الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[وَقْعَةُ عَيْنِ وَرْدَةَ]
وَاسْتَرَاحَ سُلَيْمَانُ وَأَصْحَابُهُ وَاطْمَأَنُّوا، فَلَمَّا اقْتَرَبَ قُدُومُ أَهْلِ الشَّامِ إِلَيْهِمْ خَطَبَ سُلَيْمَانُ أَصْحَابَهُ، فَرَغَّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَزَهَّدَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَقَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَالْأَمِيرُ عَلَيْكَمُ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ، فَإِنْ قُتِلَ فَرِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ. ثُمَّ بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُسَيَّبَ بْنَ نَجَبَةَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَغَارُوا عَلَى جَيْشِ شُرَحْبِيلَ بْنِ ذِي الْكَلَاعِ وَهُمْ غَارُّونَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَجَرَحُوا آخَرِينَ، وَاسْتَاقُوا نَعَمًا، وَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَأَرْسَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ فَصَبَّحَ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَجَيْشَهُ فَتَوَاقَفُوا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ قَائِمٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَدْ تَهَيَّأَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِصَاحِبِهِ، فَدَعَا الشَّامِيُّونَ أَصْحَابَ سُلَيْمَانَ إِلَى الدُّخُولِ فِي طَاعَةِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَدَعَا أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ الشَّامِيِّينَ إِلَى أَنْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ فَيَقْتُلُوهُ عَنِ الْحُسَيْنِ، وَامْتَنَعَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنْ يُجِيبَ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ الْآخَرَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا عَامَّةَ يَوْمِهِمْ إِلَى اللَّيْلِ، وَكَانَتِ الدَّائِرَةُ فِيهِ لِلْعِرَاقِيِّينَ عَلَى الشَّامِيِّينَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَصْبَحَ ابْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى الشَّامِيِّينَ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَقَدْ أَنَّبَهُ وَشَتَمَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ فِي هَذَا الْيَوْمِ
قِتَالًا لَمْ يَرَ الشِّيبُ وَالْمُرْدُ مِثْلَهُ قَطُّ، لَا يَحْجِزُ بَيْنَهُمْ إِلَّا أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَصَلَ إِلَى الشَّامِيِّينَ أَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى حِينِ ارْتِفَاعِ الضُّحَى، ثُمَّ اسْتَدَارَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَحَاطُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَخَطَبَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ النَّاسَ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا عَظِيمًا جِدًّا، ثُمَّ تَرَجَّلَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ وَكَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، وَنَادَى: يَا عِبَادَ اللَّهِ، مَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالتَّوْبَةَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَالْوَفَاءَ بِعَهْدِهِ فَلْيَأْتِ إِلَيَّ. فَتَرَجَّلَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرُونَ وَكَسَرُوا جُفُونَ سُيُوفِهِمْ، وَحَمَلُوا حَتَّى صَارُوا فِي وَسَطِ الْقَوْمِ، وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً حَتَّى خَاضُوا فِي الدِّمَاءِ، وَقُتِلَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ، رَمَاهُ يَزِيدُ بْنُ الْحُصَيْنِ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ، ثُمَّ وَثَبَ، ثُمَّ وَقَعَ، ثُمَّ وَثَبَ، ثُمَّ وَقَعَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ، فَقَاتَلَ بِهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ مَيَّالَةُ الذَّوَائِبِ
…
وَاضِحَةَ اللَّبَاتِ وَالتَّرَائِبِ
أَنِّي غَدَاةَ الرَّوْعِ وَالتَّغَالُبِ
…
أَشْجَعُ مِنْ ذِي لِبْدَةٍ مُوَاثِبِ
قَطَّاعُ أَقْرَانٍ مَخُوفُ الْجَانِبِ
ثُمَّ قُتِلَ، رحمه الله، فَقَضَى فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ نَحْبَهُ، وَلَحِقَ صَحْبَهُ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا أَيْضًا وَهُوَ يَقُولُ:
رَحِمَ اللَّهُ أَخَوَيَّ، مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. وَحَمَلَ حِينَئِذٍ رَبِيعَةُ بْنُ الْمُخَارِقِ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، وَتَبَارَزَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، ثُمَّ اتَّحَدَا فَحَمَلَ ابْنُ أَخِي رَبِيعَةَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ احْتَمَلَ عَمَّهُ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ، فَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى الْجِهَادِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: الرَّوَاحَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَذَلِكَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَحَمَلَ بِالنَّاسِ فَفَرَّقَ مَنْ كَانَ حَوْلَهُ، ثُمَّ قُتِلَ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمُفْتِينَ، قَتَلَهُ أَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ الْبَاهِلِيُّ أَمِيرُ الْحَرْبِ سَاعَتَئِذٍ مِنْ جِهَةِ الشَّامِيِّينَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ، فَانْحَازَ بِالنَّاسِ، وَقَدْ دَخَلَ الظَّلَامُ، وَرَجَعَ الشَّامِيُّونَ إِلَى رِحَالِهِمْ، وَانْشَمَرَ رِفَاعَةُ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ رَاجِعًا إِلَى بِلَادِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الشَّامِيُّونَ إِذَا الْعِرَاقِيُّونَ قَدْ كَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمْ يَبْعَثُوا وَرَاءَهُمْ طَلَبًا وَلَا أَحَدًا، فَقَطَعَ رِفَاعَةُ بِمَنْ مَعَهُ الْخَابُورَ وَمَرَّ عَلَى قَرْقِيسِيَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الطَّعَامَ وَالْعَلَفَ وَالْأَطِبَّاءَ فَأَقَامُوا ثَلَاثًا حَتَّى اسْتَرَاحُوا ثُمَّ رَحَلُوا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى هِيتَ إِذَا سَعْدُ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَدْ أَقْبَلَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ قَاصِدِينَ إِلَى نُصْرَتِهِمْ، فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ، وَنَعَوْا إِلَيْهِ أَصْحَابَهُمْ تَرَحَّمُوا عَلَيْهِمْ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ وَتَبَاكَوْا عَلَى إِخْوَانِهِمْ، وَانْصَرَفَ أَهْلُ الْمَدَائِنِ إِلَيْهَا، وَرَجَعَ رَاجِعَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَيْهَا، وَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَإِذَا الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ كَمَا هُوَ فِي السِّجْنِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بَعْدُ، فَكَتَبَ إِلَى رِفَاعَةَ بْنِ شَدَّادٍ يُعَزِّيهِ فِيمَنْ قُتِلَ
مِنْهُمْ وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِمْ، وَيَغْبِطُهُمْ بِمَا نَالُوا مِنَ الشَّهَادَةِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَيَقُولُ: مَرْحَبًا بِالَّذِينِ أَعْظَمَ اللَّهُ أُجُورَهُمْ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَاللَّهِ مَا خَطَا مِنْهُمْ أَحَدٌ خُطْوَةً إِلَّا كَانَ ثَوَابُ اللَّهِ لَهُ فِيهَا أَعْظَمَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَإِنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ وَجَعَلَ رُوحَهُ فِي أَرْوَاحِ النَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَبَعْدُ فَأَنَا الْأَمِيرُ الْمَأْمُونُ، قَاتِلُ الْجَبَّارِينَ وَالْمُفْسِدِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَعِدُّوا وَاسْتَعَدُّوا وَأَبْشِرُوا، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالطَّلَبِ بِدِمَاءِ أَهْلِ الْبَيْتِ. وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ قُدُومِهِمْ أَخْبَرَ النَّاسَ بِهَلَاكِهِمْ عَنْ رَئِيِّهِ الَّذِي كَانَ يَأْتِي إِلَيْهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يَأْتِيهِ شَيْطَانٌ فَيُوحِي إِلَيْهِ قَرِيبًا مِمَّا كَانَ يُوحِي شَيْطَانُ مُسَيْلِمَةَ إِلَيْهِ. وَكَانَ جَيْشُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَأَصْحَابِهِ يُسَمَّى بِجَيْشِ التَّوَّابِينَ.
وَقَدْ كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ الْخُزَاعِيُّ أَبُو مُطَرِّفٍ الْكُوفِيُّ صَحَابِيًّا جَلِيلًا نَبِيلًا عَابِدًا زَاهِدًا، رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا، وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ صِفِّينَ، وَكَانَ أَحَدُ مَنْ كَانَ يَجْتَمِعُ الشِّيعَةُ فِي دَارِهِ لِبَيْعَةِ الْحُسَيْنِ، وَكَتَبَ إِلَى الْحُسَيْنِ فِيمَنْ كَتَبَ بِالْقُدُومِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَمَّا قَدِمَهَا تَخَلَّوْا عَنْهُ، وَقُتِلَ بِكَرْبَلَاءَ، وَرَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبَبًا فِي قُدُومِهِ، وَأَنَّهُمْ خَذَلُوهُ حَتَّى قُتِلَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، فَنَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، ثُمَّ اجْتَمَعُوا فِي هَذَا الْجَيْشِ،
وَسَمَّوْا جَيْشَهُمْ جَيْشَ التَّوَّابِينَ، وَسَمَّوْا سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ أَمِيرَ التَّوَّابِينَ، فَقُتِلَ سُلَيْمَانُ، رضي الله عنه، فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ بِعَيْنِ وَرْدَةَ، سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ قُتِلَ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، رحمه الله.
وَأَمَّا الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ الْفَزَارِيُّ، فَإِنَّهُ قَدِمَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مِنَ الْعِرَاقِ وَشَهِدَ فَتْحَ دِمَشْقَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعِرَاقِ وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ صِفِّينَ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ أَحَدَ الْكِبَارِ الَّذِينَ خَرَجُوا يَطْلُبُونَ بِدَمِ الْحُسَيْنِ، رضي الله عنه، وَحُمِلَ رَأْسُهُ وَرَأْسُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بَعْدَ الْوَقْعَةِ، وَكَتَبَ أُمَرَاءُ الشَّامِيِّينَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَظْفَرَهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَأَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْجُنُودِ وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَقَدْ قَالَ: أَهْلَكَ اللَّهُ رُءُوسَ الضُّلَّالِ ; سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَأَصْحَابَهُ. وَعَلَّقَ الرُّءُوسَ بِدِمَشْقَ. وَكَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ قَدْ عَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى وَلَدَيْهِ ; عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَخَذَ بَيْعَةَ الْأُمَرَاءِ عَلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَفِيهَا دَخَلَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَأَخَذَاهَا مِنْ يَدِ نَائِبِهَا الَّذِي كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَحْدَمٍ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ مَرْوَانَ قَصَدَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ نَائِبُهَا ابْنُ جَحْدَمٍ، فَقَابَلَهُ مَرْوَانُ لِيُقَاتِلَهُ، فَاشْتَغَلَ بِهِ، وَخَلَصَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ مِنْ وَرَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَحْدَمٍ، فَدَخَلَ مِصْرَ، فَمَلَكَهَا، وَهَرَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَدَخَلَ مَرْوَانُ إِلَى مِصْرَ، فَمَلَكَهَا وَجَعَلَ عَلَيْهَا وَلَدَهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مَرْوَانَ.
وَفِيهَا بَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ مُصْعَبًا لِيَفْتَحَ لَهُ الشَّامَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ، فَتَلَقَّاهُ إِلَى فِلَسْطِينَ، فَهَرَبَ مِنْهُ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَرَّ رَاجِعًا، وَلَمْ يَظْفَرْ بِشَيْءٍ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ الشَّامِ وَمِصْرَ لِمَرْوَانَ.
وَفِيهَا جَهَّزَ مَرْوَانُ جَيْشَيْنِ ; أَحَدُهُمَا مَعَ حُبَيْشِ بْنِ دُلَجَةَ الْقَيْنِيِّ لِيَأْخُذَ لَهُ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ، وَالْآخَرُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ إِلَى الْعِرَاقِ
لِيَنْتَزِعَهُ مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ لَقُوا جَيْشَ التَّوَّابِينَ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ عَيْنِ الْوَرْدَةِ ; قَتَلُوا أَكْثَرَ أَصْحَابِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ مَعَهُ وَاسْتَمَرُّوا ذَاهِبِينَ فَلَمَّا كَانُوا بِالْجَزِيرَةِ بَلَغَهُمْ مَوْتُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِأُمِّ خَالِدٍ امْرَأَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهِيَ أُمُّ هَاشِمٍ بِنْتُ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَرْوَانُ بِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا لِيُصَغِّرَ ابْنَهَا خَالِدًا فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنْهُ أَنْ يُمَلِّكُوهُ بَعْدَ أَخِيهِ مُعَاوِيَةَ، فَتَزَوَّجَ أُمَّهُ لِيُصَغِّرَ أَمْرَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ دَاخِلٌ إِلَى عِنْدِ مَرْوَانَ، إِذْ جَعَلَ مَرْوَانُ يَتَكَلَّمُ فِيهِ عِنْدَ جُلَسَائِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ لَهُ فِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ: يَابْنَ الرَّطْبَةِ الِاسْتِ. فَذَهَبَ خَالِدٌ إِلَى أُمِّهِ، فَأَخْبَرَهَا بِمَا قَالَ لَهُ، فَقَالَتْ: اكْتُمْ ذَلِكَ، وَلَا تُعْلِمْهُ أَنَّكَ أَعْلَمْتَنِي بِذَلِكَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا مَرْوَانُ قَالَ لَهَا: هَلْ ذَكَرَنِي خَالِدٌ عِنْدَكِ بِسُوءٍ؟ فَقَالَتْ لَهُ: وَمَا عَسَاهُ يَقُولُ لَكَ وَهُوَ يُحِبُّكُ وَيُعَظِّمُكَ. ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ رَقَدَ عِنْدَهَا، فَلَمَّا أَخَذَهُ النَّوْمُ عَمَدَتْ إِلَى وِسَادَةٍ، فَوَضَعَتْهَا عَلَى وَجْهِهِ، وَتَحَامَلَتْ عَلَيْهَا هِيَ وَجَوَارِيهَا حَتَّى مَاتَ غَمًّا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ثَالِثِ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ بِدِمَشْقَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِحْدَى وَسِتُّونَ وَقِيلَ: إِحْدَى وَثَمَانُونَ سَنَةً. وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: عَشَرَةَ أَشْهُرٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.