الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[صِفَةُ عَوْدِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ إِلَى الْمُلْكِ]
[زَوَالُ دَوْلَةِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ الْجَاشْنَكِيرِ بَيْبَرْسَ]
ِ وَزَوَالُ دَوْلَةِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ الْجَاشْنَكِيرِ بَيْبَرْسَ وَخِذْلَانُهُ وَخِذْلَانُ شَيْخِهِ نَصْرٍ الْمَنْبِجِيِّ الِاتِّحَادِيِّ الْحُلُولِيِّ
لَمَّا كَانَ ثَالِثَ عَشَرَ شَعْبَانَ جَاءَ الْخَبَرُ بِقُدُومِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ إِلَى دِمَشْقَ، فَسَاقَ إِلَيْهِ الْأَمِيرَانِ سَيْفُ الدِّينِ قُطْلُوبَكُ وَالْحَاجُّ بَهَادُرُ إِلَى الْكَرَكِ، وَحَضَّاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَاضْطَرَبَ نَائِبُ دِمَشْقَ، وَرَكِبَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ عَلَى الْهُجُنِ فِي سَادِسَ عَشَرَ شَعْبَانَ، وَمَعَهُ ابْنُ صُبْحٍ صَاحِبُ شَقِيفِ أَرْنُوَنَ، وَهُيِّئَتْ بِدِمَشْقَ أُبَّهَةُ السَّلْطَنَةِ، وَالْإِقَامَاتُ اللَّائِقَةُ بِهِ، وَالْعَصَائِبُ، وَالْكُوسَاتُ، وَرَكِبَ مِنَ الْكَرَكِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَرْسَلَ الْأَمَانَ إِلَى الْأَفْرَمِ، وَدَعَا لَهُ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْمِئْذَنَةِ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ
عَشَرَ شَعْبَانَ، فَضَجَّ النَّاسُ لَهُ بِالدُّعَاءِ وَالسُّرُورِ بِذِكْرِهِ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ، وَأَنْ يَفْتَحُوا دَكَاكِينَهُمْ وَيَأْمَنُوا فِي أَوْطَانِهِمْ، وَشَرَعَ النَّاسُ فِي الزِّينَةِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَنَامَ النَّاسُ فِي الْأَسْطِحَةِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِيَتَفَرَّجُوا عَلَى السُّلْطَانِ حِينَ يَدْخُلُ الْبَلَدَ، وَخَرَجَ الْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْأَعْيَانُ لِتَلَقِّيهِ، وَكَانَ دُخُولُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَسَطَ النَّهَارِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَبُسِطَ لَهُ مِنْ عِنْدِ الْمُصَلَّى إِلَى الْقَلْعَةِ.
قَالَ كَاتِبُهُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَكُنْتُ فِي مَنْ شَاهَدَ دُخُولَهُ وَعَلَيْهِ أُبَّهَةُ الْمُلْكِ، وَالْبُسُطُ تَحْتَ أَقْدَامِ فَرَسِهِ، كُلَّمَا جَاوَزَ شُقَّةً طُوِيَتْ مِنْ وَرَائِهِ، وَالْجِتْرُ عَلَى رَأْسِهِ، وَالْأُمَرَاءُ السِّلِحْدَارِيَّةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ، وَالنَّاسُ يَدْعُونَ لَهُ، وَيَضِجُّونَ بِذَلِكَ ضَجِيجًا عَالِيًا، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ: وَكَانَ عَلَى السُّلْطَانِ يَوْمَئِذٍ عِمَامَةٌ بَيْضَاءُ، وَكَلُوتَةٌ حَمْرَاءُ، وَكَانَ الَّذِي حَمَلَ الْغَاشِيَةَ عَلَى رَأْسِهِ يَوْمَئِذٍ الْحَاجُّ بَهَادُرُ، وَعَلَيْهِ خِلْعَةٌ مُعَظَّمَةٌ مُذَهَّبَةٌ بِفَرْوِ قَاقُمٍ، وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْقَلْعَةِ نُصِبَ لَهُ الْجِسْرُ، وَنَزَلَ إِلَيْهَا نَائِبُهَا الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
السِّنْجِرِيُّ فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ: إِنِّي الْآنَ لَا أَنْزِلُ هَاهُنَا. وَسَارَ بِفَرَسِهِ إِلَى جِهَةِ الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَالْأُمَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَنَزَلَ بِالْقَصْرِ، وَخُطِبَ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
وَفِي بُكْرَةِ يَوْمِ السَّبْتِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ وَصَلَ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الْأَفْرَمُ نَائِبُ دِمَشْقَ مُطِيعًا لِلسُّلْطَانِ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَرَجَّلَ لَهُ السُّلْطَانُ، وَأَكْرَمَهُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي مُبَاشَرَةِ النِّيَابَةِ عَلَى عَادَتِهِ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِطَاعَةِ الْأَفْرَمِ لَهُ. ثُمَّ وَصَلَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُبْجَقُ نَائِبُ حَمَاةَ، وَالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَسَنْدَمُرُ نَائِبُ طَرَابُلُسَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ، وَخَرَجَ الْأُمَرَاءُ لِتَلَقِّيهِمَا، وَتَلَقَّاهُمَا السُّلْطَانُ كَمَا تَلَقَّى الْأَفْرَمَ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ رَسَمَ السُّلْطَانُ بِتَقْلِيدِ قَضَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَعَوْدِهِ إِلَى تَقِيِّ الدِّينِ سُلَيْمَانَ، وَهَنَّأَهُ النَّاسُ، وَجَاءَ إِلَى السُّلْطَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَمَضَى إِلَى الْجَوْزِيَّةِ فَحَكَمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَأُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ بِالْمَيْدَانِ، وَحَضَرَ السُّلْطَانُ وَالْقُضَاةُ إِلَى جَانِبِهِ، وَأَكَابِرُ الْأُمَرَاءِ وَالدَّوْلَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ وَصَلَ إِلَى السُّلْطَانِ الْأَمِيرُ قَرَاسُنْقُرُ الْمَنْصُورِيُّ نَائِبُ حَلَبَ، وَخَرَجَ السُّلْطَانُ لِتَلَقِّيهِ أَيْضًا، وَوَصَلَ جَيْشُ حَلَبَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثِ رَمَضَانَ، وَخَرَجَ دِهْلِيزُ السُّلْطَانِ يَوْمَ الْخَمِيسِ رَابِعِ رَمَضَانَ وَمَعَهُ الْقُضَاةُ وَالْقُرَّاءُ وَقْتَ الْعَصْرِ،
وَأُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ خَامِسَ رَمَضَانَ بِالْمَيْدَانِ أَيْضًا، ثُمَّ خَرَجَ السُّلْطَانُ مِنْ دِمَشْقَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعِ رَمَضَانَ، وَفِي صُحْبَتِهِ ابْنُ صَصْرَى، وَصَدْرُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ قَاضِي الْعَسَاكِرِ، وَالْخَطِيبُ جَلَالُ الدِّينِ، وَالشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَالْمُوَقِّعُونَ، وَدِيوَانُ الْجَيْشِ، وَجَيْشُ الشَّامِ بِكَمَالِهِ، قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ مُدُنِهِ وَأَقَالِيمِهِ بِنُوَّابِهِ وَأُمَرَائِهِ، فَلَمَّا انْتَهَى السُّلْطَانُ إِلَى غَزَّةَ دَخَلَهَا فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَلَقَّاهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَهَادُرُ آصْ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ قَدْ خَلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْمَمْلَكَةِ، ثُمَّ تَوَاتَرَ قُدُومُ الْأُمَرَاءِ مِنْ مِصْرَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَطَابَتْ قُلُوبُ الشَّامِيِّينَ، وَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَتَأَخَّرَ مَجِيءُ الْبَرِيدِ بِصُورَةِ مَا جَرَى.
وَاتَّفَقَ فِي يَوْمِ هَذَا الْعِيدِ أَنَّهُ خَرَجَ نَائِبُ الْخَطِيبِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْجَزَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْمِقَصَّاتِيِّ فِي السَّنَاجِقِ إِلَى الْمُصَلَّى عَلَى الْعَادَةِ، وَاسْتَنَابَ فِي الْبَلَدِ الشَّيْخَ مَجْدَ الدِّينِ التُّونِسِيَّ، فِلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْمُصَلَّى وَجَدُوا خَطِيبَ الْمُصَلَّى قَدْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ، فَنُصِبَتِ السَّنَاجِقُ فِي صَحْنِ الْمُصَلَّى، وَصَلَّى بَيْنَهُمَا تَقِيُّ الدِّينِ الْمِقَصَّاتِيُّ، ثُمَّ خَطَبَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ ابْنُ حَسَّانَ دَاخِلَ الْمُصَلَّى، فَعُقِدَ فِيهِ صَلَاتَانِ وَخُطْبَتَانِ يَوْمَئِذٍ، وَلَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُ هَذَا فِيمَا نَعْلَمُ.
وَكَانَ دُخُولُ السُّلْطَانِ الْمَلِكُ النَّاصِرُ إِلَى قَلْعَةِ الْجَبَلِ آخَرَ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَرَسَمَ لِسَلَّارَ أَنْ يُسَافِرَ إِلَى الشَّوْبَكِ وَاسْتَنَابَ بِمِصْرَ الْأَمِيرَ سَيْفَ
الدِّينِ بَكْتَمُرَ الْجُوكَنْدَارَ الَّذِي كَانَ نَائِبَ صَفَدَ، وَبِالشَّامِ الْأَمِيرَ شَمْسَ الدِّينِ قَرَاسُنْقُرَ الْمَنْصُورِيَّ، وَذَلِكَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَاسْتَوْزَرَ الصَّاحِبَ فَخْرَ الدِّينِ بْنَ الْخَلِيلِيِّ بَعْدَهَا بِيَوْمَيْنِ، وَبَاشَرَ الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ كَاتِبُ الْمَمَالِكِ نَظَرَ الْجُيُوشِ بِمِصْرَ بَعْدَ بَهَاءِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْمُظَفَّرِ، ابْنِ الْحِلِّيِّ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ عَاشِرِ شَوَّالٍ، وَكَانَ مِنْ صُدُورِ الْمِصْرِيِّينَ وَأَعْيَانِ الْكِبَارِ، وَقَدْ رَوَى شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ. وَصَرَفَ الْأَمِيرَ جَمَالَ الدِّينِ آقُوشَ الْأَفْرَمَ إِلَى نِيَابَةِ صَرْخَدَ، وَقَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرُ زَيْنُ الدِّينِ كَتْبُغَا رَأْسُ نَوْبَةِ الْجَمَدَارِيَّةِ مُشِدَّ الدَّوَاوِينِ، وَأُسْتَاذَ دَارِ الْأُسْتَادَارِيَّةِ - عِوَضًا عَنْ سَيْفِ الدِّينِ آقْجِبَا، وَتَغَيَّرَتِ الدَّوْلَةُ، وَانْقَلَبَتْ قَلْبَةً عَظِيمَةً.
وَقَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ: وَلَمَّا دَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى مِصْرَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَأْبٌ إِلَّا طَلَبَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا مُبَجَّلًا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ فِي ثَانِي يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ بَعْدَ وُصُولِهِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، فَقَدِمَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى السُّلْطَانِ فِي يَوْمِ ثَامِنِ الشَّهْرِ، وَخَرَجَ مَعَ الشَّيْخِ خَلْقٌ يُوَدِّعُونَهُ، وَاجْتَمَعَ بِالسُّلْطَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَكْرَمَهُ، وَتَلَقَّاهُ فِي مَجْلِسٍ حَافِلٍ فِيهِ قُضَاةُ الْمِصْرِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ، وَأَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، ثُمَّ نَزَلَ الشَّيْخُ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَسَكَنَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ، وَالنَّاسُ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ، وَالْأُمَرَاءُ، وَالْجُنْدُ، وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُضَاةِ، مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، وَيَتَنَصَّلُ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُ، فَقَالَ:
أَنَا قَدْ حَالَلْتُ كُلَّ مَنْ آذَانِي.
قُلْتُ: وَقَدْ أَخْبَرَنِي الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ بِتَفَاصِيلِ هَذَا الْمَجْلِسِ، وَمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ إِكْرَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ، وَمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الشُّكْرِ وَالْمَدْحِ مِنَ السُّلْطَانِ، وَكَذَلِكَ أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ، وَلَكِنَّ إِخْبَارَ ابْنِ الْقَلَانِسِيِّ أَكْثَرُ تَفْصِيلًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ قَاضِيَ الْعَسْكَرِ، وَكِلَاهُمَا كَانَ حَاضِرًا هَذَا الْمَجْلِسَ، ذَكَرَ أَنَّ السُّلْطَانَ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ نَهَضَ قَائِمًا لِلشَّيْخِ أَوَّلَ مَا رَآهُ، وَمَشَى لَهُ إِلَى طَرَفِ الْإِيوَانِ، وَاعْتَنَقَا هُنَاكَ هُنَيْهَةً، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى صُفَّةٍ فِيهَا شُبَّاكٌ إِلَى بُسْتَانٍ، فَجَلَسَا سَاعَةً يَتَحَدَّثَانِ، ثُمَّ جَاءَ وَيَدُ الشَّيْخِ فِي يَدِ السُّلْطَانِ، فَجَلَسَ السُّلْطَانُ وَعَنْ يَمِينِهِ ابْنُ جَمَاعَةَ قَاضِي مِصْرَ، وَعَنْ يَسَارِهِ ابْنُ الْخَلِيلِيِّ الْوَزِيرُ، وَتَحْتَهُ ابْنُ صَصْرَى، ثُمَّ صَدْرُ الدِّينِ عَلِيٌّ الْحَنَفِيُّ، وَجَلَسَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ عَلَى طَرَفِ طُرَّاحَتِهِ، وَتَكَلَّمَ الْوَزِيرُ فِي إِعَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلَى لُبْسِ الْعَمَائِمِ الْبِيضِ بِالْعَلَائِمِ، وَأَنَّهُمْ قَدِ الْتَزَمُوا لِلدِّيوَانِ بِسَبْعِ مِائَةِ أَلْفٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، زِيَادَةً عَلَى الْجَالِيَةِ، فَسَكَتَ النَّاسُ، وَكَانَ فِيهِمْ قُضَاةُ مِصْرَ وَالشَّامِ، وَأَكَابِرُ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَهْلِ مِصْرَ وَالشَّامِ، مِنْ جُمْلَتِهِمُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ.
قَالَ ابْنُ الْقَلَانِسِيِّ: وَأَنَا فِي مَجْلِسِ السُّلْطَانِ إِلَى جَنْبِ ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، فَلَمْ
يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا مِنَ الْقُضَاةِ، فَقَالَ لَهُمُ السُّلْطَانُ: مَا تَقُولُونَ؟ يَسْتَفْتِيهِمْ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، فَجَثَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَتَكَلَّمَ مَعَ السُّلْطَانِ بِكَلَامٍ غَلِيظٍ، وَرَدَّ عَلَى الْوَزِيرِ مَا قَالَهُ رَدًّا عَنِيفًا، وَجَعْلَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، وَالسُّلْطَانُ يَتَلَافَاهُ وَيُسْكِتُهُ بِتَرَفُّقٍ وَتَوَدُّدٍ وَتَوْقِيرٍ، وَبَالَغَ الشَّيْخُ فِي الْكَلَامِ، وَقَالَ مَا لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُومَ بِمِثْلِهِ وَلَا قَرِيبٍ مِنْهُ، وَبَالَغَ فِي التَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ يُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ لِلسُّلْطَانِ: حَاشَاكَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ مَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ فِي أُبَّهَةِ الْمُلْكِ تَنْصُرُ فِيهِ أَهْلَ الذِّمَّةِ لِأَجْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، فَاذْكُرْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكَ إِذْ رَدَّ مُلْكَكَ إِلَيْكَ، وَكَبَتَ عَدُوَّكَ، وَنَصَرَكَ عَلَى أَعْدَائِكِ، فَذَكَرَ أَنَّ الْجَاشْنَكِيرَ هُوَ الَّذِي جَدَّدَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَالَّذِي فَعَلَهُ الْجَاشْنَكِيرُ كَانَ مِنْ مَرَاسِيمِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ نَائِبًا لَكَ، فَأَعْجَبَ السُّلْطَانَ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ بِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَجَرَتْ فُصُولٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ أَعْلَمَ بِالشَّيْخِ مِنْ جَمِيعِ الْحَاضِرِينَ، وَبِعِلْمِهِ، وَدِينِهِ، وَقِيَامِهِ بِالْحَقِّ، وَشَجَاعَتِهِ، وَسَمِعْتُ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ يَذْكُرُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ مِنَ الْكَلَامِ لَمَّا انْفَرَدَا فِي ذَلِكَ الشُّبَّاكِ الَّذِي جَلَسَا فِيهِ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ اسْتَفْتَى الشَّيْخَ فِي قَتْلِ بَعْضِ الْقُضَاةِ بِسَبَبِ مَا كَانُوا تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَأَخْرَجَ لَهُ فَتَاوَى بَعْضِهِمْ بِعَزْلِهِ مِنَ الْمُلْكِ وَمُبَايِعَةِ الْجَاشْنَكِيرِ، وَأَنَّهُمْ قَامُوا عَلَيْكَ وَآذَوْكَ أَنْتَ أَيْضًا! وَأَخَذَ يَحُثُّهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنْ يُفْتِيَهُ فِي قَتْلِ بَعْضِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ حَنَقُهُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ مَا كَانُوا سَعَوْا فِيهِ مِنْ عَزْلِهِ وَمُبَايَعَةِ الْجَاشْنَكِيرِ، فَفَهِمَ الشَّيْخُ مُرَادَ السُّلْطَانِ، فَأَخَذَ فِي تَعْظِيمِ الْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ، وَيُنْكِرُ أَنْ يَنَالَ أَحَدًا مِنْهُمْ سُوءٌ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا قَتَلْتَ هَؤُلَاءِ لَا تَجِدُ بِعْدَهُمْ مِثْلَهُمْ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُمْ قَدْ آذَوْكَ وَأَرَادُوا قَتْلَكَ مِرَارًا، فَقَالَ الشَّيْخُ: مَنْ آذَانِي فَهُوَ فِي حِلٍّ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَاللَّهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَأَنَا لَا أَنْتَصِرُ لِنَفْسِي. وَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى حَلُمَ عَنْهُمُ السُّلْطَانُ وَصَفَحَ.
قَالَ: وَكَانَ قَاضِي الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ مَخْلُوفٍ يَقُولُ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، حَرَّضْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَقَدَرَ عَلَيْنَا فَصَفَحَ عَنَّا وَحَاجَجَ عَنَّا. ثُمَّ إِنَّ الشَّيْخَ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِ بِالسُّلْطَانِ نَزَلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَعَادَ إِلَى بَثِّ الْعِلْمِ وَنَشْرِهِ، وَأَقْبَلَتِ الْخَلْقُ عَلَيْهِ، وَرَحَلُوا إِلَيْهِ يَشْتَغِلُونَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَفْتُونَهُ وَيُجِيبُهُمْ بِالْكِتَابَةِ وَالْقَوْلِ، وَجَاءَتْهُ الْفُقَهَاءُ يَعْتَذِرُونَ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ فِي حَقِّهِ، فَقَالَ: قَدْ جَعَلْتُ الْكُلَّ فِي حِلٍّ.
وَبَعَثَ الشَّيْخُ كِتَابًا إِلَى أَهْلِهِ يَذْكُرُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ وَخَيْرِهِ الْكَثِيرِ، وَيَطْلُبُ مِنْهُمْ جُمْلَةً مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ الَّتِي لَهُ، وَيَسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِجَمَالِ الدِّينِ الْمِزِّيِّ، فَإِنَّهُ يَدْرِي كَيْفَ يَسْتَخْرِجُ لَهُ مَا يُرِيدُهُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا، وَقَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ: وَالْحَقُّ كُلُّ مَا لَهُ فِي عُلُوٍّ وَازْدِيَادٍ وَانْتِصَارٍ، وَالْبَاطِلُ فِي انْخِفَاضٍ وَسُفُولٍ وَاضْمِحْلَالٍ، وَقَدْ أَذَلَّ اللَّهُ رِقَابَ الْخُصُومِ، وَطَلَبَ أَكَابِرُهُمْ مِنَ السَّلَمِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ، وَقَدِ اشْتَرَطْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الشُّرُوطِ مَا فِيهِ عِزُّ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا فِيهِ قَمْعُ الْبَاطِلِ وَالْبِدْعَةِ، وَقَدْ دَخَلُوا تَحْتَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَامْتَنَعْنَا مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، حَتَّى يَظْهَرَ إِلَى الْفِعْلِ، فَلَمْ نَثِقْ لَهُمْ بِقَوْلٍ وَلَا عَهْدٍ، وَلَمْ نُجِبْهُمْ إِلَى مَطْلُوبِهِمْ حَتَّى يَصِيرَ الْمَشْرُوطُ مَعْمُولًا، وَالْمَذْكُورُ مَفْعُولًا، وَيَظْهَرَ مَنْ عَزِّ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو سَيِّئَاتِهِمْ. وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا يَتَضَمَّنُ مَا جَرَى لَهُ مَعَ السُّلْطَانِ فِي قَمْعِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَذُلِّهِمْ، وَتَرْكِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الذِّلَّةِ وَالصِّغَارِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَفِي شَوَّالٍ أَمْسَكَ السُّلْطَانُ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَمِيرًا. وَفِي سَادِسَ عَشَرَ شَوَّالٍ وَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ حَوْرَانَ مِنْ قَيْسٍ وَيَمَنٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نَحْوٌ مَنْ أَلْفِ نَفْسٍ بِالْقُرْبِ مِنَ السُّوَيْدَاءِ، وَهُمْ يُسَمُّونَهَا