حينئذ تغلق أولًا إغلاقًا تامًّا لفترة قصيرة ثم تنفرج فجأة وبسرعة فيخرج الهواء محدثًا انفجارًا. وربما نطق العلماء العرب الهمزة متلوة بحركة فظنوها مجهورة، مع أن الجهر سببه الحركة لا الهمزة.

10-

هناك فرق بين وصف الضاد عند سيبويه وبين الضاد الحديثة.

وليس هذا نتيجة خطأ من سيبويه في الوصف، وإنما نتيجة التطور الذي لحق هذا الصوت2.

1 مجلة كلية الآداب، مايو سنة 1948.

2 انظر في تفصيل ذلك: مناهج البحث في اللغة ص 92 والأصوات اللغوية للدكتور أنيس ص49 - 50 والأصوات للدكتور بشر، ص 132 وما بعدها.

ص: 122