المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الشواهد النثرية: - البحث اللغوي عند العرب

[أحمد مختار عمر]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ الشواهد النثرية:

ولي بين الضلوع دم ولحم

هما الواهي الذي ثكل الشبابا

حيث أخبر عن المثنى بالمفرد، ومثل قوله أيضًا:

إن عزًّا لم يظلل في غد

بجناحيك ذليل مستباح

حيث نفى بلم المستقبل بدليل قوله: "في غد" و"لم" لنفي الماضي1.

1 اللغة والنحو ص 24 وما بعدها، وصفحة 129، ومحاضرات الدكتور أنيس لطلبة الليسانس بكلية دار العلوم عام 1964.

ص: 50

5-

‌ الشواهد النثرية:

تشمل الشواهد النثرية نوعين من المادة اللغوية:

أحدهما: ما جاء في شكل خطبة أو وصية أو مثل أو حكمة أو نادرة. وهذا يعد من آداب العرب الهامة ويأخذ في الاستشهاد به مكانة الشعر وشروطه.

وآخرهما: ما نقل عن بعض الأعراب ومن يستشهد بكلامهم في حديثهم العادي، دون أن يتحقق له من التأنق والذيوع مثل ما تحقق للأول.

وقد وضع اللغويون شروطًا تشمل الزمان والمكان بالنسبة لهذا النوع من المادة.

أما من ناحية الزمان، فقد حددوا نهاية الفترة التي يستشهد بها بآخر القرن الثاني الهجري بالنسبة لعرب الأمصار، وآخر القرن الرابع بالنسبة لعرب البادية1. وأما المكان فقد ربطوه بفكرة البداوة والحضارة، فكلما كانت القبيلة بدوية أو أقرب إلى حياة البداوة كانت لغتها أفصح، والثقة فيها أكثر، وكلما كانت متحضرة، أو أقرب إلى حياة الحضارة كانت لغتها محل شك ومثار شبهة، ولذلك تجنبوا الأخذ

1 انظر: اللغة والنحو للأستاذ عباس حسن ص 24.

ص: 50

عنها. وفكرتهم في ذلك أن الانعزال في كبد الصحراء، وعدم الاتصال بالأجناس الأجنبية يحفظ للغة نقاوتها ويصونها عن أي مؤثر خارجي، وأن الاختلاط يفسد اللغة وينحرف بالألسنة، وأول من روى لنا قائمة محددة بالقبائل التي يستشهد بها والتي لا يستشهد بها الفارابي في كتابه "الألفاظ والحروف". وتعد هذه القائمة وثيقة هامة تناقلتها كتب اللغة المتأخرة مثل "شرح التسهيل" لأبي حيان "والمزهر" و "الاقتراح" للسيوطي. وهذا هو نص الوثيقة:

"كانت قريش أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس. والذين نقلت عنهم اللغة العربية، وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد. فإن هؤلاء هم الذين عنهم أخذ أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب وفي التصريف. ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين. ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فلم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط. ولا من قضاعة وغسان وإياد لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب والنمر1، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان. ولا من بكر لمجاورتهم للنبط2 والفرس. ولا من عبد القيس وأزد عمان لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس. ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة. ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار الأمم المقيمين عندهم ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة

1 في المزهر: واليمن. والتصحيح من الاقتراح، مخطوطة دار الكتب المصرية 116 مجاميع.

2 في المزهر: للقبط، والتصحيح من الاقتراح.

ص: 51

صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم. والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وأثبتها في كتاب فصيرها علمًا وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب"1.

وجاء ابن خلدون؛ فأيد في مقدمته رأي الفارابي، وأوضح هذه الفكرة، وارتكز على نفس الأساس السابق، وإن كنا نجد بعض فروق طفيفة في تحديد أسماء القبائل.

يقول ابن خلدون: "الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر من العرب ومن في معناهم، وذلك لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال

فلا ينزع إليهم أحد من الأمم. فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم.. واعتبر ذلك في مضر من قريش، وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة، لما كانوا أهل شظف ومواطن غير ذات زرع ولا ضرع، وبعدوا من أرياف الشام والعراق ومعادن الأدم والحبوب

وأما العرب الذين كانوا بالتلول، وفي معادن الخصب للمراعي والعيش من حمير وكهلان مثل لخم وجذام وغسان وطييء وقضاعة وإياد فاختلطت أنسابهم وتداخلت شعوبهم2.

ويظهر أن هذه القائمة لم تكن محل اتفاق بين جميع اللغويين، ويظهر كذلك أن البصريين كانوا أكثر تمسكًا بها من الكوفيين، ولهذا كانوا يفتخرون بقولهم:"نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وهؤلاء "يعنون الكوفيين" أخذوا اللغة عن أهل السواد أصحاب الكوميخ وأكلة الشواريز3. كما كانوا يتهمونهم بأنهم يأخذون اللغة عن غير الفصحاء، يقول أبو جعفر النحاس: "واحد الآناء إني لا يعرف البصريون غيره. وحكى الفراء واحد الآناء إني

1 المزهر 1/ 211، 212.

2 مقدمة ابن خلدون ص 129، 130.

3 أخبار النحويين البصريين للسيرافي ص 68.

ص: 52

وللفراء في هذا الباب في كتاب المقصور والممدود أشياء قد جاء بها

قد أنكرت عليه، ورواها الأصمعي، وابن السكيت، والمتقنون من أهل اللغة على خلاف ما روى. والذي يقال في هذا: إنه مأمون على ما رواه، غير أن سماع الكوفيين أكثره عن غير الفصحاء"1.

وممن لم يلتزمها من المتأخرين ابن مالك في مؤلفاته. قال السيوطي بعد أن نقل هذه القائمة: "ونقل ذلك أبو حيان في "شرح التسهيل" معترضًا به على ابن مالك حيث عنى في كتبه بنقل لخم وخزاعة وقضاعة وغيرهم، وقال: ليس ذلك من عادة أئمة هذا الشأن"2.

كذلك كانت هذه القائمة محل نقد من بعض المعاصرين، كما فعل الدكتور مهدي المخزومي الذي يرى أن التفرقة بين القبائل خطأ منهجي، ويشرح ذلك بقوله:"ولا نرى هذا إلا لغو الكلام. إنهم يجهلون أن اللغة سليقة وطبيعة، ويجهلون أن صاحب اللغة لا يغلط في لغته، لأنها جزء من حياته التي فطر عليها وعادة من عاداته التي نشأ عليها. وإذا كان الجاهليون يغلطون، والمخضرمون يغلطون، والإسلاميون يغلطون، فعلى من بعد هؤلاء يعتمد النحاة؟ بماذا يحتجون؟ ومن أين جاءوا بهذه الأصول التي وضعوها، وهذه القواعد التي استنبطوها".

ثم يناقش فكرتها في وجود الفصاحة في كبد الصحراء فقط بعيدة عن ملابسات الحضارة فيقول: "ولو كان مقياس الفصاحة هو الانعزال في كبد الصحراء وعدم الاتصال بالأجانب؛ لكانت لغة قريش أبعد اللغات عن الفصاحة، ولا قائل بهذا"3 والدكتور المخزومي على حق في هذا، فقريش كانت تسكن مكة وما حولها، وهم أهل تجارة، والتجارة تؤدي إلى الاختلاط، والاختلاط يفسد اللغة على حد زعمهم. فعلام التفريق اذن بين قريش.

1 إعراب القرآن للنحاس 2/ 362.

2 الاقتراح ورقة 106، مخطوطة دار الكتب رقم 116 مجامع.

3 مدرسة الكوفة ص 73، 77.

ص: 53

وتلك القبائل التي اتهمت في فصاحتها؟ ولِم أخذوا عن قريش ورفضوا الأخذ عن غيرها ممن وجد في حالة مشابهة لحالتها1؟.

ويلاحظ أن علماء اللغة جميعًا في حال الرواية لم يجيزوا الاعتماد على النص المكتوب، وإنما استندوا أساسًا على المشافهة والتلقي، وحذروا العالم من الاعتماد على النص المدون، وحذروا المتعلم من تلقي العلم على من يفعل ذلك. ومن أقوالهم المشهورة:"لا تأخذوا العلم عن صحفي، ولا القرآن عن مصحفي". وهم بذلك لا يختلفون كثيرًا عن المنهج الحديث الذي يعتمد على الراوي اللغوي، ويعتمد على الكلام المنطوق دون المكتوب.

ولكننا نأخذ عليهم بعض مآخذ مثل:

1-

عدم استمرار المشافهة طوال فترة الدراسة، ولجوء بعضهم إلى مشافهات الآخرين يعتمدون عليها.

2 تكميل الثغرات بالمنطق والقياس لا بمعاودة المشافهة.

3 اعتقادهم أن اللغة شيء وراثي يتناقله الأبناء عن الآباء وترضعه الأمهات للأطفال. ولهذا سيطرت عليهم فكرة ارتباط الفصاحة بالجنس ارتباطًا وثيقًا، وأنكروا على الفارسي أو اليوناني إمكان اتقان اللغة العربية كما يتقنها أهلوها من العرب مهما بذلوا في تعلمها، وثابروا في المران عليها، وتلقوها منذ الصغر، ومهما كان حضورهم مبكرًا إلى الجزيرة العربية، ولو أجنة في بطون أمهاتهم، ومهما كان حظهم من الثقافة العربية. ولهذا كان اللغويون العرب يرفضون الأخذ عن ابن المقفع لأصله الفارسي، برغم فصاحته وتلقيه اللغة منذ نعومة أظفاره،

1 انظر تعليق الدكتور عبده الراجحي على تفضيل قريش: اللهجات العربية في القراءات القرآنية ص 41 وما بعدها.

ص: 54

في حين كانوا لا يتورعون عن الاستشهاد بكلام الأطفال والمجانين. قال السيوطي: "قال ابن دريد في أماليه: أخبرنا عبد الرحمن عن عمه الأصمعي قال: سمعت صبية بحمى ضرية "بين البصرة والكوفة" يتراجزون فوقفت وصدوني عن حاجتي، وأقبلت أكتب ما أسمع إذ أقبل شيخ فقال لي: أتكتب كلام هؤلاء الأقزام الأدناع". وقال: "وكذلك لم أرهم توقوا أشعار المجانين من العرب بل رووها واحتجوا بها"1.

4-

خلطهم الشواهد الشعرية بالشواهد النثرية، ومحاولة استخلاص قواعد عامة تجمعها مع أنه من المعروف أن للشعر قواعده ونظمه الخاصة التي ينفرد بها.

5 أنهم لم يكثروا من الاستشهاد بالحديث مع أنه أهم من الشعر في ميدان البحث اللغوي، لأنه من النثر الذي لا تحكمه ضرورة من وزن أو قافية، ولأنه يعطي الباحث اللغوي صورة صحيحة لروح عصره بخلاف الشعر الذي يحتوي على كثير من الصيغ الفنية والعبارات المتكلفة التي تبعده عن تمثيل الحياة العادية وتنئيه عن الروح السائدة في عصره.

6-

أنهم خلطوا مستويين من اللغة لا يصح الخلط بينهما، وهما مستوى اللغة الأدبية النموذجية الممثلة في القرآن والحديث والشعر والخطب والأمثال، ومستوى اللهجات العامية المتمثلة في القراءات القرآنية ولغة الخطاب.

7 أنهم لم يكونوا على حق في ربطهم الفصاحة بالبداوة، لأن اللغة بنت الحاجة والاستعمال، واللغة لا تنشأ في فراغ، وإنما لتعبر عن

1 المزهر ص 140.

2 وفي تهذيب اللغة: سمعت صبيًّا من بني عقيل يقول لصبي آخر: وجهي زين ووجهك شين. والتقدير: وجهي ذو زين ووجهك ذو شين. فنعتهما بالمصدر "13/ 255".

ص: 55

تجارب واحتياجات وثقافات معينة. ولا شك أن تجارب البدوي واحتياجاته تختلف عن تجارب الحضري واحتياجاته، ولذلك ليس من المعقول أن تغني إحدى اللغتين عن الأخرى، وليس من الحق أن نعد لغة البدوي أرقى من لغة الحضري برغم أنها لا تفي باحتياجاته.

8-

أن عنايتهم باللهجات العربية كانت ضئيلة، فهم أولًا قد أبعدوا جزءًا منها من مجال التسجيل اللغوي، وهم ثانيًا لم يكونوا حريصين على تسمية اللهجة، مما تركنا في ظلام دامس حين نريد تتبع الظواهر اللهجية الحديثة ونردها إلى أصلها القديم. وفرق بين أن نسجل اللهجة وننسبها، وبين أن نقيم عليها قاعدة تكون نموذجًا لمن يريد أن يحتذى الصواب.

9-

أن جميع علماء اللغة لم يكونوا يعرفون شيئًا عن اللغات السامية كالعبرية والسريانية معرفة صحيحة، فنشأ عن ذلك أنهم لم يوفقوا في بيان المعاني الدقيقة التي يؤديها كثير من الكلمات العربية في أصل وضعها ونشأ عن ذلك أيضًا وقوعهم في أغلاط فيما يتعلق بالاشتقاق. كما أن معرفتهم المحدودة باللغات الأجنبية جعلتهم غير موفقين في رد كثير من الكلمات المعربة إلى أصولها الأجنبية.

ص: 56