المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

4- ‌ ‌ الشعر: لاقى الشعر اهتمامًا كبيرًا من اللغويين واعتبروه الدعامة الأولى - البحث اللغوي عند العرب

[أحمد مختار عمر]

فهرس الكتاب

الفصل: 4- ‌ ‌ الشعر: لاقى الشعر اهتمامًا كبيرًا من اللغويين واعتبروه الدعامة الأولى

4-

‌ الشعر:

لاقى الشعر اهتمامًا كبيرًا من اللغويين واعتبروه الدعامة الأولى لهم حتى لقد تخصصت كلمة الشاهد فيما بعد وأصبحت مقصورة على الشعر فقط. ولذلك نجد كتب الشواهد لا تحوي غير الشعر ولا تهتم بما عداه.

وقد كان اللغويون يستشهدون بالشعر المجهول قائله إن صدر عن ثقة يعتمد عليه. ولذا اعتبروا الأبيات التي وردت في كتاب سيبويه أصح شواهد اعتمد عليها خلف بعد سلف مع أن فيها أبياتا عديدة جهل قائلوها1. وقد كان سيبويه يحرص على إطلاق البيت من النسبة فكان إذا استشهد ببيت لم يذكر ناظمه. وإنما امتنع سيبويه عن تسمية الشعراء "لأنه كره أن يذكر الشاعر وبعض الشعر يروي لشاعرين، وبعضه مجهول لا يعرف قائله لأنه قدم العهد به". وأما الأبيات المنسوبة في الكتاب إلى قائليها "فالنسبة حادثة بعده، اعتنى بنسبتها الجرمي. قال الجرمي: نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتًا. فأما الألف فعرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما خمسون فلم أعرف أسماء قائليها"2.

بل إن اللغويين والنحاة قد صرحوا بأن تعدد الروايات في البيت الواحد لا يسقط حجيتها، وأن كل رواية -ما دامت قد نقلت عن ثقة- يصح الاستشهاد بها. يقول ابن ولاد: "الرواة عن الفرزدق وغيره من الشعراء قد تغير البيت على لغتها وترويه على مذاهبها مما يوافق لغة الشاعر ويخالفها. ولذلك كثرت الروايات في البيت الواحد

ولغة الرواة من العرب في البيت الواحد يجعل كل رواية حجة إذا رواها فصيح، لأنه يغير البيت إلى ما في لغته، فيجعل ذلك أهل العربية حجة"3.

وحديثنا عن الشاهد الشعري يجرنا إلى الحديث عن قضية "الضرورة الشعرية" أو ما يسمى "بضرورة الشعر" حينما يحاول اللغوي أو النحوي أن يستبعد البيت من مجال الاستشهاد. فما حد هذه الضرورة؟ ومتى يكون الشاعر مضطرًّا اضطرارًا يسقط حجية الاستشهاد ببيته؟ لقد اختلف النحاة في ذلك إلى فريقين: ففريق يرى -وهو جمهورهم-

1 خزانة الأدب 1/ 8، 178.

2 خزانة الأدب 1/ 8، 78. وانظر مقال الدكتور رمضان عبد التواب:"أسطورة الأبيات الخمسين".

3 الانتصار لابن ولاد ص 19، 193.

ص: 43

أن الضرورة هي "ما وقع في الشعر مما لم يقع في النثر سواء أكان للشاعر غنه مندوحة أم لا"1.

ومذهب ابن مالك -وهو الصحيح عن سيبويه- أنها "ما ليس للشاعر مندوحة عنه"2. ويبين أثر هذا الخلاف فيما جاء في الشعر ووجدت فيه المندوحة، فالجمهور يقصره على السماع، وابن مالك يقيس عليه. "ولذلك أجاز وصل ال بالمضارع قليلًا، ولم يجعله ضرورة استدلالًا بقوله:

ما أنت بالحكم الترضى حكومته

لتمكنه من أن يقول: "المرضي حكومته"3. وحيث لم يقل ذلك مع الاستطاعة، ففي ذلك، أشعار بالاختيار وعدم الاضطرار"4.

وكأني بأصحاب المذهب الأول قد وسعوا في مدلول الضرورة، وأطلقوها دون قيد لتكون سيفًا مصلتًا، وسلاحًا يشهرونه في وجه كل بيت يخالف قواعدهم ويعجزون عن تخريجه؛ فيجدون المخلص في هذا الوصف السهل يلقونه دون نظر أو تفكير.

وكأن ذلك لم يكفهم فرموا بعض الأبيات بالضرورة، لا فرارًا من الإخلال بالوزن أو القافية، بل فرارًا من الزحاف، وهو ما تأباه النظرة الفاحصة المتأنية.

ولهذا نجد أبا العلاء المعري في كثير من كتبه -وقد كان ذا نظرة تحررية- يهاجم رأي الجمهور وينصر مذهب الأقلية، ولا يترك فرصة للذود عنه والانتصار له إلا انتهزها فهو يرى أن الزحاف لا يحمل الشاعر على ارتكاب ضرورة، فهو كثير في الشعر، وبخاصة في بعض الأوزان.

1 موطئة الفصيح لابن الطيب الفاسي، ورقة 19، 20، والضرائر للألوسي ص 6.

2 موطئة الفصيح ص 19، 20.

3 موطئة الفصيح ورقة 20.

4 خزانة الأدب 1/ 15.

ص: 44

وهو يرى أن من الأبيات الشعرية ما يختل وزنها إن غيرت، فهذه هي محل الضرورة، ومنها ما لا يكون تغييرها مخلًّا بالنظم، فهي كالنثر لا يصح أن يقال عنها: إنها ضرورة ولهذا فهو يقول في رسالة الملائكة: "ينشد قول أبي ذؤيب الهذلي:

تركوا هوى وأعنقوا لهواهم

فتخرموا ولكل جنب مصرع

ولو أنشد هواي لم يكن بالوزن بأس. والاستشهاد بالشعر على نوعين: أحدهما لا مزية فيه للمنظوم على المنثور، والآخر يكون حكم الموزون فيه غير حكم النثر. فالضرب الأول كبيت أبي ذؤيب الذي مر، وكقول الآخر.

أنا ابن النارك البكري بشر

عليه الطير ترقبه وقوعا

فخفض "بشر" ونصبه لا فضيلة فيه للوزن، وكذلك خفض "البكري" ونصبه، لأنه قويم في الحالين. والضرب الآخر هو الذي يكون الوزن إن غير عما استشهد به عليه لحقه إخلال كقوله:

ألا من مبلغ الحرين عني

مغلغلة وخص بها أبيا

يطوّف بي عكب في معد

ويطعن بالصملة في قفيا

فهذا لا يمكن إلا على لغة من قال قفي"1.

ويقول في موضوع آخر: "وأنشد الفراء قول زهير":

عليهن فرسان كرام لباسهم

سوابيغ زغف لا تخرقها نبل

فهذه زيادة بغير ضرورة، لأنه لو حذف لم يضر بالبيت"2.

ويقول في بيت الهذلي:

أبيت على معاري فاخرات

بهن ملوب كدم العباط

الذي يدعي النحاة أنه ضرورة، يقول أبو العلاء: "ولو قال معار

1 رسالة الملائكة ص 181 - 183.

2 رسالة الملائكة ص 25، 21.

ص: 45

فاخرات لم يخل بالبيت"1 فلن يكون فيه سوى تسكين لام "مفاعلتن" فأين هي الضرورة؟ وكأنما شعر النحاة بانهيار دعواهم أمام تلك الحجة القوية، فحاولوا أن يلتمسوا مخلصًا لهم، فادعوا أن الشاعر ارتكب هذه الضرورة كراهة الزحاف، فقال أبو العلاء مفندًا تلك الحجة:

"وهذا قول ينتقض، لأن في هذه الطائية أبياتًا كثيرة لا تخلو من زحاف.

وكل قصيدة للعرب وغيرها على هذا القريّ كقوله:

عرفت بأجدث فنعاف عرق

علامات كتحبير النماط

فيه زحافان من هذا الجنس، ثم يجيء في كل الأبيات إلا أن يندر شيء"2.

وكأنما حاول بعضهم أن يتعلل بأن هذا الزحاف -مع كثرته في شعرهم- قد يخل بموسيقى البيت، فرد عليه أبو العلاء بأن حركة الزحاف هذه لا تنفر منها الأذن "ولا يشعر بها في الغريزة"3.

وأيًّا ما كان الأمر فقد قسم اللغويون الشعراء إلى طبقات أربع هي:

1-

الشعراء الجاهليون، وهم قبل الإسلام.

2-

الشعراء المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام.

3-

الشعراء الإسلاميون، وهم الذين كانوا في صدر الإسلام كجرير والفرزدق، وآخرهم ابن هرمة. قال: الأصمعي: "ختم الشعر بابن هرمة"4، وقال أبو عبيدة:"افتتح الشعر بامرئ القيس، وختم بابن هرمة"5.

1 رسالة الملائكة ص 205، 210.

2 رسالة الغفران ص 292.

3 رسالة الملائكة ص 210.

4 الاقتراح ص 26.

5 العمدة ص 56.

ص: 46

4-

المولدون، وهم من بعدهم إلى زماننا هذا كبشار وأبي نواس1.

فالطبقتان الأوليان يستشهد بشعرهما إجماعًا، وإن كان من بينهم بعض شعراء طعن فيهم، كعدي بن زيد، وأبي دؤاد الأيادي. قال الأصمعي:"عدي بن زيد وأبو دؤاد الإيادي لا تروي العرب أشعارهما لأن ألفاظهما ليست نجدية"2. وقال المرزباني: "كان عدي بن زيد يسكن الحيرة، ويراكن الريف فلان لسانه وسهل منطقه"3.

أما الطبقة الثالثة فالصحيح جواز الاستشهاد بشعرها. وقد كان أبو عمرو بن العلاء وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن البصري وعبد الله بن شبرمة يلحنون الفرزدق والكميت وذا الرمة وأضرابهم.. وكانوا يعدونهم من المولدين3. وقد كان الأصمعي ينكر أبرق الرجل وأرعد، فلما احتج عليه ببيت الكميت:

أبرق وأرعد يا يزيد

فما وعيدك لي بضائر

لما احتج عليه ببيت الكميت هذا قال: ليس بيت الكميت بحجة، إنما هو مولد4.

وقال الأصمعي: "جلست إلى أبي عمرو بن العلاء ثماني حجج، فما سمعته يحتج ببيت إسلامي"5.

ومع تحري العلماء جانب الصواب. ووضعهم شروطًا في الرواة على نمط شروط المحدثين في رواة الحديث فقد دست عليهم بعض الأشعار،

1 الخزانة 1/ 3.

2 الموشح ص 73.

3 الحزانة 1/ 3.

4 ديون الأدب 2/ 316.

5 العمدة ص 57.

ص: 47

فجاء في شواهدهم أبيات لم تسلم من الظنة. ومن ذلك استشهاد سيبويه بقول الشاعر:

حذرًا أمورًا لا تُخاف وآمن

ما ليس منجيه من الأقدار

فهذا البيت مصنوع ومع ذلك رواه سيبويه في "الكتاب": "ذكر أبو يحيى اللاحقي أن سيبويه سأله: هل تعدي العرب فعلًا؟ قال فوضعت له هذا البيت". وممن قال بوضعه كذلك الصفدي في "نفوذ السهم"1.ومن ذلك استشهاد الفارابي اللغوي بقول امريء القيس:

وعمرو بن درماء الهمام إذا غدا

بذي شطب عضب كمشية قسورا

على أنه أراد قسورة فحذف التاء2.

وقد أنكر أبو العلاء المعري هذا البيت ورأى أنه مصنوع وعبر عن ذلك بطريقته الخاصة التي عرف بها في رسالة الغفران فأجرى حوارًا بين صاحبه ابن القارح وامرئ القيس جاء فيه: "وإنا لنروي لك بيتًا ما هو في كل الروايات، وأظنه مصنوعًا لأن فيه ما لم تجر عادتك بمثله وهو قولك

قسورًا، فيقول "امرؤ القيس": أبعد الله الآخر، لقد اخترص فما اترص وان نسبة هذا إليّ لأعده إحدى الوصمات"3.

وأما الطبقة الرابعة فالصحيح أنه لا يستشهد بكلامها مطلقًا، ومنهم من أباح الاستشهاد بكلام من يوثق به منهم، ومن هؤلاء الزمخشري اللغوي والنحوي المشهور الذي كان يرى الاحتجاج بشعر أبي تمام4.

1 سيبويه إمام النحاة ص 146. ونفوذ السهم مادة فزع، وأسطورة الأبيات الخمسين ص17.

2 ديوان الأدب ورقة 298.

3 رسالة الغفران ص 235.

4 راجع الكشاف. آية: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [سورة البقرة آية 20]

ص: 48

وغيره من أئمة اللغة ورواتها، ويقول ردًّا على من سأله كيف يستشهد في الكشاف بشعر لأبي تمام:"اجعل ما ينظمه بمنزلة ما يرويه".

يشير إلى مجموع أبي تمام المعروف باسم "ديوان الحماسة" والذي تلقاه العلماء بالقبول والثقة. وإذا كان الزمخشري يصرح بثقته في شعر أبي تمام وأضرابه ولذا فهو يستشهد به، فهناك من اللغويين من استشهد في استخفاء بشعراء من هذه الطبقة. ومن هؤلاء الخليل بن أحمد الذي استشهد في "العين" بحفص الأموي وبشار بن برد1. ونسب إلى سيبويه أنه استشهد في كتابه ببيت لبشار بعد أن توعده بالهجاء. "وأصحاب بشار يروون له هذا البيت:

وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه

وما كل مؤت نصحه بلبيب

وفي كتاب سيبويه نصف هذا البيت الآخر، وهو في باب الإدغام لم يسم قائله"2.

وفي العصر الحديث ارتفعت أصوات تنادي بإباحة الاستشهاد بالأدباء والشعراء المشهورين حتى وقتنا الحاضر، بشرط موت الشاعر، لأن المعاصرة حجاب كما يقولون، وبشرط أن يكون الشاعر ممن شهد لهم بالفصاحة والبيان. ونسي هؤلاء أن الشاعر أو الأديب لا يعد من زعماء البيان إلا إذا صحت لغته واستقام لسانه، ولن يتم له ذلك إلا إذا جرى على النمط العربي السليم.

ومتى فعل ذلك فقد صار عربيًّا بلغته، وتماثلت اللغتان بل تطابقتا وبهذا فهو لم يخلق شيئًا لم يعرفه العرب ولم يأت بجديد. بالإضافة إلى أن مؤهلات الزعامة لا ضابط لها، وقد تفتح بابًا لدخول كل طامع. ولكننا نجد من أصحاب هذا الرأي من يقولون لقد ورد في شعر بعض المعاصرين ما لم يرد في شعر القدماء مثل شوقي الذي يقول:

1 المعجم العربي 1/ 241.

2 رسالة الغفران ص 365. وانظر الاقتراح ص 26. وذكر الدكتور رمضان أن البيت لأبي الأسود الدؤلي، أو لمودود العنبري "أسطورة: ص 9".

ص: 49