الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: احتمالات التأثير الأجنبي
ليس هناك احتمال لوجود تأثير هندي على فن المعاجم العربية، بل العكس هو الاحتمال القائم يقول Haywood:"ومن العدل أن نقول: إن فترة النشاط المعجمي الكبير في الهند كانت في القرن الثاني عشر، وهو وقت كان العرب فيه قد أنتجوا بعضًا من معاجمهم العظيمة. والنظام المثالي لم يوجد مطلقًا في معاجم الهنود. ربما بسبب الصياغة الشعرية، أو ربما لأن المعاجم كانت تهدف عندهم إلى تيسير حفظها عن ظهر قلب"1. ولا ندري كيف يكون الهنود - كما يزعم الدكتور محمد إسماعيل الندوي - قد أثروا "في وضع المناهج للقواميس العربية"3، ولم يكن لديهم هم أنفسهم مناهج للقواميس الهندية؟ بل لم يكن أي من معاجمهم قد حقق النموذج الذي يجدر احتذاؤه. يقول Haywood: "هل الأعمال المعجمية عند الهنود تسمى معاجم؟ هذه نقطة محل مناقشة"3. ويقول weber: "إن المعاجم السنسكريتية بالمعنى العلمي لم تظهر إلا في وقت متأخر"4.
وليست أسبقية العرب في مجال المعاجم مقررة بالنسبة للهنود وحدهم بل بالنسبة للعالم أجمعه، يقول Haywood: ونحن نصر على أن نستشهد
1 Arabic lexicography ص 7 وانظر winternitz في تاريخ الأدب الهندي ص 455.
2-
تاريخ الصلات بين الهند والبلاد العربية - ص 114.
3 Arabic lexicography ص 4.
4 The History of Indian literature ص 227.
برأي غير العرب حتى لا يتهم العالم بالتعصب إن كان عربية، يقول:"الحقيقة أن العرب في مجال المعاجم يحتلون مكان المركز سواء في الزمان أو المكان بالنسبة للعالم القديم والحديث وبالنسبة للشرق والغرب"1. ويذكر المؤلف نفسه فرقًا أساسيًّا بين المعجم العربي وما سبقه من معاجم بقوله: "المعجم العربي منذ نشأته كان يهدف إلى تسجيل المادة اللغوية بطريقة منظمة، وهو بهذا يختلف عن كل المعاجم الأولى للأمم الأخرى، التي كان هدفها شرح الكلمات النادرة أو الصعبة"2.
ولكن هناك احتمال -مجرد احتمال- بوجود تأثير هندي صوتي على الخليل لا يتجاوز الترتيب الصوتي للحروف الهجائية مع البدء بأعمقها مخرجًا، ولا يصح أن يبالغ في مدى هذا التأثير على نحو ما، فيقال مثلًا: إن هناك تأثيرًا صوتيًّا بوجه عام على اللغويين العرب للأسباب الآتية:
أ- أن الترتيب الصوتي عند الخليل -وغيره من اللغويين العرب- يختلف اختلافًا كبيرًا عن ترتيب الهنود- فقد ضمت الألفباء الهندية 51 حرفًا وبدأت بالعلل "بدأ الخليل بالسواكن"، واشتملت على رموز للعلل القصيرة "لا توجد في الألفباء العربية". وعلى رموز للعلل البسيطة والمركبة "لا رموز للمركبة في العربية"، ووضعت أصوات الصفير في آخر الحروف الساكنة "ما يقابلها في العربية وهو ص - س - ز قد وضع في مكان وسط"، واعتبرت الأصوات ي - ر - ل من أشباه أصوات العلة ووضعتها متتالية بالترتيب السابق "في حين أن الياء وضعت مع أحرف العلة في ترتيب الخليل وفصلت الياء عن اللام والراء وبالضاد في ترتيب ابن جني"3.
1 صفحة 2.
2 ص 2.
3 on the origin of the Indian Brahman Alphabet ص 28.
ومعنى هذا أن الخليل وإن كان من المحتمل أن يكون قد سمع بالترتيب الصوتي الهندي؛ فقد خالفه حين التطبيق. ويبدو أنه اهتدى بذوقه وحسه الفطري إلى الترتيب الذي توصل إليه. ويؤيد ذلك ما جاء في مقدمة العين عن كيفية اهتداء الخليل إلى هذا النظام، ونصه:"فدبر ونظر إلى الحروف كلها وذاقها فصير أولاها بالابتداء أدخل حرف منها في الحلق. وإنما كان ذواقه إياها أنه كان يفتح فاه بالألف ثم يظهر الحرف نحو: أب - أت - أح - أع - أغ فوجد العين أدخل الحروف في الحلق فجعلها في أول الكتاب، ثم قرب منها الأرفع فالأرفع حتى أتى على آخرها وهو الميم"1.
كما يشرح الليث كيف وردت الفكرة إلى ذهن الخليل، وكيف قلب النظر فيها حتى انتهى إليها وأخرجها إلى حيز الوجود فيقول إن الخليل حين ورد عليه خراسان فاتحة في تلك الفكرة التي كان من الصعب على العقل العادي إدراكها "فجعلت أستفهمه ويصف لي ولا أقف على ما يصف، فاختلفت إليه في هذا المعنى أيامًا، ثم اعتل وحججت، فرجعت من الحج فإذا هو قد ألف الحروف كلها على ما في صدر هذا الكتاب"2.
ومما يدل على أن العرب لم يكونوا ناقلين بل مجتهدين ما نراه من خلافات بينهم فيترتيب الأحرف العربية، فترتيب الخليل غير ترتيب سيبويه، وترتيب ابن جني يختلف قليلًا عن ترتيب سيبويه3.
ب- أن دراسة الهنود للأصوات قد تميزت بوضع مقاييس محددة لأصوات اللين، وتحديد وظيفة التجويف الحنجري، ودور الأوتار الصوتية في إحداث الجهر والهمس. كما تميزت بدراسة المقطع ومواضع النبر. ولا نجد لهذا نظيرًا عند اللغويين العرب.
1 العين 1/ 52.
2 المعاجم العربية لدرويش ص 74.
3 العين 1/ 52، سر صناعة الأعراب لابن جني 1/ 50، 51.
جـ- أن الهنود كانوا ينظرون إلى الدراسة الصوتية على أنها فرع مستقل من فروع علم اللغة في حين أن اللغويين العرب اعتبروها دراسة تابعة. وأول مؤلف مستقل في الأصوات عند العرب لم يظهر إلا على يد ابن جني في القرن الرابع الهجري.
كما لا يصح أن يقلل من جهد الخليل في معجمه "العين". فعلى فرض أخذه الأساس الصوتي عن الهنود فله فضل تطبيقه في لغة أخرى، كما أن أصالته تظهر فيما يأتي:
أ- جمعه المادة اللغوية بالطريقة الإحصائية التي سبق ذكرها، مع حرصه على الشمول.
ب- التقسيم الكمي الذي اتبعه وتفريقه بين الصحاح والعلل.
جـ- شرحه الكلمات شرحًا دقيقًا، والاستشهاد عليها بالقرآن والحديث والشعر.
ثم إن عملية الترتيب الهجائي في حد ذاتها لم تكن شيئًا جديدًا على العقلية العربية، فقد كان العرب يستخدمون الترتيب الأبجدي: أبجد هوز إلى أن استخدموا الترتيب الألفبائي الذي وضعه نصر بن عاصم ورتب الحروف فيه ترتيبًا جديدًا اقتضاه وضع الحروف المتشابهة في الصورة متجاورة، والبدء بالثلاثيات ثم الثنائيات ثم المفردات التي لا أشباه لها، وتركت الهمزة أولًا كما كانت في النظام القديم.
أما في مجال النحو فهناك تشابه في بعض الجزئيات بين الهنود والعرب مثل:
أ- تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف.
ب- التمييز بين الحروف الأصلية "الجذر أو الأصل" والحروف المزيدة.
جـ- الاهتداء إلى نوع من الأسماء يجمع خصائص الاسم والفعل وتسميته "اسم الفعل".
د- الاختلاف حول الحروف وهل لها معنى في ذاتها أو في غيرها1.
ولكن أمثال هذه الجزئيات موجودة في لغات كثيرة، وبعضها تفرضه طبيعة اللغات موضوع الدراسة.
أما ما يحاول الدكتور أيوب إثباته من وجود تأثير هندي في المنهج والتبويب على كتاب سيبويه، وأن ذلك يتمثل في العناية بدراسة الأصوات ومخارجها، وعدم الاهتمامات بالنظريات والتقسيمات العقلية2 - فمن الممكن مناقشته بما يأتي:
أ- أن هذه الدعوى مبنية على أساس وجود مدرسة نحوية هندية واحدة، أو اتجاه نحوي هندي واحد، وهذا خلاف الواقع. فالمدارس النحوية الهندية متعددة، ومناهجها مختلفة. وقد أحصينا نحو عشر مدارس هندية في الفترة التي سبقت أو عاصرت نشأة الدراسة اللغوية عند العرب في مؤلفنا "البحث اللغوي عند الهنود" فارجع إليها.
ب- وحتى إذا كان الدكتور أيوب حين تحدث عن مميزات الدراسة النحوية الهندية يعني خصائص المدرسة البانينية التي كتبت لها الشهرة على سائر المدارس الهندية، فليس هناك وجه شبه بين منهج هذه المدرسة ومنهج سيبويه في الكتاب، أو منهج أي نحوي عربي جاء بعد سيبويه حتى يومنا الحاضر. وأمامنا كتاب بانيني المشهور المسمى Ashtadhyayi ينطق بذلك:
1 تفصيل ذلك عند الهنود في بحثنا بعنوان "البحث اللغوي عند الهنود" فصلى علم النحو وعلم الاشتقاق.
2 راجع محاضراته على طلبة الليسانس بكلية دار العلوم، عام 67/ 1968.
1-
فالكتاب مقسم إلى ثمانية أقسام، وكل قسم إلى أربعة فصول، وقدم الكتاب في شكل قواعد مختصرة، أو قوانين موجزة يبلغ مجموعها أربعة آلاف قاعدة.
2-
يقدم القسم الأول من الكتاب تعريفات عامة وقواعد للشرح كما يعالج مشكلات صوتية متنوعة. أما القسم الثاني فيعالج موضوع الإبدال وهدف التصريف، وقواعد الجنس Gender والعدد. ويتناول القسم الثالث موضوع اللواحق الأساسية، أما القسمان الرابع والخامس فيتعرضان للواحق التي يمكن إضافتها للأصل غير الفعلى مكونة جذرا غير أساسي ولواحق تصريفية. ويتناول القسمان السادس والسابع بحوثا صرفية صوتية morphophonemie أما القسم الثامن فيتناول موضوعات متعددة.
3-
لاقى الجانب الصوتي اهتماما من بانيني حتى صدر به كتابه. ففي الفصل الأول من القسم الاول "ص3 - 68" يعالج أطوال الأصوات - الأصوات الأنفية - أنفية أصوات العلة إذا تسرب الهواء من الأنف - مخارج الأصوات في الفم - كيفية إحداث الصوت عن طريق الاتصال الكامال لأعضاء النطق أو الاتصال البسيط، أو للفتح الكامل أو الفتح البسيط - تقسيم الأصوات باعتبارات مختلفة - أشكال العلة وحصرها في 18 صوتا - العلة المركبة - المقارنة بين العلل والسواكن - الإبجال وشروطه.
وهذا ما نفتقده في كتاب سيبويه.
جـ- أن النحو الهندي لم يتخلص من سلطان الفلسفة كما صرح الدكتور أيوب، واعتبر ذلك فرقا أساسيا بين الهنود واليونانيين. يقول Chakravarti:"إن النحو السنسكريتي يعتبر نظاما قائما يعتمد إلى حد كبير على المباديء الفلسفية". ويقول عن Bhartrhari إنه كان لديه "المقدرة على شرح النحو من نقطة فلسفية محضة. وعلى يديه أصبح النحو يعالج على أنه نظام مطرد من الفلسفة". ويقول: "يعد باتنجالي
وبهارتر هاري من أعظم النحاة الهنود. ويستحقان احترامنا باعتبارهما مؤسسي فرع "فلسفة النحو" إن ما فعلاه يعد أهم مما قام به أفلاطون وأرسطو لعلم الفلسفة الخاص"1.
ولا أفهم كيف يظن ظانّ خلو النحو الهندي من تأثير المنطق، ويفترض أن الصبغة المنطقية في نحو المتأخرين جاءت عن طريق الإغريق؟ إن المنطق -كما يقال-: علم كل العلوم Science of all Sciences وللمنطق قضاياه المسلمة التي لا تخص علم المنطق وحده، وإنما تصلح للتطبيق كذلك في فروع أخرى من العلم، لما لها من قيمة لا تقبل الجدل.
ومن يرجع إلى بعض المناقشات النحوية عند الهنود يجدها فلسفة صرفًا، كخلافهم حول ما إذا كان هناك ما يمكن أن يُسمى بالزمن الحاضر. كما أن من يرجع إلى آرائهم حول أنواع الدلالات للكلمة يرى بوضوح سلطان الفلسفة والمنطق عليهم.
د- ولست أخيرًا مع الدكتور أيوب في قوله: إن كتاب سيبويه يخالف المتأخرين من ناحية عدم تأثره بالمنطق، وعدم اهتمامه بالنظريات والتقسيمات العقلية؟ ماذا يبقى في أي كتاب للنحو إذن لو جردناه من النظريات، ونحينا جانبًا ما فيه من تقسيمات عقلية؟ أليس المنطق هو المسئول عن إعراب الخليل وسيبويه الفعل المضارع بعد فاء السببية وواو المعية منصوبًا بأن مضمرة؟ ألم يكن الخليل يثير كثيرًا من المناقشات اللفظية ويطبق قواعده على أمثلة لم ترد عن العرب؟ أليس منع سيبويه العطف على معمولي عاملين مختلفين من آثار الفلسفة، ونتيجة لتحرجه من القول بتسلط عاملين مختلفين على معمول واحد، لئلا يلزم أن يكون المعمول منصوبًا مرفوعًا مثلًا، مع أنه لا يجتمع الضدان في محل؟ أو
1 The philosophy of Sanskrit grammar ص 13، 30، 38.
ليس رفض سيبويه العبارة "قام ومضى المحمودون" مع ورودها عن العرب -حتى لا يكون الفاعل الواحد فاعلًا لفعلين- تغليبًا للقاعدة الفلسفية التي تمنع اجتماع مؤثرين على أثر واحد؟
اليونان:
ليس هناك مجال للقول بتأثير يوناني على العرب في مجال الأصوات والمعجم. وما يقال عن تأثير يوناني مقصور على مجال النحو فقط.
وتتلخص الآراء حول هذه القضية فيما يأتي:
1-
وجود تأثير يوناني مباشر على النحو العربي منذ نشأته.
2-
وجود تأثير يوناني غير مباشر -عن طريق السريان- على النحو العربي منذ نشأته.
3-
وجود تأثير يوناني -سواء كان مباشرًا أو غير مباشر- على النحو العربي في مرحلة متأخرة لا تشمل مرحلة النشأة.
4-
نفي التأثير اليوناني كلية.
وقد لخص ليتمان معظم هذه الآراء في قوله: "اختلف العلماء الأورباويون في أصل هذا العلم، فمنهم من قال: إنه نقل من اليونان إلى بلاد العرب، وقال آخرون: نبت في أرض العرب
…
ورأينا مذهب وسط، وهو أنه أبدع العرب علم النحو في الابتداء، وأنه لا يوجد في كتاب سيبويه إلا ما اخترعه هو والذين تقدموه، ولكن لما تعلم العرب الفلسفة اليونانية من السريان
…
تعلموا استنباط النحو"1.
1 ضحى الإسلام 2/ 293.
ولم يتحدث أحد من الباحثين قبل Vestteegh بصورة علمية عن التأثير اليوناني في مرحلة النشأة. ويتلخص رأيه في وجود تأثير يوناني مباشر على العرب في الفترة المبكرة يتمثل في النحو اليوناني السائد والفكر الرواقي نتيجة الاتصال المباشر بالثقافة الهيلينية. كما قال بوجود ارتباط بين أصول النحو العربي وأصول الطيب اليوناني العلاجي1.
وأغلب الباحثين يذهبون إلى القول بتأثير يوناني في فترة متأخرة من فترات النحو العربي سواء كان التأثير مباشرًا أو غير مباشر، وسواء كان التأثير عن طريق النحو اليوناني أو المنطق اليوناني.
ويعد من أشد المتحمسين لإثبات التأثير اليوناني بشقيه النحوي والفلسفي الدكتور إبراهيم بيومي مدكور الذي نشر بحثًا بمجلة الأزهر بعنوان "منطق أرسطو والنحو العربي"2، ذهب فيه إلى تأثر النحو "بالمنطق الأرسطى من جانبين أحدهما موضوعي والآخر منهجي" ويمثل للموضوعي بتقسيم أرسطو الكلمة في مقدمة كتاب "العبارة" إلى اسم وفعل، واشارته في كتاب آخر له إلى قسم ثالث هو الأداة. وإذا انتقلنا إلى كتاب سيبويه نجده يبدأ بتقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، ويعرفها تعريفًا يحاكي من بعض النواحي التعريف الأوسطي.
أما التأثير المنهجي فقد رآه في اهتمام العرب بالقياس النحوي، ومحاولة فلسفته والبحث عن أركانه وتحديد شرائطه. كما رآه في مبدأ العلة الذي كان له شأن في النحو العربي، وفي المنطق الأرسطي، وفي نظرية العامل النحوية التي هي وليدة مبدأ العلية الفلسفي.
1 انظر: Greek Elements وبخاصة الفصول الأول إلى الرابع. وانظر عرضًا لهذا الكتاب في مجلة الحصاد، كلية الآداب، جامعة الكويت، العدد الأول.
2 المجلد 23، الجزء التاسع والعاشر، رمضان وشوال 1371 هـ.
ونحن وإن كنا نسلم بتأثير المنطق والفلسفة "بوجه عام ولا نقصرهما على اليونانيين، فقد كان للهنود كذلك منطق وفلسفة وكان لغير الهنود منطق وفلسفة" على النحو العربي، فإننا نتردد كثيرًا في قبول الرأي القائل بوقوع النحو العربي تحت سيطرة الفلسفة اليونانية. ومجرد التشابه في تقسيم أو أكثر، أو في بعض المصطلحات لا ينهض دليلًا لإثبات مثل هذه الدعوى العريضة. وقد سبق أن رأينا مثلًا أن أقسام اللام موجودة كذلك عند الهنود، ولا شك أنها موجودة أيضًا عند شعوب أخرى. والأمر قد لا يخرج عن مجرد التشابه بطريق المصادفة، أو عن التأثر الجزئي ابتداء من أواخر القرن الثالث حيث ظهرت الترجمات الأولى للأعمال الفلسفية اليونانية، ولا يصح أن نغفل في هذا المقام التأثير المعتزلي على المناهج النحوية العربية وبخاصة على نظرية العامل1.
وتبقى قضية التأثير اليوناني عن طريق السريان، وهي ما سنبحثها في الفقرة التالية:
السريان:
يثبت الكثيرون وجود تأثير سرياني على النحو العربي، سواء بطريق غير مباشر عن طريق الترجمات اليونانية التي تمت باللغة السريانية، أو عن طريق الكتب النحوية التي وضعها السريان للغتهم.
1 لمزيد بيان عن قضية التأثير اليوناني راجع: إلى جانب ما سبق ذكره -الدكتور مهدي المخزومي في كتابه "الخليل بن أحمد الفراهيدي"، والدكتور مازن المبارك في كتابه "النحو العربي"، ودائرة المعارف الإسلامية- مادة نحو، وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان، الجزء الثاني، وتاريخ الفلسفة في الإسلام تأليف دي بور وترجمة أبو ريدة، ومدرسة البصرة النحوية للدكتور عبد الرحمن السيد. وانظر كذلك كتاب Versteegh السابق ذكره وبخاصة في الفصل السادس "نفوذ المنطق اليوناني" والسابع "استخدام المنطق في النحو" والثامن الذي خصصه للمعتزلة وأثرهم على الفكر النحوي.
وقد سبق في الفصل الثاني من الباب الأول أن عرضنا أهم جهود السريان اللغوية، فليرجع القارئ إليها ليكون على ذكر بها.
وممن يثبت التأثير السرياني الدكتور إبراهيم مدكور في مقاله السابق الإشارة إليه وفيه يقول: "من الثابت أن كتب أرسطو المنطقية
…
كانت معروفة لدى السريان، وقد ترجمت إلى لغتهم قبل الإسلام. والمهم أنها ترجمت إلى اللغة العربية منذ النصف الأول من القرن الثاني الهجري
…
فهي إذن ثروة جديدة نقلت إلى العالم العربي. ولا بد أنها قوبلت بما تستحق من تقديره إن من سيبويه أو من سبقه ممن اشتغلوا بالمسائل النحوية
…
على أن هناك عملًا مشابهًا تم على مقربة من نحاة العرب الأول وهو وضع النحو السرياني.. في القرن السادس الميلادي ولا شك في أن هذا النحو قد تأثر بالنحو اليوناني ومنطق أرسطو. ومن بين واضعيه والمشتغلين به مترجمون اتصلوا بالعرب ونحاتهم وعاشوا معهم. فيعقوب الرهاوي لها شأنه في وضع النحو السرياني، وهو معروف في الأوساط العربية، وحنين بن إسحاق مترجم آخر معاصر للخليل وسيبويه
…
ومن اليسير أن نتصور أنه قد تبادل.. مع الخليل بعض القواعد النحوية"1.
ويرى جورجي زيدان نفس الرأي إذ يقول: "والعرب يغلب على ظننا أنهم نسجوا في تبويب النحو على منوال السريان لأن السريان دونوا نحوهم، وألفوا فيه الكتب في أواسط القرن الخامس الميلادي على يد يعقوب الرهاوي
…
ويؤيد ذلك أن العرب بدءوا في وضع النحو وهم بالعراق بين السريان والكلدان. وأقسام الكلام في العربية هي نفس أقسامه في السريانية"2.
1 المجلد 23 من مجلة الأزهر، ص 42.
2 تاريخ آداب اللغة العربية 1/ 251.
وعلى الرغم من وجود هذا الاحتمال بتأثير سرياني على النحو العربي، فلا يكفي -في نظرنا- أن يتخذ مجرد السبق الزمني، أو التجاور المكاني، أو التشابه الجزئي دليلًا على وجود تأثير وتأثر.
ويبدو أن أولئك المولعين برد كل ما هو عربي إلى أصل أجنبي هم من تلك الفئة من الباحثين التي تستكثر على العقلية العربية الاستقلال الفكري، وتنفي عنها الأصالة العلمية، ويبدو أيضًا أن أولئك الباحثين قد ظنوا أن النحو العربي قد ولد ناضجًا. لأنه جاءنا ناضجًا، فاتخذوا من ذلك دليلًا على نقله من نحو أمة أخرى.
وقد سبق أن رأينا أن النحو العربي قد مر بمراحل تطويرية كثيرة قبل أن يصل إلى مرحلة النضج، وأن الفترة الزمنية بين نشأة النحو وكتاب سيبويه تزيد على المائة عام. وهي كافية جدًّا لخلق نحو عربي ناضج متطور بدون النقل الحرفي من نحو آخر.
وإذا كنا قد ترددنا في إثبات الأثر السرياني على النحو العربي فيبدو أن هناك نقطتين لا مجال لإنكار أثر السريان فيهما على العرب وهما:
1-
أقدم مثل لتأثير السريانية على العربية هو الأبجدية النبطية التي استعارها العرب لكتابتهم. والخط النبطي مشتق من الآرامي. والإملاء العربي القديم قريب من الإملاء الآرامي، ويظهر ذلك في الخط الكوفي.
2-
نشأة الحركات الأعرابية في فجر الإسلام، التي ينسب وضعها إلى أبي الأسود الدؤلي، وهي في الحقيقة مأخذوة عن السريان. فقد استخدم أبو الأسود طريقة الشكل بالنقط وكانت إحدى طرق الشكل عند السريان، وهي الطريقة التي اتبعها النساطرة1.
1 تاريخ اللغة السريانية لزاكية رشدي، ص 268، 269.
العبرانيون:
المجال الوحيد لاحتمال التأثير العبري على العرب في مجال الدراسات اللغوية هو الترتيب المعجمي بحسب القافية أو الباب والفصل. وقد سبق أن ذكرنا أن سعيدًا الفيومي "ولد عام 892 = 279 هـ وتوفي عام 942 م = 331 هـ" قد وضع عملًا معجميًّا أسماه Agron رتبة أو رتب قسمًا منه - إذا أردنا الدقة - على الأواخر. وأول من عرفناه من المعجميين العرب يرتب على الأواخر هو أبو بشر اليمان بن أبي اليمان "200 - 284 هـ" ثم أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي "المتوفي 350 أو 370 هـ" فهل استفاد الفارابي من سعيد الفيومي؟ أو هل ألف كل منهما معجمه بدون اتصال بالآخر، وخصوصًا أنهما قد تعاصرا لفترة طويلة؟ أو هل هما متأثران بمعجم اليمان أو بمعجم أقدم منهما لم يصلنا أو تصلنا معلومات عنه؟ احتمالات ليس في إمكاننا ترجيح أحدها على الآخر1.
1 يبقى الصينيون وقد قال في ذلك "Haywood": "لا نظن أن الصينيين كان لهم تأثير على العرب""ص 6 - 7".