الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: المعجم
1-
مقدمات للموضوع:
صعوبة العمل المعجمي:
يعد العمل المعجمي من أصعب مجالات النشاط لعلم اللغة. فهو أولًا يتطلب مواصفات خاصة في صانعه يندر توافرها الآن، وهو ثانيًا يتطلب دقة وصبرًا متناهيين ولذا يقول Gleason: "إن عمل المعاجم عمل مضجر إلى أقصى حد. إنه الدقة
…
إنه عبء عظيم لا يمكن تصديقه".
وإلى جانب هذا وذاك؛ فإن العمل المعجي يستلزم معرفة كل شيء عن اللغة المعنية، والخصائص الملائمة لوحداتها المعجمية، والنظام العام للغة، كما يستلزم تكوين صورة واضحة عن مستعمل المعجم وهدفه وتفكيره.
وبالإضافة إلى هذه الصعوبات فهناك صعوبتان أخريان هما:
1-
أن المعجمي يعالج ظاهرة مفتوحة لا تستقر على حال. ولذا فإن أي محاولة لحصر كلمات أي لغة حية تعد مطلبًا عزيز المنال إن لم يكن مستحيلًا، ويظل المعجمي في حالة تساؤل دائم عن مدى تحقيق معجمه للشمول ومقدار قربه أو بعده من الجمع الكامل لمادة اللغة.
2-
أن المعنى هو المحل الأول لاهتمام المعجمي، وهو يمثل صعوبة في حد ذاته بل عده بعضهم واحدًا من أصعب حقول الدراسة1.
1 Manual of Lexicography ص 15 - 23.
تعريف المعجم:
عرّف اللغويون المعجم بأنه "كتاب يضم بين دفتيه مفردات لغة ما ومعانيها واستعمالاتها في التراكيب المختلفة، وكيفية نطقها، وكتابتها، مع ترتيب هذه المفردات بصورة من صور الترتيب التي غالبًا ما تكون الترتيب الهجائي". وعرفه المعجم الوسيط بأنه "ديوان لمفردات اللغة مرتب على حروف المعجم".
المعجم اللغوي والموسوعة:
يتمثل الفرق بين المعجم اللغوي والموسوعة في اختلافات ثلاثة:
أولها: أن الموسوعة معجم ضخم يشغل مجلدات كثيرة في حين أن المعجم اللغوي يتفاوت حجمه تبعًا للغاية المنشودة ولنوعية مستعمله.
وثانيها: أن المعجم اللغوي لا يهتم كثيرًا بالمواد غير اللغوية، وإذا ذكرها فبصورة مختصرة جدًّا لأنه يترك تفصيلاتها للموسوعات. ومن أمثلة المواد غير اللغوية التي لا يهتم بها المعجم أسماء الأعلام، والأسماء الجغرافية مثل الأقطار والمدن والأنهاروالجبال والبحار والمحيطات.. والأحداث والعصور التاريخية، والتنظيمات الحكومية وغير الحكومية، والمؤسسات العلمية وغيرها.
وثالث الاختلافات: أن المعجم اللغوي يهتم بالوحدات المعجمية للغة وبالمعلومات اللغوية الخاصة بها في حين أن الموسوعة إلى جانب اهتمامها بالمعاني الأساسية للوحدات المعجمية تعطي معلومات عن العالم الخارجي غير اللغوي، فالمعجم اللغوي يشرح الكلمات، أما الموسوعة فنشرح الأشياء.
ولو أخذنا كلمة Bridge أو جسر على سبيل المثال ونظرنا إليها في عملين معجميين أحدهما لغوي ويمثله معجم أكفسورد الإنجليزي، والآخر موسوعي ويمثله دائرة المعارف البريطانية لتبين. الفرق بين العملين في علاج المادة.
فمعجم أكسفود يذكر معناه وهو: طريق مرتفع فوق نهر أو واد.. إلخ أو ممر يصل نقطتين مرتفعتين عن سطح الأرض. كما يتحدث عن اختلافات أشكال الجسور ومواد بنائها، ويقتبس بعض الأمثلة من عصور مختلفة. في حين أن دائرة المعارف البريطانية بعد أن عرفت الجسر أردفت التعريف بمعلومات تتناول أشكال الجسور وتعدد نماذجها "جسور ثابتة - جسور متحركة
…
إلخ" كما تتناول إنشاء الجسور من ناحية تاريخية، وتذكر أسماء الجسور المشهورة بنماذجها، ومواد بناء الجسور، وتصميم الجسور، بالإضافة إلى بعض الجداول والرسوم.
ولكن لأن الكلمات لا تظهر معانيها إلا بالنظر إلى الأشياء التي تدل عليها؛ فإنه من غير الممكن تأليف معجم دون الإشارة إلى الأشياء الخارجية، ودون ربط الكلمات بالموجودات التي تدل عليها.
أنواع المعاجم:
عادة ما تطلق كلمة "معجم" على المعاجم الشاملة أحادية اللغة، أي التي تتطابق فيها لغة المدخل مع لغة الشرح.
ولكن الكلمة قد تطلق كذلك على ما يسمى بالمعاجم الخاصة ذات المجال المحدود فيقال: معجم مصلحات - معجم مترادفات - معجم ألفاظ القرآن الكريم.. إلخ كما تطلق علي المعاجم ثنائية "أو متعددة" اللغة، وهي المعاجم التي تختلف فيها لغة الشرح عن لغة المدخل، وتهتم بتقديم المعلومات عن اللغة المشروحة أكثر مما تهتم باللغة الشارحة
…
معنى كلمة معجم واشتقاقها:
تفيد مادة "عجم" في اللغة معنى الإبهام والغموض، ففي اللسان:"الأعجم الذي لا يفصح ولا يبين كلامه"، وفيه "ورجل أعجمى وأعجم إذا كان في لسانه عجمة"، وفيه "سميت البهيمة عجماء لأنها
لا تتكلم". وسمى العرب بلاد فارس بلاد العجم؛ لأن لغتها لم تكن واضحة ولا مفهومة عندهم.
فإذا أدخلنا الهمزة على الفعل "عجم" ليصير "أعجم" اكتسب الفعل معنى جديدًا من معنى الهمزة "أو الصيغة" الذي يفيد هنا السلب والنفي والإزالة. ففي اللغة أشكيت فلانًا: أزلت شكايته، وفيها: أقذيت عين الصبي: أزلت ما بها من قذى. ومثلهما "قسط" و"أقسط" حيث تفيد الأولى "ظلم" والثانية "عدل""أو أزال الظلم". ولهذا ذم الله القاسطين: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} ومدح المقسطين: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} .
وعلى هذا يصير معنى أعجم: "أزال العجمة أو الغموض أو الإبهام. ومن هنا أطلق على نقط الحروف لفظ "الإعجام" لأنه يزيل ما يكتنفها من غموض. فمثلًا حرف "ب" يحتمل أن يقرأ ب أو ت أو ث.. فإذا وضعنا النقط أي: أعجمناه زال هذا الاحتمال وارتفع الغموض.
ومن هنا أيضًا جاء لفظ "المعجم" بمعنى الكتاب الذي يجمع كلمات لغة ما ويشرحها ويوضح معناها ويرتبها بشكل معين. ويكون تسمية هذا النوع من الكتب معجمًا إما لأنه مرتب على حروف المعجم "الحروف الهجائية" وإما لأنه قد أزيل أي إبهام أو غموض منه، فهو معجم بمعنى مزال ما فيه من غموض وإبهام.
وقد فهم من هذا أن لفظ "معجم" يُعد اسم مفعول من الفعل "أعجم" ويحتمل من ناحية أخرى أن يكون مصدرًا ميميًّا من نفس الفعل، ويكون معناه الإعجام أو إزالة العجمة والغموض.
جمعها:
تجمع كلمة "معجم" جمع مؤنث سالمًا على معجمات" وهذا محل اتفاق بين جميع اللغويين.
وهناك جمع آخر لهذا اللفظ وهو "معاجم" الذي يُعد جمع تكسير. وقد اختلف في صحة هذا الجمع، فالمتشددون يمنعونه قائلين: إن سيبويه قد نص على أنه لا يصح أن يجمع جمع تكسير كل ما بُدئ بميم زائدة من أسماء الفاعلين والمفعولين. وغير المتشددين يسمحون به بناء على وجود ألفاظ كثيرة من هذا القبيل جمعت جمع تكسير مثل محرم ومحارم، ومُرْسَل ومراسل، ومُجْسَد، ومجاسد، ومسند، ومساند، ومُصْعَب ومصاعب، ومهرع ومهارع1 وقد اتخذ مجمع اللغة العربية بالقاهرة مؤخرًا قرارًا بصحة هذا الجمع.
شروط المعجم:
هناك شرطان لا بد من توافرهما في أي كتاب يجمع مفردات اللغة ويشرحها. هذان الشرطان هما:
أ- الشمول.
ب- الترتيب.
ويعد الشمول أمرًا نسبيًّا تتفاوت المعاجم في تحقيقه. أما الترتيب فلا بد من توفيره، وإلا فقد المعجم قيمته. وقد كان تعدد طرق الترتيب المعجمي عند العرب، وتفاوت هذه الطرق صعوبة وسهولة سببًا في موت معاجم وحياة أخرى، وخمول بعضها وشيوع أخرى.
وظيفة المعجم:
هناك مجموعة من الوظائف يجب أن يؤديها المعجم وهي:
أ- شرح الكلمة وبيان معناها أو معانيها، إما في العصر الحديث فقط أو مع تتبع معناها أو معانيها عبر العصور.
1 انظر كتابنا: من قضايا اللغة والنحو، ص 181 وما بعدها.
ب- بيان كيفية نطق الكلمة.
جـ- بيان كيفية كتابة الكلمة.
د- تحديد الوظيفة الصرفية للكلمة.
هـ- بيان درجة اللفظ في الاستعمال، ومستواه في سلم التنوعات اللهجية.
و تحديد مكان النبر في الكلمة. والنبر باختصار هو إعطاء بروز معين لأحد مقاطع الكلمة دون المقاطع الأخرى. ولما كان النبر في اللغة العربية الفصحى لا يؤدي انتقاله من مقطع إلى مقطع إلى تغيير المعنى، فإننا نجد المعجميين العرب يهملون بيان موقع النبر في الكلمة، وإن كنا نرى أن بيان موضعه ضروري لمن يريد تحقيق النطق العربي الفصيح، كما أنه ضروري بالنسبة لمن يريد أن يتعلم كيفية النطق الحديث للهجات العربية.
أما المعاجم الأجنبية، وبخاصة مع اللغات التي يختلف فيها معنى الكلمة تبعًا لموقع النبر، فقد اهتمت ببيان موضع النبر عن طريقة علامة تضعها فوق المقطع المنبور. ومثال ذلك كلمة Import الإنجليزية فإذا وضعنا النبر على المقطع الأول كانت اسمًا، وإذا وضعناه على المقطع الثاني كانت فعلًا ومثلها كلمات: Presen، subject وغيرها1.
وبالنسبة للهجات العربية المعاصرة فإنه لا بد لأي معجم لها أن يحدد موضع النبر في الكلمة لأنه يختلف من منطقة إلى منطقة. فمثلًا كلمة "كتب" تنطق في القاهرة بنبر الأول وفي منطقة الصعيد بنبر الثاني، وكلمة "مطر" تنطق في مصر بنبر الأول وفي ليبيا بسكون الميم وتشديد الراء
…
وهكذا.
1 انظر موضوع النبر في كتابنا "دراسة الصوت اللغوي".
الخطوات الإجرائية لإعداد المعجم:
أصبح للمعجم الحديث مواصفات عالمية يجب توافرها في كل معجم، كما استقرت منهجيته في جملة من الإجراءات التي أهمها:
أولًا: التقديم بين يدي المعجم بمقدمة تحدد منهجه، وطريقة ترتيبه، ووسائل ضبط الهجاء والنطق فيه، وكيفية تصنيفه المعاني والدلالات، ووسائل التعريف المتبعة، وشرح الرموز والعلامات والاختصارات المستعملة في المعجم. كما تشمل المقدمة عرضًا سريعًا لتاريخ اللغة وأنظمتها الصوتية والصرفية والدلالية
…
ثانيا: السير في تأليف المعجم على الخطوات الآتية:
أ- جمع المادة، ويتم عن طريق الاستخلاص من النصوص التي تقع في دائرة اهتمام المعجمي مع وضع كل مفرد في بطاقة. ولا يهم أن تكون المادة مكتوبة أو شفوية. ولكن ينبغي الحذر في تسجيل المادة الصحفية لأنها كثيرًا ما تسعمل تعبيرات متكررة في مناسبات خاصة، كما تستخدم مفردات إبداعية سريعة، ويندر أن تلتزم بمستوى لغوي معين.
ولكن مسح النصوص الصحفية هام لأنها في أخبارها ومقالاتها الافتتاحية تحتوي على أحدث مادة معاصرة بالنسبة للموضوعات التي تعالجها.
والنص الذي يجب اقتباسه في كل بطاقة لا بد أن يشتمل على جزء السياق اللغوي الذي يسمح باستنتاج المعنى الأساسي للكلمة، وبعض من ملامحها الدلالية، وخصائصها النحوية، إنه يجب أن يكون مختصرًا، ولكنه يجب كذلك أن يكون واضحًا.
وقد يُستعان في جمع المادة بوسيلتين أخريين أولاهما ما يمكن أن يسمى بالدليل اللغوي Informant الذي يلجأ إليه في تمثيل اللغة كما ينطقها ويستعملها أبناؤها. وفي تكملة بعض الثغرات التي لم يملأها.
الجمع اللغوي. والأخرى استشارة المعاجم الأخرى في اللغة موضوع الدراسة. بل قد يحدث أحيانًا أن يكون أحد المعاجم هو الأساس لعمل المعجم الجديد.
ب- الخطوة الثانية من عمل المعجمي اختيار المداخل أي الوحدات المعجمية التي سيتضمنها المعجم.
ويؤثر في هذا الاختيار جملة من العوامل منها ما سبق اتخاذه من قرارات عن نموذج المعجم والهدف من تأليفه. ومنها حجم المعجم المقترح، فمعجم كبير أو متوسط لا يصح أن يهمل ذكر التنوعات العامية للغة. ومعجم كبير أو متوسط يجب أن يهتم بمصطلحات العلوم والفنون وأن يذكر منها ما يشيع في اللغة العامة. ومعجم كبير أو متوسط لا بد أن يعطي إشارات لأسماء الأماكن ذات الأهمية الخاصة، وأعلام الأشخاص إذا اشتهرت، أو حملت معنى عامًّا، أو كان لاشتقاقها أهمية خاصة.
وأهم من هذا يأتي السؤال: ماذا يأخذ المعجمي من المادة وماذا يترك حتى بعد أن يحدد نموذج المعجم وهدفه وحجمه؟ فليس هناك عدد معين من المواد يمكن تحديده مسبقًا بالنسبة لأحجاج المعاجم الثلاثة: الصغير والمتوسط والكبير. وإن كان هناك أعداد تقريبية تطرح لكل نوع. فالصغير يبدأ من 120 ألف كلمة إلى 150 ألف كلمة، والمتوسط من نصف مليون كلمة إلى مليون "وقد احتوى المعجم الوسيط على مليون كلمة أو ثلاثين ألف مادة" والكبير في حدود ثلاثة ملايين كلمة.
وقد يلجأ المعجمي في اختيار مداخله إلى نسب تردد الكلمات حين يتيسر له ذلك "كثير من اللغات يخلو من هذه النسب" وإن كان بعضهم يشكك في قيمة هذا العامل، ويرى عدم الاعتماد على الإحصاء في اختيار كلمات المداخل لأنه لا يوجد عد دقيق تحت أيدينا حتى الآن، ولأن أي
عد يعتمد على العينات لا على مسح المادة اللغوية، ولأن أي عد لم يتضمن حتى الآن تجمعات الكلمات.
جـ- أما الخطوة الثالثة من عمل المعجمي فهي تأليف المداخل أو معالجة المادة من نواحيها المختلفة كالمعنى، والنطق، والهجاء، والاشتقاق، ودرجة الاستعمال.
ويقع المعنى في بؤرة اهتمام المعجمي ومع ذلك فهو يمثل أكبر صعوبة تواجهه لصعوبة تحديده أولًا، ولاعتماد دقة تفسيره على جملة من القضايا الدلالية التي تتعلق بمناهج دراسة المعنى، وشروط التعريف، والتغير الدلالي، وتخصيص المعنى أو تعميمه، والمعاني المركزية والهامشية والإيحائية، وصعود المعنى أو هبوطه، والتلطف في المخاطبة أو البدائل الدلالية المهذبة، والاتساع المجازي، والترادف، والاشتراك اللفظي، وتعدد تطبيقات الاستعمال، وغيرها.
ويلجأ المعجمي إلى طرق مختلفة لعرض المعنى أو تفسيره، فقد يلجأ إلى المرادف كأن يقول: الجود: الكرم، السبات: النوم. وقد يلجأ إلى ذكر المضاد كأن يفسر العدل بأنه ضد الظلم، أو الجهل بأنه ضد العلم، وقد يلجأ إلى الشرح في جملة أو عبارة.
وهناك شروط حددها العلماء للتعريف الجيد الذي يعطي خصائص واضحة وشرحًا محددًا لمعنى الكلمة أو معانيها كأن يخلو الشرح من أي كلمة تعتمد على جذرها حتى لا يخرج القارئ من قراءة التعريف صفر اليدين.
وقد فسر معجم إنجليزي كلمة Negro بقوله: of the Negro race وقد كان يقبل هذا التعريف لو أن المعجم خصص مدخلًا لـ Negro race ولكنه لم يفعل ذلك مع الأسف. وكان المطلوب في مثل هذه الحالة إعطاء خصائص هذا الجنس كالسواد، والمواطنية الأصلية في إفريقيا، والشفة الغليظة، والشعر المجعد
…
إلخ.
كما يشترط في التعريف أن يكون محددًا فلا يقال مثلًا عن "القَدَم" أو "المتر" إنه وحدة لقياس الطول، بل لا بد من تحديد قياسه لتحديد الفرق بينه وبين غيره من مقاييس الطول. وقد يلجأ المعجمي إلى وسيلتين أخريين إضافيتين لتحديد المعنى كالاستعانة بالصور أو الرسوم، أو الاستعانة بما يسمى "بالتعريف الظاهري" "أو التمثيل الواقعي" الذي يعطي مثالًا أو أكثر من العالم الخارجي. فبدلًا من الاكتفاء في تفسير "البياض" بأنه لون "الأبيض" كما تفعل كثير من المعاجم يتبع ذلك بقوله:"وهو لون الثلج النقي، أو ملح المائدة المكرر."
ولا يستغني توضيح المعنى عن شيئين آخرين هما التمثيل بجمل مفيدة قصيرة ووضع الكلمة في سياقاتها المتعددة التي تقع فيها مثل الفعل "أدرك" الذي يستعمل في سياقات متعددة ويختلف معناه تبعًا لذلك فيقال: أدرك القطار: إذا لحقه، وأدرك حاجته: إذا حققها وحصل عليها، وأدرك الصبي. إذا راهق وبلغ حد البلوغ.
ويمكن للتمثيل الجيد أن يوظف لخدمة المعنى فيقوم بتوضيح ظلال المعاني، ويمكنللتمثيل الجيد أن يوظف لخدمة المعنى فيقوم بتوضيح ظلال المعاني، والمجالات التي ترد فيها الكلمة، والصفات المصاحبة، ونوع المفعول من الفعل. والمصاحبات الظرفية.. إلخ. فإذا نحن عرفنا "الجميل" بأنه ما يعطي بهجة أو رضًا للعقل أو الحس فلا شك أن التمثيل سيزيد المعنى وضوحًا كأن نقول: وجه جميل - زهرة جميلة - صوت جميل - طقس جميل - موسيقا جميلة
…
إلخ.
ولا يكتفي المعجمي بشرح المفردات بل لا بد كذلك أن يشرح التعبيرات وبخاصة إذا لم يكن من الممكن فهمها من أجزائها المكونة. مثل: الكتاب الأسود، الراية البيضاء، ركوب الرأس، طول اليد.
كما لا بد أن يعالج الكلمات ذات الوحدات المتعددة "المركبة" مثل: الماء الثقيل - السوق السوداء - الهواء المطلق - بيضة الديك - بقرة بني إسرائيل - قميص عثمان - كبد السماء
…
إلخ. ومن الممكن
في مثل هذه الوحدات أن توضع تحت الكلمة الأولى منها، أو تحت أسبق الكلمتين في ترتيب المعجم، أو تحت الكلمتين مع الربط بين الموقعين، أو تحت أبرز الكلمتين.
وهناك قضية أخرى هامة بالنسبة للمعنى ما تزال موضع جدل بين المعجمين، وهي معيار الحكم على كلمة بأنها ذات معنى واحد أو عدة معان. وإذا كانت ذات عدة معان أهي من باب المجاز أم من باب المشترك اللفظي؟
ويترتب على اعتبار الكلمة ذات معنى واحد وضعها في مدخل واحد حتى لو تعددت تطبيقاتها في الاستعمال، أو حملت بعض المعاني المجازية. ويكتفى في هذه الحالة بترتيب المعاني داخليًّا بصورة من صور الترتيب المتفق عليها. أما إذا اعتبرت ذات معان متعددة فسيفرد لكل معنى مدخل، وتتعدد المداخل بتعدد المعاني.
الفعل "شحذ" مثلًا يأتي لمعنيين:
شحذ السكين: إذا أحده.
وشحذ الفقير الناس: سألهم.
فهل يمكن رد المعنيين إلى معنى واحد هو "الإلحاح" و"التكرار" فيكون المدخل واحدًا؟ أو أن التماس هذا المعنى الواحد لا يتم إلا بتكلف وتمحل ولا يفطن إليه مستعمل اللغة العادي؛ فيكون للفظ معنيان مختلفان فينظر إليه على أنهما لفظان مختلفان يستحق كل منهما مدخلًا مستقلًّا؟
ومثل هذا يمكن أن يطرح بالنسبة لكمات مثل:
"حميم": في قوله تعالى: {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} مع قوله تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} . فالأولى بمعنى: صديق قريب والثانية بمعنى: حار مغلي.
"قبيلة": فقد ذكر القاموس المحيط أنها واحدة قبائل الرأس للقطع المشعوب بعضها إلى بعض وأن منه قبائل العرب وهم بنو أب واحد، وعلّق صاحب التاج قائلًا: ظاهره أنه مجاز وصرح بعضهم بخلافه فادعى الاشتراك.
وحين ينتهي المعجمي من مشكلة المعنى تظل أمامه مشكلات أخرى أقل أهمية مثل اختيار النطق الصحيح والنص عليه "ويتم ذلك في اللغة العربية بوسيلة من ثلاث: "إما ضبط الكلمة بالشكل، وإما النص على ضبطها بالكلمات، وإما ذكر وزنها أو مثالها" ومثل تبيين رسم الكلمة وطريقة هجائها وبخاصة إذا كان يختلف نطقها عن رسمها" ويتعين ذلك بالنسبة للغة العربية في أربعة أنواع من الكلمات: ما يزاد فيه حرف مثل مائة وأولو، وما ينقص فيه حرف مثل: هذا، وذلك، والسموات، والرحمن. وما ينتهي بألف مقصورة مثل الضحى والربا، وما يشتمل على همزة متوسطة أو متطرفة".
أما ذكر المعلومات الصرفية أو الاشتقاقية فيتوقف على حجم المعجم والغرض منه. فإذا كان المعجم موجهًا للمستعمل العادي فإنه يكفي فيه الإشارات السريعة إلى المعلومات الوظيفية أو العملية، والتغييرات التصرفية التي تلحق الكلمة عند الإسناد. أما التتبع التاريخي لاشتقاق الكلمة أو ذكر أصله مما يدخل تحت فرع "الأتيمولوجيا" فليس موضع اهتمام المعاجم الصغيرة أو المتوسطة.
ويظل بعد ذلك أن يبين المعجمي درجة اللفظ في الاستعمال ويحدد مستواه في سلم التنوعات اللهجية كأن يبين ما إذا كان اللفظ قديمًا أو حديثًا؟ دارجًا أو فصيحًا؟ من لغة الشعر أو النثر؟ عامًّا أو مقيدًا؟ مهجورًا أو مماتًا، نادرًا أو شائعًا؟ رسميًّا أو عاميًّا؟ محترمًا أو مبتذلًا؟ من لغة للكبار أو الصغار؟ وغير ذلك.
د- وأخيرًا لا يبقى على المعجمي إلا أن يرتب مداخله بطريقة من طرق الترتيب الهجائي أو الموضوعي التي سنعرض لها فيما بعد.
أول من استخدم لفظ معجم:
لم يكن اللغويون أول من استعمل هذا اللفظ في معناه الاصطلاحي، وإنما سبقهم إلى ذلك رجال الحديث النبوي1 فقد أطلقوا كلمة معجم على الكتاب المرتب هجائيًّا الذي يجمع أسماء الصحابة ورواة الحديث. ويقال: إن البخاري كان أول من أطلق لفظة معجم وصفًا لأحد كتبه المرتبة على حروف المعجم "ولد البخاري سنة 194 هـ وتوفي 256 هـ" ووضع أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى "210 - 307 هـ""معجم الصحابة"، ووضع البغوي "توفي 317 هـ""معجم الحديث"
…
وهكذا.
ويلاحظ أن اللغويين القدماء لم يستعملوا لفظ "معجم" ولم يطلقوه على مجموعاتهم اللغوية، وإنما كانوا يختارون لكل منها اسمًا خاصًّا به. فهذا "العين" وذاك "الجمهرة" وآخر "الصحاح"
…
وهكذا. أما إطلاقنا للفظ "المعجم" على هذه الكتبفإطلاق متأخر.
معجم وقاموس:
من استعمالات العصر الحديث إطلاق اسم "القاموس" على أي معجم سواء كان باللغة العربية أو بأي لغة أجنبية: أو مزدوج اللغة. ولفظ القاموس"في اللغة لا يعنيهذا ولا شيئًا قريبًا من هذا: فالقاموس هو قعر البحر، أو وسطه، أو معظمه، وقال أبو عبيد: القاموس أبعد موضع غورًا في البحر2 ومرجع هذا المعنى الذي ألصق بلفظ "قاموس" أن عالمًا من علماء القرن الثامن، واسمه "الفيروزآبادي" ألف معجمًا سماه "القاموس المحيط" وهذا وصف للمعجم بأنه بحر واسع أو عميق. كما نسمي بعض كتبنا: الشامل، أو الكامل: أو الوافي.. أو نحو ذلك.
1 انظر عدنان الخطيب: المعجم العربي، ص 30 - 34.
2 انظر اللسان: قمس.
وقد حقق معجم الفيروزآبادي لنفسه شهرة وشيوعًا، وصار مرجعًا لكل باحث. وبمرور الوقت ومع كثرة تردد اسم هذا المعجم على ألسنة الباحثين ظن بعضهم أنه مرادف لكلمة معجم، فاستعمله بهذا المعنى. وشاع هذا الاستعمال، وصار يطلق لفظ القاموس على أي معجم. وظل هذا اللفظ محل خلاف بين العلماء، فمن مهاجم له، ومن مدافع عنه حتى أقر معجم اللغة العربية هذا الاستخدام وذكره ضمن معاني كلمة "قاموس" في معجمه المسمى بالمعجم الوسيط، واعتبر إطلاق لفظ "القاموس" على أي معجم من قبيل المجاز، أو التوسع في الاستخدام 1.
1 انظر عدنان الخطيب: المعجم العربي، ص 48- 50، المعجم الوسيط "قمس".