المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: النحو والصرف - البحث اللغوي عند العرب

[أحمد مختار عمر]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌الفصل الثالث: النحو والصرف

‌الفصل الثالث: النحو والصرف

عرض تاريخي:

سبق أن تناولنا نشأة النحو العربي بشيء من الإيجاز والتركيز، وهدفنا الآن أن نتناول -في إيجاز كذلك- تاريخ الدرس النحوي منذ سيبويه1 ونتتبعه حتى وصولهإلى مرحلة الكمال والنضج، وتبلور أفكاره في اتجاهات ومذاهب معينة.

يعد سيبويه2 إمام النحاة بلا منازع. وقد جمع في مؤلفه المعروف بـ"الكتاب" مباحث النحو والصرف، وجعل لكل مكانًا منه لا يشركه الآخر فيه أو يكاد. وبدأ بالنحو وثنى بالصرف، صنيع من يراهما علمين3. ومن يراجع موضوعات الجزء الأول من "الكتاب" يجدها خاصة بالنحو، فقد تناول فيه الكلمة، والنكرة والمعرفة، والأفعال اللازمة والمتعدية، وأسماء الأفعال، إلى جانب الفاعل والمبتدأ والخبر، وأيضًا المنصوبات كالمصادر المنصوبة، والحال والمفعول فيه، وإن وأخواتها والنداء، والاستثناء، وغيرها.

أما الجزء الثاني فجميع أبوابه صرفية إذا استثنينا باب الممنوع من الصرف الذي افتتح به الجزء. ومن موضوعاته النسب، والتصغير، ونونا التوكيد، وجمع التكسير، وأوزان

1 راجع في ترجمته مقدمة "الكتاب" بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون، و"سيبويه إمام النحاة" للأستاذ على النجدي ناصف.

2 برغم شهرة سيبويه لم يذكر أحد تاريخ ولادته ولا وفاته بالتحديد.

وإجمالًا يمكن أن يقال: إنه ولد في النصف الأول من القرن الثاني وتوفي عام 180 أو 188 ولم يتجاوز الأربعين.

3 علي النجدي، ص 170.

ص: 123

المصادر، وصيغ الأفعال، ومعاني الزوائد، واسم الآلة، وأسماء الأماكن، وفعل التعجب، والإمالة، والوقف، والإعلال، والإدغام.

وقد كان من سوء حظ النحو العربي أن جاء سيبويه في وقت مبكر جدًّا لا يتجاوز النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، إذ نتج عن تفوقه وشدة إعجاب النحاة به أن أصيب التفكير النحوي بشلل، ودار الجميع في فلك سيبويه، واتخذوه أساسًا لدراستهم، ولذا لم يطوروا هذه الدراسة بالقدر الكافي، وتحولت كثير من الدراسات النحوية إلى مجرد شروح له أو اختصارات أو تعليقات عليه، أو جمع لشواهده وشرحها.. أو.. أو

ويكفي دليلًا على ما كان لعمل سيبويه من سحر وإغراء إطلاقهم عليه اسم "قرآن النحو"1.

وقول المازني في تمجيده: "من أراد أن يعمل كتابًا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي" وقول السيرافي: "وعمل كتابه الذي لم يسبقه إلى مثله أحد قبله، ولم يلحق به من بعده". وكان المبرد يقول لمن أراد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه: "هل ركبت البحر" تعظيمًا واستصعابًا له2 ولسنا نريد أن نحبر صفحات في سرد أسماء الكتب والأبحاث التي دارت حول كتاب سيبويه3 وإنما نخص بالذكر كتابًا فريدًا من بين هذه الكتب وهو كتاب ألفه المبرد، واختار له عنوانًا هو "الرد على سيبويه"4، وذلك لطرافته وغرابة موضوعه.

1 مراتب النحويين، ص 65.

2 بغية الوعاة، ترجمة عمرو بن عثمان، ومقدمة عبد السلام هارون للكتاب، ص 21، 23.

3 تفصيل ذلك في مقدمة عبد السلام هارون للكتاب عناوين. فممن شرحه "ص 36"، وممن شرح مشكلاته ونكته وابنيته "ص 38" - وممن شرح شواهده "ص 39"، وممن اختصره أو اختصر شروحه "ص 41"، وممن ألف في الاعتراض عليه أو رد تلك الاعتراضات "ص 41".

4 ذكر ابن جني أن المبرد سماه "مسائل الغلط".

ص: 124

خصص المبرد كتابه هذا للهجوم على سيبويه والاعتراض عليه. وبرغم أن الكتاب لم يصلنا نصه، فقد وصلتنا اقتباسات كثيرة منه في كتب متأخرة تكفي لتكوين فكرة عنه.

وقد كان مثار دهشة وعجب أن يأتي أقصى هجوم على سيبويه من المبرد رأس المدرسة البصرية في عهده، وأن يتعرض المبرد لسيبويه بالنقد والتخطئة، وأن يتعقب زلاته ويؤلف فيها كتابًا كاملًا، ومن أجل هذا حاول بعضهم أن يبرئ المبرد من تهمة التعرض لسيبويه وادعوا بطلان نسبة هذا الكتاب إليه. ومنهم من ادعى أن ما اعترض به المبرد على سيبويه حدث أيام الشباب وأنه عاد فرجع عنه.

وأفضل مرجع حوى اقتباسات من عمل المبرد هو "الانتصار لسيبويه من المبرد" الذي ألفه ابن ولاد المصري المتوفي سنة 332 هـ.

ومنه نعلم أن كتاب المبرد يحوي 134 مسألة، وأن الخلاف بين سيبويه والمبرد كان عميقًا ويعود إلى اختلاف المنهج والخط الفكري في كثير من الأحيان. ومن ذلك منع سيبويه أن يقال:"السقي لك"، و"الرعى لك" بدلًا من سقيًا لك ورعيًا لك لأن العرب لم تتكلم بهاتين العبارتين مع الألف واللام. وقد أجازهما المبرد لأنه لا فرق عنده -في القياس- بينهما بالألف واللام وبين "الحمد لله" و"العجب لزيد"1.

ونعود إلى "الكتاب" فنقول: إنه برغم نسبته إلى سيبويه ففضل الخليل فيه لا يجحد، حتى قيل: إن الأوفق أن ينسب الكتاب إلى الخليل وحده أو إليهما معًا. يقول أبو الطيب اللغوي: "عقد سيبويه كتابه بلفظه ولفظ الخليل2" ويقول ثعلب: "اجتمع على صنعة الكتاب اثنان وأربعون إنسانًا منهم سيبويه، والأصول والمسائل للخليل"3.

1 هناك عرض واف لكتاب ابن ولاد مع التعرض لمسائل الخلاف في مجلة كلية المعلمين الجامعة الليبية، العدد الأول، صفحات 177 - 190.

2 المدارس النحوية لشوقي ضيف، ص 34.

3 مقدمة الكتاب لهارون، ص 24.

ص: 125

وقد طبع كتاب سيبويه -حتى الآن- في فرنسا والهند ومصر وترجم إلى الألمانية ترجمة كاملة. وقام المحقق الكبير الأستاذ عبد السلام هارون بتحقيقه ونشره نشرة علمية دقيقة ظهرت في خمسة أجزاء.

وفي نفس الفترة التي كان الخليل وسيبويه ينشران علمهما فيها بالبصرة وجد عالمان بالكوفة اشتغلا بالنحو، وإن لم يبلغا في الشهرة مبلغ الخليل وسيبويه. هذان العالمان هما أبو جعفر الرؤاسي، ومعاذ الهراء. أما أولهما فقد صنف كتابًا اسمه "الفيصل" يقال: إن الخليل قد اطلع عليه، واستفاد منه.

وأما الآخر فقد غلب عليه الاشتغال بالأبنية حتى قيل: إنه واضع علم الصرف. ويصدر الدكتور شوقي ضيف على هذين الرجلين حكما قلبيًّا فيقول: "وكان علم معاذ بالصرف مثل علم الرؤاسي في النحو كان علمًا محدودًا لا غناء فيه ولا شيء يميزه من علم البصرة"1.

وبعد ذلك سار نحاة البصرة والكوفة جنبًا إلى جنب وتنافسا في البحث والإنتاج، وتابع من كلا البلدين نحاة أعلام ليس من السهل تفضيل أيهما على الآخر. فمن نحاة البصرة نجد الأخفش سعيد بن مسعدة، وقطرب والمازني والمبرد. ومن نحاة الكوفة نجد الكسائي، والفراء، وثعلب وابن السكيت.

وهؤلاء جميعًا عاشوا وماتوا قبل نهاية القرن الثالث الهجري. وأهم ما يميز هذه الفترة ارتقاء البحث النحوي ونضجه بدرجة لم تسمح بجديد بعدها. كما يميزها ظهور الكتب الكاملة التي تعالج النحو بابًا بابًا. ونضرب لذلك المثل بكتاب "المقتضب" للعبود، وهو برغم اسمه كتاب ضخم طبع في أربعة مجلدات بتحقيق الأستاذ الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة.

ويميزها أيضا اتجاه البحث إلى التقصي، والاستقراء للمأثور عن العرب وإعمال الفكر، واستخراج القواعد. وقد أذكى من روح النشاط التنافس البلدي الذي نشأ بين

1 راجع: شوقي ضيف، المدارس النحوية ص 153، 154، والأفغاني: من تاريخ النحو، ص 41، 42، ونشأة النحو، ص 97.

ص: 126

البصرة والكوفة ومحاولة كل فريق أن يظهر على الآخر. كما يميزها انفصال الصرف عن النحو على يد أبي عثمان المازني الذي ألف "التصريف"1. وقد طبع هذا الكتاب بشرح ابن جني عليه باسم المنصف في ثلاثة أجزاء.

وبعد القرن الثالث نافست أقطار ومدن أخرى البصرة والكوفة في الدراسة النحوية وكان أشهرها بغداد ومصر والمغرب والأندلس. وظهر نحاة أعلام في كل بلد من هذه البلاد تجد تفصيلًا عنهم في كتب التراجم المختلفة2.

وأهم ما يميز هذه المرحلة أنها كانت مرحلة خفت فيها حدة التنافس والتعصب، وظهر جيل من العلماء لما يتحيز لعالم دون آخر. وأول من فعل ذلك البغداديون. وقد اتجه رجال هذه الفترة إلى عرض المذهبين السابقين وانتقادهما، واختيار ما يبدو مناسبًا منهما، بالإضافة إلى زيادات قليلة من القواعد تولدت لهم من اجتهادهم قياسًا وسماعًا. ومن أشهر رجال هذه المرحلة -حتى نهاية القرن الرابع- الزجاج وابن السراج والزجاجي والأخفش الصغير وابن ولاد وأبو جعفر النحاس والسيرافي وأبو علي الفارسي والرماني والزبيدي3.

1 هذا على فرض أنه لم يصح وضع معاذ الهراء لعلم الصرف.

وانظر نشأة النحو ص 94.

2 على سبيل المثال: طبقات الزبيدي، وإنباه القفطين وبغية السيوطي، وضحى الإسلام، وبروكلمان.

3 راجع: نشأة النحو في أماكن متفرقة وبخاصة ص 158، 159. ولمزيد من التفصيلات يستحسن الرجوع إلى كتب التراجم المختلفة تحت الأسماء السابقة ولكتاب الدكتور شوقي ضيف: المدارس النحوية، وكتاب الدكتور مازن المبارك: النحو العربي. ولكتاب سعيد الأفغاني: من تاريخ النحو، ولكتاب محمد الطنطاوي، نشأة النحو، ولكتاب الدكتور عبد الرحمن السيد: مدرسة البصرة النحوية، ولكتاب البيرحبيب: الحركة اللغوية في الأندلس، ولكتاب الدكتور مهدي المخزومي: مدرسة الكوفة.

ص: 127

هل وجدت مدارس نحوية عند العرب؟

السؤال الذي يجب طرحه الآن هو: هل يمكن أن نطلق اسم "مدرسة" على أي دراسة نحوية تمت في خلال الفترة موضوع الدراسة؟

ولكي نجيب عن السؤال يجب أولًا أن نوضح النقاط الآتية:

1-

ماذا نفهم من المصطلح "مدرسة نحوية".

2-

الأساس الذي بني عليه تقسيم الدراسة النحوية العربية إلى مدارس.

3-

عدد هذه المدارس حتى نهاية القرن الرابع الهجري.

أما بالنسبة للنقطة الأولى؛ فإن هذا المصطلح يعني -في نظرنا- وجود جماعة من النحاة، يصل بينهم رباط من وحدة الفكر والمنهج في دراسة النحو. ولا بد أن يكون هناك الرائد الذي يرسم الخطة ويحدد المنهج، والتابعون أو المريدون الذين يقتفون خطاه، ويتبنون منهجه، ويعملون على تطويره والدفاع عنه. فاستمرار النظرية -أو المنهج- ودوامها عبر السنين شرط أساسي لتكون المدرسة التي لا يمكن أن تستحق هذا الاسم، أو يعترف بوجودها بمجرد مولد النظرية أو خلقها، حتى تعيش ويكتب لها البقاء لبعض الوقت بين المريدين.

ومن ناحية أخرى فنحن لا نوافق على اتخاذ المعيار الجغرافي أساسًا لتقسيم العلوم إلى مدارس فكرية مختلفة، إن وجود جماعة من الدارسين في مكان واحد لا يكفي مطلقًا لتشكيل مدرسة، أو لأحقية ربطهم جميعًا برباط واحد، اللهم إلا إذا وجد الخيط الذي يصل بينهم، والخطة أو النظرية التي يشتركون في تطبيقها. وعلى هذا يكون المرشح لأحقيتهم اسم مدرسة ليس وجودهم في مكان واحد وإنما اشتراكهم في خط فكري معين.

ص: 128

وإذا نحن انتقلنا إلى النقطة الثانية وحاولنا أن نتعرف الأساس لتقسيم الدراسات النحوية إلى مدارس، وجدنا من الحتم أولًا أن نظهر الحقائق الآتية:

أ- أن المعيار الجغرافي كان الأساس الوحيد لهذا التقسيم، وهذا يوضح لماذا حملت كل مدرسة اسم منطقة.

ب- لا نجد أي إشارة إلى مدرسة أطلق عليها هذا الاسم لالتفاف أتباعها حول رائد معين فحملت اسمه من أجل ذلك على عكس ما نجده الآن1.

جـ على الرغم من أن المعيار الجغرافي كان هو الأساس الوحيد المستعمل لتقسيم المدارس العربية؛ فإنه قد عجز تمامًا عن إبراز الفروق الحقيقية والاتجاهات الفكرية المختلفة لهذه المدارس، كما عجز -في نفس الوقت- عن تجميع الخصائص المشتركة، والاتجاهات الفكرية الموحدة.

ولنأخذ مثالًا على هذا أقدم مدرستين لغويتين، وهما مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، فماذا نجد؟ نجد البصريين "أو الكوفيين" يختلفون في المسألة الواحدة، ونجد في كثير من الأحيان بصريين ينضمون إلى المدرسة الكوفية، وكوفيين ينضمون إلى المدرسة البصرية "والأمثلة على ذلك كثيرة نكتفي منها بما يأتي:

1-

في حالة يصرح الأخفش "بصري" أن رأي الكوفيين صحيح.

2 في حالة أخرى نجد للخليل رأيًا يخالف رأي سيبويه والأخفش.

1 Bloomfield School أو Vossler School انظر Fries ص 196، Malmberg ص 69.

ص: 129

3-

في حالة أخرى نجد سيبويه والخليل يريان رأيًا مناقضًا لرأي الأخفش والمازني والزيادي والمبرد "وكلهم بصريون".

4-

في حالة أخرى نجد كلًّا من سيبويه والمبرد والكسائي والفراء يقف منفردًا برأيه الخاص.

5-

في حالة أخرى نجد المبرد يفضل رأيًا كوفيًّا.

6-

في حالة أخرى نجد الكسائي يفضل رأيًا بصريًّا1.

7-

على الرغم من أن المبرد وسيبويه ينسبان إلى مدرسة واحدة فنحن نجد أن أقصى هجوم وجه لسيبويه كان على يد المبرد -كما سبق أن ذكرنا- حتى ألف الأخير كتابًا لنقد سيبويه والهجوم عليه. ومن ناحية أخرى فنحن نجد أن اختلاف المنهج والخط الفكري واضح جدًّا بين الأستاذين ويشمل اختلافات جوهرية.

8-

على الرغم من أن الكسائي والفراء ينتميان إلى المدرسة الكوفية فإن خلافهما في مسائل النحو كثير. ونكتفي بالتقاط الأمثلة الآتية:

أ- يذهب الكسائي إلى أن الفاء والواو وأو تنصب الفعل بنفسها، ولكن الفراء يذهب إلى أن المضارع ينصب هذه الأحرف على الخلاف "أي: أن المعطوف بها صار مخالفًا للمعطوف عليه في المعنى فخالفه في الإعراب"2.

ب- يذهب الكسائي إلى جواز العطف على اسم إن بالرفع قبل تمام الخبر، فيصح عنده أن تقول:"إن زيدًا وعمرو قائمان"، ولكن

1 انظر في تفصيل المسائل السابقة: منهج السالك لأبي حيان صفحات 7، 8، 9، 19 مقدمة المحقق، والانصاف لابن الأنباري ص 27، 47.

2 الكافية 2/ 224، والأشموني 3/ 300.

ص: 130

الفراء يفصل، فيجيزه في حالة خفاء الإعراب، ويمنعه فيما عدا ذلك، فمثال ما خفي إعرابه "إنك وزيد قائمان" وقد حمل عليه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ} 1.

جـ يذهب الكسائي إلى أن أصل "آية" آئية بزنة فاعلة، فحذفت الهمزة كما حذفت في شاك السلاح ومكان هار. ويذهب الفراء إلى أن أصلها" "آية" بالتشديد، وفروا من المشدد إلى الألف كما فروا إلى الياء في دينار وأصله دنار2.

د- أجاز الكسائي تقديم المحصور بإلا مطلقًا، وذهب الفراء إلى منع تقديم الفاعل المحصور وأجاز تقديم المفعول المحصور3.

هـ- قال الكسائي في "أشياء": هي جمع شيء كبيت وأبيات، ووزنها أفعال، ومنعت من الصرف على توهم أنها كحمراء، وقال الفراء: أصلها أشيئاء جمع شيء وأصله شيء نحو بين وأبيناء ولين وأليناء، ثم حذف من وسط أشياء همزة لكثرتها فصارت أشياء4.

ويذهب الكسائي -وهو رأي البصريين- إلى أن "نعم" و"بئس" فعلان ماضيان لا ينصرفان ويذهب الفراء -وهو رأي باقي الكوفيين- إلى أنهما اسمان.5.

9 وأخيرًا نمثل بمسألة تشعبت فيها أوجه النظر، واختلط فيها الحابل بالنابل كما يقول المثل العربي، وهي تخريج "إياك" وأخواتها.

1 الانصاف 1/ 119، ومجالس ثعلب 1/ 316، والرضى على الكافية 2/ 330، ومعاني القرآن، ورقة 45.

2 رسالة الملائكة ص 101 - 106.

3 الأشموني 4/ 39.

4 معاني القرآن للفراء ورقة 46، وإعراب القرآن للنحاس ورقة 54- 55، والرضى على الشافية ص 9.

5 الإنصاف 1/ 66، الكافية 2/ 292.

ص: 131

أ- فجمهور الكوفيين، وهو رأي الفراء، يذهب إلى أن الكاف والهاء والياء من إياك وإياي وإياه

هي الضمائر، وأن "إيا" عماد لها تصير بسببها منفصلة. واختاره ابن كيسان من البصريين. قال الرضى: وليس هذا القول ببعيد عن الصواب.

ب- ورأى الخليل أن "إيا" اسم مضمر مضاف إلى الكاف بدليل وقوع الظاهر مقام الكاف في قولهم: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب. وهو رأي الأخفش والمازني.

جـ- وقال سيبويه: إن الاسم المضمر هو "إيا"، وما يتصل به بعده حرف يدل على أحوال المرجوع إليه من التكلم والخطاب والغيبة، وهو رأي جمهور البصريين.

د- وقال قوم من الكوفيين: إياك وإياه وإياي أسماء بكمالها، وليس فيها تركيب.

هـ- وقال الزجاج، والسيرافي:"إيا" اسم ظاهر مضاف إلى المضمرات، كأن "إياك" بمعنى نفسك1:

هذه الأمثلة -وغيرها كثير جدًّا لمن أراد المزيد- تكشف عن فساد المعيار الجغرافي وتظهر فشله2.

1- مدرسة الكوفة ص 229، الكافية 2/ 12 ورسالة الملائكة ص 57 وهامش صفحتي 55، 56.

2 لا أدل على فشل المنهج الجغرافي في بيان الاتجاهات الفكرية، وإبراز أوجه الخلاف والشبه بينها من اختلاف الآراء حول نسبة بعض اللغويين إلى مدرسة معينة. وأشير في هذا المجال إلى أبي عبيد الذي وضعه بروكلمان تحت أبناء المدرسة البصرية "2/ 155"، بينما وضعه الزبيدي وآخرون تحت اتباع المدرسة الكوفية "ابن النديم ص 71".

وحالة أبي عبيد تمثل صعوبة أخرى، وهي صعوبة نسبة عالم من ذلك العصر إلى بلد معين نظرًا لكثرة الأسفار، وعدم الإقامة في مكان واحد مدة طويلة. فهو قد ولد في هراة وتنقل بين البصرة والكوفة ومرو وسر من رأى وطرسوس وبغداد ومكة.

"معجم الأدباء 16/ 254، والقفطي 2/ 15، 19، 20".

ص: 132

ولكن إلى جانب هذه الاختلافات بين أبناء المدرسة الواحدة فنحن نجد بعض الخطوط والاتجاهات المشتركة التي يتميز بها أبناء المدرسة الواحدة وعلى هذا فربما قبلنا -مع شيء من التحفظ- هذه القسمة.

والنقد الخطير الذي يمكن أن يوجه إلى هذا المعيار هو احتمال الانحراف في تطبيقه. ربما قبلنا تبرير هذا المعيار على أساس أن الفكرة، أو الاتجاه المعين، إنما يظهر أول الأمر في مكان ما، ومن أجل هذا فمن المعقول أن ينسب هذا الاتجاه أو هذه النظرية إلى مكان الميلاد.

ولكن الشيء الذي لا نقبله هو الزعم بأن هذه المدرسة المعينة لا بد أن تشمل كل المواطنين في هذا المكان -بغض النظر عن اختلافاتهم- وتستبعد من عداهم، دون نظر إلى آرائهم ومدى اتفاقهم أو اختلافهم.

وعلى هذا فنحن نعتقد أن الباب لا بد أن يترك مفتوحًا على مصراعيه ليضم المثقفين، ويعزل المخالفين. إن باب المدرسة البصرية أو الكوفية يجب أن يظل مفتوحًا؛ ليسمح بدخول أي مؤيد أو متفق في الرأي مهما كانت جنسيته، وبخروج المخالف، حتى ولو كان منتسبًا إلى المنطقة بالميلاد أو الإقامة، وطبقًا لهذا، فإننا نجد المدارس اللغوية الحديثة التي تحمل أسماء أماكن قد اشتملت على أسماء علماء من بلاد مختلفة. ونحن نشير بوجه خاص إلى "مدرسة جنيف"1 التي أسسها اللغوي السويسري دي سوسير وشملت لغويين فرنسيين وسويسريين وألمان وإنجليز2.

أما إجابة السؤال الثالث، فهي دقيقة وصعبة، إذا حاولنا تناولها بدقة. إنها تقتضي عملية تتبع كامل للإنتاج النحوي في جميع أنحاء العالم العربي لفترة تمتد إلى أكثر من ثلاثة قرون، مع الأخذ في الاعتبار ضياع نسبة كبيرة من الإنتاج النحوي لتلك الفترة وعدم وصوله لنا، بالإضافة

1 بعض الدارسين يسميها كذلك "المدرسة الفرنسية""انظر Sommerfelt ص 283".

2 Malmberg صفحات 16، 46، 47،49، 50.

ص: 133

إلى تبعثر الآراء النحوية في كتب التفسير والقراءات والأدب وشروح الدواوين الشعرية وغيرها. ولهذا فنحن سنكتفي في هذا المقام بنظرة خاطفة مركزين على الخلافات بين الدارسين حول الاعتراف أو عدم الاعتراف بأي منها1.

فيما عدا سعيد الأفغاني الذي رفض المعيار الجغرافي أساسًا للتقسيم النحوي وتشكك في جدواه2 "برغم استعماله لفظ مدرسة مع نحاة البصرة ونحاة الكوفة مجاراة لما هو شائع"، واقترح معيارًا آخر فإن سائر الدارسين قد قبلوا التقسيم الجغرافي أساسًا لتصنيف المدارس النحوية العربية. الفرق الوحيد بينهم هو اختلافهم في عدد المدارس:

وبغض النظر عن المستشرق G. weil الذي اعترف بالمدرسة البصرية فقط، نجد جميع الدارسين يعترفون بوجود مدرستي البصرة والكوفة، ويعترفون بأسبقيتهما لأي مدارس نحوية أخرى، ومنهم من يضيف إليهما مدارس أخرى على النحو التالي:

"أ" بعضهم يضيف مدرسة ثالثة في بغداد. ويضم هذا الفريق بروكلمان ومهدي المخزومي.

1 كان من سوء الحظ أن المحاولات الأولى لتقسيم الدراسة اللغوية إلى مدارس كانت ترمي إلى عمل ترجمات للغويين، مع التركيز على الجانب التاريخي من حياتهم. وربما كان المعيار الجغرافي صالحًا لمثل هذه الدراسة التاريخية، ولكن الخطأ الذي ارتكب فيما بعد هو تطبيق هذا المعيار على الدراسة اللغوية البحتة.

2 يقول: درج العلماء على أن هناك مذهبًا بصريًّا وآخر كوفيًّا. فما معالم كل من المذهبين؟ هذه الميزات والمعالم الآتية بعد ليست جامعة مانعة.

فليس هناك قاعدة أجمع عليها نحاة البصرة وتوارد على معارضتها نحاة الكوفة، أو قال بها الآخرون جميعًا وعارضها الأولون جميعًا.

في أصول النحو ص 195 - 196" وانظر بحثه: هل في النحو مذهب أندلسي؟ ص 76.

ص: 134

ب- وبعضهم -مثل طه الراوي ومحمد أسعد طلس- يضيف مدرسة رابعة في الأندلس.

ج- أضاف Howell مدرستين أخريين في مصر والمغرب.

د- وعد الدكتور شوقي ضيف خمس مدارس هي: البصرية والكوفية والبغدادية والأندلسية والمصرية، ولم يذكر المغربية.

هـ- ويقف الزبيدي منفردًا في هذا النزاع حيث يقسم اللغويين إلى بصريين وكوفيين ومصريين وأندلسيين، ولم يذكر البغداديين1.

وإذا كان لنا من ملاحظات على هذه التقسيمات فهي:

1-

أنه ما دام المعيار الجغرافي هو الأساس في التقسيم فلا بد من الاعتراف بوجود مدرسة في كل بلد أنتج فكرًا نحويًّا.

2-

من الغريب أن يعترف الزبيدي باللغويين المصريين والأندلسيين ولا يذكر البغداديين.

3-

وأغرب من هذا أن يعترف طه الراوي ومحمد طلس بوجود مدرسة في الأندلس ولا يعترفان بوجود مدرسة في مصر، برغم أسبقية مصر في هذا الميدان واعتماد النحو الأندلسي في نشأته. ووجوده وبنائه على مصر2. وأخيرًا فإننا نؤمن بأن تقسيم العلوم إلى مدارس -

1 ارجع إلى: دائرة المعارف الإسلامية، مادة "ثعلب" و"نحو"، ومراتب النحويين لأبي الطيب، والفهرست لابن النديم، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان، ومدرسة الكوفة للمخزومي ص391، ونظرة في النحو لطه الراوي، وأبو الفتح بن جني لطلس، وطبقات النحويين للزبيدي، والمدارس النحوية لشوقي ضيف، ومقدمة Howell لكتابه Grammar of the Classical Arbaic.

2 يرجع الفضل في النهضة الأندلسية النحوية إلى عودة محمد بن يحيى الرباحي الأندلسي من المشرق بمناهج حديثة "كما يقول الزبيدي" وبكتب جديدة في القرن الرابع. ولم يكن الرباحي نفسه مؤلفًا، وإنما لاقى الأساتذة وقرأ عليهم وحمل كتبهم. وممن لاقاهم بمصر أبو جعفر النحاس وأبو العباس =

ص: 135

مهما كان المعيار ليس خير سبيل. إنه يعطي إحساسًا بمحلية العلوم، ويخلق جوًّا من التحيز والتعصب، إنه يظهر اتفاقًا سطحيًّا بين أتباع المدرسة الواحدة حول مبادئ معينة أو قواعد خاصة، ولكنه يخفي من ورائه خلافات جوهرية.

ومن أجل هذا فنحن نفضل المعيار المبني على أساس النظريات المنفصلة والاتجاهات المستقلة. وعلى هذا يمكننا أن نتكلم عن نظرية سيبويه في الالتزام بما سمع عن العرب وعدم استخدام القياس النظري، لأن العرب يمتنعون عن التكلم بالشيء وإن كان القياس يوجبه، ويتكلمون بالشيء وإن كان القياس يمنعه. وعن نظرية الفراء في النصب على الخلاف أو المخالفة. وعن نظرية ابن فارس في رد الكلمات الكبيرة البنية إلى أصول أقل حجمًا، وهكذا.

هذا الاتجاه ربما يكون أكثر دقة في تتبع النظرية أو الاتجاه، وفي رسم حدود كل ومعالمه عبر العصور من غير استخدام التعميمات، أو إصدار الأحكام الكلية التي تفتقر في كثير من الأحيان إلى الدقة ويعوزها الحذر العلمي.

أهم الفروق بين مدرستي البصرة والكوفة:

على الرغم من موقفنا السابق من اتخاذ المعيار الجغرافي أساسًا

= ابن ولاد، وكلاهما نحوي متخصص. وقد نقل للأول إلى الأندلس كتبه "صناعة الكتاب" و"الاشتقاق" و"الكافي في النحو" و"المقنع في النحو" وللثاني "الانتصار لسيبويه" و"المقصور والممدود، و"النقائض". ونضيف إلى هذا أنه من بين تلامذة النحاس الأجانب وعددهم أربعة عشر "على حسب ما أمكنني البحث" نجد ثمانية أندلسيين. ومن بين الترجمات الخمسمائة الأولى في كتاب ابن الفرضي "تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس" نجد خمسة وخمسين على الأقل قد درسوا في مصر.

"ولمزيد من التفصيلات راجع رسالتي للدكتوراه Arabic Linguistic Studies in Egypt الخاتمة".

ص: 136

للتقسيم، وما سبق أن ذكرناه من عدم وجود خط محدد يسير عليه كل من الكوفيين والبصريين، فقد رأينا أن نسجل هنا أهم ما يميز الدرس النحوي البصري عن الكوفي، مع اعترافنا بأن هذه المميزات ليست قاطعة أو صارمة، كما ستكشف في تعليقنا الآتي بعد، ويمكن تلخيص هذه المميزات أو الفروق فيما يأتي:

1-

ما سبق أن ذكرناه من تشدد البصرة في فصاحة العربي الذي تأخذ عنه اللغة والشعر وتساهل الكوفيين حتى إنهم كانوا يأخذون عن الأعراب الذين قطنوا حواضر العراق، مما جعل بعض البصريين يفخر على الكوفيين بقوله:"نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وأنت تأخذونها عن أكلة الشواريز وباعة الكواميخ"1.

2-

ما سبق أن ذكرناه من توسع الكوفيين في قبول القراءات القرآنية بالنسبة للبصريين. وذلك ليس نتيجة تقسيمهم للقراءات وحسن تقبلهم لها، وإنما بسبب ما عرفوا به من توسع في أصول اللغة وقياس على القليل واعتداد بالمثال الواحد2.

3-

أن البصريين لم يكونوا يكتفون في استخلاص القاعدة بالمثال الواحد أو الأمثلة القليلة "وإنما اشترطوا الكثرة والتداول على ألسنة العرب الفصحاء. أما الكوفيون فكانوا يعتدون بالأشعار والأقوال الشاذة، ولا يشترطون أي نوع من الكثرة في تقعيد قواعدهم، ولهذا يقول السيوطي: "لو سمع الكوفيون بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلًا وبوبوا عليه". ويقول: "عادة الكوفيين إذا سمعوا لفظًا في شعر أو نادر كلام جعلوه بابًا أو فصلًا"3.

1 راجع بحث "الشواهد النثرية" في الفصل الأول، الباب الأول من هذا الكتاب.

وشوقي ضيف: المدارس النحوية ص 160.

2 راجع بحث "القراءات القرآنية" في الباب الأول من هذا الكتاب.

3 شوقي ضيف: المدارس النحوية ص 161، 162، محاضرات الدكتور إبراهيم أنيس لطلبة الليسانس بدار العلوم، سنة 1964.

ص: 137

4-

أن التأويل والتقدير كثر عند البصريين بطريقة لافتة للنظر، وذلك تبعًا لرفضهم كثيرًا من الأمثلة العربية الصحيحة، ونتيجة لمحاولاتهم المتكررة إخضاع الأمثلة العربية الصحيحة لأقيستهم النظرية البحث.

ويمتدح الدكتور شوقي ضيف صنيع البصريين هذا بقوله: "على أنه ينبغي أن نعرف أن المدرسة البصرية حين نحَّت الشواذ عن قواعدها لم تحذفها ولم تسقطها، بل أثبتتها، أو على الأقل أثبتت جمهورها، نافذة في كثير منها إلى تأويلها، حتى تنحي عن قواعدها ما قد يتبادر إلى بعض الأذهان من أن خللًا يشوبها، وحتى لا يغمض الوجه الصحيح في النطق على أوساط المتعلمين، إذ قد يظنون الشاذ صحيحًا مستقيمًا، فينطقون به، ويتركون المطرد في لغة العرب الفصيحة. ومن هنا تتعرض الألسنة للبلبلة

وقد ينجذب إليها بعض من لم يفقه الفرق بين القاعدة الدائرة على كثرة الأفواه، بل على كثيرها الأكثر، والقاعدة التي لم يرد منها إلا شاهد واحد، مما قد يؤول إلى اضطراب شديد في الألسنة"1.

وسنذكر رأينا في هذا الأصل فيما بعد.

5-

لما كان الكوفيون أهل شعر ورواية لم يلتفتوا كثيرًا إلى قوانين المنطق والأقيسة العقلية. أما البصريون؛ فقد عوضوا تخلفهم في مجال الشعر والرواية بأن أطلقوا لعقلهم العنان وبرعوا في استخدام المنطق ولجأوا أحيانًا إلى النظر المجرد، ويمثل هذا الاتجاه البصري خير تمثيل قول أبي على الفارسي:"لأن أخطئ في خمسين مسألة من باب الرواية خير عندي من أن أخطئ في مسألة واحدة من باب القياس"2.

ولنا على هذه الفروق الملاحظات الآتية:

1-

أن المذهب الكوفي -في نظرنا- أقرب إلى الحق والواقع حين أجاز القياس على المثال الواحد المسموع، ولم يعتبر القلة والكثرة.

1 المدارس النحوية ص 162.

2 المرجع ص 264.

ص: 138

وذلك لأن القبائل العربية تتساوى في صحة القول وسلامة اللغة، وليس أمام العقل مسوغ في تفضيل لهجة على لهجة. ومن القواعد المقررة في فقه اللغة أنه لا يحتج بلغة قبيلة على أختها، ولا يحكم النظير بالتخلف على نظيره. ومن يدرينا أن الظاهرة اللغوية التي روى لها الكوفيين شاهدًا واحدًا ليس لها شواهد أخرى؟ أليس من الممكن جدًّا أن يكون وراء هذا الشاهد الواحد عشرات الشواهد التي لم يهتم العلماء بتسجيلها، أو التي فقدت ولم تصلنا؟ يدل على هذا ما ينسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قوله:"إن الشعر كان علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت العرب عنه بالجهاد وغزو الفرس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر، فلم يئولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم كثيره". ويروى عن أبي عمرو بن العلاء قوله: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله. ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير"1. ويقول القاضي الجرجاني في الوساطة: "أما الألفاظ التي زعموا أن الشعراء تفردوا بها فإنها موجودة عن أئمة اللغة وعمن ينتهى السند إليهم

وإنما نتكلم بما تكلموا به. وواحدهم كالجمع، والنفر كالقبيلة، والقبيلة كالأمة. فإذا سمعنا عن العربي الفصيح الذي يعتد حجة كلمة اتبعناه فيها وإن لم تبلغنا من غيره"2.

فإذا سمع الكوفيون أمثلة معدودة نسب العرب فيها إلى الجمع فقبلوا هذه النسبة، واتخذوها أساسًا، وقاسوا عليها لم يكونوا حائدين عن الجادة كما يحاول بعضهم أن يصورهم، بل يكونوا على حق.

خصوصًا وأن الكثرة العددية للكلمات المفردة المنسوب إليها لا تعارض.

1 اللغة والنحو لعباس حسن، ص 36، 37.

2 المرجع السابق.

ص: 139

القلة العددية للكلمات المجموعة المنسوب إليها، لأنه من الممكن أن توجد القاعدتان جنبًا إلى جنب وتتعايشا معًا دون تناقض، فيقال: إن أريد النسب إلى المفرد رد الجمع إلى مفرده ونسب إليه، وإن أريد النسب إلى الجمع نسب إليه على لفظه. وليس هذا مثلًا من قبيل رفع المفعول أو نصب الفاعل. ولهذا نجد الكوفيين برغم سماعهم لمثل:"خرقَ الثوبُ المسمارَ" لم يجوزوا رفع المفعول أو نصب الفاعل. مما يدل على أن اعتدادهم بالمثال الواحد أو الأمثلة القليلة إنما يرد في مثل النسب إلى الجمع مما يوسع مجال اللغة ولا يخلق فيها الفوضى والاضطراب.

2-

أن البصريين لم يوضحوا مرادهم بالكثرة، أهي الكثرة العددية بين أفراد القبيلة الواحدة؟ أم القبائل جمعاء؟ أهي الكثرة النسبية القائمة على الاستقراء التام والعد واستخراج النسبة؟ فإذا كان الأول فما حدها؟ وهل يمكن إجراء النسبة في كل ظاهرة لغوية؟ وهل يدعي البصريون أنهم قاموا باستخراج النسبة في أي قاعدة نحوية استخلصوها؟ 1 ولا أدل على غموض هذا المصطلح عند البصريين من تخبط بعضهم في شرحه، ومن اختلافهم في كثير من الأحكام -بعضهم مع بعضهم- من حيث القياسة أو السماعية. وما نظن أن تفسير ابن هشام -فيما نقله السيوطي عنه- يمثل اتفاقًا بين النحاة، وإنما هو مجرد اجتهاد منه لتفسير مصطلحات غامضة يكثر ترددها بين النحاة، وتفسيره مع ذلك لا يمكن تطبيقه، كما لا يمكن أن يدعي أن النحاة أو أيًا منهم على الإطلاق قد قاموا بتطبيقه يقول ابن هشام: "اعلم أنهم يستعملون غالبًا وكثيرًا ونادرًا وقليلًا ومطردًا. فالمطرد لا يتخلف.

1 لا أدل على عدم وضوح فكرة القلة والكثرة في أذهان النحاة أن بعضهم حاول تحديدها فقال: "والفرق بين الغالب والكثير أن ما ليس بكثير نادر وكل ما ليس بغالب ليس نادرًا بل قد يكون كثيرًا".

ص: 140

والغالب أكثر الأشياء ولكنه يتخلف، والكثير دونه، والقليل دونه، والنادر أقل من القليل. فالعشرون بالنسبة إلى ثلاثة وعشرين غالب، والخمسة عشر بالنسبة إليها كثير لا غالب والثلاثة قليل والواحد نادر"1.

والتحكم واضح في تحديدات ابن هشام فضلًا عن عدم مطابقتها لآراء النحاة. وهناك من ساوى بين مصطلحات الأصل والمطرد والكثير والأكثر والغالب، وساوى بين الشاذ والقليل والأقل والنادر2 والأمر بعد هذا يحتاج إلى تحديد دقيق من هيئة علمية لها مكانتها في ميدان البحث اللغوي كمجمع اللغة العربية في القاهرة أو دمشق. وهو تحديد سينسحب على ما يجد من بحوث استقرائية لمادة اللغة أو دمشق.

وهو تحديد سينسحب على ما يجد من بحوث استقرائية لمادة اللغة المسجلة، على أيدي لغويين محدثين، ولا يمكن الزعم بأنه سيشمل إلى جانبهم علماء اللغة القدامى.

3-

إن البصريين قد خالفوا أصلهم في القياس على الكثير وترك القليل، وذلك في مسائل متعددة من مسائل النحو. فنراهم تارة يمتنعون عن القياس على الكثير وتارة يقيسون على المثال الواحد. فمن النوع الأول اعترافهم بأن وقوع المصدر حالًا وصفة كثير ومع ذلك فهم يقصرونه على السماع. ومن ذلك اعترافهم بأن "فعيل" بمعنى مفعول كثير في لسان العرب وقولهم: إنه مع كثرته لم يقس عليه بإجماع3. ومن ذلك منعهم قياسية جمع ما بدئ بميم زائدة من أسماء الفاعلين- جمعه جمع تكسير مع أنني استطعت أن أجمع -بجولة سريعة في كتب اللغة- ما يزيد على ثمانين كلمة جمعت هذا الجمع. فهل الثمانون لا تكفي للقياس4؟ ومن نفس النوع منعهم جمع "فعل" على أفعال وادعاؤهم أن جمع حمل على أحمال في القرآن شاذ، مع أنه قد ورد عن العرب جمع

1 في أصول اللغة ص 129.

2 في اللغة والنحو لعباس حسن، ص 39.

3 المرجع نفسه ص 44.

4 راجع كتابي: من قضايا اللغة والنحو ص 181 وما بعدها.

ص: 141

فعل على أفعال أكثر من جمعه على أفعل، فعدد ما ورد على أفعل 142 وعلى أفعال 340 لفظة طبقًا لإحصاء أورده بعض الباحثين1. ومن النوع الثاني ونسبتهم إلى فعولة على فعلى مع أن ذلك لم يرد عن العرب إلا في مثال واحد هو شنوءة وشنيء، وأيضًا قول الشاعر:

أبا خراشة أما أنت ذا نفر

فإن قومي لم تأكلهم الضبع

لم يسمع عن العرب غيره حذفت فيه "كان" وعوض عنها "ما"، ومع ذلك جعله البصريون قاعدة يقاس عليها.

4-

أنه كان من جراء إفراط البصريين في استخدام الأقيسة العقلية وتشددهم في قبول الشاهد النحوي، أن وجدوا أنفسهم أمام شواهد فصيحة تخالف قياسهم المنطقي أو قاعدتهم التي استنبطوها. وهنا وجدوا أنفسهم مضطرين إما إلى تأويلها وإخراجها عن ظاهرها لتنسجم مع قواعدهم، وإما إلى رميها بالشذوذ أو الخطأ.

وقد أدت تأويلات النحاة إلى إفساد النحو العربي وملئه بمسائل ومشاكل لا نحتاج إليها في تصحيح نطقنا أو تقويم لساننا.

وإن أردت الدليل على ذلك فانظر إلى ما قاله كل من البصريين والكوفيين في نواصب المضارع. ذهب معظم الكوفيين إلى أن النواصب عشرة، وهي تنصبالمضارع بنفسها وذلك مذهب لا التواء فيه ولا تعقيد، ولا يحمل هذه النواصب ما لا تحتمله من المعاني، ولا يوقعنا في تكلفات تشوه النحو وتنفر الدارسين منه، أما البصريين فقد قسموا النواصب إلى قسمين: قسم ينصب بنفسه وهو أن وإن وإذن وكي "الأخيرة في بعض حالاتها" وقسم ينصب بأن مضمرة بعده وهو النواصب الستة الباقية. ثم تحدثوا بعد هذا عن "أن" المضمرة جوازًا و"أن" المضمرة وجوبًا. واضطرهم تقدير "أن" إلى أن يبحثوا للأدوات الستة عن أعمال أخرى غير النصب، لأن ما بعدها لا بد أن يؤول بمصدر لوجود أن المضمرة، وهذا

1 شذا العرف ص 69، محاضر جلسات المجمع 4/ 51، 52.

ص: 142

المصدر لا بد من إعراب يعرب به. وقد وقعوا بذلك في تكلفات لم يقع فيها نحاة الكوفة واخترعوا لنا ما سموه بالمصدر المتصيد. وقد حمل البصريين على سلوك هذا المسلك الوعر قاعدتهم المنطقية التي تقول: "إن الحروف لا تعمل إلا إذا كانت مختصة".

فما دامت هذه الحروف تدخل على الأسماء والأفعال فلا يصح أن تعمل، وإذا كانت هذه الحروف لا تعمل في الفعل فلا بد من التفتيش عن العامل، وقد وجدوه في "أن" المستترة. ولكن هل اللغة منطقية إلى هذا الحد؟ وانظر أيضًا إلى ما قاله البصريون من عدم جواز أن يلي كان معمول خبرها، وحين ووجهوا بقول الشاعر:

بما كان إياهم عطية عودا

قالوا: إن في كان ضمير شأن هو اسمها، وعطية مبتدأ وعود خبره وإياهم مفعول به لعود، والجملة من المبتدأ والخبر خبر كان. فلم كل هذا العناء؟ ولماذا نضع القاعدة مسبقًا ثم نلوي الشواهد النحوية لتخضع لهم؟ وما أثر كل هذا في تصحيح نطقنا أو تقويم لساننا؟ وأحيانًا كان البصريون يرجون أنفسهم فيرمون الشاهد بالندرة أو الشذوذ أو الخطأ، وليست تخطئات ابن أبي إسحاق للفرزدق علينا ببعيدة.

وهذا أيضًا غريب، ويعجبني في هذا ما يقوله العكبري:"كيف نجعل ما وضعه البصريون للتقريب والتعليم مما لا أصل له ولا ثبات حجة على لسان العرب الفصحاء؟ "1 وقد كان أكرم للبصريين أن يحذوا حذو شيخهم أبي عمرو ابن العلاء. فقد سئل ذات يوم: "أخبرني عما وضعت مما سميته عربية، أيدخل فيها كلام العرب كله؟ فقال: لا. فقيل له: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهو حجة؟ فقال: أعمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات"2.

1 عباس حسن: اللغة والنحو، ص 92.

2 شوقي ضيف "المدارس النحوية، ص 27، 28.

ص: 143

5-

على الرغم مما في مذهب الكوفيين من بساطة ويسر، وبعد عن التكلف والتأويل والتقدير -في الغالب- فأخطر ما يعيبه أنه ربما يوقع في الفوضى والاضطراب في ظواهر اللغة. لأن شرط كل لغة أن تكون لها ظواهر مطردة منسجمة موحدة. فلو أننا جوزنا في الظاهرة الواحدة أكثر من وجه، ولو أننا سمحنا باستخدام التعبير لمجرد وجود مثال واحد ربما كان من بقايا لهجات قديمة أو لثغة أو ضرورة أو نحوها لما أصبح للغة قيود وقواعد، ولصح قول بعضهم:"لا تخرج من الكلام فمهما أخطأت فستجد لك وجهًا في العربية تصح به عبارتك".

وتخيل معي شخصًا يرفع المفعول به، أو ينصب الفاعل، أو يلزم المثنى الألف في الرفع والنصب والجر، أو يلزم جمع المذكر السالم الياء أو الواو، أو يرفع الجزأين بعد كان، أو ينصب الجزأين بعد أن، أو يصرف الممنوع من الصرف، أو يمنع المصروف من الصرف، أو ينعت المرفوع بمنصوب أو المنصوب بمرفوع.. أو.. أو

فأي شيء يبقى لقواعد اللغة؟ وأي شيء نستفيده -سوى الفوضى والاضطراب- لو تمسكنا بالشواهد القليلة التي جاءت مؤيدة لذلك؟ وعلى هذا فمن الخير أن نتبع طريق البصريين في وضع القواعد دفعًا للفوضى والاضطراب، ولكن بدون لجوء إلى تأويل وتقدير، وبدون تحكيم للمنطق والقياس النظري، ومع الاقتصار على اللغة النموذجية الأدبية المشتركة. أما في متن الكلمات، وفي الجموع، والمصادر، والمشتقات وأمثالها مما يتعلق بصوغ الألفاظ وبناء هياكلها ومادتها الأصلية وتقيمها وتأخيرها وذكرها وحذفها فنتبع طريق الكوفيين، ونرجع إلى القياس بمعناه العام الذي يبيح لنا محاكاة الكلام العربي الفصيح مهما كان قائله1. وبذلك نوسع أصول اللغة وننمى مواردها، ونفتح طرقًا يزداد بها بيان اللغة سعة على سعته. ومن أمثلة ذلك:

1 عباس حسن: اللغة والنحو، ص 111، 112.

ص: 144

أ- حين تذكر كتب اللغة بعض مشتقات المادة اللغوية ونترك بعضها فالتوسع في القياس يكمل هذا النقص1.

ب- أننا إذا وجدنا العرب يشتقون وزنًا معينًا ويستعملونه للدلالة على شيء خاص أمكننا أن نقيس عليه ما لم يذكر. فإذا وجدناهم يصوغون فَعّال للدلالة على محترف الحرفة كتجار وحداد أمكننا أن نقيس عليها أصحاب المهن الأخرى فنقول: بواب وفنان

وإذا وجدناهم يستخدمون فعيل "بكسر الفاء وتشديد العين" للدلالة على ملازمة الشيء والمبالغة فيه مثل شريب وزميت وسكيت وصميت وخمير وسكير

أمكننا أن نقيس عليها ما شئنا من ألفاظ. ومثل هذا يقال في صيغة فعال للمبالغة "بضم الفاء وتشديد العين" فقد ورد منها: عجاب وكبار وظراف وجمال وكرام وحسان وطياب.

ويمكننا كذلك أن نقيس صيغة فعلة "بضم الفاء وسكون العين" للمبالغة في المفعول - وهي صيغة فريدة لا نظير لها في اللغة العربية لأن سائر صيغ المبالغة للمبالغة في الفاعل - فقد ورد من ذلك كلمات مثل: لعة وسخرة وهزأة وسبة ونهبة

وغيرها2.

"جـ" تصحيح كثير من العبارات والألفاظ التي تشيع على ألسنة المتكلمين وأقلام الكتاب في العصر الحديث، والتي يمكن أن نلتمس لها وجهًا في العربية تصح به.

هذا باب واسع بدأ مجمع اللغة العربية في مصر في فتحه على مصراعيه كما يتبين لمن يراجع محاضر جلسات المجمع ومجلته ومنشوراته اللغوية مثل "في أصول اللغة" و "مجمع اللغة العربية في خمسين عامًا". ومن أمثلته تصحيح كلمات صحفي، ودولي، ونضوج وإدخال" "أل" على "كل" و "بعض".

1 انظر رسالتنا للماجستير: الفارابي اللغوي تحت عنوان "كلمات ناقصة الاشتقاق" ص 211 وما بعدها.

2 انظر بحثًا لنا بعنوان: صيغ أخرى للمبالغة في كتابنا "من قضايا اللغة والنحو" ص 193 وما بعدها.

ص: 145

دعوات التجديد والإصلاح للنحو العربي:

شاب النحو العربي منذ نشأته شوائب، وارتفعت شكوى المتعلمين من صعوبته وتعقده. ويرجع ذلك لأسباب متعددة منها:

1-

أن النحويين القدماء حين قعدوا قواعدهم أقحموا اللهجات العربية بصفتها وخصائصها المتباينة، ونظروا إليها على أنها صور مختلفة من اللغة المشتركة، مما خلق مشاكل معقدة أيسرها اختلاف الأقوال في المسألة الواحدة، ومحاولة التوفيق بين المذاهب والشواهد المتناقضة، والإكثار من الأمور الجائزة، وكثرة التقسيمات والتشعيبات، والإسراف في وضع الشروط1.

وقد كان الواجب عليهم إسقاط كل هذه الأمثلة اللهجية، وترك غيرها مما يمثل مراحل التطور اللغوي، كما كان الواجب عليهم أن يفرقوا بين القواعد النحوية التي غايتها احتذاء الصواب وصيانة اللسان عن الخطأ، وبين دراسة ما نطق به العرب وما جرى على ألسنة قبائلهم وما نقله الرواه من شعر أو نثر تضمن خصائص لهجية معينة2. أما الأولى فتبنى على اللغة النموذجية الأدبية الممثلة في القرآن الكريم "دون قراءاته" والحديث النبوي الشريف، والآثار الأدبية الرفيعة من أشعار.

1 يكفي أن أحيل القارئ إلى شروط أفعل التفضيل، التي حينما أعاد مجمع اللغة العربية في مصر بحثها رأى إسقاط معظمها، فأسقط شرط تجرد الفعل الثلاثي أخذًا برأي سيبويه والأخفش، وأسقط شرط البناء للمعلوم عند أمن اللبس، وتخفف من شرط كون الفعل تامًّا أخذًا بقول الكوفيين وتخفف من شرط ألا يكون الوصف منه على أفعل فعلاء أخذًا برأي الكوفيين وهشام والأخفش وتخفف من شرط عدم الاستغناء عنه بمصوع من مرادفه، لأن من النحاة من تركه، وأن من ذكره لم يورد إلا مثالًا واحدًا.

"انظر ص 121 من كتاب أصول اللغة- وفي الصفحات التالية لها أبحاث شائقة اشترك فيها كثير من أعضاء المجمع حول هذه الشروط".

2 عبد الحميد حسن: القواعد النحوية، ص 207، 208، 217، من أسرار اللغة، ص 28 - 30، المدخل إلى دراسة النحو، ص 49 - 52.

ص: 146

وخطب وأمثال وحكم ورسائل ووصايا ونحو ذلك. وأما الثانية فتضم إلى هذا ما نقل عن العرب أو الأعراب من كلام عادي، وما ينسب إلى كل قبيلة أو منطقة من خصائص تعبيرية معينة، وما سجل من قراءات قرآنية.

2-

نظرية العامل التي بالغ النحاة فيها، وفلسفوها، حتى ألفوا كتبًا تجمع قواعد النحو بعنوان العوامل. فألف أبو علي الفارسي كتاب العوامل ومختصره، وألف عبد القاهر الجرجاني العوامل المائة، ودونوا للعوامل شروطًا وأحكامًا هي عندهم فلسفة النحو وسر العربية فقالوا:

لا يجتمع عاملان على معمول واحد "ذاكر ونجح محمد".

الحرف لا يعمل في نوع من الكلمات حتى يكون مختصًّا به "النصب بأن مضمرة بعد فاء السببية".

لا يعمل في الاسم وضميره معًا "محمدًا ضربته".

إلى آخر ما هو مذكور في كتبهم.

ولما تكونت للنحاة هذه الفلسفة حكموها في اللغة وجعلوها ميزان ما بينهم من جدل، بل تجاوزوا ذلك إلى تفضيل لهجات من العرب على أخرى بأصول فلسفتهم هذه، بل تجاوزوا ذلك إلى رفض بعض الأساليب العربية المنقولة.

وقد كان النحاة -في سبيلهم هذه- متأثرين بروح الفلسفة التي كانت شائعة بين المتأخرين منهم، فهم يعللون منعهم اجتماع عاملين على معمول واحد بقولهم:"إذا اتفق العاملان في العمل لزم تحصيل الحاصل وهو محال، وإن اختلفا لزم أن يكون الاسم مرفوعًا منصوبًا مثلًا، ولا يجتمع الضدان في محل"1.

1 إحياء النحو، ص 31، 32.

ص: 147

3-

الإفراط في التأويل والتقدير، وحمل الأساليب العربية على غير ظاهرها. وقد سبق أن ضربنا مثالًا لذلك تقدير "أن" مضمرة بعد الفاء ونصب الفعل "بأن" هذه ثم اعتبار الفاء حرف عطف، عطفت المصدر المؤول من أن المقدرة ومدخولها على المصدر المتصيد من اللام السابق! وتقدير نحو:"ذاكر فتنجح"، لتكن منك مذاكرة فنجاح!! ولا أدري ماذا منع العربي أن يقول هذا إن كان هو مراده؟.

وقد بدأت مثل هذه التأويلات من اللحظة الأولى لوضع النحو، فالتأويل السابق هو من عمل الخليل -سامحه الله- وقد نتج بذلك بابًا أمام النحاة يصعب قفله الآن. ومن تأويلاتهم العجيبة ما يقوله المبرد في إعراب قوله تعالى:{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} . يقول المبرد إن فاعل "بدا" مصدر مقدر، وتأويل الآية: ثم بدا لهم بدو. ولكن حذف بدو من الكلام لأن "بدا" تدل عليه. ولا معنى لكل هذا الكلام لأن "ليسجننه" جملة في موضع الفاعل - على حد تعبير ابن ولاد. ويستمر ابن ولاد قائلًا: "وأما قوله: إنه يضمر فيه البدو، فإنما نضمر إذا كان الكلام محتاجًا إلى الإضمار ناقصًا عن التمام.

فأما إذا كان الكلام تامًّا مفيدًا، فلا حاجة بنا إلى الإضمار"1.

4-

استخدام العلل الثواني والثوالث في النحو، ذلك مثل سؤالهم عن زيد من قولنا: قام زيد: لم رفع، وإجابتهم: لأنه فاعل وكل فاعل مرفوع، ثم سؤالهم: ولم رفع الفاعل؟ وإجابتهم للفرق بين الفاعل والمفعول، ثم سؤالهم: ولِم لم تعكس القضية فينصب الفاعل ويرفع المفعول، وإجابتهم بأن السبب أن الفاعل قليل، لأنه لا يكون للفعل إلا فاعل واحد، فأعطى الأثقل الذي هو الرفع للفاعل، وأعطى الأخف الذي هو النصب للمفعول ليقل في كلامهم ما يستثقلون2!! ولا أدري بماذا يجيبون لو سألتهم: ولكن لكل فعل فاعل، وليس لكل فعل

1 الانتصار لسيبويه من المبرد، ص 212- 213.

2 الرد على النحاة لابن مضاء.

ص: 148

مفعول، فمن الأفعال ما هو لازم، ومنها ما يحذف مفعوله فعدد الفاعلين قد يكون أكثر من عدد المفعولين. وتعليلات الخليل وسيبويه كثيرة كثرة لافتة للنظر، فهما -في نظرنا- المسئولان الأولان عن فتح هذا الباب، وسنّ هذه السنة.

وخذ مثالًا آخر من تعليلاتهم التي حكموها حتى في القراءات القرآنية، يقول سيبويه: إنه لا يجوز العطف على المضمر المجرور إلا بإعادة الخافض فلا يجوز مررت به ومحمد، بل لا بد من أن يقال: مررت به وبمحمد "برغم قراءة حمزة وهو من السبعة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . وعلل ذلك بأن الضمير شبيه بالتنوين. لذلك لا يجوز العطف عليه حتى لو أكد.

فلا يجوز مررت به هو ومحمد1!! ويحكم سيبويه بأن الفعل ثقيل والاسم خفيف ويعلل ذلك بقوله: "ألا ترى أن الفعل لا بد له من الاسم وإلا لم يكن كلامها، والاسم قد يستغني عن الفعل تقول: الله إلهنا، وعبد الله أخونا"2. وقد بلغ من شدة اهتمام النحاة بهذا النوع من البحوث أن ألف فيه بعضهم كتبًا مستقلة، مثل قطرب "توفي 206" الذي ألف "العلل في النحو" والمازني "توفي 230 أو 248" الذي ألف "علل النحو"3.

5-

استخدام النحويين أنواعًا من الأقيسة النظرية التي لا تعتمد على شاهد من كلام العرب، كمنعهم تقدم الفاعل على فعله وإعرابهم الجملة:"محمد قام" على أنها مكونة من مبتدأ ثم جملة فعلية مكونة من الفعل وفاعله المستتر، وأخيرًا يعربون الجملة الفعلية خبرًا لهذا المبتدأ.

ولم يكتفوا بذلك، بل فلسفوا القياس، وبحثوا عن أركانه ثم حاولوا أن يحددوا شرائط القياس النحوي4. وظهر سلطان العلوم الدينية على التفكير النحوي حتى اعترف النحاة بأنهم احتذوا في أصولهم أصول

1 شوقي ضيف: المدارس النحوية، ص 51.

2 الدكتور مازن المبارك: النحو العربي، ص62، 69.

3 المرجع السابق.

4 راجع: في أصول النحو للأفغاني، ص 108 وما بعدها.

ص: 149

الفقه عند الحنفية خاصة. ونجد كمال الدين بن الأنباري من أهل المائة السادسة يضع كتابه "لمع الأدلة" ليكون للنحو بمثابة "علم الأصول" للفقه، عقد فيه فصولًا عدة للقياس وأنواعه كما كان فعل علماء الفقه وأصوله1.

وأخذ النحاة يتنافسون في هذه الأقيسة النظرية والافتراضات غير الواقعية، وممن تمادوا فيها الرماني المولود سنة 2276 هـ، وفيه يقول الفارسي:"إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان النحو ما نقوله نحن فليس معه منه شيء"2.

وبلغ من اعتداد النحويين بالقياس أن قال ابن الأنباري: "إن إنكار القياس في النحو لا يتحقق، لأن النحو كله قياس

فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو"3. ونحن لا نستطيع -ولا غيرنا- أن نطالب بإغلاق القياس أو الحد منه وإنما نطالب بإلغاء ما ليس قياسًا حقيقة. لقد قسم اللغويون القياس إلى:

أ- حمل كلمة على نظائرها في حكم ثبت لها باستقراء كلام العرب.

ب- إعطاء كلمة حكمًا ثبت لغيرها من الكلم المخالف لها في نوعها، ولكن توجد بينهما مشابهة من بعض الوجوه كترخيم المركب المزجي قياسًا على الأسماء المنتهية بتاء التأنيث.

جـ- القياس النظرى الذي لا يعتمد على شاهد من كلام العرب كقول بعضهم: "ولا أمنع أن يجيء الفعل على فَعْلَنَ وإن كان المتقدمون لم يذكروه. لأن الاسم إذا جاء على ذلك وجب أن يجيء عليه الفعل إذ كان الاسم أصلًا والفعل متفرع عنه. وقد قالوا: ناقة رعشن.. وامرأة خلبن".

د- أطلقوه كذلك على نوع من التعليل المنطقي كقولهم: إن الفعل

1 المرجع نفسه، ص 100، 101.

2 نشأة النحو، ص 173.

3 الاقتراح، ص 46.

ص: 150

المضارع أعرب لشبهه بالاسم أو قياسًا على الاسم، وما ادعوه في باب الممنوع من الصرف من أن الاسم يمنع من الصرف حملًا على الفعل أو قياسًا على الفعل1.

وليس منها ما يعد قياسًا لغويًّا على وجه الحقيقة سوى النوع الأول الذي نتمسك به ونبقيه لأن النحو -كما يقول ابن الأنباري- قياس، ومن أنكر القياس فقد أنكر النحو. أما الأنواع الأخرى فلا يضر إلغاؤها.

6-

تناولهم أمورًا لا علاقة لها بالنحو، ولا فائدة تؤدي إليها، لأنها لا تفيد نطقًا ولا تعصم لسانًا ولا تمنع خطأ. وذلك مثل اختلافهم في الناصب بعد الفاء والواو أهو هذه الأدوات نفسها؟ أم "أن" مضمرة؟ أم أن الفعل منصوب على الخلاف؟ ومثل خلافهم في رافع المبتدأ والخبر، فقيل: إن المبتدأ يرتفع بالابتداء والخبر بالابتداء كذلك أو الابتداء والمبتدأ معًا، وقيل: إن المبتدأ والخبر يترافعان فيرفع المبتدأ الخبر والخبر والمبتدأ. وكذلك فخلافهم في رافع المضارع فقيل: هو التجرد من الناصب والجازم، وقيل: وقوعه موقع الاسم، وقيل: المضارعة، وقيل: حروف المضارعة2.

ومن ذلك أيضًا تناولهم لمسائل غير عملية بل عقدهم أبوابًا كاملة غير عملية مثل أبواب الاشتغال والتنازع

وتفريعهم للمسائل وتشقيقها. ولنأخذ باب الاشتغال على سبيل المثال. فقد اضطرب النحاة في صور تعبيره اضطرابًا شديدًا، وقسموا صوره إلى ما يجب رفعه، وما يجب نصبه وما يترجح فيه الرفع أو النصب، وما يجوز فيه الأمران، وتبحث في كلام العرب عن أمثلة أو شواهد لكل هذا الذي قالوه، فلا تجد لمعظمه وجهًا، بل لا تجد له ذكرًا.

1 انظر: الخضر حسين: القياس في اللغة، ص 25، 27، وشرح الحماسة لأبي العلاء المعري، ص 263.

2 راجع: الإنصاف 1/ 31، الكافية 1/ 19، 2/ 224، الأشموني 2/ 299 - 300، 281 - 282.

ص: 151

ومن ذلك المسائل الافتراضية التي عالجها النحاة، والتمارين غير العملية التي فتح الخليل وسيبويه بابها على مصاريعه -على حد تعبير الدكتور شوقي ضيف- ومن ذلك ما ذكره سيبويه من أنه سأل الخليل عن رجل سمي "أولو" من قوله عز وجل:{نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّة} أو سمي "ذوو" من قولهم: ذوو عزة، وكيف يجري إعرابهما بحسب مواقع الكلام، وكذلك سؤال سيبويه أستاذه عن رجل يسمى "يرمي" أو "أرمي"1. ومن ذلك قول سيبويه:"وإن سميت رجلًا ضربوا فيمن قال: أكلوني البراغيث. قلت: هذا ضربون قد أقبل".

ومن خير ما يصور ذلك عنده "باب ما قيس من المعتل من بنات الياء والواو ولم يجئ في الكلام إلا نظيره من غير المعتل"، ويأخذ في عرض ذلك عرضًا يطول حتى يشغل أكثر من أربع صفحات طويلة. وكلها في صيغ من بنات أفكاره يحاول أن يقيسها على صيغ معروفة2.

ومن أمثلة ذلك في كلام المبرد قوله: "فإذا قال لك: ابن من ضرب مثل جعفر فقد قال لك: رد على هذه الحروف الثلاثة حرفًا. فحق هذا أن تكرر لامه فتقول: ضربب، ولو قال لك: ابن لي من ضرب على مثال صمحمح لقلت: ضربرب3. ومثل هذا نجده في قوله: "ولو قلت: افعوعل من القول لقلت لقوول ومن البيع ابييع وكان أصلها أبيويع"4.

وقد ضاق طلاب النحو من قديم بطريقة النحاة هذه، وظهرت دعوات متعددة على طول تاريخ النحو العربي، منها ما يدعو إلى تهذيب النحو، وإصلاحه، ومنها ما يدعو إلى تركه والتخلي عنه بالكلية، ومنها ما كان يعبر عن سخط وضجر. كما ظهرت محاولات عملية لتأليف النحو تأليفًا تعليميًّا سهلًا يطرح الخلافات ويتخلص من الأبواب غير العملية والمسائل التدريبية. وانتهز الشعوبية فرصة الضجر من النحو والنحاة.

1 المدارس النحوية، ص 55 - 56.

2 نفس المرجع، ص 91، 92.

3 المقتضب "مخطوط"، ص 37.

4 المرجع نفسه ص 119، وانظر ص 120، 128.

ص: 152

فأخذوا يصيدون في الماء العكر، وينقصون من قدر هذه الدراسة ويتلمسون الأدلة والأسباب لنقولاتهم. ويحكي لنا أبو جعفر النحاس "من نحاة القرن الرابع بمصر" طرفًا من هذه القضية في كتاب له بعنوان "صناعة الكتاب" لم يصلنا، ولكن اقتبسه القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى". ونص عبارته:"قال أبو جعفر النحاس: وقد صار أكثر الناس يطعن على متعلمي العربية جهلًا وتعديًا حتى إنهم يحتجون بما يزعمون أن القاسم بن مخيمرة قال: "النحو أوله شغل وآخره بغي".

قال: وهذا كلام لا معنى له لأن أول الفقه شغل وأول الحسساب شغل، وكذلك أوائل العلوم. أفترى الناس تاركين العلوم من أجل أن أولها شغل؟ قال: وأما قوله: "وآخره بغي" إن كان يريد به أن صاحب النحو إذا حذقه صار فيه زهو واستحقر من يلحن فهذا موجود في غيره من العلوم، من الفقه وغيره في بعض الناس وإن كان مكروهًا.

وإن كان يريد بالبغي التجاوز فيما لا يحل، فهذا كلام محال، فإن النحو إنما هو العلم باللغة التي نزل بها القرآن، وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم وكلام أهل الجنة وكلام أهل السماء. ثم قال بعد كلام طويل: وقد كان الكتاب فيما مضى أرغب الناس في علم النحو، وأكثرهم تعظيمًا للعلماء حتى دخل فيهم من لا يستحق هذا الاسم فصعب عليه باب العدد فعابوا من أعرب الحساب وبعدت عليهم معرفة الهمزة التي ينضم ويفتح ما قبلها"1.

وقد ظهر ضيق الناس بالنحو حتى قبل استفحال أمر الشعوبية، وحتى من طلاب النحو المتفرغين. فالجاحظ يقول في حيوانه:"قلت لأبي الحسن الأخفش: أنت أعلم الناس بالنحو، فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟ وما بالنا نفهم بعضها، ولا نفهم أكثرها؟ وما بالك تقدم بعض العويص، وتؤخر بعض المفهوم؟ قال: أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين. ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلّت حاجاتهم إلي فيه. وإنما قد كسبت في هذا التدبير، إذ كنت إلى التكسب ذهبت"2. ويروي عن دماذ صاحب أبي عبيدة

1 صبح الأعشى 1/ 171.

2 الحيوان 1/ 91، 92.

ص: 153

أنه قرأ من النحو إلى بابي الفاء والواو، فلما استمع إلى قول الخليل وأصحابه أن ما بعدهما ينتصب بأن مضمرة وجوبًا نبا فهمه عن ذلك وكتب إلى المازني يشكو إليه ما لقيه من عنت في أبيات ختمها بقوله:

لقد كدت يا بكر من طول ما

أفكر في بابه أن أجن1

وأخذ رد الفعل الإيجابي لهذا الضجر شكلين منتجين:

أحدهما: الكتب الميسرة التي تلبي حاجة الطلاب والمتعلمين.

ونكتفي بضرب المثلين الآتيين:

أ- "مقدمة في النحو" تأليف خلف الأحمر البصري المتوفي سنة 180 هـ. وقد استهل المؤلف كتابه قائلًا: "لما رأيت النحويين وأصحاب العربية أجمعين قد استعملوا التطويل وكثيرة العلل، وأغفلوا ما يحتاج إليه المتعلم المتبلغ في النحو من المختصر

والمأخذ الذي يخف على المبتدئ حفظه ويحيط به فهمه، فأمعنت النطر والفكر في كتاب أؤلفه، وأجمع فيه الأصول والأدوات والعوامل على أصول المبتدئين ليستغنى به المتعلم عن التطويل، فعملت هذه الأوراق، ولم أدع فيها أصلًا. ولاأداة، ولا حجة، ولا دلالة إلا أمليتها فيها. فمن قرأها وحفظها وناظر عليها علم أصول النحو كله".

ومن عناوين هذا الكتاب وأبحاثه:

- باب الحروف التي ترفع كل اسم بعدها.

وهي: إنما وكأنما وهل وبل وهو وأين

- باب الحروف التي تنصب كل شيء أتى بعدها.

وهي رأيت وظننت وحسبت ووجدت

1 السيرافي: أخبار النحويين البصريين، ص 77، 78.

ص: 154

- باب الحروف التي تخفض ما بعدها من اسم وأخبارها مرفوعة، ويقال لها: حروف الصفات وهي:

من وإلى وعن وعلى وتحت ودون ووراء

وكل وبعض وغير

وأطيب وأكتب وأفرس وأشجع

1.

ب- "التفاحة في النحو" لأبي جعفر النحاس المتوفي سنة 338 هـ2 والكتاب يتناول موضوعات النحو وحدها "ولا يتناول أي موضوعات صرفية"، ويحتوي على واحد وثلاثين فصلًا منها: باب أقسام العربية - باب الإعراب - باب رفع الاثنين- باب أقسام الفعل- باب الفاعل والمفعول به - باب الابتداء - باب حروف الخفض- باب الحروف التي تنصب الأسماء وترفع الأخبار - باب الحروف التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار- باب الحروف التي تنصب الأفعال المستقبلة.

والكتاب صغير الحجم جدًّا إذ يقع في ثماني ورقات من مخطوطة المكتبة المتوكلية بصنعاء، ولكنه مفيد جدًّا لأنه يحوي جميع مبادئ النحو وقواعده الرئيسية.

وقد ساعده على الاختصار طرحه الخلافات النحوية، واعتماده على اللغة الأدبية المشتركة وترك الخلافات اللهجية، وحذفه الشواهد وأسماء النحاة، واستبعاده المناقشات المنطقية والفلسفية.

وقد خلا الكتاب -إلى جانب ذلك- من الأبواب غير العملية مثل باب الاشتغال، وباب التنازع، بل تجاهل صيغة "أفعل به" في التعجب وذلك لعدم اشتهارها.

وقد اتبع المؤلف المنهج الوصفي في تقعيد القواعد، ومن أجل ذلك عد في باب حروف الخفض كثيرا من الكلمات التي يعتبرها النحو التقليدي

1 مقدمة في النحو - أماكن متفرقة.

2 ينسب الكتاب خطأ إلى الخليل بن الخليل بن أحمد، انظر فهرست المخطوطات لفؤاد سيد 1/ 71.

ص: 155

ظروفها، مثل أسفل وخلف وقدام ووراء وفوق وتحت ووسط وبين. والسر في ذلك أنه نظر إلى وظيفة الكلمات في الجملة فوجدها لا تختلف في "على" عنها في "فوق" مثلًا. فلماذا لا يجعلها كلها في فصل واحد؟ وأي فرق -في الحقيقة- بين قولنا: الكوب على المائدة، والكوب فوق المائدة حتى نعد الأول من قبيل حرف الجر والمجرور، والثاني من قبيل الظرف والمضاف إليه؟.

وواضح من عنوان الكتاب، ومن طريقته في تناول المسائل أنه وضع ككتاب مدرسي يلبي حاجة طلاب العربية ودارسي النحو المتعجلين. ولذلك فللكتاب قيمة كبيرة من الناحية التعليمية.

والآخر: تقديم المقترحات لإصلاح النحو أو تيسيره، ونقد النحو ومناهج النحاة. ومن أقدم من تصدى لذلك:

1-

أبو العباس أحمد بن محمد بن ولاد المصري "القرن الرابع".

2-

أبو العلاء المعري الشاعر المعروف "القرن الخامس".

3 ابن حزم الأندلسي "القرن الخامس".

4-

ابن مضاء الأندلسي "القرن السادس"

أما ابن ولاد فهوأقدم الأربعة، وقد نادى بالمبادئ الآتية:

أ- لا يصح الطعن على العربي أو رميه باللحن أو الخطأ أو تقديم القياس النظري على المادة اللغوية المسموعة. وفي هذا يقول ردًّا على المبرد: "إن كانت التخطئة لمن قال ذلك من العرب، فهذا رجل يجعل كلامه في النحو أصلًا، وكلام العرب فرعًا، فاستجاز أن يخطئها إن تكلمت بفرع يخالف أصله"، ويقول:"الذي للغوي أن يفعله أن يمثل ويعتل لما جاء عن العرب؛ فأما أن يرده فليس ذلك له".

ص: 156

"ب" أنه يجبه الوقوف عند المادة اللغوية المسموعة، ولا يجوز تصحيح ما لم يرد عن العرب بمقتضى القياس النظري فهناك من الأساليب والكلمات ما يصح في القياس ولكنه لم يسمع، فيجب أن نقف عند ما قالته العرب ولا نغيره.

يقول ابن ولاد: "لا ينظر إلى القياس فقط دون ما تتكلم به العرب. فإن العرب يمتنعون من التكلم بالشيء وإن كان القياس يوجبه، ويتكلمون بالشيء وإن كان القياس يمنعه".

ويقول: "سبيل النحويين اتباع كلام العرب إذ كانوا يقصدون إلى التكلم بلغتهم. فأما أن يعملوا قياسًا -وإن حسن- يؤدي إلى غير لغتها فليس ذلك لهم، وهو غير ما بنوا عليه صناعتهم".

"جـ" كذلك هاجم ابن ولاد التأويل والتقدير في النحو، وادعاء الحذف والإضمار، وقد سبق أن مثلنا لذلك بإعراب قوله تعالى:{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} 1.

وأما أبو العلاء المعري فتتمثل دعوته إلى الإصلاح في ثورته العارمة على مبدأ التأويل والتقدير. ولم يكن هناك ما يغيظه أكثر مما كان يقرؤه ويسمعه من تأويلات النحاة، وتكلفاتهم، وتخريجهم بعض الأبيات على غير حقيقتها للاستشهاد بها على آرائهم الخاصة. وكثير من نقده ينصب على هذا الجانب من نحو النحاة.. وقد سدد المعري معظم سهامه إلى نحاة البصرة الذين أكثروا من التأويل والتقدير، وتعسفوا غاية التعسف في تخريج كثير من الشواهد لتستقيم من أصول مذهبهم.

وقد امتلأت مؤلفات المعري بأمثله لذلك ولكننا سنكتفي بعرض نماذج منها:

"أ" يمنع سيبويه وكثير من النحويين أن يلي كان معمول الخبر، وهم يؤولون ما ورد كذلك ويقدرون ما يستغنى الكلام عنه، كما قالوه في قول الشاعر:

1 انظر أيضًا مقالنا عن كتابه "الانتصار" في مجلة كلية المعلمين، الجامعة الليبية، العدد الأول.

ص: 157

قنافذ دراجون حول خبائهم

بما كان إياهم عطية عودا

فيقدرون ضمير الشأن في "كان" محله الرفع على أنه أسمها. ويعربون "عطية" مبتدأ، وجملة "عود" خبره، و"إياهم" منصوبة بـ"عود" وجملة المبتدأ وخبره خبر "كان". أو يعربون "ما" موصولة واسم "كان" ضميرًا مستقرًّا يرجع إلى "ما" و"عطية"، مبتدأ "وعود" خبره "وإياهم" مفعولًا مقدمًا والعائد محذوف

إلى آخر ما قالوه في توجيه البيت.

ولكن المعري بذوقه العربي يرفض هذه الأعاريب قائلًا: والأشبه بمذاهب العرب أن يكون عطية مرفوعًا بـ "كان""وإياهم" منصوبًا بـ "عود"1.

ب- وأبدع خيال المعري مشهدًا لطيفًا، وقف فيه أبا علي الفارسي في الجنة موقف المتهم: "وكنت رأيت في المحضر شيخًا لنا كان يدرس النحو في الدار العاجلة يعرف بأبي على الفارسي، وقد امترس به قوم يطالبونه ويقولون: تأولت علينا وظلمتنا. ومنهم يزيد بن الحكم الكلابي وهو يقول: ويحك! أنشدت عني هذا البيت برفع الماء، يعني قوله:

فليت كفافًا كان شرك كله

وخيرك عني ما ارتوى الماء مرتوي

ولم أقل إلا الماء بالنصب. وكذلك زعمت

وإذا رجل آخر يقول: ادعيت علي أن الهاء راجعة إلى الدرس في قولي:

هذا سراقة للقرآن يدرسه

والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب

أفمجنون أنا حتى أعتقد ذلك

"2.

وأما ابن حزم الأندلسي فقد هاجم علل النحو ورأى أنها "كلها فاسدة لا يرجع منها شيء إلى الحقيقة ألبتة. وإنما الحق من ذلك أن

1 عبث الوليد، ص 80.

2 رسالة الغفران، ص 152 - 154.

ص: 158

هذا سمع من أهل اللغة الذين يرجع إليهم في ضبطها، وما عدا هذا فهو -مع أنه تحكم فاسد متناقض- فهو أيضًا كذب؛ لأن قولهم: كان الأصل كذا فاستثقل فنقل إلى كذا

شيء يعلم كل ذي حسن أنه كذب لم يكن قط، ولا كانت العرب عليه مدة ثم انتقلت إلى ما سمع منها بعد ذلك"1.

كما كان من رأيه أن التعمق في بحث مسائل النحو إفساد وأنه يجزئ في النحو كتاب "الواضح" للزبيدي أو "الموجز" لابن السراج. أما "التعمق في علم النحو ففضول لا منفعة بها. بل هي مشغلة عن الأوكد ومقطعة دون الأوجب والأهم، وإنما هي "تكاذيب"2.

وأما ابن مضاء القرطبي فقد ألف كتابًا في شرح آرائه الهجومية أسماه "الرد على النحاة"، وقد قام الأستاذ الدكتور شوقي ضيف بتحقيقه وكتابة مقدمة وافية له يجب الرجوع إليها لمن يريد أن يعرف منهج ابن مضاء في نقد النحو والنحاة.

وكانت غاية ابن مضاء أن يحذف من النحو ما يستغني النحوي عنه، وأن ينبه على ما اجتمعوا على الخطأ فيه. وتتحقق هذه الغاية في رأيه بإلغاء نظرية العامل، وإلغاء العلل الثواني والثوالث، وإبطال القياس، وترك المسائل النظرية، وإسقاط كل ما لا يفيد في النطق3.

قيمة الدراسات النحوية عند العرب:

على الرغم مما شاب النحو العربي من شوائب، وما وجه إليه من نقد، فلا أحد يستطيع أن ينكر قيمة النحو العربي، ومقدرة النحاة الفائقة التي تصل أحيانًا إلى حد الإعجاز، يقول الأستاذ عباس حسن. "أينا لا تنهره تلك العناية المعجزة التي بذلها الأولون في جمع أصول

1 نظرات في اللغة عند ابن حزم الأندلسي، ص 44 - 46.

2 نفس المرجع السابق.

3 النحو العربي للدكتور مازن المبارك، ص 153. وقد نبه المؤلف إلى بعض الأفكار التي نادى بها ابن مضاء ولها نظير عند السابقين. وانظر بحثنا: دعوات الإصلاح للنحو العربي قبل ابن مضاء.

ص: 159

اللغة، ولَمّ شتاتها واستنباط أحكامها العامة والفرعية وحياطتها بسياج من اليقظة الواعية والحيطة الوافية"1. بل إن ابن مضاء -برغم عدائه الشديد للنحاة- يقول: "وإني رأيت النحويين

قد وضعوا صناعة النحو لحفظ كلام العرب من اللحن

فبلغوا من ذلك الغاية التي أموا"2.

وهذا ما دعا أحد المستشرقين إلى قوله: "إن علم النحو أثر من آثار العقل العربي، لما فيه من دقة في الملاحظة ونشاط في جمع ما تفرق. وهو لهذا يحمل المتأمل فيه على تقديره، ويحق للعرب أن يفخروا به"3. وحمل يوهان فك على أن يقول: "ولقد تكفلت القواعد التي وضعها النحاة العرب -في جهد لا يعرف الكلل، وتضحية جديرة بالإعجاب- بعرض اللغة الفصحى وتصويرها في جميع مظاهرها

حتى بلغت كتب القواعد الأساسية عندهم مستوى من الكمال لا يسمح بزيادة لمستزيد"4 ويقول فيشر في مقدمة معجمة: "إذا استثنينا الصين لا يوجد شعب آخر يحق له الفخار بوفرة كتب علوم لغته، وبشعوره المبكر بحاجته إلى تضيق مفرداتها حسب أصول وقواعد غير العرب"5.

1 رأي في بعض الأصول اللغوية والنحوية، ص 1.

2 الرد على النحاة ص 80.

3 مجلة الأزهر، رمضان سنة 1391هـ، ص 40.

4 العربية، ص 2.

5 المعجم اللغوي التاريخي، ص 4.

ص: 160