الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ]
تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مُنَافٍ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، قُتِلَ أَبُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَنَشَأَ سَعِيدٌ فِي حِجْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه، وَكَانَ عُمْرُ سَعِيدٍ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ سِنِينَ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَالْأَجْوَادِ الْمَشْهُورِينَ، وَكَانَ جَدُّهُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ - وَيُكَنَّى بِأَبِي أُحَيْحَةَ - رَئِيسًا فِي قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهُ: ذُو التَّاجِ. لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا اعْتَمَّ لَا يَعْتَمُّ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ ; إِعْظَامًا لَهُ، وَكَانَ سَعِيدٌ هَذَا مِنْ عُمَّالِ عُمَرَ عَلَى السَّوَادِ وَجَعَلَهُ عُثْمَانُ فِيمَنْ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ ; لِفَصَاحَتِهِ، قَالُوا: وَكَانَ أَشْبَهُ النَّاسِ لَهْجَةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُونَهُ وَيَكْتُبُونَهُ، مِنْهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَاسْتَنَابَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْكُوفَةِ بَعْدَ عَزْلِهِ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَافْتَتَحَ طَبَرِسْتَانَ وَجُرْجَانَ، وَنَقَضَ الْعَهْدَ أَهْلُ أَذْرَبِيجَانَ فَغَزَاهُمْ فَفَتَحَهَا، فَلَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ اعْتَزَلَ الْفِتْنَةَ، فَلَمْ يَشْهَدِ الْجَمَلَ وَلَا صِفِّينَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِمُعَاوِيَةَ وَفَدَ إِلَيْهِ، فَعَتَبَ عَلَيْهِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَعَذَرَهُ، فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ
جِدًّا، وَوَلَّاهُ الْمَدِينَةَ مَرَّتَيْنِ، وَعَزَلَهُ عَنْهَا مَرَّتَيْنِ بِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَ سَعِيدٌ هَذَا لَا يَسُبُّ عَلِيًّا، وَمَرْوَانُ يَسُبُّهُ، وَرَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ، وَعَنْهُ ابْنَاهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمْ، وَلَيْسَ لَهُ فِي " الْمُسْنَدِ " وَلَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ شَيْءٌ. وَقَدْ كَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، جَيِّدَ السَّرِيرَةِ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَجْمَعُ أَصْحَابَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فَيُطْعِمُهُمْ وَيَكْسُوهُمُ الْحُلَلَ، وَيُرْسِلُ إِلَى بُيُوتِهِمْ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَالْبِرِّ الْكَثِيرِ، وَكَانَ يُصِرُّ الصُّرَرَ فَيَضَعُهَا بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّينَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ فِي الْمَسْجِدِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ تُعْرَفُ بَعْدَهُ بِدَارِ نَعِيمٍ، وَحَمَّامِ نَعِيمٍ، بِنَوَاحِي الدِّيمَاسِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا.
ثُمَّ أَوْرَدَ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْجُعْفِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَجْلَحِ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ".»
وَمِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبَانٍ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:«جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي نَوَيْتُ أَنْ أُعْطِيَ هَذَا الثَّوْبَ أَكْرَمَ الْعَرَبِ. فَقَالَ: " أَعْطِيهِ هَذَا الْغُلَامَ "،» يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ وَاقِفٌ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الثِّيَابَ السَّعِيدِيَّةَ.
وَأَنْشَدَ الْفَرَزْدَقُ قَوْلَهُ فِيهِ:
تَرَى الْغُرَّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ
…
إِذَا مَا الْخَطْبُ فِي الْحَدَثَانِ عَالَا
قِيَامًا يَنْظُرُونَ إِلَى سَعِيدٍ
…
كَأَنَّهُمُ يَرَوْنَ بِهِ هِلَالَا
وَذَكَرَ أَنَّ عُثْمَانَ عَزَلَ عَنِ الْكُوفَةِ الْمُغِيرَةَ، وَوَلَّاهَا سَعِيدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، فَأَقَامَ بِهَا حِينًا، وَلَمْ تُحْمَدْ سِيرَتُهُ فِيهِمْ وَلَمْ يُحِبُّوهُ، ثُمَّ رَكِبَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ - وَهُوَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ - فِي جَمَاعَةٍ إِلَى عُثْمَانَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهُمْ سَعِيدًا، فَلَمْ يَعْزِلْهُ، وَكَانَ عِنْدَهُ بِالْمَدِينَةِ فَبَعْثَهُ إِلَيْهِمْ، وَسَبَقَ الْأَشْتَرُ إِلَى الْكُوفَةِ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَحَثَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِمْ، وَرَكِبَ الْأَشْتَرُ فِي جَيْشٍ يَمْنَعُونَهُ مِنَ
الدُّخُولِ، قِيلَ: تَلَقَّوْهُ إِلَى الْعُذَيْبِ - وَقَدْ نَزَلَ سَعِيدٌ بِالْعُذَيْبِ - فَمَنَعُوهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى رَدُّوهُ إِلَى عُثْمَانَ، وَوَلَّى الْأَشْتَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَالثَّغْرِ، وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ عَلَى الْفَيْءِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَبَعَثُوا إِلَى عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ فَأَمْضَاهُ، وَسَرَّهُ ذَلِكَ فِيمَا أَظْهَرَهُ، وَلَكِنْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ وَهَنٍ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ.
وَأَقَامَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى كَانَ زَمَنُ حَصْرِ عُثْمَانَ، فَكَانَ عِنْدَهُ بِالدَّارِ، ثُمَّ لَمَّا رَكِبَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مَعَ عَائِشَةَ مِنْ مَكَّةَ يُرِيدُونَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ رَكِبَ مَعَهُمْ، ثُمَّ انْفَرَدَ عَنْهُمْ هُوَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَغَيْرُهُمَا، فَأَقَامَ بِالطَّائِفِ حَتَّى انْقَضَتْ تِلْكَ الْحُرُوبُ كُلُّهَا، ثُمَّ وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَعَزَلَ مَرْوَانَ، فَأَقَامَ سَبْعًا، ثُمَّ رَدَّ مَرْوَانَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: بَعَثَنِي زِيَادٌ فِي شُغُلٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ أُمُورِي قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِمَنْ يَكُونُ الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَكُونُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، أَمَّا كَرِيمَةُ قُرَيْشٍ فَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَأَمَّا فَتَى قُرَيْشٍ حَيَاءً وَدَهَاءً وَسَخَاءً فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَرَجُلٌ سَيِّدٌ كَرِيمٌ، وَأَمَّا الْقَارِئُ لِكِتَابِ اللَّهِ الْفَقِيهُ فِي دِينِ اللَّهِ، الشَّدِيدُ فِي حُدُودِ اللَّهِ فَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَأَمَّا رَجُلُ نَفْسِهِ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَمَّا رَجُلٌ
يَرُدُّ الشَّرِيعَةَ مَعَ دَوَاهِي السِّبَاعِ وَيَرُوغُ رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ.
وَرُوِّينَا أَنَّهُ اسْتَسْقَى يَوْمًا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَأَخْرَجَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ دَارِهِ مَاءً فَشَرِبَ، ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ رَأَى ذَلِكَ الرَّجُلَ يَعْرِضُ دَارَهُ لِلْبَيْعِ، فَسَأَلَ عَنْهُ: لِمَ يَبِيعُ دَارَهُ؟ فَقَالُوا: عَلَيْهِ دَيْنٌ ; أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَبَعَثَ إِلَى غَرِيمِهِ فَقَالَ: هِيَ لَكَ عَلَيَّ. وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ الدَّارِ فَقَالَ: اسْتَمْتِعْ بِدَارِكَ.
وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ يُجَالِسُونَهُ قَدِ افْتَقَرَ وَأَصَابَتْهُ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنَّ أَمِيرَنَا هَذَا يُوصَفُ بِكَرَمٍ، فَلَوْ ذَكَرْتَ لَهُ حَالَكَ فَلَعَلَّهُ يَسْمَحُ لَكَ بِشَيْءٍ. فَقَالَ: وَيْحَكِ، لَا تُخْلِقِي وَجْهِي، فَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ مَكَثَ الرَّجُلُ جَالِسًا فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَظُنُّ جُلُوسَكَ لِحَاجَةٍ. فَسَكَتَ الرَّجُلُ، فَقَالَ سَعِيدٌ لِغِلْمَانِهِ: انْصَرِفُوا. ثُمَّ قَالَ لَهُ سَعِيدٌ: لَمْ يَبْقَ غَيْرِي وَغَيْرُكَ. فَسَكَتَ، فَأَطْفَأَ الْمِصْبَاحَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ، لَسْتَ تَرَى وَجْهِي، فَاذْكُرْ حَاجَتَكَ. فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، أَصَابَتْنَا فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ فَأَحْبَبْتُ ذِكْرَهَا لَكَ فَاسْتَحْيَيْتُ. فَقَالَ لَهُ: إِذَا أَصْبَحْتَ فَالْقَ فُلَانًا وَكِيلِي. فَلَمَّا أَصْبَحَ الرَّجُلُ لَقِيَ الْوَكِيلَ، فَقَالَ لَهُ الْوَكِيلُ: إِنَّ الْأَمِيرَ قَدْ أَمَرَ لَكَ بِشَيْءٍ فَأْتِ بِمَنْ يَحْمِلُهُ مَعَكَ. فَقَالَ: مَا عِنْدِي مَنْ يَحْمِلُهُ. ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلَامَهَا، وَقَالَ: حَمَلْتِينِي عَلَى بَذْلِ وَجْهِيَ لِلْأَمِيرِ، فَقَدْ أَمَرَ لِي بِشَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَحْمِلُهُ، وَمَا أَرَاهُ أَمَرَ لِي إِلَّا بِدَقِيقٍ أَوْ طَعَامٍ، وَلَوْ كَانَ مَالًا لَمَا احْتَاجَ إِلَى مَنْ يَحْمِلُهُ، وَلَأَعْطَانِيهِ. فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: فَمَهْمَا أَعْطَاكَ فَإِنَّهُ يَقُوتُنَا
فَخُذْهُ. فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى الْوَكِيلِ، فَقَالَ لَهُ الْوَكِيلُ: إِنِّي أَخْبَرْتُ الْأَمِيرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ أَحَدٌ يَحْمِلُهُ، وَقَدْ أَرْسَلَ بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ السُّودَانِ يَحْمِلُونَهُ مَعَكَ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ إِذَا عَلَى رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لِلْغِلْمَانِ: ضَعُوا مَا مَعَكُمْ وَانْصَرِفُوا. فَقَالُوا: إِنَّ الْأَمِيرَ قَدْ أَطْلَقْنَا لَكَ، فَإِنَّهُ مَا بَعَثَ مَعَ خَادِمٍ هَدِيَّةً إِلَى أَحَدٍ إِلَّا كَانَ الْخَادِمُ الَّذِي يَحْمِلُهَا مِنْ جُمْلَتِهَا. قَالَ: فَحَسُنَ حَالُ ذَلِكَ الرَّجُلِ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بَعَثَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِهَدَايَا وَأَمْوَالٍ وَكِتَابٍ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ يَخْطُبُ إِلَيْهِ ابْنَتَهُ أُمَّ عُثْمَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بِنْتِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الْهَدَايَا وَالْأَمْوَالُ وَالْكِتَابُ قَرَأَهُ، ثُمَّ فَرَّقَ الْهَدَايَا فِي جُلَسَائِهِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا لَطِيفًا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6]
[الْعَلَقِ: 6، 7] . وَالسَّلَامُ.
وَرُوِّينَا أَنَّ سَعِيدًا خَطَبَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ مِنْ فَاطِمَةَ، الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَجَابَتْ إِلَى ذَلِكَ وَشَاوَرَتْ أَخَوَيْهَا فَكَرِهَا ذَلِكَ - وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ الْحُسَيْنُ وَأَجَابَ الْحَسَنُ - فَهَيَّأَتْ دَارَهَا وَنَصَبَتْ سَرِيرًا وَتَوَاعَدُوا لِلْكِتَابِ، وَأَمَرَتِ ابْنَهَا زَيْدَ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِمِائَةِ أَلْفٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: بِمِائَتَيْ أَلْفٍ - مَهْرًا. وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ أَصْحَابُهُ لِيَذْهَبُوا مَعَهُ،
فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُحْرِجَ ابْنَيْ فَاطِمَةَ. فَتَرَكَ التَّزْوِيجَ، وَأَطْلَقَ جَمِيعَ ذَلِكَ الْمَالِ لَهَا.
وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ وَعَبْدُ الْأَعَلَى بْنُ حَمَّادٍ: سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ الْخَادِمُ: خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرْتُكَ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَإِذْ قَدْ جَاشَ فِي نَفْسِكَ أَنَّهَا دَنَانِيرُ، فَادْفَعْ إِلَيْهِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ. فَلَمَّا قَبَضَهَا الْأَعْرَابِيُّ جَلَسَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: مَالِكٌ؟ أَلَمْ تَقْبِضْ نَوَالَكَ؟ قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى الْأَرْضِ كَيْفَ تَأْكُلُ مِثْلَكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ: جَاءَ رَجُلٌ فِي حَمَالَةِ أَرْبَعِ دِيَاتٍ سَأَلَ فِيهَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهُ: عَلَيْكَ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَوْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. فَانْطَلَقَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا سَعِيدٌ دَاخِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ. فَقَصَدَهُ فَذَكَرَ لَهُ مَا أَقْدَمَهُ، فَتَرَكَهُ حَتَّى انْصَرَفَ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: ائْتِ بِمَنْ يَحْمِلُ مَعَكَ؟ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُكَ مَالًا لَا تَمْرًا. فَقَالَ: أَعْرِفُ، ائْتِ بِمَنْ يَحْمِلُ مَعَكَ؟ فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَأَخَذَهَا الْأَعْرَابِيُّ، وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَسْأَلْ غَيْرَهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، أَخْزَى اللَّهُ الْمَعْرُوفُ إِذَا لَمْ يَكُنِ
ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، فَأَمَّا إِذَا أَتَاكَ الرَّجُلُ تَكَادُ تَرَى دَمَهُ فِي وَجْهِهِ، أَوْ جَاءَكَ مُخَاطِرًا لَا يَدْرِي أَتُعْطِيهِ أَمْ تَمْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ خَرَجْتَ لَهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِكِ مَا كَافَأْتَهُ.
وَقَالَ سَعِيدٌ: لِجَلِيسِي عَلَيَّ ثَلَاثٌ ; إِذَا دَنَا رَحَّبْتُ بِهِ، وَإِذَا جَلَسَ أَوْسَعْتُ لَهُ، وَإِذَا حَدَّثَ أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: يَا بُنَيَّ، لَا تُمَازِحِ الشَّرِيفَ فَيَحْقِدَ عَلَيْكَ، وَلَا الدَّنِيءَ فَتَهُونَ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَجْتَرِئَ عَلَيْكَ.
وَخَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا فَلْيَكُنْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، إِنَّمَا يَتْرُكُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ ; إِمَّا مُصْلِحٌ فَيَسْعَدُ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ وَتَخِيبُ أَنْتَ، وَالْمُصْلِحُ لَا يَقِلُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِمَّا مُفْسِدٌ فَلَا يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: جَمَعَ أَبُو عُثْمَانَ طُرَفَ الْكَلَامِ.
وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ: مَوْطِنَانِ لَا أَسْتَحْيِي مِنْ رِفْقِي فِيهِمَا وَالتَّأَنِّي عِنْدَهُمَا، مُخَاطَبَتِي جَاهِلًا أَوْ سَفِيهًا، وَعِنْدَ مَسْأَلَتِي حَاجَةً لِنَفْسِي.
وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنَ الْعَابِدَاتِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ، فَأَكْرَمهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: لَا جَعَلَ اللَّهُ لَكَ إِلَى لَئِيمٍ حَاجَةً، وَلَا زَالَتِ الْمِنَّةُ لَكَ فِي أَعْنَاقِ الْكِرَامِ، وَإِذَا أَزَالَ عَنْ كَرِيمٍ نِعْمَةً جَعَلَكَ سَبَبًا لِرَدِّهَا عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ
الْوَلَدِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَكَانَتْ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ أُمَّ الْبَنِينَ بِنْتَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أُخْتَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ. وَلَمَّا حَضَرَتْ سَعِيدًا الْوَفَاةُ جَمَعَ بَنِيهِ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا يَفْقِدْنَ أَصْحَابِي غَيْرَ وَجْهِي، وَصِلُوهُمْ بِمَا كُنْتُ أَصِلُهُمْ بِهِ، وَأَجْرُوا عَلَيْهِمْ مَا كُنْتُ أُجْرِي عَلَيْهِمْ، وَاكْفُوهُمْ مُؤْنَةَ الطَّلَبِ ; فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَبَ الْحَاجَةَ اضْطَرَبَتْ أَرْكَانُهُ، وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ ; مَخَافَةَ أَنْ يُرَدَّ، فَوَاللَّهِ لَرَجُلٌ يَتَمَلْمَلُ عَلَى فِرَاشِهِ يَرَاكُمْ مَوْضِعًا لِحَاجَتِهِ، أَعْظَمُ مِنَّةً عَلَيْكُمْ مِمَّا تُعْطُونَهُ. ثُمَّ أَوْصَاهُمْ بِوَصَايَا كَثِيرَةٍ، مِنْهَا أَنْ يُوَفُّوا مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ وَالْوُعُودِ، وَأَنْ لَا يُزَوِّجُوا أَخَوَاتِهِمْ إِلَّا مِنَ الْأَكْفَاءِ، وَأَنْ يُسَوِّدُوا أَكْبَرَهُمْ. فَتَكَفَّلَ بِذَلِكَ كُلِّهِ ابْنُهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ، فَلَمَّا مَاتَ دَفَنَهُ بِالْبَقِيعِ، ثُمَّ رَكِبَ عَمْرٌو إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَعَزَّاهُ فِيهِ، وَاسْتَرْجَعَ مُعَاوِيَةُ وَحَزِنَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: هَلْ تَرَكَ مِنْ دَيْنٍ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَكَمْ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلَاثُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هِيَ عَلَيَّ. فَقَالَ ابْنُهُ: لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ أَوْصَانِي أَنْ لَا أَقْضِيَ دَيْنَهُ إِلَّا مِنْ ثَمَنِ أَرَاضِيهِ. فَاشْتَرَى مِنْهُ مُعَاوِيَةُ أَرَاضِيَ بِمَبْلَغِ الدَّيْنِ، وَسَأَلَ مِنْهُ عَمْرٌو أَنْ يَحْمِلَهَا لَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَحَمَلَهَا لَهُ، ثُمَّ شَرَعَ عَمْرٌو يَقْضِي مَا عَلَى أَبِيهِ مِنَ الدَّيْنِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ طَالَبَهُ شَابٌّ مَعَهُ رُقْعَةٌ مِنْ أَدِيمٍ فِيهَا عِشْرُونَ أَلْفًا، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: كَيْفَ اسْتَحْقَقْتَ هَذِهِ عَلَى أَبِي؟ فَقَالَ الشَّابُّ: إِنَّهُ كَانَ يَوْمًا يَمْشِي وَحْدَهُ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَلَمَّا وَصَلَ قَالَ: هَلْ مِنْ حَاجَةٍ؟ فَقُلْتُ: لَا إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ الْأَمِيرَ يَمْشِي وَحْدَهُ فَاخْتَرْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ: أَبْغِنِي رُقْعَةً مِنْ أَدِيمٍ. فَذَهَبْتُ إِلَى الْخَرَّازِينَ
فَأَتَيْتُهُ بِهَذِهِ، فَكَتَبَ لِي فِيهَا هَذَا الْمَبْلَغَ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ الْيَوْمَ شَيْءٌ. فَدَفَعَ إِلَيْهِ عَمْرٌو ذَلِكَ الْمَالَ، وَزَادَهُ شَيْئًا كَثِيرًا. وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ: مَنْ تَرَكَ مِثْلَكَ لَمْ يَمُتْ. ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عُثْمَانَ. ثُمَّ قَالَ: قَدْ مَاتَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي وَمَنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنِّي، ثُمَّ أَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
إِذَا سَارَ مَنْ دُونَ امْرِئٍ وَأَمَامَهُ
…
وَأَوْحَشَ مِنْ إِخْوَانِهِ فَهُوَ سَائِرُ
وَكَانَتْ وَفَاةُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ بِجُمُعَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
شَدَّادُ بْنُ أَوْسِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ، أَبُو يَعْلَى الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ.
وَحَكَى ابْنُ مَنْدَهْ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ بَدْرًا. قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: وَهُوَ وَهْمٌ. وَكَانَ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ، كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ يُعَلِّقُ عَلَى فِرَاشِهِ، وَيَتَقَلَّبُ عَلَيْهِ وَيَتَلَوَّى كَمَا تَتَلَوَّى الْحَيَّةُ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ خَوْفَ النَّارِ قَدْ أَقْلَقَنِي. ثُمَّ يَقُومُ إِلَى صَلَاتِهِ.
قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: كَانَ شَدَّادٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ.
نَزَلَ شَدَّادٌ فِلَسْطِينَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيُّ الْعَبْشَمِيُّ، ابْنُ خَالِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَفَلَ فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَبْتَلِعُ رِيقَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:" إِنَّهُ لَمِسْقَاءٌ ". فَكَانَ لَا يُعَالِجُ أَرْضًا إِلَّا ظَهَرَ لَهُ الْمَاءُ، وَكَانَ كَرِيمًا مُمَدَّحًا مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ، اسْتَنَابَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْبَصْرَةِ بَعْدَ أَبِي مُوسَى، وَوَلَّاهُ بِلَادَ فَارِسَ بَعْدَ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَفَتَحَ خُرَاسَانَ كُلَّهَا وَأَطْرَافَ فَارِسَ وَسِجِسْتَانَ وَكَرْمَانَ وَبِلَادَ غَزْنَةَ، وَقُتِلَ كِسْرَى مَلِكُ الْمُلُوكِ فِي أَيَّامِهِ - وَهُوَ يَزْدَجِرْدُ - ثُمَّ أَحْرَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ بِحَجَّةٍ - وَقِيلَ: بِعُمْرَةٍ - مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، شُكْرًا لِلَّهِ، عز وجل، وَفَرَّقَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جَزِيلَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ الْخَزَّ بِالْبَصْرَةِ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْحِيَاضَ بِعَرَفَةَ وَأَجْرَى إِلَيْهَا الْمَاءَ الْمَعِينَ وَالْعَيْنَ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى الْبَصْرَةِ حَتَّى قُتِلَ عُثْمَانُ، فَأَخَذَ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ وَتَلَقَّى بِهَا طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، وَحَضَرَ مَعَهُمُ الْجَمَلَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ فِي صِفِّينَ، وَلَكِنْ
وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ الْبَصْرَةَ بَعْدَ صُلْحِهِ مَعَ الْحَسَنِ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَرْضِهِ بِعَرَفَاتٍ، وَأَوْصَى إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْكُتُبِ شَيْءٌ.
رَوَى مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ".»
وَقَدْ زَوَّجَهُ مُعَاوِيَةُ بِابْنَتِهِ هِنْدَ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، فَكَانَتْ تَلِي خِدْمَتَهُ بِنَفْسِهَا مِنْ مَحَبَّتِهَا لَهُ، فَنَظَرَ يَوْمًا فِي الْمِرْآةِ، فَرَأَى صَبَاحَةَ وَجْهِهَا وَشَيْبَةً فِي لِحْيَتِهِ فَطَلَّقَهَا، وَبَعَثَ إِلَى أَبِيهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِشَابٍّ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا بِسَنَةٍ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. قَالَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ. وَأُمُّهُ أُمُّ رُومَانَ أُمُّ عَائِشَةَ فَهُوَ شَقِيقُهَا، بَارَزَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَرَادَ قَتْلَ أَبِيهِ أَبِي بَكْرٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَبُوهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمْتِعْنَا بْنفْسِكَ ".» ثُمَّ أَسْلَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْهُدْنَةِ، وَهَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَرَزَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ كُلَّ سَنَةٍ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ، وَعَائِشَةُ مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِهَا، وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ، فَأَمَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَصَرَهُ، فَأَخَذَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ السِّوَاكَ، فَقَضَمَتْهُ وَطَيَّبَتْهُ، ثُمَّ دَفَعَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَنَّ بِهِ أَحْسَنَ اسْتِنَانٍ، ثُمَّ قَالَ:«اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعَلَى ".» ثُمَّ قَضَى.
قَالَتْ: فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ، وَمَاتَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، فِي بَيْتِي وَيَوْمِي، لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا.
وَقَدْ شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَتْحَ الْيَمَامَةِ وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ سَبْعَةً، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ مُحَكَّمَ بْنَ الطُّفَيْلِ صَدِيقَ مُسَيْلِمَةَ عَلَى بَاطِلِهِ، كَانَ مُحَكَّمٌ وَاقِفًا فِي ثُلْمَةِ حَائِطٍ، فَرَمَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَسَقَطَ مُحَكَّمٌ، فَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ تِلْكَ الثُّلْمَةِ فَخَلَصُوا إِلَى مُسَيْلِمَةَ فَقَتَلُوهُ. وَقَدْ شَهِدَ فَتْحَ الشَّامَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَنُفِلَ لَيْلَى بِنْتَ الْجُودِيِّ مَلِكِ عَرَبِ الشَّامِ، نَفَلَهُ إِيَّاهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مُفَصَّلًا.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ - وَلَمْ يُجَرَّبْ عَلَيْهِ كَذْبَةٌ قَطُّ - ذَكَرَ عَنْهُ حِكَايَةً ; أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتْ بَيْعَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِمَرْوَانَ: جَعَلْتُمُوهَا وَاللَّهِ هِرَقْلِيَّةً وَكِسْرَوِيَّةً. يَعْنِي جَعَلْتُمْ مُلْكَ الْمَلِكِ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ وَلَدِهِ. فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: اسْكُتْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} [الأحقاف: 17] . فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّهُ أَنْزَلَ عُذْرِي. وَيُرْوَى أَنَّهَا بَعَثَتْ إِلَى مَرْوَانَ تَعْتِبُهُ وَتُؤَنِّبُهُ وَتُخْبِرُهُ بِخَبَرٍ فِيهِ ذَمٌّ لَهُ وَلِأَبِيهِ لَا يَصِحُّ عَنْهَا.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَ أَنْ أَبَى الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَرَدَّهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا، وَقَالَ: أَبِيعُ دِينِي بِدُنْيَايَ؟ ! وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، ثَنَا مَالِكٌ قَالَ: تُوُفِّيَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي نَوْمَةٍ نَامَهَا. وَرَوَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَذَكَرَهُ وَزَادَ: فَأَعْتَقَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ رِقَابًا. وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، فَذَكَرَهُ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْحُبْشِيُّ - عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ. وَقِيلَ: اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا - فَحَمَلَهُ الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى دُفِنَ بِأَعَلَى مَكَّةَ فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ مَكَّةَ زَارَتْهُ، وَقَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شَهِدْتُكَ لَمْ أَبْكِ عَلَيْكَ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَكَ لَمْ أَنْقُلْكَ مِنْ مَوْضِعِكَ الَّذِي مِتَّ فِيهِ. ثُمَّ تَمَثَّلَتْ بِشِعْرِ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ فِي أَخِيهِ مَالِكٍ:
وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً
…
مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا
…
لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى فُسْطَاطًا مَضْرُوبًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - ضَرَبَتْهُ عَائِشَةُ بَعْدَ مَا ارْتَحَلَتْ - فَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ بِنَزْعِهِ وَقَالَ: إِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ، وَيُقَالُ: إِنَّ