المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الدرس: (1) من الطلاق قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم - شرح زاد المستقنع - أحمد الخليل - جـ ٥

[أحمد الخليل]

الفصل: الدرس: (1) من الطلاق قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس: (1) من الطلاق

قال شيخنا حفظه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله:

(كتاب الطلاق)

لا نحتاج تعليق على الترتيب فإنه من المنطق أن يكون الطلاق بعد النكاح هو من المنطقي يعني من جهة الترتيب الفقهي ولا يعني هذا؛ أنّ كل نكاح سيكون بعده طلاق ، بل نادراً ما يكون طلاق لكن المقصود لما بيّن انعقاد عقد النكاح لابد أن يبيّن طريقة حلّ هذا العقد.

الطلاق في لغة العرب/ مأخوذ من الإطلاق وهو الإرسال والترك.

وأما في الشرع / حلّ قيد النكاح أو بعضه. والمقصود بقولهم بعضه، يعني الطلاق الرجعي والطلاق مشروع بالكتاب والسنة والإجماع والنظر الصحيح.

أما الكتاب فعدة آيات، منها قوله تعالى:{الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} {البقرة/227}

أما في السنة عدد كبير من الأحاديث منها الحديث المتفق عليه وهو أنّ ابن عمر رضي الله عنه طلقّ زوجته ومنها الحديث الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم طلقّ حفصة ثم راجعها، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

والإجماع منعقد بين علماء الأمة على مشروعية الطلاق.

وأما النظر فهو أنّ الحال المعيشية بين الزوجين قد تصل إلى مفسدة كاملة يكون معها المضي في النكاح مفسدة لا مصلحة فيها، والشرع لا يأتي بمثل هذا. وقول الفقهاء أنّ الطلاق مشروع يعني من حيث الأصل ، أما حكمه التكليفي فسيذكره المؤلف ، إنما هو مشروع من حيث الأصل.

قال المؤلف رحمه الله:

(يباح للحاجة ، ويكره لعدمها، ويستحب للضرر ،ويجب للإبلاء ، ويحرم للبدعة)

سيبيّن المؤلف أنّ الطلاق ترد عليه الأحكام الخمسة، الإباحة والجواز والتحريم .... إلى آخره ، كما سيذكره المؤلف

ص: 303

الحكم الأول ، الإباحة عند الحاجة ، ويقصد بالحاجة أن يجد الزوج من زوجته سوء عشرة، سوء خُلق أو سوء خَلق أو غير ذلك من الأسباب ، فإذا وجدت الحاجة صار الطلاق مباحاً عند الفقهاء مع العلم أنّ الحاجة موجودة لكن لم يرفعوه إلى الاستحباب وإنما جعلوه مباحاً فقط، وكأنهم يشيرون إلى أنّ الصبر في مثل هذه الحالة أولى وأقرب شرعاً من المبادرة بالطلاق. على كل حال الحكم الأول الإباحة عند الحاجة. وضربنا المثال على الحاجة وهذا أمر واضح.

قال رحمه الله (ويكره لعدمها)

الطلاق لعدم الحاجة يعني الطلاق مع استقامة الحال. حكمه أنه مكروه. واستدلوا على الكراهة بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ففي الحديث أنّ الطلاق حلال وأيضاً هو مبغوض وينتج من المقدمتين أنه مكروه ، هذا الحديث فيه ضعف.

التعليل الثاني أنّ في الطلاق إعدام للمصالح الشرعية التي يحبها الله والتي شرع النكاح من أجلها وإعدام هذه المصالح مكروه.

القول الثاني: أنّ الطلاق مع استقامة الحال محرم، لأنّ فيه إضرار بالمرأة بلا حاجة، كما أنه من السفه إذ لا حاجة للطلاق ومع ذلك أوقعه وفيه ثالثاً وأخيراً. إعدام للمصالح الشرعية المرجوة من النكاح.

والقول بالتحريم قوي إلاّ أنه يشكل عليه فقط أنّ بعض السلف كان يطلق كالحسن ولم ينقل عن الصحابة والتابعين الإنكار عليه ولو كان فعل محرماً لأنكروا عليه ، يعني أقول هذا يشكل لكن القول بالتحريم بلا سبب وجيه جداً.

يقول رحمه الله (ويستحب للضرر)

يستحب الطلاق في صورتين.

الصورة الأولى أشار إليها المؤلف. وهي إذا وقع الضرر على المرأة فقوله للضرر يتعيّن أن نحمله على المرأة يعني على الضرر الواقع على المرأة. فإذا كرهت المرأة الرجل لسوء عشرته أو لسوء خُلقه أو لسوء خَلقه، أو لأي سبب من الأسباب فإنه يستحب للزوج أن يطلق. تعليل الاستحباب أنّ في هذا الطلاق تخليصاً للمرأة من الضرر. وتخليص الإنسان من الضرر مستحب.

النوع الثاني: الذي يستحب فيه الطلاق إذا أخلت المرأة بفرض من فروض الله أو تركت العفة حينئذ يستحب له أن يطلق.

ص: 304

والقول الثاني: أنّ الطلاق في هذه الحال واجب ، إذا أخلت بالفروض أو لم تأمن على عرضها وعفافها وحشمتها فإنها يجب أن تطلق.

واستدلوا على الوجوب بأنّ هذه المرأة لا يأمن أن تدخل على فراش الرجل من ليس منه. كما أنّ في إبقاء المرأة إقرار للخنا في أهله ولا يجوز للرجل أن يقرّ الخنا في أهله لأنّ هذا من الدياثة. حينئذ على هذا القول الثاني إذا صارت المرأة تخلّ بالصلوات أو بالصيام بأن تترك بعض الصلوات أو صيام بعض الأيام أو تترك الزكاة أو تترك أي فرض من فروض الله أو كانت ليست محتشمة أو عفيفة فالزوج مخيرّ بين أمرين ، إما أن يؤدبها ويعلم أنها أقلعت عن الخلق الذميم أو يطلق لا خيار إلاّ هذين الخيارين. القول الثاني قوي وهو وجوب التطليق إذا لم تستقم المرأة فإنها تطلق.

يقول رحمه الله (ويجب للإيلاء)

الإيلاء: هو الحلف على ترك وطء زوجة وسيخصص له المؤلف كتاباً كاملاً.

فإذا حلف وضربت له المدة ولم يفيء فإنّ الطلاق حينئذ واجب إن طلق وإلاّ طلق عليه الحاكم في هذه صورة لوجوب الطلاق.

الصورة الثانية: أن يتخذ الزوجان حكمان ويحكم حكمان بالطلاق حينئذ يكون الطلاق واجب ،فإذا رأى الحكمان أنّ الحال لن تستقيم وحكموا بالطلاق فالطلاق يكون واجب ،فإن طلق وإلاّ طلق عليه الحاكم. فهاتان صورتان للوجوب.

يقول رحمه الله (ويحرم للبدعة)

سيتناول المؤلف طلاق البدعة ببحث طويل لكن الذي يعنينا الآن أنّ البدعة تكون بأن يطلق الإنسان في طهر جامعها فيه أو في حيض، أو يطلق أكثر من واحدة فهذا الطلاق محرم ، وصاحبه آثم ، وأما مسألة الوقوع وعدمه فسيذكرها في الفصل اللاحق.

يقول رحمه الله (ويصح من زوج مكلف)

الطلاق يصح من الزوج المكلف المختار بالإجماع، لأنّ هذا الذي يملك عصمة النكاح له أن يطلق فلا إشكال في مسألة طلاق المكلف.

يقول الشيخ رحمه الله (ومميّز يعقله)

هذه العبارة فيها مسائل.

المسألة الأولى: أنّ غير المميز أو المميز الذي لايعقل الطلاق لا يقع طلاقه بالإجماع.

المسألة الثانية: أنّ معنى يعقل الطلاق أيّ يعرف معناه ويعلم أنّ إمرأته تبين منه بذلك ، هذا معنى يعقله.

ص: 305

المسألة الثالثة: الخلاف في هذه المسألة تفرّد الحنابلة بالقول بوقوع طلاق المميز قالوا أنّ طلاق المميز يقع واستدلوا على هذا بأدلة:

الدليل الأول: الآثار المروية عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

الدليل الثاني: أنّ هذا المميز عاقل يعرف معنى الطلاق فيقاس على المكلف، بجامع العقل وإن تخلف البلوغ إلاّ أنّ العقل موجود.

- القول الثاني: وهو قول الجمهور أنّ طلاق المميز لايقع واستدلوا على هذا بدليلين:

الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة والصبي منهم وهو مرفوع عنه القلم فكيف يصح طلاقه.

الثاني: أنّ الصبي المميز يقاس على غير المميز بجامع عدم البلوغ ، إذاً هذا هو الجامع بينهما ، الراجح مذهب الحنابلة اعتماداً على الآثار لكن ينبغي أن يكون المميز تحت ظل وليه وألا يبادر بالطلاق لأنّ المميز الصغير قد يختلف هو وزوجته عند أشياء تافهة. شاب صغير قد يبادر إلى الطلاق ، فعلى وليّ الأمر أن يلاحظ ذلك.

قال رحمه الله (ومن زال عقله معذوراً لم يقع طلاقه)

كالمجنون ومن أكره على شرب المسكر بغير حق ، وهو دائما بغير حق ، فإنه لايقع طلاقه بالإجماع ، واستدلوا على هذا بدليلين:

الدليل الأول: رفع القلم عن ثلاث. قالوا المجنون حتى يفيق.

الثاني: أنّ من فقد عقله لا قصد له ومن لا قصد له لا يعتد بكلامه. فمسألة من فقد عقله بعذر لا إشكال فيها.

ثم قال رحمه الله (وعكسه الآثم)

هذه المسألة هي التي فيها إشكال ، يعني أنّ من شرب المسكر عمداً بغير عذر ، وفقد عقله فإنّ طلاقه صحيح وواقع وهذا مذهب الحنابلة بل مذهب الأئمة الأربعة استدلوا رحمهم الله على وقوع طلاق السكران بأدلة:

الدليل الأول: قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه كل طلاق جائز إلاّ المعتوه.

الدليل الثاني: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا السكران كالصاحي في حد القذف ، ودليل ذلك أنّ عمر بن الخطاب لما شكي إليه كثرة شرب الناس الخمر شاور الصحابة رضي الله عنهم فقال علي رضي الله عنه أنه إذا شرب فقد عقله ثم هذى ثم قذف فأرى أن يحد حد القاذف ثمانون جلدة ، فنزل السكران منزلة الصاحي في حد القذف.

ص: 306

الدليل الثالث: أنّ هذا السكران فقد عقله بغير عذر فليس أهلاً أن يرفع عنه آثار قوله.

القول الثاني: أنّ طلاق السكران لايقع وهو مذهب عدد من الفقهاء وعدد من المحققين رحمهم الله استدلوا على هذا بأدلة:

الأول: أنه صح عن عثمان رضي الله عنه أنّ طلاق السكران لايقع ، وأنه لم يصح عن صحابي خلاف حينئذ إذا رأينا أنهم ذكروا

أنه لم يصح عن غير عثمان رضي الله عنه خلافه نحتاج الجواب عن أثر علي رضي الله عنه الجواب عنه من وجهين:

أو الجمع بينه وبين زعمهم أنه لم يصح إلاّ عن عثمان رضي الله عنه

الأول: أنه لا يصح ولا يثبت عن علي رضي الله عنه

الثاني: وهو الأقرب أنه لا دلالة في أثر علي رضي الله عنه فإنه ذكر أنّ كل الطلاق جائز إلاّ المعتوه ، ولم يتحدث عن السكران

فلا دلالة في الأثر من الأصل.

الدليل الثاني: للقائلين بعدم الوقوع أنّ الله تعالى قال {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء/43] فدلت الآية أنّ السكران لا يعتد بقوله لأنه لا يعلم ما يقول ، وإذا كان لا يعتد بقوله فإنه لا يقع طلاقه.

الدليل الثالث: أنّ السكران غير مكلف لأنه فاقد العقل وإن كان فاقد العقل بغير عذر إلاّ أنه فاقد العقل ، فوجد فيه وصف رفع التكليف. الراجح إن شاء الله أنه لا يقع ، وذكر أنّ الإمام أحمد رحمه الله رجع إلى هذا القول، فهذه المسألة من المسائل التي يعرف فيها الرواية الأولى والثانية ، فالثانية عدم الوقوع وهذا القول إن شاء الله أقرب.

* * مسألة / حد السكر الذي لايقع معه الطلاق ، هو ألاّ يعرف ما يقول ولا يفرقّ بين الأعيان فيختلط عليه مثلاً ردائه مع رداء غيره

ولا يشترط أن لا يعرف السماء من الأرض ، لأنّ المجنون قد يعرف السماء من الأرض ومع ذلك غير مكلف ، وهذا الضابط أخذ من الآية ، {حتى تعلموا ما تقولون} [النساء/43] فإذا علم ما يقول وفرق بين الأعيان وقع طلاقه وإن كان فيه نشوة السكر وإلاّ فلا.

قال رحمه الله (ومن أكره عليه ظلماً بإيلام له أو ولد

)

بدأ المؤلف بالكلام عن طلاق المكره والإكراه يحصل بأمرين:

الأول: إيقاع الأذى مباشرة.

الثاني: تهديد بالأذى

ص: 307

والمؤلف ذكر النوعين.

النوع الأول: يقول الشيخ: ومن أكره عليه ظلماً بإيلام له أو لولده ،أو أخذ مال يضره لم يقع.

إذا هدده بإيلام له أو لولده أو لوالديه أو لأقاربه لا يختصر الحكم به وبولده أو أخذ منه مالاً كثيراً أو ضربه فإنّ هذا إكراه.

ذهب الجماهير الأئمة الثلاثة وجمهور الأمة إلا أنّ طلاق المكره لايقع. واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا طلاق في إغلاق) وفسروا الإغلاق بالإكراه.

القول الثاني: أنّ الطلاق يقع ، وهو مذهب أبي حنيفة.

واستدل على هذا بأنّ المكره رجل مكلف طلق في نكاح صحيح فيقع. ويكون كغير المكره وهو تفقهه عجيب وبعيد كل البعد لأنّ الأحناف عمدوا للوصف الذي عليه مدار المسألة وهو الإكراه فألغوه وجعلوا المكره كغير المكره وهو غريب جداً ، ولهذا لم يوافقهم أحد من أئمة الإسلام الأئمة الأربعة ، وقولهم ظاهر الضعف.

النوع الثاني: يقول أو هدده بأحدها قادر يظن إيقاعه به لم يقع ، النوع الثاني من الإكراه أن يهدده ويشترط للتهديد شرطان:

الأول: أن يكون التهديد من قادر.

الثاني: أن يكون التهديد ممن يظن إيقاعه.

وفهم من كلام المؤلف أنه لا يشترط أن يغلب على ظنه إيقاعه بل مجرد ما يظن فقط أنه سيوقع عليه التهديد فإنّ له أن يطلق ، وهذا هو الصحيح أنه لا يشترط غلبة الظن بل يكتفى بالظن المجرد المتساوي الطرفين. فإذا تحقق الشرطان وطلق فإنّ طلاقه لايقع وإلى هذا ذهب الجماهير ما عدا الأحناف.

القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد ، أنّ مجرد التهديد ليس بمسوغ للطلاق، فإن طلق فهو واقع ويشترط أصحاب هذا القول أن يمسه بعذاب ولا يكتفون بمجرد التهديد.

والصحيح أنّ التهديد بهذين الشرطين كافي في عدم وقوع الطلاق ، ولا ننتظر إلا أن يعذب

ص: 308

* * مسألة / يشترط في هذا العذاب أن يكون عذاباً مؤلماً ، كالضرب المبرح أو أخذ مبلغ كبير من المال أو إيذاء قريب يعنيه ألاّ يؤذى ونحو ذلك ، أما إذا أخذ منه مبلغاً بسيطاً ، وقال أكرهت فإنّ هذا ليس بإكراه ولو كان بخيلاً. فإنّ مثلاً المبلغ البسيط عند البخيل يساوي المبلغ الكبير عند الكريم ، نحن نلغي الإكراه ونلغي وصف البخل ونقول إذا كان المبلغ يسيراً فإنه لا إكراه والطلاق واقع.

يقول المؤلف رحمه الله (فطلق تبعاً لقوله)

أفادنا المؤلف أنّ عدم وقوع الطلاق فيما إذا كان الطلاق لدفع الإكراه ، أما إذا كان الطلاق لا لدفع الإكراه وإنما بقصد إيقاع الطلاق فإنه يقع ، وهذا صحيح إذا تصور وقوعه ، فإذا أكره الإنسان وفي تلك اللحظة طلق لا يقصد دفع الإكراه وإنما يقصد أن يطلق حينئذ الطلاق واقع ، أما إذا قصد دفع الإكراه أو قصد أن يطلق فعلاً لكن بسبب الإكراه فإنه لا يقع.

والتفريق بينهما عسر جداً لا يكاد الإنسان يتصور إكراه ثم طلاق بعد الإكراه ويكون قصد الإنسان ماذا؟ الطلاق لا دفع الإكراه هذا لا يكاد يتصور ،

إلاّ في صورة واحدة وهي ما إذا تكرر الإكراه ثم ضجر الزوج فعلاً من هذا الزوجة بسبب كثرة إكراه أولياءها له على الطلاق ثم طلق قاصداً للطلاق حينئذ الطلاق يقع ، أما في الأمور والأحوال الطبيعية ، فإنه لا يتصور.

ثم قال رحمه الله (ويقع الطلاق في نكاح مختلف فيه)

الطلاق يقع في النكاح المختلف فيه يعني الذي اختلف فيه الأئمة بسبب فقد شرط كالنكاح بلا ولي وبلا شهود ..... إلى آخره.

أو بلا مهر. هذا الطلاق يقع ولو كان المطلق يرى عدم صحة النكاح ، ومعنى أنه يقع يحسب طلاق شرعي صحيح ، فلو فرضنا أنه نكح هذه المرأة نكاحاً صحيحاً يكون بقي له طلقتان.

الدليل على هذا أنّ هذا النكاح المختلف فيه ، يثبت النسب والعدة ولا يحد في الوطء فيه وهذه أحكام النكاح الصحيح فيقع الطلاق

الدليل الثاني: أنّ هذا الطلاق يحل الزوجة لغيره ، لأنه قد يرى هو أنّ النكاح غير صحيح. ولكن ترى المرأة والزوج الثاني أنّ النكاح صحيح ، فلا تحل للثاني إلاّ بعد طلاق الأول.

ص: 309

القول الثاني: أنه لا يصح الطلاق وهو عبث ، لأنّ المطلق لا يرى أنّ النكاح انعقد أصلاً فكيف يطلق ، والأقرب أنّ الطلاق يقع لمجموع الدليلين. وخروجاً من الخلاف وبقاء المرأة مترددة بين بقاءها في عصمة الأول وصحة زواجها من الثاني. الأقرب إن شاء الله وقوع الطلاق وهو الأحوط ، فنقول للزوج الذي تزوّج بغير وليّ طَلِّق ، فإن قال أنا أرى أنّ النكاح لم ينعقد سأمضي وتمضي هي ، نقول لا طَلِّق ، ولو أنّ الحاكم ألزمه لكان وجيهاً ، لأنه بهذا تنضبط الأمور ولا تبقى المرأة معلقة.

قوله (ويقع الطلاق في نكاح مختلف فيه) يعني وأما النكاح الباطل فإنه لايقع طلاقه، وهذا لا إشكال فيه ، وإن كان روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنّ النكاح الباطل أيضاً يقع طلاقه ، لكن الصحيح أنّ النكاح الباطل لا يقع طلاقه لأنّ النكاح الباطل لا قيمة له شرعاً مطلقاً. مثل أن يتزوّج الإنسان أحد محارمه ، فهنا لا نقول طلق وليس للطلاق أي قيمة ولا عبرة.

قال رحمه الله (ومن الغضبان)

هذه المسألة تعتبر من أمهات مسائل كتاب الطلاق حقيقة ، والحاجة إليها كثيرة جداً طلاق الغضبان عند الحنابلة يقع ، وهو مذهب الجماهير. واستدلوا على هذا بأدلة:

- الدليل الأول: أنّ الغضبان رجل مكلف عاقل يتصور ما يقول فيقع طلاقه.

- الثاني: أنّ في قصة المظاهر الذي ظاهر من زوجته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في بعض ألفاظه ، فغضب منها وظاهر واعتد النبي صلى الله عليه وسلم بظهاره وإن كان غضباناً والظهار كالطلاق.

القول الثاني: تقسيم ذكره وتبناه شيخ الإسلام ابن تيمية وأخذه عنه ابن القيم في إغاثة اللهفان الصغرى ، وأظن أنّ هذا التقسيم أول من قاله شيخ الإسلام. وهو كالتالي يقول ينقسم الغضبان إلى ثلاثة أقسام:

- القسم الأول: أن يكون في بداياته وأوائله بحيث يتصور ما يقول ويعني فهذا لا خلاف في وقوع طلاقه.

ص: 310

- القسم الثاني: أن يكون في أواخر الغضب بحيث انغلق عليه القصد ولم يعد يتصور ما يقول فهذا يقول ابن القيم عبارته {لا ينبغي أن يكون فيه خلاف} وهذان القسمان أمرهما واضح. لأنّ الغضبان الذي في نهاية الغضب حكمه حكم المجنون والمغمى عليه. بل كثيراً ما يغمى عليه فعلاً من شدة الغضب.

- القسم الثالث: من تعدى بداياته ولم يصل إلى نهاياته ، فهذا محل الخلاف ، ذكر الشيخ ابن القيم وكتابه إغاثة اللهفان لعدم وقوع طلاق الغضبان. أطال في هذه المسألة جداً. ذكر أدلة: أنا أقسّم أدلة الشيخ إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: نصوص

القسم الثاني: قواعد شرعية عامة

القسم الثالث: تعليلات فقهية

نبدأ بالقسم الأول: استدل بحديثين.

الحديث الأول (لا طلاق في إغلاق) وذكر أنّ السلف فسروا الإغلاق بالغضب لأنه مع الغضب ينغلق عليه مقصود الكلام ويخرج بلا إرادة.

الدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يقضي القاضي وهو غضبان)

وجه الاستدلال أنّ الشارع إنما منع القاضي من

الحكم أثناء الغضب ، لأنّ الغضب يمنع تصور ما يقول وينغلق عليه فهمه ، وهذا ما يقع في الغضبان.

لم أرى الشيخ استدل بنصوص إلاّ بهذين النصين.

القسم الثاني والثالث: القواعد والتعليلات ، هذه القواعد والتعليلات مجموعة من الأدلة يلتمس فيها الشيخ عدم وقوع الطلاق.

ومن وجهة نظري أنّ هذه التعليلات والقواعد ضعيفة.

السبب الأول: تأملت هذه القواعد والتعليلات كثيراً فوجدت أنّ هذه التعليلات والقواعد تشترك بين القسم الثاني والثالث تستطيع أن تنزلها على القسم المتفق عليه وتستطيع أن تنزلها على القسم المختلف فيه. لم تتمحض للقسم المختلف فيه. ولا يجد الإنسان فيها بغيته من القول بعدم وقوع طلاق الغضبان.

السبب الثاني: في الضعف أنّ هذه التعليلات مصادمة لفتاوى الصحابة. فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه يوقع طلاق الغضبان. وصح عن عائشة رضي الله عنها أنها ترى انعقاد يمين الغضبان. واليمين كالطلاق عقد ، إذا انعقدت من الغضبان فكذلك في الطلاق.

الأمر الثالث: الذي بسببه أرى أنّ التعليلات ليست بقوية. أنه انعقد الإجماع على وقوع طلاق الغضبان.

ص: 311

الأمر الرابع: ويعرفه كل من يمارس فتوى طلاق الغضبان ، وهو أنّ التفريق بين هذه المراتب عسر جداً لا يكاد يظهر إلاّ في صور نادرة وهي ما إذا وصل إلى غضب لا يختلف فيه اثنان. فيما عدا هذه الصورة التفريق بين المرتبة الثانية والثالثة يكاد يكون شكلي. لمجموع هذه الأمور أنا أرى لاسيما الإجماع وآثار الصحابة، أنّ اختيار الشيخين في هذه المسألة غير صحيح وأنّ الإنسان إذا طلق وهو غضبان فطلاقه واقع ما لم يصل إلى مرحلة لا يختلف فيها اثنان أنه لا يتصور ما يقول وخرج عن عقله وطوره. وهذه المرحلة لا يختلف فيها اثنان لوضوحها ما عدا هذه المرحلة وهي المرحلة الثانية فإنه يقع الطلاق ، وممن رجح هذا القول وانتصر له بكلام جيد ابن رجب رحمه الله فإنه انتصر لهذا القول بل تعجب من هذا القول لأنه يرى أنّ الصحابة رأوا وقوع طلاق الغضبان لأنه غضبان.

قال فجعل الذين لم يوقعوه الغضب الذي هو سبب في وقوعه سبب في عدم وقوعه. وهذا عكس فقه الصحابة.

على كل حال بعد التأمل ظهر أنا بوضوح أنّ هذا التقسيم نظري وأنه لا يسعف في الواقع ، وأنّ الراجح أنّ الغضبان إذا طلق فإنه طلاقه صحيح ، ولهذا لما سمع الناس بهذه الفتوى تجد لا يكاد يطلق إلاّ ويقول أنا غضبان. طبيعي أنه غضبان هو لم يطلق إلاّ لذلك ولا واحد بالمائة سيطلق وهو بنفسية هادئة ، هذا لا يوجد، إذا غالباً الناس إنما يطلقون حال الغضب ثم يأتي التفريق بين هذه المراتب وهو لا يمكن ، كما قلت هذه المسألة مهمة جداً ، والإنسان يحتاج أن يستخير وأن يسأل الله التوفيق فيها ، لكن هكذا ظهر لي بعد التأمل ولعل بعضكم لو رجع لكلام ابن القيم سيجد مسألة أنّ المعاني التي ذكرها تشترك بين المرتبة الثانية والثالثة.

قال رحمه الله (ووكيله كهو)

ص: 312

يعني أنّ وكيل المطلق كالمطلق في استحقاق الطلاق أفادنا المؤلف بهذه العبارة ، أنه يجوز للإنسان أن يوكل من يطلق عنه ، لأنّ الطلاق عبارة عن فسخ عقد فجاز التوكيل فيه ، وأفادنا أنّ الوكيل حكمه حكم الموكل ، فمن يجوز له أن يطلق هو بنفسه يجوز أن يُوكَل ومن لا يجوز أن يطلق هو بنفسه فإنه لا يصح أن يُوكَل ، فالصغير دون التمييز لا يُوكَل والمجنون لا يوكل وهكذا كل من لا يستطيع هو بنفسه أن يطلق فإنه لا يصح أن نوكله بالطلاق.

قال رحمه الله (يطلق واحدة)

يعني أنّ التوكيل المطلق لا يملك فيه الموكل إلاّ واحدة ، لأنّ مقتضى التوكيل المطلق أن يملك طلقة واحدة فقط ، فإن طلق أكثر فإنّ الزائد باطل.

يقول رحمه الله (ومتى شاء)

دائما ما سيتحدث الفقهاء في الطلاق عن أمرين الوقت والعدد ، فالموكل من حيث العدد يملك كم؟ واحدة ، ومن حيث الوقت مفتوح له ، فله أن يطلق متى شاء ما لم يفسخ الموكل ، والسبب في هذا أنّ عقد التوكيل عقد يقتضي الدوام والتراخي وليس عقدا على الفور فله أن يطلق متى شاء ما لم يفسخ الموكل.

قال رحمه الله (إلاّ أن يعيّن له وقتاً وعدداً)

فإذا عيّن له وقتاً أو عدداً لم يجز أن يخرج عن ذلك لأنّ الحق للموكل في تعيين العدد والوقت فإذا قال له لك أن تطلق ثلاثاً لمدة أسبوع انتهت الوكالة بعد مضي الأسبوع ، وإذا قال له لك أن تطلق واحدة لمدة سنة ، انتهت الوكالة بسنة وانتهت الوكالة إذا طلق واحدة المهم أنّ الذي الموكل إذا أقتّ العدد والوقت يجب على الموكل أن يلتزم به.

قال رحمه الله (وامرأته كوكيله في طلاق نفسها)

يعني من حيث الزمن والعدد ، وفي توكيل الزوج زوجته في الطلاق خلاف سيأتينا لا حقاً إن شاء الله الكلام في توكيل الزوج زوجته أن تطلق وفي جعل العصمة بيد الزوجة فترة مؤقته أو فترة مُطلَقًة ستأتي.

(فصل)

هذا الفصل في طلاق البدعة والسنة وهو أيضاً من الفصول المهمة.

فطلاق البدعة: هو الطلاق الذي يكون على غير شرع الله ،

وطلاق السنة: هو الطلاق الموافق لشرع الله. هذا من حيث التعريف العام

وسيبّين المؤلف طلاق السنة بتفصيل وطلاق البدعة بتفصيل. بدأ الشيخ رحمه الله بالسنة لأنه الأصل.

ص: 313

يقول رحمه الله (إذا طلقها مرة في طهر ، لم يجامع فيه وتركها حتى تنقضي عدتها فهو سنة)

أفادنا المؤلف أنّ طلاق السنة هو ما اشتمل على هذه الأوصاف. وهو أن يطلق مرة وأن تكون هذه المرة في طهر وأن يكون هذا الطهر لم يجامع فيه ، فإذا وجدت هذه الأوصاف ، فهو طلاق سنة.

الدليل على هذا أنّ الله تعالى قال: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق/1] وأنّ السلف فسروا هذه الآية بقولهم أي طاهرات من غير جماع وهذا تفسير مروي عن اثنين من أكبر وأفقه الصحابة. ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وهذا التفسير نص في المقصود فإذا كان الله سبحانه وتعالى أمر بطلاق السنة وبيّن الصحابة هذا الطلاق بهذا التفسير تعيّن المراد.

الدليل الثاني: حديث ابن عمر المشهور أنه طلق زوجته وهي حائض. فجاء عمر يستفتي النبي صلى الله عليه وسلم فتغير عليه وقال (مره فليراجعها) وسيأتينا هذا الحديث ،

وجه الاستدلال من هذا الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها

وأنه ثرّب عليه أنه طلق في الحيض ويمكن أن نستدل بوجه آخر وهو أنّ ابن عمر رضي الله عنه كأنه لم يجرأ أن يستفتي هو وطلب من أبيه أن يستفتي له ، وهذا يدل على أنّ الطلاق في الحيض كأنه مستقر عندهم أنه لا يجوز. على كل حال هذا وجه من الاستدلال وإلاّ الحديث نص في المقصود. إذاً هذه هي أدلة ، أنّ هذا هو طلاق السنة.

يقول رحمه الله (وتركها حتى تنقضي عدتها فهو سنة)

ص: 314

قوله وتركها حتى تنقضي عدتها أراد أن يشير إلى حكم طلاق الرجعية. الرجعية إذا طلقها وأصبحت في العدة ، فهل هي في طهر لم يجامعها فيه؟ أو ليست في طهر؟ يصدق عليها صحيح ، ولهذا ذكرها المؤلف ، لأنه لو قال طهر لم يجامعها فيه وترك المسألة لدخلت الرجعية ، المرأة الرجعية في طهر لم يجامعها فيه ومع ذلك طلاقها طلاق بدعة وليس بطلاق سنة. لأنّ طلاق الرجعية في العدة حكمه حكم إيقاع أكثر من طلقة في الطهر الواحد ، إذاً المخالفة في طلاق الرجعية في العدد ولا في الزمن؟ في العدد إذاً هو بدعي من هذه الجهة ، وإلاّ هي زوجة في طهر لم يجامعها فيه ، لكن حكم الطلاق حكم من طلق أكثر من مرة في طهر لم يجامعها فيه ، وسيأتينا أنّ الطلاق. بل جاءنا. وسيأتينا أنّ الطلاق أكثر من مرة في طهر واحد محرم وبدعي. إذا الآن عرفنا وتصورنا طلاق السنة.

فإن قيل ما هو الدليل على أنّ طلاق الرجعية بدعي؟ ما هو دليل هذا التفصيل.

فالجواب الأدلة كثيرة:

الدليل الأول: أنه إذا طلق الرجعية صدق عليه أنه طلق أكثر من مرة في طهر واحد.

الدليل الثاني: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر مره فليراجعها. ولو كان التطليق للرجعية يقع لأمره أن يطلقها وهي رجعية

الدليل الثالث: أنه صح عن ابن مسعود وعلي. أنّ الرجعية لا تطلق إلاّ بعد إرجاعها.

هذه ثلاث أدلة واضحة جداً ولا مجال من وجهة نظري للنزاع فيها أنّ طلاق الرجعية بدعي.

قال رحمه الله (فتحرم الثلاث إذن)

الطلاق الثلاث فيه مسألتان:

المسألة الأولى: حكم أن يطلق ثلاثاً؟

المسألة الثانية: إذا طلق هل يقع أو لايقع؟ وبين المسألتين فرق

المسألة الأولى حكمه. ذهب الجماهير إلى أنّ طلاق الثلاث محرم ، واستدلوا على هذا بأدلة:

الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ) وطلاق السنة فيه طلقة واحدة فالطلاق الثلاث ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم

الدليل الثاني: أنّ رجلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم طلق ثلاثاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم) فجعل التطليق ثلاثاً من اللعب بكتاب الله.

ص: 315

القول الثاني: أنّ الطلاق ثلاث جائز ، ولا محظور فيه واستدلوا على هذا بأدلة:

الدليل الأول: أنّ عويمر العجلاني رضي الله عنه لما لاعن امرأته وانتهى اللعان. قال يا رسول لقد كذبت عليها إن أبقيتها فطلقها ثلاثاً. وهذا الحديث صحيح.

الثاني: أنّ فاطمة بنت قيس أخبرت أنّ زوجها طلقها ثلاث تطليقات.

الدليل الثالث: حديث عائشة وهو أيضاً صحيح أنّ رجلاً طلق إمرأته فبت طلاقها.

قالوا هذه ثلاث نصوص في العهد النبوي فيها الطلاق الثلاث.

والراجح إن شاء الله أنّ الطلاق محرم وهو مذهب الجماهير.

والجواب عن هذه الأدلة التي ذكروها. أما حديث عويمر رضي الله عنه فإنّ الفرقة حصلت بالملاعنة وليس بالطلاق الثلاث وأما الجواب عن حديث فاطمة وعائشة فهو أنّ المقصود أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات كما في بعض الألفاظ. وليس المقصود أنّ هذا الصحابي جمع عليها الطلاق ثلاثاً. ثلاث طلقات في مجلس واحد أو في زمن واحد. ولهذا نقول الصحيح إن شاء الله أنّ طلاق الثلاث لا يجوز وهو كما قلت مذهب الجماهير. هذه مسألة.

المسألة الثانية ، مسألة هل يقع أو لا يقع وهذا يطول جداً ولا يتسع له الوقت والله أعلم.

ص: 316

الدرس: (2) من الطلاق

قال شيخنا حفظه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

انتهى بنا الكلام في مجلس الأمس عند حكم إيقاع الطلاق بالثلاث. وكان الكلام عن الحكم التكليفي واليوم إن شاء نتحدث عن الحكم

الوضعي يعني هل هو صحيح أو فاسد. والمؤلف رحمه الله لم يتطرق لهذا الأمر وإنما تطرق للحكم التكليفي فقط.

فقال (فتحرم الثلاث إذن)

وقبل أن نتحدث عن حكم طلاق الثلاث من حيث الصحة والفساد نريد أن ننبه إلى إضافة دليلين للقائلين

بتحريم طلاق الثلاث ، بالأمس حكيت الخلاف وأريد أن أضيف دليلين لتقوية القول بتحريم طلاق الثلاث.

الدليل الأول: الآية وهي قوله تعالى {فطلقوهن لعدتهن} ثم قال {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} [الطلاق/1]

ص: 317

وإذا طلق ثلاثاً فأيُّ أمر يحدث بعد الثلاث ، فالآية دليل على أنّ الطلاق الشرعي لا يكون إلاّ واحدة لكي يتبيّن ويتمهل الإنسان إن أراد إرجاع زوجته ، وإن أراد أتم الطلاق.

الدليل الثاني: أنّ التحريم مروي عن عمر وعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما فهذان دليلان يضافان إلى أدلة القول بتحريم الطلاق الثلاث.

نأتي الآن إلى الوقوع وعدمه ، اختلف العلماء رحمهم الله في الطلاق الثلاث هل يقع أو لا يقع؟

فذهب الحنابلة وهو المنصوص عن الإمام أحمد ومذهب الجماهير من أهل العلم. أنّ الطلاق الثلاث يقع. واستدلوا على وقوعه بالأحاديث السابقة معنا ،

الحديث الأول: حديث عويمر العجلاني أنه طلق امرأته ثلاثاً بعد الملاعنة.

الحديث الثاني: حديث فاطمة بنت قيس وأنّ زوجها طلقها ثلاثاً.

الحديث الثالث: حديث رفاعة رضي الله عنه فإنّ رفاعة طلقّ امرأته ثلاث طلقات ثم تزوجت بعده ، عبد الرحمن بن الزبير ثم أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله ، ليس معه إلاّ مثل الهدبة ، تقصد هدبة الثوب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.

سيأتينا هذا الحديث المهم لاحقاً إن شاء الله. لكن الذي يعنينا الآن. سيأتينا في باب الرجعة وهو عمدة في كتاب الرجعة.

اللي يعنينا الآن أنه في هذا الحديث طلقها ثلاثاً ، فهذه ثلاث أدلة.

الدليل الأخير: أنه صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه رأى وقوع الطلاق ثلاثاً.

والجواب عن الأحاديث. الثلاثة تقدم معنا بالأمس ، وهو أنّ في حديث الملاعن أنّ الفرقة حصلت باللعان. لا بالطلاق الثلاث.

وأما بالنسبة لفاطمة وبالنسبة لرفاعة الجواب عنهما أنّ المقصود بأنه طلقها ثلاثاً يعني منفصلات. بدليل رواية في حديث فاطمة فأرسل لها بآخر ثلاث تطليقات.

وأما الأثر عن ابن عباس فالجواب عنه أنّ ابن عباس صح عنه أيضاً أنه لا يقع.

ص: 318

القول الثاني: أنّ الطلاق الثلاث لا يقع وإلى هذا ذهب بعض الحنابلة وبعض المالكية وطاووس تلميذ ابن عباس وابن عباس رضي الله عنه والظاهرية ونصره شيخ الإسلام رحمه الله ابن تيمية ونصره شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله واستدلوا بأدلة:

الدليل الأول: حديث ابن عباس في صحيح مسلم أنه قال كان الطلاق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر الطلاق الثلاث واحدة. هذا الحديث في صحيح مسلم. أجاب عنه الجمهور بأجوبة

الجواب الأول: أنه منسوخ. بالأحاديث السابقة وهذا الجواب هو أضعف الأجوبة. إذا كيف يستمر العمل

على حديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر وهو منسوخ. هذا لا يستقم مطلقاً

الجواب الثاني: أنّ هذا الحديث ضعيف. ودلّ على ضعفه أمران:

الأول: أنه صح عن ابن عباس أنه أفتى بخلافه

الثاني: أنه روى تلاميذ ابن عباس خلاف هذا رضي الله عنه وهذا الجواب أيضاً ضعيف لأنّ القاعدة التي اتفق عليها العلماء أنّ العبرة بما روى لا بما رأى وربما وهو احتمال كبير جداً ، أنّ ابن عباس أخذ بفتوى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإن في حديث ابن عباس السابق لما قالوا سنتين من خلافة عمر قال ابن عباس فلما رأى عمر الناس تساهلوا في أمر الطلاق. قال يعني عمر أرى الناس قد تتابعوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه ثم أمضاه. رضي الله عنه وربما ابن عباس صار يفتي بقول عمر هذا وليس بغريب لأنّ ابن عباس كثير الأخذ عن عمر بن الخطاب. إذا هذا الدليل في الحقيقة سالم لا يوجد عنه جواب صحيح.

الدليل الثاني: ما تقدم معنا أنه صح عن ابن عباس أنّ الطلاق الثلاث واحدة.

الدليل الثالث: حديث ركانة وهو أنه طلق ثلاثاً ثم ندم فطلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلف أنه ما أراد إلاّ واحدة فحلف أنه ما أراد إلاّ واحدة فجعلها واحدة. وهذا الحديث ضعيف.

الدليل الأخير: قوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) وليس طلاق الثلاث على أمر الله ورسوله لأنّ النصوص دلت على أنه ينبغي أن يطلق مرة واحدة في الطهر الذي لم يجامع فيه.

ص: 319

ولهذا الراجح إن شاء الله ، أنّ الطلاق الثلاث لا يقع ، بسبب هذا النص ولأنه من الواضح جداً من خلال تتبع التاريخي أنّ انتشار هذا القول بين الأئمة الأربعة كان بسبب أنّ عمر ألزم الناس وتبعه الخلفاء واشتهر العمل بالإلزام بالثلاث تأديباً للناس وإلاّ فإنّ النصوص واضحة ، أنه كان الطلاق الثلاث واحدة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى الإمام أحمد لما قيل له فبما تجيب عن حديث ابن عباس لم يجب إلاّ بما ذكرنا ، وهو أنه روى عنه تلاميذه خلاف هذا. وهذا لا يكفي فإنه يروى عن الإنسان أشياء كثيرة وكلها صحيحة.

والخلاصة أنه إن شاء الله القول بأنه لا يقع أقرب ومن باب التنبيه الخلاف في هذه المسألة أهون من الخلاف في مسألة الحيض التي ستأتينا الآن. تلك المسألة مشكلة جداً ، أما هذه فهي أوضح منها ، ويظهر لي أنّ القول بعدم الوقوع أقرب

وبهذا نكون انتهينا من الطلاق الثلاث ونتقل إلى مسألة (في حيض)

قال رحمه الله (وإن طلق من دخل بها في حيض ، أو طهر وطء فيه ، فبدعة ، يقع)

أفادنا المؤلف أنّ التطليق في الحيض بدعة والتطليق في الطهر الذي أصابها فيه بدعة ، وأدلة هذا تقدمت معنا أثر ابن مسعود وأثر ابن عباس في تفسير الآية وأنّ ماعدا ما ذكروه رحمهم الله من أنه يطلق في طهر لم يجامع يكون بدعة وهذا يتناول الطلاق في الحيض والطلاق في طهر جامعها فيه ، والطلاق في الحيض محرم بالإجماع ، ليس فيه خلاف كما في الطلاق الثلاث ، وإنما محرم بالإجماع لكن الخلاف في وقوعه ، عرفنا الآن أنّ حكم الطلاق الثلاث فيه خلاف ، وحكم إيقاع الطلاق الثلاث فيه خلاف.

حكم الطلاق في الحيض محرم بالإجماع ، وحكم إيقاع الطلاق في الحيض ادعي فيه الإجماع أيضاً ، ومن هنا علمنا أنّ الخلاف في مسألة الحيض ليس كالخلاف في مسألة الطلاق الثلاث كما تقدم نأتي إلى وقوع الطلاق في الحيض. ذهب الأئمة الأربعة وجمهور الأمة وحكاه ابن قدامة وابن المنذر إجماع العلماء ، بل ذكروا أنه لم يخالف فيه إلاّ أهل البدع والأهواء تأكيداً للإجماع. كل هؤلاء ذهبوا إلى أنّ الطلاق في زمن الحيض محرم ويقع. وهذه المسألة تدور على حديث ابن عمر جميع الاستدلالات من الطرفين في حديث ابن عمر.

ص: 320

نبدأ بأدلة الجماهير الذي حكي إجماع:

استدلوا بأدلة من حديث ابن عمر. وحديث ابن عمر هو أنه رضي الله عنه طلق زوجته في الحيض واستفتى النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق والده عمر رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم (مره فليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أن يطلق فليفعل) هذا الحديث في الصحيحين. لكن له ألفاظ كثيرة جداً كل من الذين قالوا بوقوع الطلاق وبعدمه يأخذ ببعض ألفاظه ، نرجع فنقول استدل الجماهير بقول النبي صلى الله عليه وسلم (مره فليراجعها) وهذا أقوى دليل لهم ، وجه الاستدلال أنّ المراجعة في الشرع هي إعادة المطلقة. واستخدام النبي صلى الله عليه وسلم للألفاظ يكون استخدام شرعي. فقوله (مره فليراجعها) يعني أنّ الطلاق السابق واقع.

أجاب القائلون بعدم الوقوع بأجوبة كلها ضعيفة غير واضحة ولا مقنعة ، أقواها أنّ المراجعة هنا يقصد بها المعنى اللغوي ، وذلك أنّ الطلاق غالباً يسبب فراق أبدان الزوجين ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يراجع يعني مراجعة الأبدان. وكأنّ الطلاق لم يقع وهذا غير مقنع في الحقيقة ، ويبقى قوله (مره فليراجعها) محل إشكال.

الدليل الثاني: رواية لهذا الحديث من طريق ابن أبي ذئب أنه قال (وهي واحدة) يعني أنه في لفظ حديث ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال (مره فليراجعها وهي واحدة) وهذا نص أنها لا تكون واحدة إلاّ وقد وقعت.

والجواب على هذا الحديث. أنّ في هذه الرواية شذوذ ، فإنّ الذين رووا هذا الحديث عن تلاميذ ابن عمر كلهم لم يذكر هذه اللفظة مع أهميتها وكونها فاصل في النزاع ،لو كانت موجودة لرواها الباقون. وهذا الاستدلال أمره سهل وتم الجواب عنه بالتضعيف.

الدليل الثالث: في رواية في حديث ابن عمر علقها البخاري قال (وحسبت عليه بتطليقة)

الجواب عن هذا الاستدلال أنه ليس في الروايات ما يبيّن من الذي احتسبها ، هل هو ابن عمر أو عمر أو النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعض الروايات ما يدل على أنّ الذي احتسبها هو ابن عمر ، فإنه صرح في بعض الروايات أنه هو الذي احتسبها.

ص: 321

ويؤيد هذه الرواية ما جاء في الصحيح أنّ ابن عمر لما سئل عن هذه المسألة قال أفرأيت إن عجز واستحمق. فعلل حسبان الطلاق بكونه عجز واستحمق فكأنه هو الذي احتسب الطلاق ،وهذا المأخذ أشار إليه ابن القيم ، وعلى كل حال يبقى هذا اللفظ مشكل ويحتمل أنّ الذي احتسبها ابن عمر أو أنّ الذي احتسبها النبي صلى الله عليه وسلم هذه أدلة الجماهير. وبإمكانك أن تضيف إن شئت الإجماع

فإنّ بعضهم يضيف الإجماع فيقول محل إجماع.

القول الثاني: أنّ الطلاق محرم ولا يقع ، واستدل هؤلاء أيضاً بأدلة:

الدليل الأول: ما جاء في الحديث وهو قوله عن ابن عمر (ولم يعتد بها)

والجواب عنه. أنّ الروايات الصحيحة الثابتة فسرت أنّ المقصود بلم يعتد بالحيضة لا بالطلقة.

الدليل الثاني: ما جاء في روايات حديث ابن عمر وهو قوله (ولم يرها شيئاً) وهذه الرواية فيها ضعف. وإن كان بعضهم يميل إلى تحسين هذه الرواية ولكن الصواب أنها لا تثبت في حديث ابن عمر.

إذا استدلوا بلفظين: (لم يرها شيئاً) والثاني (لم يعتد بها) وبيّنا أنّ هذا الاستدلال باللفظين لا يستقيم. إلى هنا انتهى الاستدلال بالنصوص ، ولو كانت المسألة تقف على هذه الأدلة لكان القول بالوقوع هو المتعيّن.

ص: 322

والسبب في ذلك: أنه لا جواب صريح عن (مره فليراجعها) في الحقيقة مشكل جداً كما أنّ (احتسبت عليه) فيه قوة لكن ليس بقوة الدليل الأول وهو (مره فليراجعها) لكن بقي دليل ذكره شيخ الإسلام رحمه الله من وجهة نظري أنه يقلب الموازين ويربك القائلين بوقوع الطلاق في الحيض. وهو أنه يقول أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمراجعة ، ومقتضى هذا أنه أمره بأمر لا مصلحة فيه ولا فائدة ، لأنه إذا راجع وقد أوقعنا الطلاق ترتب على هذا مضرة إضافية على المرأة من جهتين وقوع الطلاق الثاني وتطويل العدة ، والشارع لا يأمر بما فيه مضرة للمطلقة ولا بما فيه عبث. هذا الدليل قوي جداً ولا يملك الإنسان أمامه في الحقيقة أن ينساق لظاهر الألفاظ ويترك هذا المعنى القوي ، وأنا أتيت لكم بعبارات الشيخ عبارة شيخ الإسلام رحمه الله عبارة قوية جداً أذكرها لكم. يقول الشيخ هنا في هذه المسألة لا حظ عبارة الشيخ المسألة هذه مهمة وضرورية جداً يعني الطلاق في زمن الحيض كثير جداً الآن وسابقاً يقول الشيخ في تقرير هذا الدليل [لو كان الطلاق قد لزم لم يكن في الأمر بالرجعة ، ليطلقها ثانية فائدة ، بل فيه مضرة عليهما - الزوج والزوجة - ولو لزم الطلاق المحرم لحصل الفساد الذي كره الله ورسوله ، ولا يرتفع ذلك الفساد برجعة يباح له الطلاق بعدها ، والأمر برجعة لا فائدة فيها مما ينزه عنه الله ورسوله فليس في أمره برجعتها مع لزوم الطلاق له مصلحة شرعية بل زيادة مفسدة يجب تنزيه الله ورسوله عن الأمر بما يستلزم زيادة الفساد] هذا الذي ذكرت خلاصة يعني أتيت بالزبدة من كلامه وإن كان من لفظه ، وإلاّ هو أطال في تقرير هذا وبيّن أنّ هذا لا يمكن أن تأتي به الشريعة لأنه مفسدة محضة للمرأة والرجل والأولياء وفيما يتعلق بعدد الطلاق وفيما يتعلق بتطويل العدة فكيف يأمر الله سبحانه وتعالى بمراجعة وإيقاع الطلاق الأول والثاني.

ص: 323

ولهذا أنا أقول إنّ هذا القول الثاني الذي يذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجيه في الحقيقة والإنسان يركن إليه وهو مطمئن وهو مروي عن ابن عباس رحمه الله ومروي عن طاووس ومروي عن الظاهرية. فلم يتفرد شيخ الإسلام به ومروي عن بعض المتأخرين من المحققين مثل ابن الوزير رحمه الله المهم أنه يوجد قائل بهذا القول في عهد الصحابة والتابعين ومن بعدهم فالإجماع غير واقع وإن شاء الله يكون هذا القول الذي ذكره الشيخ قوي ولا يخفى عليكم إن شاء الله أنّ الخلاف الذي سمعتم قوي جداً وأنه يتوجه جداً للإنسان إذا لم يتبيّن له وجه المسألة أن يمسك عنها ، فإنّ هذه المسائل من المضائق ولهذا الإمام كان أحمد لا يفتي

فيها وإن كانت له أقوال ، لكن لا يفتي فيها لأنها محل مضيق ولو أنه النصوص فيها متعارضة والخلاف واقع فيها بين الصحابة ، لكن هذا الذي يظهر بعد تأمل وتأني والله أعلم بالصواب.

يقول الشيخ رحمه الله (وإن طلق من دخل بها في حيض ، أو طهر وطىء فيه)

إذا طلق في الطهر الذي وطء فيه ذكرت أنه بدعة. ذكرت في الأدلة ويستثنى من هذا ما إذا استبان حملها ، فإذا وطء واستبان الحمل فليس ببدعة وسيأتينا في صريح كلام المؤلف.

قال رحمه الله (وتسن رجعتها)

هذه المسألة مفرعة على القول بالوقوع ، كما أنّ بعض المسائل التي ستأتينا مفرعة على القول بالوقوع ، إذا أوقعنا الطلاق فإنه يسن أن يراجع المرأة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (مره فليراجعها)

والقول الثاني: أنّ المراجعة واجبة ، لأنّ قوله (مره فليراجعها) أمر والأصل في الأمر للوجوب والأقرب أنّ الأمر للوجوب وهذا الخلاف في مسألة المراجعة إنما هو في الطلاق أثناء الحيض ، أما إذا طلق في طهر وطئها فيه ، فإنّ المراجعة سنة بالإجماع لم يقل أحد بوجوبها وكما علمتم هذا التفصيل والكلام كله إنما هو على القول بالوقوع. أما إذا لم يوقع فليس هناك مراجعة لا سنة ولا واجبة.

قال رحمه الله (ولا سنة ولا بدعة: لصغيرة ، وآيسة ، وغير مدخل بها ، ومن بان حملها)

ص: 324

قوله ولا سنة ولا بدعة ظاهره أنه لا سنة ولا بدعة في الوقت والعدد ، فيجوز أن يطلق ثلاثاً ، والصواب أنه لا سنة في الوقت ولكن هناك سنة وبدعة في العدد ، فالصغيرة والآيسة ومن بان حملها يجوز أن نطلقها في كل وقت ، لكن لا يجوز أن نطلقها أكثر من واحدة.

والدليل على هذا. أنّ النصوص التي دلّت على تحريم إيقاع الثلاث شاملة للآيسة والصغيرة ونحوها ، وليس مع الحنابلة دليل يدل على استثناء هذه الأعيان أو هذه النساء اللاتي لا تحيض أو لم يبدأ معها الحيض أو بان حملها، إذا الصواب أنه لا سنة ولا بدعة من جهة الوقت فقط.

يقول رحمه الله (لصغيرة وآيسة وغير مدخل بها ومن بان حملها)

لو أنّ الشيخ بدأ بمن لم يدخل بها لكان أولى ، لأنّ من لم يدخل بها بالإجماع لا سنة ولا بدعة في حقها ، وتعليل ذلك أنّ من لم يدخل بها

لا عدة عليها ،ومن لا عدة عليها فإنه لا يقال أنه في ايقاع الطلاق زمن الحيض إطالة للعدة لأنه لا عدة أصلاً.

وأما الصغيرة والآيسة فأيضاً لا بدعة ولا سنة في حقها ، لأنها ستشرع في العدة من حين يقع الطلاق ، ونحن نمنع طلاق البدعة بما في من تطويل العدة ، وهنا لا تطويل فلا سنة ولا بدعة ، وكذلك من بان حملها ينطبق عليها نفس الشيء لأنها من حين تطلق تبدأ بالعدة فليس في طلاقها سنة ولا بدعة ، ومعلوم أنه ذكره من بان حملها مبني على إمكانية الحيض من الحائض وهذه مسألة تقدمت معنى في كتاب الطهارة وهي هل تحيض الحامل أو لا؟ فعلى القول بأنها تحيض لا سنة ولا بدعة فله أن يطلقها وهي حائض وطلاقه صحيح

لأنّ في هذه الصورة لا يوجد تطويل للعدة.

قال رحمه الله (وصريحه لفظ الطلاق ، وما تصرف منه)

أفادنا المؤلف مسألتين:

المسألة الأولى: أنّ الطلاق لا يقع إلاّ باللفظ لا يقع بالنية المجردة.

الثاني" أنّ ألفاظ الطلاق فيها صريح وفيها كناية.

والصريح / ما يحتمل إلاّ طلاق كقوله أنت طالق.

والكناية / ما يحتمل الطلاق وغيره كقوله اخرجي أو اعتدي وسيأتينا

وأفادنا المؤلف أنّ صريح الطلاق فقط لفظ الطلاق ، لا يوجد لفظ صريح للطلاق إلاّ لفظ الطلاق وما تصرف منه وما عداه من الألفاظ فهو كناية.

ص: 325

والقول الثاني: أنّ صريح الطلاق ثلاثة ، الطلاق والفراق والتسريح.

فأضافوا التسريح والفراق ، واستدلوا على هذا بأنّ الفراق والتسريح جاء في كتاب الله وفي العرف مراداً به الطلاق فهو صريح فيه

والصواب أنّ الفراق والتسريح ليس من الصريح لأنه يستعمل في غير الطلاق بكثرة واللفظ الذي يستعمل في غير موضوعه بكثرة فليس صريحا فيه.

القول الثالث: أنّ هذا التقسيم إلى صريح وكناية صحيح من حيث أصل الوضع ، إلاّ أنه يختلف باختلاف البلدان والأوقات.

فما يكون صريحاً عند قوم قد يكون كناية عند آخرين وما يكون كناية عند قوم قد يكون صريحاً عند آخرين. وهذا القول تبناه العلامة ابن القيم وأنت تلاحظ أنه لا ينازع من حيث أصل الوضع في وجود صريح وكناية. لكنه يقول إنّ هذا يختلف باختلاف الأحوال والأماكن والأزمان. وقوله صحيح ووجيه ، فإذا استخدم قوم لفظاً من الألفاظ للطلاق الصريح فهو صريح عندهم وإن لم يكن لا طلاق ولا فراق ولا تسريح ، فإذا هذا القول إن شاء الله الأقرب.

يقول الشيخ رحمه الله (وصريحة لفظ الطلاق وما تصرف منه)

ما تصرف منه كأن يقول لها أنت مطلقة أو أنت طالق ، هذا صريح في الطلاق لأنه متصرف من لفظ الطلاق.

قال رحمه الله (غير أمر، ومضارع ، ومطلقة اسم فاعل)

هذه ثلاثة يقول غير أمر ومضارع ومطلقة اسم فاعل ، الأمر والمضارع واسم الفاعل من الطلاق. هذه ليست صريحة.

فإذا قال لها اطلقي ، أو تطلقين ، أو مطلقة. فإنه لا يقع الطلاق لماذا؟ قالوا لأنّ هذه الألفاظ لا تدل على إرادة إيقاع الطلاق فليست فيه إذا ماذا تكون؟ مهملة! تكون كناية فتقع بالنية ، وممن اختار أنّ هذه الألفاظ إذا لم نعتبرها من الصريح فهي كناية. شيخ الإسلام رحمه الله فإذا لا نهمل هذه الألفاظ إذا قال لها اطلقي ، نقول إن أردت الطلاق فهو كناية ويقع.

قال رحمه الله (فيقع به وإن لم ينوه جاد أو هازل)

ص: 326

الضمير يعود إلى الصريح ، وإن لم ينوه جاد أو هازل ، هذه مسألة مهمة ، وهي أنّ الحنابلة يرون أنّ الطلاق باللفظ الصريح لا يحتاج إلى نية ، وفي نفس الوقت يقع من الهازل ، وأشار ابن القيم رحمه الله إلى أنّ الخلاف في مسألة طلاق الهازل والطلاق بالصريح بغير نية واحد ، مسألة واحدة. وهذا ابداع منه لأنه يلخص لك المسائل ويرجع بعضها إلى البعض في حقيقة المسألة ، وأنت إذا تأملت تجد أنّ حقيقة طلاق الهازل هو طلاق صريح بغير نية ،إذا الخلاف في المسألتين واحد ،نقول ذهب الحنابلة إلى أنّ إيقاع الطلاق بالصريح بلا نية أو طلاق الهازل يقع ، واستدلوا بدليلين:

الدليل الأول: قوله تعالى {ولا تتخذوا آيات الله هزوا} [النساء/89] ومن هزل بالطلاق أو قال أنت طالق ثم قال لم أنوي إيقاع الطلاق فهو اتخذ آيات الله هزواً ، يعني أحكامه. فناسب أن نلزمه بمقتضى القول.

الدليل الثاني: وهو عمدة القول قوله صلى الله عليه وسلم (ثلاث جدهن جد ، وهزلهن جد ، النكاح ، والطلاق ، والرجعة).

قالوا هذا الحديث نص في المسألة ، والجواب عن الحديث أنه مشكل جداً لو صح لكن الحديث ضعيف لا يثبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأحب أن أنبه إلى أنّ هذا الحديث لا يثبت ولا بمجموع طرقه ، مهما تعددت الطرق فإنه لا يثبت فهو حديث لا يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم

القول الثاني: أنّ الطلاق في هذه الصورة لا يقع ، واستدلوا أيضاً بأدلة:

الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) يعني إنما اعتبار الأعمال بالنيات.

الدليل الثاني" قوله سبحانه وتعالى: {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} [البقرة/227] والهازل لا عزم له ،يعني أنّ الهازل لم يعزم فلا يقع الطلاق. والآية دلت على أنّ الطلاق يحتاج إلى عزم.

ص: 327

الدليل الثالث: ما رواه البخاري عن ابن عباس أنه رضي الله عنه ، قال (إنما الطلاق عن وطر) ومعنى عن وطر يعني عن قصد وإرادة وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله وهو أنّ الطلاق لا يقع فإذا قال أنت طالق لا يقصد أبداً الطلاق يقصد تخويفها يقصد استخدام هذا اللفظ ، فإنه عند الحنابلة والجمهور يقع ، ونقول بانت زوجتك أو كانت رجعية فيما يملك من عدد الطلاق. وكذلك لو هزل فقال أنت طالق أنا أمزح فعند الجمهور طلقت لأنّ الطلاق ليس فيه هزل ، لكن الصحيح إن شاء الله أنها لا تطلق وكما أشرت مراراً وتكراراً ، فائدة العلم أن يولد الورع وإلاّ ما فائدة العلم؟! فالآن علمت أنّ الجماهير يوقعون طلاق الهازل فمن الأشياء التي يتحتم التنبيه عليها أنّ الطلاق ليس من الأمور التي يهزل بها ، وأنك لو هزلت فإن زوجتك طالق عند الأئمة الأربعة ، فهو ليس أمراً سهلاً وإن كان الراجح هو القول الثاني. لكن العلم يولد الورع لا الاستخفاف ، فبعض الناس العلم يولد عنده التهاون ، فإذا علم أنّ القول الثاني هو الراجح تهاون فيه فصار ثمرة العلم عكسية عليه ، وهذا خطأ تربوي.

* * مسألة ضرورية / ذكر بعضهم أنه من أدلة الأئمة الأربعة. أنّ الصحابة يوقعون الطلاق ، صحيح توجد آثار كثيرة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنّ طلاق الهازل يقع. لكن لا يصح منها شيء. ليس من هذه الآثار أثر صحيح. فكلها ضعيفة. فليس عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ما يدل على وقوع طلاق الهازل.

قال رحمه الله (فإن نوى بطالق من وثاق ، أو في نكاح سابق منه أو من غيره ، أو أراد طاهراً فغلط لم يقبل حكماً)

هذا أيضاً من أحكام الطلاق الصريح ، فحكمه الأول" أنه يقع ولو بلا نية.

ص: 328

الثاني" أنه إذا قال طالق ثم قال نويت من وثاق أو في نكاح سابق منه أومن غيره أو أراد طاهراً فغلط ، يعني أراد أن يقول أنت طاهر فقال أنت طالق ، لم يقبل حكماً ، معنى لم يقبل حكماً يعني لم يقبل إذا ترافعوا إلى القاضي ، ومقابل قبول القول حكماً قبوله ديانة ومعنى قبوله ديانة ، فيما بينه وبين الله ، فإذا قال أردت أنت طاهر فقلت طالق ، وأردت من وثاق فديانة يقبل يعني تعتبر هذه الزوجة في عصمته بينه وبين الله ، وأما إن ارتفعوا إلى الحاكم ، بأن ادعت المرأة أنه قال أنت طالق ، فإنّ الحاكم لا يقبل منه زعمه أنه أراد من وثاق أو أراد أن يقول طاهر فقال طالق ، استدل الحنابلة على عدم قبوله حكماً ، بأنه يدعي خلاف ظاهر اللفظ. فلا يقبل منه.

القول الثاني: أنه يقبل منه حكماً لأنه يدعي شيئاً ممكناً ، فقبل منه. ولعل الأقرب أنّ هذه المسائل ترجع إلى رأي القاضي ، فإذا رأى أنّ هذا الزوج متلاعب وأراد أن يستحل من زوجته ما لا يحل له أو أراد أن يوقع الطلاق ويراجع لأنه يعلم أنه يملك المراجعة أو احتال على أي شيء من هذه الأشياء فإنّ يجب على القاضي أن لا يقبل منه ، وإذا كان رجل متدين معروف الصدق والأمانة لم يخبر عليه كذب وزعم أنه سبق لسان منه ، وقال هذه الكلمة لم يردها فإنه ينبغي أن يقيل عثرته.

قال رحمه الله (ولو سئل أطلقت امرأتك فقال: نعم وقع)

لو سئل أطلقت امرأتك فقال نعم وقع ، وإن قال فيما بعد أنا كذبت يقع ، وإن كان كذب فعلاً لماذا؟ لأنّ الصريح في الجواب كالصريح في الابتداء فعادت هذه المسألة إلى الطلاق بلا نية ، لأنه هنا ليس له نية ، هو لم يهزل هنا ، فإن قلنا أنّ الطلاق بغير نية في الصريح يقع فهنا يقع ، وإن قلنا الطلاق بغير نية إذا لم يقصد لا يقع فهنا لا يقع.

قال رحمه الله (أو ألك امرأة؟ فقال: لا، وأراد الكذب فلا) إذا قيل له ألك امرأة؟ فقال لا وأراد الكذب فإنه لا يقع ، لماذا لأنّ غاية هذا اللفظ أن يكون كناية ، والكنايات لا تقع إلاّ بنية ، فإذا لم ينوي إيقاع الطلاق فهو لا يقع. مقتضى تقرير الحنابلة ، أنه إذا قيل لرجل ألك امرأة ثم جلس يفكر وأراد أن يطلق فقال لا وأراد

ص: 329

أن يطلق ، وأراد بلا الطلاق فإنه يقع لكن قلّ ما يقع مثل هذا الأمر.

(فصل)

قال رحمه الله (وكناياته الظاهرة: نحو أنت خلية ، وبرية ، وبائن)

هذا الفصل مخصص في الكلام عن الكنايات ، والكنايات تنقسم إلى قسمين:

1 -

كناية ظاهرة

2 - كناية خفية

فالكناية الظاهرة هي الألفاظ التي يظهر منها إرادة إيقاع الطلاق.

والخفية. هي الألفاظ التي يخفى منها إرادة إيقاع الطلاق.

وسيأتينا أنّ الظاهرة تختلف عن الخفية بأنّ الظاهرة تدل على البينونة الكبرى عند الحنابلة. كما سيأتينا.

يقول الشيخ رحمه الله (وكناياته الظاهرة: نحو أنت خلية ........ )

الكناية الظاهرة تعريفها / كل لفظ يدل على الطلاق دلالة ظاهرة ، ويقع به بينونة. هذا تعريف الطلاق عند الحنابلة وهذا التعريف صحيح إلاّ آخره وهو قضية أنه يدل على البينونة وستأتي مناقشة هذه المسألة.

يقول الشيخ (وكناياته الظاهرة) ثم مثلّ له فقال. أنت خلية: الخلية في أصل اللغة الناقة المطلقة. فكأنه شبه زوجته بإطلاق الناقة والإطلاق هنا من قيد النكاح.

وقوله (وبرية) مشتقة من البراءة ، والبراءة هنا أيضاً من عقد النكاح. يعني أنت بريئة من عقد النكاح. وإذا كانت بريئة من عقد النكاح طلقت.

وقوله (وبائن) مشتق من البين وهو الفراق ، البين بين اثنين يعني الفراق منهما ، وافتراق الزوجين يعني انقطاع النكاح.

وقوله (وبتة وبتلة) البتة والبتلة مشتقة من القطع لأنّ البت هو القطع ، وقطع الحبل بين الزوجين هو الطلاق.

وقوله (وأنت حرة) يدل على إيقاع الطلاق لأنّ الزوجة عند الزوج بمنزلة الأمة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فإنهن عوان عندكم) يعني رقيقات. فإذا قال لها أنت حرة من عقد النكاح فهي طالق.

وقوله (وأنت الحرج) يعني الإثم وهي تكون محرمة عليه وهو آثم إذا أتاها إذا كانت مطلقة.

ثم قال رحمه الله (والخفية: أخرجي ، واذهبي ، وذوقي)

ص: 330

الخفية: الألفاظ الخفية. هي كل لفظ دل على إرادة الطلاق دلالة خفية مع إيقاعه مرة واحدة ،هذا هو حقيقة الكنايات الخفية. مثلّ لها بقوله (اخرجي ، واذهبي ، وذوقي ، وتجرعي) هذه الأربع واضحة إذا قال اخرجي واذهبي ....... الخ ، وأراد مع ذلك الطلاق فهي طلقة واحدة رجعية ، وتكون من الكنايات الخفية ، لأنه أمرها بالخروج والذهاب وأن تذوق وتتجرع ، فالذوق والتجرع هو لآلام الطلاق ، والخروج والذهاب يعني عن بيت الزوجية والمفارقة بذلك.

وقوله (واعتدي) هذا اللفظ من الكنايات وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم فقال لسودة رضي الله عنها (اعتدي) واعتبره الفقهاء من الكنايات الخفية لكن في الحقيقة كلمة (اعتدي) هو خفي ولا ظاهر؟ يعني العدة عادة؟ ظاهرة لماذا اعتبروه خفي؟

لأنّ من صميم تعريف الظاهرة أن تدل على البينونة ، (واعتدي) لا تدل على البينونة فبنى الحنابلة التمثيل على التعريف ولا في الحقيقة (اعتدي) كناية ظاهرة جداً ، بل هو أوضح من بتلة وبتة وأنت حرة ، لأنها لم تعتد إلاّ بعد الطلاق.

قوله (واستبرئي) يعني رحمك ، والمرأة إنما يطلب منها الإستبراء إذا وقع عليها الطلاق ، وما قيل في (اعتدي) يقال في (استبرئي) من حيث كونه خفي أو ظاهر.

وقوله (اعتزلي) يعني كوني وحدك ، فإذا قصد بقوله اعتزلي الطلاق وقع لأنه كناية عنه.

وقوله (لست لي بامرأة) كناية خفية واعتبروه خفية لأنه لا يدل على عدد.

وقوله (الحقي بأهلك) قاله النبي صلى الله عليه وسلم لابنة الجون. فإنها لما قالت أعوذ بالله منك ، قال الحقي بأهلك واعتبرت هذه طلقة رجعية.

ثم قال رحمه الله (وما أشبهه)

إذا ما أشبه هذه الألفاظ التي تدل على المفارقة من غير عدد ، فإنها تعتبر من الكنايات الخفية ، والحاجة إلى الكنايات قليلة جداً من وجهين:

الوجه الأول: أنّ استخدام هذه الكنايات قليل جداً. إذا أراد أن يطلق قال أنت طالق.

الوجه الثاني: أنّ ابن القيم اختار أنّ الكناية والصريح يختلف فهذه الكنايات هي في الواقع صرائح عند قوم آخرين فلا نحتاج إلى التقسيم ولا إلى التنبيه.

ثم قال رحمه الله (ولا يقع بكناية ولو ظاهرة طلاق إلاّ بنية مقارنة للفظ)

ص: 331

لا يقع بالكنايات طلاق إلاّ مع النية بلا نية لا يقع طلاق ، وتعليل ذلك أنّ هذه الألفاظ تحتمل الطلاق وغيرها ، واللفظ إذا احتمل معنيين فإنه لا يحدد إلاّ بالنية.

القول الثاني: أنّ الظاهرة لا تحتاج إلى نية ، لأنها واضحة في الطلاق ومغرقة فيه إلى درجة أنها تقتضي البينونة فكيف نحتاج مع ذلك إلى نية ووالصواب أنها تحتاج إلى نية ، بل قال المرداوي رحمه الله عن هذا القول وفيه بعد ظاهر ، أو عبارة نحوها فهذا القول بعيد إذا كان الخلاف قوي في صريح الطلاق فكيف سيكون الخلاف في كنايته.

قال رحمه الله (إلاّ في حال خصومة أو غضب وجواب سؤالها)

لما قرر المؤلف أنّ الكنايات لا تقع إلاّ بالنية أراد أن يبيّن صوراً تستثنى ويقع فيها الطلاق بلا نية عند الحنابلة،

وهذه هي إذا كانت هذه الألفاظ قيلت في خصومة حال خصومة ، أو في حال غضب ، أو في جواب سؤالها يعني إذا طلبت منه الطلاق.

قال رحمه الله (فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال لم يقبل حكماً)

الحكم فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال لم يقبل حكماً. إذا طلق بالكنايات حال الخصومة أو الغضب أو بسبب الطلب فإنه يقع مطلقاً ولو زعم أنه لم يرد الطلاق ، هذا حكماً فإذا قالت الزوجة أنه قال لي بعد خصومة اخرجي ثم قال الزوج ما أردت الطلاق فعند الحنابلة لا يقبل منه وتقع الطلقة ،

استدل الحنابلة على هذا: بأنّ قرينة الحال تغني عن النية وتقوم مقامها فلم نعد بحاجة إلى النية

ثانياً: أنّ زعمه أنه لم يرد الطلاق يخالف الظاهر فإنّ الظاهر أنّ هذا اللفظ على إثر خصومة أو غضب أو طلب ، إنما أراد به المفارقة.

القول الثاني: أنّ هذه الألفاظ تنقسم إلى قسمين:

فإن استخدم الألفاظ التي يكثر إرادة الطلاق بها فالحكم كما قال الحنابلة.

وإن استخدم الألفاظ التي لا يكثر إرادة الطلاق بها فإنه يقبل منه حكماً أنه لم يرد الطلاق ، فيقسمون الألفاظ إلى قسمين.

القول الثالث: أنه لا يقبل إلاّ بنية في الجميع ، واستدل هؤلاء بدليلين:

الدليل الأول: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال (إنما الأعمال بالنيات) ولم يستثني حال الغضب أو الخصومة أو طلب المرأة.

ص: 332

الثاني: أنّ اعتبار النية لا يسقط في حال لا الغضب ولا في حال الرضا ، يعني أنه لا يختلف بين حال الغضب والرضا بل يعتبر في الحالين. وهذا القول الأخير هو الصواب بلا شك ، رجل قال لزوجته بعد نزاع وشقاق اخرجي ، نقول طلقت منك وإن لم يرد ربما أراد بقوله اخرجي تجنب وقوع الطلاق فكيف نعامله بنقيض قصده ونقول وقع الطلاق ، في هذا القول بعد كبير جداً ، ولهذا ابن قندس رحمه الله من كبار الحنابلة أشار إلى أنه يرى أنّ الحنابلة ما أرادوا بهذه العبارة إسقاط اعتبار النية وإنما أرادوا أنّ قرينة الحال تكفي عن النية ، وهو تخريج منه جيد ، فيبعد أن يكون مراد الحنابلة أنه إذا استخدم الكنايات في حال الغضب تطلق مباشرة. وإنما لعلهم أرادوا أنّ الكناية الآن أو أنّ الملابسات والقرائن تغني عن النظر لي النية ،على كل حال سواء صح ما ذكره ابن قندس أو لم يصح الراجح أنه لا بد من النية في الكنايات ، لاسيما مع ترجيح اشتراط النية في الصريح.

وقوله (حكماً) دليل على أنه يقبل منه في الديانة وفي بينه وبين الله ، فإذا قبلت المرأة منه أنه ما أراد الطلاق ولم يترافعا إلى الحاكم فهي زوجته عند الله وعند رسوله. يعني زوجته في حقيقة الأمر ، ويديّن بينه وبين الله ولا يأثم بتركها.

قال رحمه الله (ويقع مع النية بالظاهرة ثلاث وإن نوى واحدة)

الكنايات الظاهرة إذا استخدمها الزوج صارت أعظم من الصرائح أليس كذلك؟ لأنه إذا قال أنت طالق واحدة ، وأما إذا استخدم كناية ظاهرة فقال أنت بتة ،أو أنت حرة ، فإنها تقع ثلاث. الدليل قالوا إنّ هذه الألفاظ تحمل معنى البينونة ، والبينونة لا تكون إلاّ بإيقاع الثلاث.

القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وقول لطيف جداً ، وفيه فقه ، قال تقع بالكنايات الظاهرة واحدة لكن بائنة ، وهو جميل جداً يدل على أنه من الفقهاء رحمه الله لأنه جمع بين الأقوال.

القول الثالث: أنه لا يقع إلاّ ما نواه إن كانت واحدة أو ثنتين أو ثلاث ، ما نواه يقع. واستدل هؤلاء بأنّ الكنايات الظاهرة لا يمكن أن تكون أعظم من الصرائح ، والصرائح لا يقع بها إلاّ واحدة هذا القول الأخير هو الراجح إن شاء الله.

ص: 333

يقول الشيخ رحمه الله (وبالخفية ما نواه)

يعني ويقع بالخفية ما نواه ، إن كان واحدة أو ثنتين أو ثلاث ، وتعليل ذلك ظاهر وهو أنّ ألفاظ الكنايات الخفية لا تحمل في طياتها الإشارة إلى العدد وإنما تحمل الإشارة إلى إيقاع الطلاق فقط من دون نظر إلى العدد ، وبهذا يكون انتهى ما يتعلق بالكلام عن الصريح والكناية ، نختم هذا الفصل بفائدة وهي أنّ الشيخ بيّن الألفاظ الصرائح وألفاظ الكنايات.

* * هل هناك قسم ثالث؟!

الجواب/ نعم هناك قسم ثالث. وهو ما ليس بصريح ولا كناية ، وما ليس بصريح ولا كناية لا يقع به طلاق مطلقاً.

فإذا قال لها بارك الله فيك. هذا لا يقع فيه شيء ولو أردت الطلاق ، لأنّ هذا اللفظ لا يدل على المفارقة بحال ولا يحمل في معناه أي دلالة على المفارقة. وإذا قال قومي اطبخي ثم قال أردت الطلاق ماذا نقول؟ لا يقع فيه شيء. إذا صارت الألفاظ كم؟ ثلاثة صريح ثم يليه كناية ثم ما ليس بصريح ولا كناية.

(فصل)

قال رحمه الله (وإن قال: أنت عليّ حرام ، أو كظهر أمي فهو ظاهر ولو نوى به الطلاق)

هذا الفصل أراد المؤلف أن يبيّن فيه الألفاظ التي أيضاً لا يقع بها الطلاق ولو نواه ، وإن كانت تدل من حيث المعنى على الطلاق.

جمع الشيخ بين مسألتين مختلفتين تماماً ،

الأولى" إذا قال أنت عليّ حرام ،

والمسألة الثانية: إذا قال أنت عليّ كظهر أمي.

نبدأ بالمسألة الأولى" أنت عليّ حرام ، هذه المسألة غريبة لأنه اختلف فيها الصحابة اختلاف كثير واختلف فيها العلماء حتى وصلت الأقوال إلى ثمانية عشر قولاً. في هذه المسألة فقط إذا قال الرجل لزوجته أنت عليّ حرام.

نحن لا نريد أن نذكر هذه الأقوال لأنّ بعضها يدخل في بعض. وبعضها شديد الضعف. لكن نقتصر على خمسة أقوال أرى أنها أهم وأجدر هذه الأقوال:

القول الأول: المذهب. وهي أنه إذا قال أنت علي حرام فهو ظهار ولا يكون يمين ولا طلاق ولو نواه. فبمجرد ما يقول أنت علي حرام فهو ظهار ولا ننظر لنيته.

القول الثاني: أنه إذا قال أنت علي حرام فهو ظهار ولو نوى به طلاق إلاّ أن ينوي به يميناً.

ص: 334

ما الفرق بين القولين؟ في اليمين. القول الأول هو مذهب الحنابلة // والقول الثاني هو اختيار شيخ الإسلام وبهذا علمنا أنه لا فرق بين الحنابلة وشيخ الإسلام إلاّ إذا نوى أنه يمين.

ص: 335

الدرس: (3) من الطلاق

قال شيخنا حفظه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

في درس الأمس كنت تحدث عن مسألة أنت عليّ حرام ، وجاء وقت إقامة الصلاة قبل إتمام هذه المسألة وسنعيد ما يتعلق بهذه المسألة اليوم لكن قبل ذلك تحدثنا في دروس سابقة عن صريح الطلاق وكنايته والأحكام التي يختص بها الصريح والأحكام التي تختص بها ألفاظ الكناية ، وذكرت أنّ ما عدا هذه الألفاظ يعني الألفاظ التي ليست من الصرائح ولا من الكنايات أنه لا يقع بها الطلاق وكل هذا تقدم مفصلاً ، ونسيت أن أتكلم عن حكم الطلاق المكتوب ، فأتكلم عنه اليوم إن شاء الله.

اختلف أهل العلم في الطلاق المكتوب هل يقع أو لا يقع؟ وإذا وقع فهل هو من الصرائح أو من الكنايات؟

* نبدأ بالمسألة الأولى: ذهب الحنابلة إلى أنّ الطلاق المكتوب يقع يعني إذا كتب على ورقة، أنت طالق طلقت زوجته إذا أراد الطلاق استدل الحنابلة على هذا بأنّ الكتابة كاللفظ في بيان المقصود ،

والدليل على أنها كاللفظ في بيان المقصود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتبليغ الرسالة ، وقد تارة باللفظ لمن راسلهم صلى الله عليه وسلم فكونه صلى الله عليه وسلم يراسل الملوك في أنحاء البلاد يدعوهم إلى الإسلام من خلال الكتابة ، دليل على أنّ الكتابة تقوم مقام اللفظ.

والقول الثاني: أنّ الطلاق لا يقع بالكتابة ، لأنّ الأصل في الطلاق أن ينطق به ، والراجح بلا إشكال أنّ الطلاق في الكتابة يقع.

* نأتي إلى المسألة الثانية: وهي هل الطلاق المكتوب صريح أو كناية ، أيضاً هذه المسألة محل خلاف؟

ص: 336

فذهب الحنابلة إلى أنّ الطلاق من الصرائح ، يعني حكمه حكم لفظ الصرائح ، فإذا كتب أنت طالق فقد طلقت واستدلوا على هذا بأنّ الكتابة تفيد ما يفيده اللفظ ، فإذا كان أنت طالق صريح في اللفظ فهو صريح في الكتابة ، إلاّ أنّ الحنابلة قالوا مع كون المكتوب صريح إلاّ أنه لو زعم أنه لم يرد الطلاق قبل منه حكماً ، ففرقوا في هذا الحكم بين صريح اللفظ وصريح الكتابة ، فالآن علمنا وفهمنا تفصيل الحنابلة في كونه صريح أو كناية.

القول الثاني: أنّ الكتابة كناية ، ولا يقع إلاّ بالنية ، واستدلوا على هذا بأنّ الطلاق المكتوب يحتمل فقد يكون يريد تحسين خطه ، وقد يريد تخويف المرأة وقد يريد حكاية طلاق عن غيره ، وإذا كان الطلاق المكتوب يحتمل فهو كناية ، لأنه تقدم معنا أنّ تعريف الكناية هو ما يحتمل الطلاق وغيره ، والمكتوب يحتمل الطلاق وغيره فصار كناية ، وهذا القول هو الأقرب إن شاء الله أنه كناية وليس بصريح بناء على هذا ، ما سأل عنه بعض إخوانكم وفقهم الله وهي رسائل الجوال ، إذا كتب رسالة جوال (أنت طالق) وأرسل لها الرسالة فما الحكم؟ الحكم أنها تطلق وعند الحنابلة وهو صريح ، وعلى القول الثاني إن أراد الطلاق طلقت وإن لم يرد لم تطلق ، لأنه كناية والكناية تحتاج إلى نية.

إذا أرسل رسالة صوتية ، ألا يوجد الآن رسائل صوتية في الجوال ، سجلّ وقال (أنت طالق) وأرسلها رسالة صوتية فما الحكم؟

هل هو صريح أو كناية؟ كتابة أو نطق؟ ما الفرق بين أن يرسل رسالة فيها صوت أنت طالق وبين أن يقول لها أنت طالق؟ يعتبر طلاق لفظي ، كأنه قال لها أنت طالق ، لكن تطلق إذا سمعت وإلاّ إذا تكلم ، متى تبدأ بالعدة؟ إذا تكلم. لا إذا سمعت

إذا سمعت مجردا يكون الخبر

(فصل)

قال رحمه الله (وإن قال: أنت علي حرام)

ص: 337

تحدثت عن بدايتها وقلت أنّ هذه المسألة فيها خلاف كبير بين الصحابة ،وفيها بين أهل العلم خلاف يصل إلى ثمانية عشر قولاً. مما يدل على الاضطراب في هذه المسألة وتعارض الأدلة ، أو إن شئت قل عدم وجود أدلة صريحة وإنما يوجد آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقلت أني سأذكر خمسة أقوال أرى أنها الأقوال الأقوى في هذه المسألة ، وبدأت بالقول الأول" فأقول

الحنابلة ذهبوا: إلى أنه إذا قال أنت علي حرام فهو ظهار ولو نوى طلاقاً ولو نوى يميناً.

وأنّ القول الثاني: وأنّ القول الثاني وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله وهو مذهب لبعض الفقهاء كالقول الأول إلاّ أنه إذا أراد يميناً فهو يمين ، ويكون الفرق بين المذهب وبين اختيار شيخ الإسلام فيما إذا نواه يميناً. ونحن الآن نحتاج الأدلة ، بالنسبة لأدلة القول الأول والثاني واحدة ، فنحتاج دليل على أنه ظهار ، ونحتاج دليل على أنه ليس بطلاق ، ونحتاج دليل على أنه يمين أو ليس بيمين. على الخلاف.

نبدأ بالدليل الأول: أنه ظهار. أنّ هذا الرجل لما قال أنت علي حرام فقد أوقع التحريم على زوجته وهو أولى من أنت عليّ كظهر أمي لأنّ التحريم في قوله أنت عليّ كظهر أمي علمناه لأنه يلزم من هذا اللفظ.

وأما أنت عليّ حرام فهو صريح في التحريم ، وما كان صريحاً في التحريم فهو أولى مما يستلزم التحريم. وهو دليل قوي جداً.

لأن أنت عليّ حرام أصرح وأكثر مباشرة من أنت عليّ كظهر أمي.

الدليل الثاني: على أنه ليس بيمين ، استدل الحنابلة وشيخ الإسلام على أنه ليس بطلاق ، لأنّ الظهار كان في الجاهلية طلاقاً ، فكان الرجل إذا ظاهر من امرأته فكأنه طلقها ، فجاء الإسلام ونسخ أن يكون الظهار طلاقاً ، فإذا نوى المكلف المسلم بلفظ الظهار الطلاق فهو باطل ، لأنّه نوى ما أبطله الشارع فلم نعتد بنيته. لأنها مقابلة ومعارضة للشارع.

نأتي إلى الأخير: وهو اليمين ، استدل شيخ الإسلام رحمه الله على أنّ الإنسان إذا قال أنت علي حرام وأراد اليمين فهو يمين بتعليل قوي ،فقال أنّ من أراد اليمين لم يرد تحريم ذات زوجته ، وإنما أراد منع نفسه أو حثها أو التصديق أو التكذيب ، وهذا هو معنى اليمين.

ص: 338

الدليل الثاني: لشيخ الإسلام ، أنه صح عن ابن عباس أنه جعل أنت عليّ حرام ظهاراً تارة ، وجعل أنت عليّ حرام يميناً تارة أخرى ، وفي هذا دليل على أنّ أنت عليّ حرام ، قد يقصد به اليمين وقد يقصد به الظهار ، باعتبار أنه تارة أفتى بهذا وتارة أفتى بهذا

الدليل الثالث: قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم/1] وهذه الآية نزلت في تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه العسل أو وطء الزوجة في بيت الأخرى ، فجعل الشارع الكريم التحريم ، تحريم الإنسان على نفسه شيئاً بمنزلة اليمين كما ترى اختيار شيخ الإسلام وأدلته على أنه إذا أراد يميناً فهو يمين قوي جداً.

القول الثالث: أنّ أنت عليّ حرام ، يمين مطلقاً واستدل هؤلاء بدليلين:

الدليل الأول: أنّ هذا مروي عن أبي بكر وعمر.

الدليل الثاني: أنه مروي عن ابن عباس

الدليل الثالث: الآية فإنّ تحريم النبي

صلى الله عليه وسلم جعله الله يميناً مكفرة. والأقرب أنه لا يثبت عن أبي بكر وعمر أنهم جعلوه يميناً ، ففي الإسناد إليهما انقطاع.

القول الرابع: أنّ أنت عليّ حرام ليس بشيء ، لأنّ قوله أنت عليّ حرام كذب إذ ليست عليه بحرام.

والجواب على هذا. أنّ ما قالوه صحيح لو كان مراده الإخبار ، أما هو فمراده الإنشاء فهو يحكم على امرأته أنها حرام عليه.

القول الخامس والأخير: وهو مذهب الشافعي أنه إن أراد بأنت عليّ حرام طلاقاً فهو طلاق ، وإن أراد ظهاراً فهو ظهار ، وإن أراد يميناً فهو يمين ، واستدل على هذا القول بأنّ أنت عليّ حرام ، إن أراد الطلاق فهي كناية ، والكنايات في الطلاق تقع مع النية ، وإن أراد ظهاراً فكذلك كناية ، وكنايات الظهار مع النية تقع ، وإن أراد يميناً فهو يمين لأنه أخرجه مخرج اليمين منعاً لنفسه أو حثاً أو تصديقاً أو تكذيباً ، فصار يميناً موافقة لظاهر القرآن هذه الأقوال الخمسة هي أقوى الأقوال ، وبقيت الأقوال غالباً ما تتداخل مع هذه الأقوال ولا تكاد تنفرد بشيء معيّن.

ص: 339

الراجح في هذه المسألة المهمة التي ما زالت تقع إلى الآن بكثرة ، القول الثاني. يليه في القوة القول الخامس يليه في القوة الأول وهو المذهب. فعرفنا الآن الراجح وعرفنا الأقوال التي تليه قوة ، الحقيقة قول الشافعي قوي جداً ، لولا أنّ الشارع الحكيم لم يجعل الظهار طلاقاً، نسخ هذا المعنى في إرادته مضادة لمقصود الشارع ، لولا هذا المعنى لكان قول الشافعي هو القول القوي على كل حال إن شاء الله ، أنّ الراجح هو القول الثاني لأنه توافق مع مقاصد الشرع ولأنّ فتاوى الصحابة تنطبق عليه مهما اختلفت.

قال رحمه الله (أو كظهر أمي فهو ظهار. ولو نوى به الطلاق)

يعني إذا قال لزوجته أنت عليّ كظهر أمي ، فهو ظهار ولو نوى الطلاق أو اليمين ،وهذه المسألة الأقرب أنها لا تدخل في الخلاف السابق بل هو ظهار لأنه عبّر عن زوجته أو حرّم زوجته بصريح الظهار فلا ينصرف لغيره ،ولو جعلنا أنت عليّ كظهر أمي طلاقاً لعدنا إلى حال الجاهلية الذين يجعلون الظهار طلاقاً ، فهذه المسألة الأقرب أنها لا تدخل في الخلاف السابق.

قال رحمه الله (وكذلك ما أحل الله عليّ حرام)

إذا قال الإنسان لزوجته ما أحل الله عليّ حرام ، يعني منها ، فحكمه كحكم أنت عليّ حرام تماماً. من حيث الخلاف والأقوال والأدلة

والترجيح ، فهي نفس المسألة.

ثم قال رحمه الله (وإن قال: ما أحل الله عليّ حرام أعني به الطلاق طلقت ثلاثاً وإن قال: أعني به طلاقاً فواحدة)

هذه المسألة فيها عند الإمام أحمد تفصيل ،

إذا قال ما أحل الله عليّ حرام أعني به الطلاق فهي ثلاث.

وإذا قال ما أحل الله عليّ حرام أعني به طلاقاً فهي واحدة. هذا تفصيل الإمام أحمد بين اللفظتين.

الدليل. قال الإمام أحمد: أنّ الطلاق فيه الألف واللام التي للاستغراق ، وإذا استغرق الطلاق فقد أوقع الثلاث.

وأما إذا قال: أعني به طلاقاً ، فهو واحدة لأنه لم يرد الاستغراق.

القول الثاني: أنه في المسألتين واحدة رجعية ، لأنّ الألف واللام التي للاستغراق ، تستعمل كثيراً في بيان الجنس لغير الاستغراق فليست نصاً صريحاً في الطلاق.

ص: 340

القول الثالث: أنّ هذا اللفظ إذا قال ما أحل الله عليّ حرام أعني به الطلاق أو أعني به طلاقاً ظهار مطلقاً ، إلاّ أن ينوي به يميناً.

واستدل هؤلاء بأنّ الظهار لا يكون في الإسلام طلاقاً ، ونحن تقدم معنا أنّ قوله (ما أحل الله عليّ حرام) كقوله (أنت عليّ حرام) ولا فرق بين أن ينوي وبين أن يصرح بالنية ، لا يوجد فرق. فإذا قال أنت عليّ حرام أنوي به الطلاق فهو ظهار ، كذلك إذا قال ما أحل الله عليّ حرام أنوي به الطلاق فهو ظهار ، وأيّ فرق بين أن يصرح بنيته وبين أن لا يصرح بنيته وبين أن لا يصرح بنيته.

إذا نقول تعود هذه المسألة إلى مسألة أنه ليس في الشرع إيقاع الطلاق بصيغة الظهار. ونحن قررنا أنّ أنت عليّ حرام أو ما أحل الله عليّ حرام أنه يساوي أنت عليّ كظهر أمي. إذا عادت المسألة لقضية أنه ظهار بصيغة التحريم فلا يقع طلاقاً.

فالخلاصة / ما أحل الله عليّ حرام أعني به الطلاق ، حكمه الصحيح أنه ظهار مطلقاً مالم ينوي اليمين.

فنعود للقول الثاني في المسألة السابقة.

قال رحمه الله (وإن قال: كالميتة ، والدم ، والخَنزِير وقع ما نواه من طلاق ، وظهار، ويمين)

إذا قال أنت عليّ كالميتة يختلف عما إذا قال عند الفقهاء أنت عليّ حرام كالميتة والخنزير ، نأتي إلى لفظ المؤلف الذي ليس فيه حرام أنت عليّ كالميتة والخنزير.، إذا قال أنت عليّ كالميتة والخنزير،

يقول الشيخ الماتن رحمه الله (وقع ما نواه من طلاق وظهار ويمين)

فإن نوى الطلاق فهو طلاق ، وإن الظهار فهو ظهار ، وإن نوى اليمين فهو يمين.

الدليل على هذا: أنّّه إذا قال أنت عليّ كالميتة وأراد الطلاق فغاية ما هنالك أنه كناية ، والكنايات تقع بالنية ، وإذا قال أنت عليّ كالميتة والخنزير ولم يرد الطلاق فقط أراد التحريم لأنّ هذا التشبيه إنما هو تشبيه بالتحريم ، فصار كأنه قال أنت عليّ حرام.

وأنت عليّ حرام عند الحنابلة ظهار ، وإن أراد يمين فهو يمين لأنه أراد المنع أو الحث فأخرجه مخرج اليمين.

ابن القيم يقول رحمه الله (أنّ أنت عليّ حرام كالميتة أو الخنزير يساوي تماماً أنت عليّ حرام)

ص: 341

بقينا في اللفظ الثالث الذي ذكره المؤلف وهو أنت عليّ كالميتة والخنزير، والصواب أنّ أنت عليّ كالميتة والخنزير يساوي أنت عليّ حرام كالميتة والخنزير ، وأنّ حكم هذه المسائل كلها تعود إلى مسألة أنت عليّ حرام ، لأنه في الواقع أراد التحريم.

فما ذكره الشيخ ابن القيم من التسوية بين أنت عليّ حرام وأنت عليّ حرام كالميتة والخنزير، صحيح وتساويه تماماً ولا فرق أنت عليّ كالميتة والخنزير فإنّ إسقاط كلمة حرام لا معنى له لأنه إنما أراد أنت عليّ حرام كالميتة والخنزير إذا عرفنا حكم أنت علي كالميتة والخنزير.

قال رحمه الله (وإن لم ينوي شيئاً فظهار)

إذا لم ينوي شيئاً فالأصل أنه تحريم والتحريم عند الحنابلة ظهار.

القول الثاني: للشافعي أنه إذا لم يرد شيئاً فهو كقوله أنت عليّ حرام ، فالشافعي يقول إذا قال أنت عليّ كالميتة والخنزير ولم يرد شيئاً فهي تساوي أنت عليّ حرام على الخلاف فيها ، وأيضاً ما ذكره الشافعي في هذه المسألة صحيح وتكون حكمها حكم أنت عليّ حرام ومن هنا علمنا أنّ مسألة أنت عليّ حرام مهمة ، لأنّ عشرات المسائل ترجع إلى أنت عليّ حرام. هذا من جهة ومن جهة أخرى أنّ غالب استعمال الناس هو بأنت عليّ حرام ، وهذا مما يؤكد أهمية هذه المسألة.

قال رحمه الله (وإن قال: حلفت بالطلاق وكذب لزمه حكماً)

يعني إذا قال حلفت بالطلاق فلما أردنا أن نأخذه بهذه اللفظة ، قال كذبت فإنهم إذا ترافعوا إلى الحاكم فإنه يلزمه العمل على الحلف بالطلاق. السبب/ قالوا أنه في هذه الصورة تعلقّ به حق الغير ، وإذا تعلقّ به حق الغير لزمه مراعاة لهذا الغير. وتبيّن من كلام المؤلف أنه لا يلزمه ديانة ، يعني فيما بينه وبين الله. فإذا قال حلفت بالطلاق وهو كاذب فيعتبر لم يحلف بالطلاق لأنه أخبر إخباراً كاذباً ولم يقع منه حلف بالطلاق.

قال رحمه الله (وإن قال أمرك بيدك ملكت ثلاثاً ، ولو نوى واحدة)

إذا قال أمرك بيدك ملكت ثلاثاً ولو نوى واحدة ، إذا قال لها هذا اللفظ فهو إما تمليك أو توكيل ولا يختلف الحكم بكونه تمليك أو توكيل. إما تمليك وهو الأصل في الحقيقة ، أو توكيل ، فإذا قال أمرك بيدك عند الحنابلة ملكت ثلاثاً ولو نوى واحدة.

ص: 342

التعليل: عللوا هذا بأمرين: الأمر الأول: أنّ هذا مروي عن بعض الصحابة. الثاني: أنّ أمرك بيدك يشبه الكنايات الظاهرة والكنايات الظاهرة تفيد ماذا؟ إيقاع الطلاق ثلاثاً أو واحدة؟ تفيد ثلاثاً. فلما كانت كالكنايات الظاهرة ملكت به الزوجة ثلاث تطليقات. ولو نوى واحدة ، لأنه لو نوى واحدة لنوى ما يخالف ظاهر اللفظ فلم يقبل منه.

القول الثاني: في هذه المسألة المهمة وقد وقعت في عصر الصحابة بكثرة وفي عصر التابعين بكثرة ولذلك نقل عن الصحابة فتاوى كثيرة في هذه المسألة. القول الثاني: أنها واحدة رجعية ، واستدل الإمام أحمد بنفسه على هذا القول فقال عن خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

القول الثالث: أنه إذا قال لها أمرك بيدك فليس بشيء وهو لغو. ونصر هذا القول وأطال في نصره ابن حزم رحمه الله – واستدل على هذا بأنّ الله تعالى إنما جعل الطلاق بيد الرجل فهو من خصائصه ، وجعله تعالى من خصائصه لحكم أرادها من تؤدة الرجل وتأنيه ونظره في العواقب فلا يجوز أن نسند هذا الأمر للمرأة بحال من الأحوال ، لأنه مناقضة لمقصود الشارع.

ولما ذكر ابن القيم هذا القول علقّ عليه فقال وهذا هو القول لولا هيبة الصحابة ، وإنما نحن لهم تبع وهم لنا قدوة ، ونحن نقول كما قال ابن القيم تماماً لولا هيبة الصحابة لكان إسناد الطلاق للمرأة ليس بشيء ، لكن مع إفتاء الصحابة بأنه شيء لا مجال لإلغائه.

قال ابن القيم: ولم يحفظ عن أحد من الصحابة أنه ألغى تمليك الزوجة الطلاق ، إنما اختلفوا في تملك من ذلك فمنهم من قال تملك ثلاثاً ومنهم من قال تملك واحدة. أما أصل الإيقاع فإنهم لم يختلفوا فيه. ولهذا نقول الراجح إن شاء الله هو القول الثاني الذي نصره الإمام أحمد بأنه فتوى خمسة من الصحابة ، ونقول تملك واحدة ولا شك أنّ هذا القول وسط بين مذهب الحنابلة وبين مذهب الظاهرية.

قال رحمه الله (ويتراخى ما لم يطأ أو يطلق أو يفسخ)

ص: 343

قوله ويتراخى يعني: نّ المرأة تملكه ملكاً متراخياً لا على الفور ، واستدلوا على هذا: بأنّ هذا التمليك هو في الواقع في حكم التوكيل والتوكيلات في الشرع على التراخي لا على الفور ، وهذا صحيح أنه إذا ملّك زوجته أمرها ، فإنها تملك هذا الأمر على التراخي.

قال رحمه الله (مالم يطأ ........ )

فإن فعل فإنّ التوكيل والتمليك يعتبر مفسوخ ،

أما الأول" فهو الوطء فإذا وطأها بعد أن ملكها أمرها فإنّ هذا الوطء بمعنى الفسخ. فلما وطأها عرفنا أنّه أراد فسخ التوكيل.

الثاني: الطلاق إذا قال أمرك بيدك ثم طلقها ، فهو في الحقيقة فسخ التوكيل لأنه باشر التطليق بنفسه.

الثالث والأخير: الفسخ وهو أمره واضح فإذا فسخ الوكالة أو التمليك انفسخت لأنّ شأن الوكالات أنها تنفسخ بفسخ المالك. والمالك هنا هو الزوج.

وكثير من الحنابلة لم يذكر تطليق وإنما ذكر الوطء والفسخ دون التطليق ،لأنّ أمر التطليق واضح ،لأنه إذا طلقها فقد فسخ ما أعطاها

لكن المؤلف زاد الأمر وضوحاً بالتصريح بالتطليق.

قال رحمه الله (ويختص اختاري نفسك بواحدة وبالمجلس المتصل)

يختص اختاري نفسك بواحدة بمجلس متصل. إذا هناك فرق بين أن يقول لها اختاري نفسك وبين أن يقول لها ملكت أمر نفسك. ففي الأولى اختاري نفسك لا تملك إلاّ طلقة واحدة ولا تملكها إلاّ في المجلس يعني على الفور ولا تثبت على التراخي ، ما الدليل في التفريق بين العبارتين.

استدل الإمام أحمد بآثار الصحابة ،فإنّ فتاوى الصحابة فيها التفريق بين اللفظين ، فإذا قال لها هذا اللفظ ، وهو لفظه اختاري نفسك فإنها إن طلقت مباشرة ، وإلاّ بانتهاء المجلس تفقد هذه الصلاحية وكذلك لا يمكن أن تطلق إلاّ واحدة ، فإن قالت طلقت نفسي ثلاثاً فإنها لا تطلق إلاّ واحدة.

قال رحمه الله (ما لم يزدها فيهما)

ص: 344