الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقول الثاني: أنه بعد الدخول ليس لها الفسخ، وإذا كنا نرجح فيما قبل الدخول أن ليس لها الفسخ ففيما بعد الدخول من باب أولى، أنه ليس لها الفسخ، لأنه بعد الدخول تستقر الحقوق أكثر منها قبل الدخول.
قال المؤلف رحمه الله:
(ولا يفسخه إلا حاكم)
أي أنه يجب أن يكون الفسخ على يد الحاكم، والدليل على هذا أن هذه المسألة محل اختلاف وتحتاج إلى اجتهاد، والحنابلة دائماً إذا كانت المسألة تحتاج إلى اجتهاد فإنه يرجع في الفسخ فيها إلى الحاكم، دفعاً للنزاع والشقاق.
والقول الثاني: أن لها الفسخ بمجرد الإعسار، وهذا القول ضعيف جداً، ويؤدي في الحقيقة إلى التلاعب والفوضى، لأنه ربما تزعم المرأة أنه أعسر بالمهر وتخرج وتقول فسخت النكاح أو النكاح انفسخ، ثم إذا سئل الزوج قال المهر موجود، ثم إذا رجعنا إلى الزوجة قالت ذكر لي أنه أعسر، ودخلنا في متاهة لها أول وليس لها آخر ومما يزيد الأمر سوءً لو ذهب المرأة وتزوجت، فلا بد في الحقيقة في مثل هذه المسائل من الحاكم، فيقوم القاضي بفسخ النكاح بناءً على ثبوت إعسار الزوج بالمهر.
وبهذا انتهى باب الصداق وننتقل إلى
باب وليمة العرس
قال المؤلف رحمه الله:
(باب وليمة العرس)
الوليمة اسم لما يصنع في النكاح خاصة، يعني اسم لدعوة النكاح خاصة.
قال المؤلف رحمه الله:
(تسن)
أفادنا المؤلف أن حكم الوليمة سنة، والوليمة مشروعة بالإجماع، وهي عند الجمهور سنة، واستدلوا على سنيتها بأحاديث كثيرة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف:"أولم لو بشاة"، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بشاة صلى الله عليه وسلم، ومنها أنه النبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بسمن وإقط، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه ولم تذكر في النص بمدّي شعير، وهذه الأحاديث كلها في الصحيح، ولهذا أجمع أهل العلم على أنه مشروع، وذهب الجمهور إلى أنه مسنون.
القول الثاني: أن الوليمة واجبه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف:" أولم ولو بشاة فأمره" أمراً صريحاً بالوليمة، والراجح إن شاء الله أنها سنة، وسبب الترجيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أولم ولو بشاة" والإيلام بشاة كونه يولم بشاة لم يقل أحد بوجوبه، فدل هذا على أن الأمر كله في الحديث على سبيل الندب، ولا يمكن أن نقول قوله:" أولم ولو بشاة" نصفه للوجوب ونصفه للندب، وأما الدليل على أن صنع الإنسان وليمة بمقدار شاة لا يجب بالإجماع، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه بأقل من شاة.
مسألة: مع القول بأن الوليمة سنة، نحتاج إلى تحديد الوقت اختلف الفقهاء متى يسن صنع الوليمة.
فالقول الأول: أنه عند العقد ولو قبل الدخول.
والقول الثاني: أنه بعد الدخول، وهذا القول اختاره شيخ الإسلام، واستدل عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على نسائه بعد الدخول.
والقول الثالث: أن الأمر في وقته واسع، يبدأ من العقد إلى نهاية أيام الزواج، وهذا القول اختاره المرداوي وقال به تجتمع النصوص، نقول يسن من حين العقد إلى نهاية ولائم النكاح أو الزواج.
ويظهر إن شاء الله أن الأمر في هذا واسع، ولو تحرى الإنسان أن لا تكون الوليمة إلا بعد الدخول لكان هذا حسناً، مع أن عمل الناس قبل الدخول، ولهذا ما انتشر الآن عند بعض الناس من وجود حفلة مصغرة تكون لدخول الزوج على زوجته، ثم تصنع وليمة بعد ذلك هذا في الحقيقة أقرب للسنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل بالمرأة ثم يصنع الوليمة.
قال المؤلف رحمه الله:
(تسن ولو بشاة فأقل)
أفادنا المؤلف رحمه الله أنه يجوز أن يولم بأقل من شاة، وهذا محل إجماع، لصنع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن مع هذا استحب كثير من الفقهاء ألا ينقص الإنسان في وليمته مع القدرة عن شاة، بل استحب كثير من الفقهاء أن يزيد على الشاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أولم ولو بشاة" فجعل أقل المقدار الذي يولم به الإنسان هو شاة، وهذا صحيح، أنه ينبغي ويستحب أن يولم الإنسان بأكثر من شاة، وكلما زاد فهو أفضل، بشرطين: القدرة وعدم الإسراف، فإذا تحقق الشرطان فلا بأس، وسيأتينا أن أبّي بقي يصنع الولائم لزواجه رضي الله عنه لمدة ثمانية أيام، وكذلك ابن سيرين جلس هذا المقدار، وغيره من السلف، فإذا لم يكن هناك إسراف ومباهاة فلا بأس.
قال المؤلف رحمه الله:
(وتجب في أول مرة .. )
قوله وتجب أشار المؤلف إلى أن إجابة الدعوة الخاصة بوليمة الزواج واجبة، وإلى هذا ذهب الجماهير بل حكي إجماعاً، وممن حكى الإجماع ابن عبد البر والنووي والقاضي عياض وغيرهم فهو إجماع محكي.
واستدلوا على هذا بأدلة:
الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا دعي أحدكم إلى وليمة العرس فليأتيها" وفي لفظ "فليجب".
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "شر الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله"، وهذا الحديث روي من قول أبي هريرة وروي في الصحيح أيضاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الأحاديث صريحة في الأمر بإجابة الدعوة إذا كان الداعي للزواج.
القول الثاني: أن إجابة الدعوة فرض كفاية، واستدل أصحاب هذا القول بأن المقصود من الأمر بإجابة الدعوة إدخال السرور على المسلم وتوليه وهذا يحصل إذا قام به من يكفي.
القول الثالث: وهو مروي عن بعض الشافعية وأيضاً بعض المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه سنة.
والذي تدل عليه النصوص هو القول المحكي إجماعاً، والخروج عن هذه الأحاديث في الحقيقة صعب، وهي فيها الأمر الصريح بإجابة الدعوة، والحكم عليه بأنه عصى الله وعصى رسوله إن لم يفعل، فلعل هذا هو الأقرب إن شاء الله.
قال المؤلف رحمه الله:
(وتجب في أول مرة)
يعني تجب في اليوم الأول، والمقصود بقولهم تجب في اليوم الأول يعني في الدعوة الأولى، فإذا دعاه المرة الأولى وجب عليه أن يجيب، وإذا دعاه المرة الثانية فإنه يستحب أن يجيب، وإذا دعاه الثالثة فإنه يكره كما سيأتينا عند الحنابلة أن يجيب، واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الدعوة في اليوم الأول سنة وفي اليوم الثاني إحسان وفي اليوم الثالث رياء وسمعة"، وهذا الحديث ضعيف، وأيضاً استأنسوا بالآثار فإن السلف كانوا يجيبون اليوم الأول والثاني دون الثالث، وروي أن سعيد بن المسيب جاءه رجل فدعاه اليوم الأول فذهب، ثم جاءه اليوم الثاني فدعاه فذهب، فلما جاءه اليوم الثالث ودعاه حصبه يعني رماه بالحصى رضي الله عنه، لأنه رأى أن القضية أصبحت أشبه ما تكون بالمباهاة وبضياع الوقت، على كل حال الواجب هو اليوم الأول.
فهم من كلام الفقهاء أنه لا بأس بتكرار وليمة الزواج، أن يصنعها مرة ومرتين وثلاث وأربع وخمس، وذكرت لكم أن أبي صنعها ثمان مرات، وكذلك ابن سيرين نفس الشيء رضي الله عنه وأرضاه، وهذا يدل على أنه لا بأس من تكرار الوليمة بشرط عدم الدخول بالإسراف والمباهاة.
هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- ((انتهى الدرس)).
الدرس: (13) من النكاح
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا بالأمس الكلام عن وجوب إجابة الدعوة، ثم كنا شرعنا في الشروط التي تشترط للوجوب، وذكرنا الشرط الأول وهو في أول مرة، وانتهينا من الكلام عنه، ثم ننتقل إلى الشرط الثاني:
قال المؤلف رحمه الله:
(إجابة مسلم)
يشترط لوجوب إجابة دعوة وليمة العرس أن يكون الداعي مسلم، واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"حق المسلم على المسلم خمس ثم قال وإذا دعاك فأجب"، وهذا الحديث في صحيح مسلم، وقد جعل إجابة الدعوة من حقوق المسلم على المسلم، فغير المسلم ليس له هذا الحق، وهذا صحيح، ويؤيد هذا الحديث أن المقصود أصلاً من إجابة الدعوة ما يحصل من التقارب والتآخي والموالاة وهو منفي في حق الكافر.
قال المؤلف رحمه الله:
(يحرم هجره)
يشترط لوجوب إجابة الدعوة أن يكون الداعي ممن يحرم هجره، فإن كان الداعي ممن لا يحرم هجره فإن إجابة الدعوة لا تجب، لأن المطلوب فيمن لا يحرم هجره أن يهجر ويبتعد عنه، كالمبتدع والفاسق والمجاهر بالمعاصي والداعي إلى الفسق والخنى والفجور ونحوهم، فهؤلاء لا تجب إجابة الدعوة بالنسبة لهم، لكن هل يجوز أو يكره أو يحرم؟ يختلف حسب حال هذا الداعي، إن كان في إجابة الدعوة مصلحة وبيان الحق له وللحاضرين يعني للداعي وللحاضرين صارت الإجابة مستحبة، وإن كان ذهاب هذا الشخص إلى المبتدع يؤدي إلى افتتان المبتدع وظن أنه على حق أو على شيء فالذهاب حينئذ يدور بين الكراهة والتحريم، أما الوجوب فلا يجب مطلقاً.
قال المؤلف رحمه الله:
(يحرم هجره إليها إن عينه)
هذا هو الشرط الرابع، الشرط الأول في أول مرة، والثاني أن يكون مسلماً، والثالث أن يحرم هجره، وهذا الشرط الرابع أن يخصه بالدعوة، أن يعينه أثناء الدعوة، استدل الحنابلة على أن هذا من الشروط بأن الداعي إذا عين شخصاً ولم يجب حصل له انكسار ووحشة من هذا الذي لم يجبه، وهذا الأمر لا يوجد فيما إذا لم يعينه وإنما دعاه دعوة عامة يدخل فيها هو وغيره، بهذا استدل الحنابلة يعني بتعليل.
والقول الثاني: أنه إذا لم يعينه فإنه يجب لعموم إذا دعاك فأجب.
والقول الثالث: أنه يكره وهو الذي سيذكره المؤلف في آخر الباب.
والقول الرابع: أنه مباح، وهذا القول الأخير هو الصحيح، أو نقول أنه مستحب، إما مباح أو مستحب، أما القول بأنه مكروه أو واجب فهو ضعيف، ويمكن أن يستأنس بالقول بعدم الوجوب بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا دعاك"، فإن هذا القول يشعر بتخصيص الإنسان بالدعوة لا بتعميمه، فربما نستأنس بهذا اللفظ مع التعليل الذي ذكره الحنابلة.
قال المؤلف رحمه الله:
(ولم يكن ثم منكراً)
هذا هو الخامس ألا يوجد منكر، يشترط للوجوب خلو مكان الزواج من المنكرات، والمؤلف قريباً سيفصل تفصيل دقيق في قضية وجود المنكر في الدعوة، ولهذا نؤجله إلى كلامه الآتي قريباً إن شاء الله، إنما هو يشترط الوجوب ألا يكون في الدعوة منكر.
قال المؤلف رحمه الله:
(فإن دعا الجفلى)
لما ذكر الشيخ الشروط ذكر محترزات الشروط في الحقيقة، الأول أن يدعوه دعوة الجفلى، ودعوة الجفلى هي أن يدعو دعوة عامة ليس فيها تخصيص، حينئذ لا يجب إجابة دعوته، بل يكره عند الحنابلة كما ترون على ما ذكره المؤلف، واستدل الحنابلة على الكراهة بأن في إجابة الدعوة إذا كانت على سبيل التعميم دناءة وحرص على حضور الولائم مما يستدعي أن تكون الإجابة مكروهة.
والقول الثاني: أن الإجابة مباحة أو مسنونة، واستدل هؤلاء بأن "النبي صلى الله عليه وسلم صنع وليمة وأرسل أنس وقال ادعوا لي فلاناً وفلاناً ومن لقيت" فقوله ومن لقيت هذا هو تماماً هو دعوة الجفلى أي الدعوة عامة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليدعوا الناس دعوة مكروهة، وهذا القول لاشك أنه هو الصواب، والحكم عليها بأنها مكروهة غريب، غاية ما هنالك أنها ليست بواجبة وتصبح بعد ذلك تدور بين الإباحة والندب، وهي إلى الندب والاستحباب أقرب بلا شك.
الثاني من المحترزات قوله رحمه الله:
(أو في اليوم الثالث)
إجابة الدعوة في اليوم الثالث مكروهة للحديث، لأنه في الحديث الذي مر معنا أمس أنه جعل إجابة الدعوة في اليوم الأول حق وفي اليوم الثاني معروف وفي اليوم الثالث رياء وسمعة، وإذا كانت إجابة الدعوة من باب الرياء والسمعة فهي مكروهة، والواقع أن الاستدلال بهذا الحديث محل نظر من وجهين:
الوجه الأول: أن الحديث ضعيف، فلا يمكن أن نحكم على إجابة الدعوة في اليوم الثالث أنها مكروهة اعتماداً على حديث ضعيف.
الثاني: لو صح الحديث لدل على التحريم لأن الرياء والسمعة محرمان، فكيف نستدل به على الكراهة فقط، إذا الاستدلال بهذا الحديث استدلال في غير محله، ولذلك نقول أن الأقرب إن شاء الله أن إجابة الدعوة في اليوم الثالث تدور بين الإباحة والندب، أما الدعوة في اليوم الثاني فالحنابلة يرون أنها مسنونة، يعني إجابة دعوة اليوم الثاني مندوبة ومسنونة، إذاً النقاش معهم إنما هو في الحكم الذي أطلقوه على اليوم الثالث.
قال المؤلف رحمه الله:
(أو دعاه ذمي)
إذا دعاه ذمي فقد دعاه غير مسلم، تقدم أنه لا يجب، لكن الحنابلة يرون أن إجابة الدعوة مكروهة، والسبب في ذلك أن الذمي يطلب إذلاله وهانته، وإجابة دعوته تتنافى مع ذلك.
والقول الثاني: أن إجابة الدعوة للذمي أيضاً إما مباحة أو مندوبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب دعوة اليهودي وأجاب دعوة اليهودية، والنبي صلى الله عليه وسلم لنا فيه أسوة حسنة، فنقول إجابة الدعوة مباحة أو مستحبة، وتقدم معنا في كتاب الجهاد أنه ليس من مقاصد الشرع تقصد إذلال الذمي بالطريقة التي وصفها الفقهاء، هذا ليس من المقاصد، لكن المراد مع الذمي ألا يتولاه الإنسان في العقيدة ولا يحبه ولا يناصره ولا يؤازره، أما تقصد إذلاله فليست النصوص شيء واضح يدل عليه، وهذا ما يتنافى مع النصوص التي فيها الأمر بمخالفة اليهود والنصارى، فإن مخالفة الكفار شيء وتقصد إذلالهم بفعل زائد شيء آخر.
قال المؤلف رحمه الله:
(كرهت الإجابة)
هذا يرجع للمسائل الثلاث السابقة، ففي كل واحة منهم يكره للإنسان أن يجيب وتقدمت مناقشة ذلك.
قال المؤلف رحمه الله:
(ومن صومه واجب دعا وانصرف)
إذا دعي الإنسان وهو صائم صوماً واجباً، كأن يصوم قضاء رمضان أو كفارة واجبة أن نذر أو أي صيام واجب، فإنه يجيب وجوباً، ولكن يحرم عليه أن يفطر، والسبب في هذا أن الفطر وقطع الصيام الواجب محرم، والأكل مندوب، وليس للإنسان أن يقترف محرماً ليحقق مندوباً، ويدل على هذا أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائماً فليدعوا وإن كان مفطراً فليطعم" فهذا الحديث فيه النص على هذا المعنى.
قال المؤلف رحمه الله:
(والمتنفل يفطر إن جبر)
لما بين الشيخ حكم الإنسان إذا دعي وهو صائم صيام واجب بيّن حكم إذا دعي وهو صائم صيام متنفل، فيقول والمتنفل يفطر انجبر يعني أن المتنفل إذا دعي فإنه يستحب له أن يفطر إذا كان في فطره جبر لخاطر الداعي، ومفهوم كلام المؤلف أن الداعي إذا لم يحصل له انجبار خاطر ولم يحصل له انكسار بعدم الأكل فإن المستحب ألا يفطر ولو كان صيامه صيام ندب، وهذا صحيح، وهذا التفصيل الذي ذكره الشيخ موسى هنا هو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله وهو الذي إن شاء الله تدل عليه النصوص السابقة إن شاء الله، وهو الذي تدل عليه الآثار فإن ابن عمر رضي الله عنه دعي فلما مد يده ليأكل قال إني صائم، فلنا أن نقول أن ترك الطعام هذا التفصيل يتعلق بصيام النفل إذا كان ترك الطعام يدخل على الداعي انكساراً فإنه يستحب أن يفطر الإنسان وإلا فإنه يبقى صائماً.
والقول الثاني: وهو المذهب أنه يستحب أن يفطر مطلقاً، سواء حصل انكسار للداعي بعدم الأكل أو لم يحصل مطلقاً، واستدل الحنابلة بأن رجلاً دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأمسك رجل عن الطعام فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أخوكم دعاكم وتكلف لكم كل وصم يوماً مكانه" هذا الحديث صححه الشيخ العلامة الألباني وعامة المتأخرين أيضاً صححوه، ولهذا استدل به المؤلف، فإذا كان الحديث على فرض ثبوت الحديث فهو في الحقيقة يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يفطر مطلقاً، على أنه يمكن أن يناقش الحديث بأن الظاهر من حال الرجل الداعي أنه انكسر بعدم أكل هذا الرجل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه لاحظ هذا من الداعي فأمره بأن يفطر وأن يطعم، وقد نقول أن هذا التفصيل في الحقيقة الذي هو إن حصل جبر خاطر أفطر وإلا فلا تفصيل نظري بحت لماذا؟ لأنه غالباً بل نقول دائماً إذا دعاك فهو يحب أن تأكل، ففي الواقع ليس بين القولين فرق كبير، ولهذا نقول ينبغي إذا دعيت وأنت صائم صوم نفل أن لا ترد دعوة أخيك وأن تطعم، لأنه الغالب يريد أن تأكل، بل الغريب هو ألا ينكسر إذا لم تأكل لأنه لم يدعوك إلا ليكرمك.
مسألة: ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن الإنسان إذا جاء صائماً فإنه يستحب للداعي ألا يكرر عليه الدعوة والإلحاح بأن يفطر، ورأى أن ذلك من المسألة المكروهة، فعلى الإنسان أن يضيف أخاه وأن يطلب منه أن يطعم إكراماً له ثم لا يلح بعد ذلك.
قال المؤلف رحمه الله:
(ولا يجب الأكل)
معنى هذا أن الواجب هو إجابة الدعوة لا الأكل، فالأكل مسنون فقط، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دعي أحدكم فليجب فإن شاء فليأكل وإن شاء فليترك"، وهذا تخيير صريح، وهذا الحديث في صحيح مسلم، بناءً على هذا يكون الأكل مندوب مطلقاً، والتفصيل السابق الذي ذكرناه في الصائم صيام نفل يكون على سبيل الندب لا على سبيل الوجوب، أما الوجوب فقد حصل بإجابة الدعوة، وهذا يتوافق مع ما يصنعه بعض الناس اليوم من أنه يأتي إلى وليمة الزواج ثم إذا قدم الأكل خرج، هذا لا بأس فيه وقد أجاب الدعوة، ولو كان بعض الناس يرى أنه لم يجب الدعوة فرؤيته لا تتوافق مع الشرع، نقول إذا حضر ودعا وشارك ثم خرج قبل أن يأكل فقد أجاب الدعوة، لأن الأكل مندوب، نعم لا شك أن كونه يأكل أكمل في إجابة الدعوة وأطيب لخاطر الداعي لكن يبقى أن هذا الأمر بالنص النبوي مباح، لقوله إن شئت فكل وإن شئت فاترك.
القول الثاني: أن الأكل واجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"وإن كان مفطراً فليطعم"، وقوله فليطعم أمر صريح.
والراجح إن شاء الله القول الأول، لأنه في الحديث الذي استدل به أصحاب القول الأول التصريح بالتخيير بين الأكل وعدمه، ولهذا نحمل حديث وإن كان مفطراً فليطعم على الندب جمعاً بين الأخبار.
قال المؤلف رحمه الله:
(وإباحته تتوقف على صريح إذن أو قرينة)
معنى هذا الكلام أنه لا يجوز للإنسان أن يأكل إلا إذا أذن له أو دلت القرائن على الإذن، وتعليل ذلك أنه لا يجوز للإنسان أن يأكل مال أخيه إلا بإذنه، قال الفقهاء والدعوة إلى الوليمة إذن، لأنه لم يدعه إلا ليطعم، وقال الفقهاء أيضاً أن تقديم الطعام إذن في الأكل، لأنه لم يقدم الطعام إلا ليطعم الناس، والأقرب أن الإذن بالأكل يرجع إلى الأعراف السائدة في كل بلد، ففي بعض البلدان تقديم الطعام إذن ويشرع الناس في الأكل، وفي بعض البلدان لا يكتفون بتقديم الطعام حتى يضيفهم الداعي ويأمرهم بالأكل، بل يعتبر من أكل قبل أن يطلب منه البدء خالف الأعراف العامة، وهذا القول الأخير هو الصحيح إنه يُرجع في الإذن للأعراف، وكما قلت لكم الأعراف تختلف اختلافاً كبيراً في هذا الأمر.
مسألة لم يذكرها المؤلف: الدعوة إذن في الأكل عند الحنابلة لكنها ليست إذن في الدخول، بل يجب عليه إذا حضر ألا يدخل إلا بعد الإذن.
والقول الثاني: أن الدعوة إذن في الدخول فإذا دعي جاء ودخل بلا إذن، لأن الإذن مستفاد من الدعوة السابقة.
والقول الثالث: أن هذا الأمر يرجع فيه إلى القرائن، فإن دلت القرائن على أن هذه الدعوة إذن فذاك وإلا فلا، وهذا القول اختاره الشيخ المرداوي وهو القول الصواب، فلا المنع مطلقاً صحيح ولا الإذن مطلقاً صحيح، ونحن نشاهد في الواقع أنه لا يلزم من دعوة الإنسان لك أن يرضى أنه بمجرد وصول البيت تدخل البيت، أليس كذلك، لكن إن دلت القرائن ونحن لا نقول الأعراف إن دلت القرائن على أنه إذن فهو إذن، من أوضح وأبرز القرائن أن يجد الباب مفتوحاً، فإذا جاء المدعو إلى بيت الداعي ووجد الباب مفتوحاً فإن هذا إذن والقرينة دالة على أنه يريد أن كل من يأتي يدخل حينئذ لا بأس بالدخول ولو بلا إذن.
ثم بدأ الشيخ بتفصيل مسألة وجود المنكرات في ولائم الزواج.
قال المؤلف رحمه الله:
(وإن علم أن ثم منكراً يقدر على تغييره حضر وغير)
إذا علم أن في المكان الذي سيذهب إليه منكر، أي نوع كان من أنواع المنكرات، فإنه ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يتمكن من إزالة هذا المنكر، فإذا تمكن من إزالة المنكر فإنه عند الحنابلة يجب عليه أن يحضر ويجب عليه أن ينكر، وليس له أن يتخلف إذا كان في مكان الوليمة منكر مادام يستطيع يغير هذا المنكر، واستدلوا على هذا بأن في إجابة الدعوة تحقيق فرضين، الفرض الأول الإجابة، والفرض الثاني تغيير المنكر.
القول الثاني: أنه إذا علم أن في المكان منكراً فإنه لا يجب عليه أن يحضر، فإن حضر وجب عليه أن يغير، واستدل هؤلاء بأن في إيجاب الذهاب إلى الدعوة تكليف بتغيير المنكر، والأصل عدم التكليف.
الدليل الثاني: أن صاحب الدعوة أسقط حرمة نفسه بسبب وجود المنكر، ومعنى أسقط حرمة نفسه يعني لم تعد إجابة دعوته واجبة، يعني أسقط حقه كمسلم يجب إجابة دعوته، وهذا القول مال إليه شيخ الإسلام وقال هو أقيس على كلام الإمام أحمد، فنقول إذا دعيت إلى مكان فيه منكر فأنت مخير بين أمرين: إما أن تذهب أو أن لا تذهب، فإن ذهبت فيجب عليك تغيير المنكر، وهذا القول الذي ذكره شيخ الإسلام وجيه وصحيح، ويؤيده أن ذهاب الرجل المعروف المنظور إلى أفعاله إلى مكان فيه منكر قد يتخذ ذريعة لتسويغ المنكر ولو قام بإنكاره، فإن بعض الناس دائماً يأخذ {ويل للمصلين} ويترك باقي الآية، فيقول فلان حضر دعوة فلان وفيها منكر ولا يكمل ويقول أنه أنكر، لكن إذا امتنع من الذهاب لا شك أن هذا يؤدي إلى أن عامة الناس يتجنبون المنكرات لأن الناس يتجنبونهم بسبب وجود هذه المنكرات.
قال المؤلف رحمه الله:
(وإلا أبى)
وهذا هو القسم الثاني، يعني وإن لم يتمكن من إنكار المنكر وتغييره فإنه لا يذهب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار فيها الخمر" فالبقاء في مكان فيه منكر لا يجوز شرعاً، ولهذا نقول إذا لم تتمكن من تغيير المنكر وجب عليك ألا تذهب وجوباً، لأن إجابة الدعوة واجبة، وعدم المكوث مع المنكر أيضاً واجب، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
قال المؤلف رحمه الله:
(وإن حضر ثم علم به أزاله)
يعني إذا لم يعلم به قبل أن يأتي مكان الدعوة ثم لما حضر وجد المنكر فإنه يسعى في إزالته فوراً لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، ولذلك نحن نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل سلطة المنكِر ثلاث اليد واللسان والقلب، لكن ينبغي أن يعلم أن تغيير المنكر باليد ليس على إطلاقه، فلا يجوز للإنسان أن يغير المنكر بيده إذا كان يترتب على تغيير المنكر باليد منكر أكبر منه، لأن الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو إذهاب المفاسد وتقليلها وتحصيل مصالح وتكميلها، فإذا كان إذهاب المنكر سيأتي بمنكر أكبر منه صار محرماً، وحينئذ ينتقل الإنسان إلى الثاني وهو التغيير باللسان، أما إذا لم يترتب على التغيير باليد ما هو أسوء منه وأكثر ضرراً ونكارة فإنه يغير بيده، كما أن التغيير باليد لا يتناول ما هو من صلاحيات ولي الأمر، مثل إقامة الحدود ونحوها مثل هذه الأشياء التي تناط بولي الأمر لا تدخل في هذا الحديث العام، فيما عدا هذين الأمرين وهو أن لا يترتب منكر أكبر ومفسدة أكبر أو أن تكون من اختصاصات ولي الأمر فإن الحديث يستعمل، فمثلاً إذا كان يوجد أداة موسيقى واستطاع أن يغلق هذه الأداة بدون وجود مفاسد فإنه يغلق هذا الشيء الذي يصدر الموسيقى، لأن هذا يدخل في الحديث، فمثل هذا على سبيل التمثيل، وإلا المنكرات كثيرة وإنما مثلت به لأنه غالب ما يكون من المنكرات، أما إذا ترتب على إغلاق هذا الجهاز مفاسد أخرى وأضرار أكبر من الموسيقى، فإنه لا شك أنه ينتقل إلى المرحلة الثانية وهي التوجيه باللسان، المقصود الآن أنه إذا حضر مكان الوليمة ثم علم به سعى في إزالته.
قال المؤلف رحمه الله:
(فإن دام لعجزه عنه انصرف)
الواجب إذا حضر الإنسان مكان فيه منكر الواجب ليس فقط الإنكار، الواجب أن يزيل المنكر فإن لم يتمكن من إزالة المنكر فإن الواجب أن يخرج من المكان، لأنه لا يجوز للإنسان أن يبقى في مكان فيه منكر لم يتغير، وهذه قاعدة ذكرها الحنابلة وغيرهم من الفقهاء، أنه لا يجوز للإنسان أن يبقى في مكان فيه منكر، سواء كان هذا المنكر يتعلق بالمطعوم أو المشروب أو المسموع أو المعلق، أي نوع من المنكرات لا يجوز للإنسان أن يبقى في هذا المكان إذا لم يستطع إزالة المنكر.
قال المؤلف رحمه الله:
(وإن علم به ولم يره ولم يسمعه خير)
يعني إذا حضر إلى المكان وعلم بوجود منكر في ناحية من نواحي هذا المكان، إلا أنه لم يسمع ولم يرى هذا المنكر، فالحكم أنه مخير بين أمرين: إما أن ينصرف وفي هذه الحالة لا يأثم بالانصراف لأن صاحب الدعوة أسقط حرمة نفسه بإيجاد المنكر في وليمته فلم تعد إجابته واجبة، أو أن يبقى فإذا بقي فلا يجب عليه أن ينكر، لأن الحنابلة يقولون أن وجوب الإنكار يتعلق بأمرين: أن يرى أو أن يسمع، ويستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" من رأى منكم منكراً فليغيره" وهذا لم يرى منكراً ولم يسمع وإنما علم به فقط.
والقول الثاني: أن العلم بالمنكر يوجب السعي في تغييره وإن لم يرى ولم يسمع، ونحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم من رأى إما على رؤية العلم لا رؤية البصر، أو نقول أن الحديث وربما يكون هذا أقرب خرج مخرج الغالب وهو أن الإنسان يعلم بالمنكر من خلال الرؤية أو السماع لا من خلال نقل المنكر إليه، وهذا القول الثاني قد يكون أرجح وأقرب، لأنه على قاعدة المذهب ينبني على هذا أن كثير من المنكرات لا يجب على الإنسان أن ينكرها لأنه لم يرها ولم يسمع بها، وقد يتسبب هذا بانتشار المنكرات واستفحالها بسبب أننا لا ننكرها لأنه لم يرى ولم يسمع، فنقول إن شاء الله أن الواجب أن ينكر وإن لم يرى ولم يسمع إذا علم، مما يدل على هذا أن معاوية رضي الله عنه لما علم بنكاح الشغار قام وأنكره على المنبر وإن كان لم يرى ولم يسمع لأن عقد النكاح صار قبل أن يأتي، فممكن أن نستأنس بهذا الأثر عن معاوية، بأن الإنسان يجب حسب ما يستطيع أن يسعى في إنكار المنكر إذا علم به ولو لم يره ولم يسمعه.
قال المؤلف رحمه الله:
(ويكره النثار والتقاطه)
النثار: هو إلقاء ما يراد توزيعه على الناس ليتناهبوه، سواء كان الملقى طعاماً أو نقداً، ويتعلق بالنثار والتقاط مسائل:
المسألة الأولى: أن بعض الفقهاء يقول أن الخلاف في أنه مكروه أو مباح، وأما الجواز فهو محل إجماع، والغريب أن الحنابلة يحكون هذا الإجماع مع أنه عن الإمام أحمد نفسه رواية بالتحريم، وهي موجودة رواها أصحابه فكيف يحكون الإجماع مع وجود رواية عن إمامهم بالتحريم، ذهب الحنابلة إلى أن النثار والتقاطه مكروه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم:" نهى عن الانتهاب".
والقول الثاني: أن الالتقاط مباح، لأن الالتقاط هو إباحة الإنسان مال نفسه عن طريق نشره بين الناس، وللإنسان أن يبيح الناس ماله كيفما شاء، واستدلوا أيضاً "بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح البدن التي أهداها للحرم قال من شاء أن يقتطع فليقتطع" وهذا في معنى النثار.
القول الثالث: التحريم، وهو أنه لا يجوز تمليك المال بطريقة الانتثار، واستدل هؤلاء بأن:
أولاً: الأصل في النهي التحريم.
ثانياً: أن في إتباع هذه الطريقة تعويد للمسلم على سفاسف الأمور وشح النفس وبعداً عن ما يرتفع به الإنسان معالي الأمور، لا شك أن التعليل الذي ذكروه لا يؤدي إلى التحريم، لكن مما يؤيد أو يقوي التحريم النص وهو النهي، وهذا القول الذي هو التحريم مال إليه شيخ الإسلام رحمه الله، بقينا في الجواب عن أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح الناس أن يأخذوا من لحم الهدي، أجابوا عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن اللحم أكثر من الناس، فإذا كان اللحم أكثر من الناس لن يكون هناك انتهاب، لأن كل واحد سيأخذ نصيبه، وفي الحقيقة الجواب فيه ضعف، من أين لهم أن اللحم أكثر من الناس؟ بل الواقع أنه غالباً في ذلك الوقت سيكون الناس أكثر من اللحم بسبب الفقر، لاسيما وأن الحديث الذي فيه أنه أباحهم، فيه أن المذبوح كان ست أو سبع من البدن، وهذا العدد قد لا يكفي كل الموجودين في مكة لاسيما إن كان زمن حج، لذلك نقول الأقرب أنه مكروه ولا ينبغي أبداً أن يصنع مثل هذا الصنع، وفي الحقيقة ليس من شيم أهل المروءات، ولهذا لما نضج حسن بن أحمد بن حنبل قال أبوه الإمام أحمد لحُسُن (حُسُن هذه التي اشتراها الإمام أحمد بعد موت أم عبد الله زوجته وجاءت له بحسن) فقال الإمام أحمد: دخل عليهم لما أرادوا أن يفرحوا بالطفل وقال: لا تنثروا، نهاهم أشد النهي، قالت حُسُن فقال لي مولاي لا تنثروا، وفي هذا أنه ينبغي للعالم أن يعمل بعلمه، فهذا الإمام أحمد مع كونه فرح بهذا الطفل مع ذلك نهاهم عن هذا العمل الذي هو النثار.
قال المؤلف رحمه الله:
(ومن أخذه أو وقع في حجره)
المسألة الأولى: إذا أخذه فإنه له على الخلاف السابق في كون الأخذ مكروه أو محرم، وهذا أمر واضح، لكن يقول أو وقع في حجره، إذا وقع في حجره فالأقرب والله أعلم أنه له بلا كراهة، وهذا مذهب الحنابلة، لأنه لم ينتهب معهم، ولأنه جاءه المال من غير سعي، ويستوي في هذا ما إذا أعد حجره لالتقاط المنثور وما إذا وقع فيه من غير إعداد، والسبب في هذا أن صاحب المال بذل ماله لمن يقع في يده، وقد وقع المال في حجره فهو له، من وجهة نظري أن هذا صحيح، فهو له وبلا كراهة، لأنه لم يسعى في تحصيله ولم يدخل في صورة الانتهاك المنهي عنها، بدليل أنه بقي جالساً حتى جاء الشيء ووقع في حجره.
قال المؤلف رحمه الله:
(ويسن إعلان النكاح)
إعلان النكاح مسنون بلا نزاع، وتقدم معنا أن بعض الفقهاء يرفعه من درجة السنية إلى الوجوب، وبعض الفقهاء يرفعه إلى درجة أنه شرط من شروط صحة النكاح، تقدم هذا معنا عند الكلام عن شروط النكاح، واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت فأعلنوا النكاح" وهذا الحديث أيضاً يصححه المتأخرون، وهو دليل ظاهر على أن نكاح السر يقرب بالعقد إلى السفاح، لقوله فصل مابين الحلال والحرام، وقوله الدف والصوت أخذ منه الفقهاء أن المقصود بالصوت إعلان النكاح، وعلى كل حال هذا الحديث كما قلت لكم يصححه المتأخرون، ولو لم يصححه المتأخرون فالقواعد العامة تدل على استحباب نشر وإظهار النكاح، كما كان المهاجرون والأنصار يصنعون بإعلانه والنشيد فيه إلى آخره.
قال المؤلف رحمه الله:
(والدف للنساء)
في هذه العبارة مسائل:
المسألة الأولى: الدف هو الإطار المغطى بالجلد من جهة واحده.
المسألة الثانية: أن الدف في النكاح مباح بالإجماع، وذهب كثير من الفقهاء ومنهم الحنابلة إلى أنه مستحب، في درجة أعلى من الإباحة، أما الإباحة فهي محل إجماع.
المسألة الثالثة: أن الاستحباب والندب يتعلق بالنساء، وهو مذهب الحنابلة واختاره شيخ الإسلام وذكره في أكثر من موضع واستدل هؤلاء بأمرين:
الأمر الأول: أنه لم يرو ولم ينقل عن أحد من السلف أنه ضرب بالدف، وإنما اقتصروا فيه على النساء.
الثاني: أن في ضرب الرجال للدف تشبه للنساء، ولا يجوز للرجل أن يتشبه بالمرأة.
القول الثاني: أن الدف لا يختص بالنساء، بل يجوز للرجال وللنساء استخدام الدف في النكاح، واستدلوا على هذا بأمور:
((الآذان))
الأمر الأول: أن النصوص التي فيها الحث على اتخاذ الدف في وليمة الزواج عامة، لم تخصص الرجال من النساء
الثاني: أن الحكمة من الأمر بالدف عند جميع أهل العلم إعلان النكاح، وإعلان النكاح باتخاذ الرجال للدف أعظم منه باتخاذ النساء، وإذا كانت الحكمة تتحقق بضرب الرجال للدف أكثر فهم أولى بالجواز.
الخلاف في هذه المسألة فيه تكافؤ، وفيه قوة يعني في كلا القولين، لكن الأقرب إن شاء الله أن الدف خاص بالنساء، وسبب الترجيح: هو أنه يظهر بوضوح من خلال الآثار المروية عن الصحابة أن اللاتي كن يضربن بالدف النساء فقط، فمثلاً لما تولت عائشة تزويج امرأة من الأنصار، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"هل كان معكم شيء من اللهو" ويدخل فيه الدف، ووجه هذا الكلام لعائشة ومن معها من النساء. ثانياً: الجارية التي نذرت أن تضرب على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدف إذا رجع سالماً أيضاً كانت جارية، فمن خلال هذين الأثرين وغيرهما يظهر للإنسان أن الدف في العهد النبوي كان يضرب من قبل النساء، أما النصوص العامة فهذه عنها أحد جوابين:
الجواب الأول: أنها عامة تحمل على النصوص الأخرى المبينة أن الذين كانوا يتعاطون الدف هم النساء فقط.
الثاني: وليس هذا ببعيد، أن هذه النصوص عند التحقيق لا تثبت، كثير من النصوص التي فيها الأمر بالدف ضعيف جداً، هو هذا الحديث ولم أتمكن من النظر فيه بالتفصيل" فصل ما بين الحلال والحرام" هذا الحديث هو الذي ظاهر إسناده الصحة، وإلا ما عداه يغلب عليها الضعف، فنجيب عن أن النصوص التي يقول المجيزون أنها عامة بأحد هذه الجمل: بأنها تحمل على المعروف من العهد النبوي، وهو أن النساء تختص باستخدام الدف، أو أن نقول أنها لا تثبت وهذا الحكم يحتاج فقط إلى وقت للنظر في أسانيد هذا الحديث، ومع هذا أقول الأقرب إن شاء الله هو أنه الدف يختص بالنساء.
هنا نكون توقفنا على باب عشرة النساء.
هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- ((انتهى الدرس)).