الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[دُعَائُهُ عليه السلام عَلَى الْأَحْزَابِ]
فَصْلٌ فِي دُعَائِهِ عليه السلام عَلَى الْأَحْزَابِ
وَكَيْفَ صَرَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ؛ اسْتِجَابَةً لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَصِيَانَةً لِحَوْزَتِهِ الشَّرِيفَةِ، فَزَلْزَلَ قُلُوبَهُمْ، ثُمَّ أَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الشَّدِيدَةَ؛ فَزَلْزَلَ أَبْدَانَهُمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ -، حَدَّثَنَا رُبَيْحُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ؟ فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. قَالَ: " نَعَمْ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا " قَالَ: فَضَرَبَ اللَّهُ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ بِالرِّيحِ.» وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ، وَهُوَ الْعَقَدِيُّ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ رُبَيْحِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَذَكَرَهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى مَسْجِدَ الْأَحْزَابِ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَقَامَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا يَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُصَلِّ. قَالَ: ثُمَّ جَاءَ وَدَعَا عَلَيْهِمْ وَصَلَّى»
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ:«دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَحْزَابِ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: " «اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» ".
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ» .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فِي مَا وَصَفَ اللَّهُ مِنَ الْخَوْفِ وَالشِّدَّةِ؛ لِتَظَاهُرِ عَدُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ وَإِتْيَانِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ
مِنْهُمْ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُنَيْفِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ قُنْفُذِ بْنِ هِلَالِ بْنِ خُلَاوَةَ بْنِ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَخَذِّلْ عَنَّا إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ» ". فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَ لَهُمْ نَدِيمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ، قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ وَخَاصَّةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قَالُوا: صَدَقْتَ، لَسْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ لَيْسُوا كَأَنْتُمْ، الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ، فِيهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، لَا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَتَحَوَّلُوا مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ قَدْ جَاءُوا لِحَرْبِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ ظَاهَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ، وَبَلَدُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ بِغَيْرِهِ فَلَيْسُوا كَأَنْتُمْ، فَإِنْ رَأَوْا نُهْزَةً أَصَابُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ لَحِقُوا بِبِلَادِهِمْ وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ بِبَلَدِكُمْ، وَلَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِ إِنْ خَلَا بِكُمْ، فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ؛ ثِقَةً لَكُمْ عَلَى أَنْ تُقَاتِلُوا مَعَهُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى تُنَاجِزُوهُ. قَالُوا: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ: قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي لَكُمْ وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا، وَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ قَدْ رَأَيْتُ عَلَيَّ حَقًّا أَنْ أُبَلِّغَكُمُوهُ؛ نُصْحًا لَكُمْ، فَاكْتُمُوا عَنِّي. قَالُوا: نَفْعَلُ. قَالَ: تَعْلَمُوا أَنَّ مَعْشَرَ
يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ أَنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا، فَهَلْ يُرْضِيكَ أَنْ نَأْخُذَ لَكَ مِنَ الْقَبِيلَتَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَنُعْطِيَكَهُمْ فَتَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ نَكُونَ مَعَكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَتَّى تَسْتَأْصِلَهُمْ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَنْ نَعَمْ. فَإِنْ بَعَثَتْ إِلَيْكُمْ يَهُودُ يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ، فَلَا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ مِنْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى غَطَفَانَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ إِنَّكُمْ أَصْلِي وَعَشِيرَتِي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلَا أَرَاكُمْ تَتَّهِمُونِي، قَالُوا: صَدَقْتَ، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ. قَالَ: فَاكْتُمُوا عَنِّي. قَالُوا: نَفْعَلُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ، وَحَذَّرَهُمْ مَا حَذَّرَهُمْ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ السَّبْتِ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ، وَكَانَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَرُءُوسُ غَطَفَانَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّا لَسْنَا بِدَارِ مُقَامٍ، قَدْ هَلَكَ الْخُفُّ وَالْحَافِرُ، فَأَعِدُّوا لِلْقِتَالِ حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا وَنَفْرُغُ مِمَّا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ: إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَهُوَ يَوْمٌ لَا نَعْمَلُ فِيهِ شَيْئًا، وَقَدْ كَانَ أَحْدَثَ فِيهِ بَعْضُنَا حَدَثًا فَأَصَابَهُمْ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكُمْ، وَلَسْنَا مَعَ ذَلِكَ بِالَّذِينِ نُقَاتِلُ مَعَكُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى تُعْطُونَا رُهُنًا مِنْ رِجَالِكُمْ يَكُونُونَ بِأَيْدِينَا؛ ثِقَةً لَنَا حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا، فَإِنَّا نَخْشَى
إِنْ ضَرَّسَتْكُمُ الْحَرْبُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَنْ تَنْشَمِرُوا إِلَى بِلَادِكُمْ وَتَتْرُكُونَا، وَالرَّجُلَ فِي بِلَادِنَا، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ بِمَا قَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ: وَاللَّهِ إِنَّ الَّذِي حَدَّثَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ. فَأَرْسَلُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: إِنَّا وَاللَّهِ لَا نَدْفَعُ إِلَيْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا مِنْ رِجَالِنَا، فَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْقِتَالَ فَاخْرُجُوا فَقَاتِلُوا. فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ حِينَ انْتَهَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ بِهَذَا: إِنَّ الَّذِي ذَكَرَ لَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ مَا يُرِيدُ الْقَوْمُ إِلَّا أَنْ تُقَاتِلُوا، فَإِنْ رَأَوْا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ انْشَمَرُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ فِي بَلَدِكُمْ. فَأَرْسَلُوا إِلَى قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ: إِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونَا رُهُنًا فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَخَذَّلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَبَعَثَ اللَّهُ الرِّيحَ فِي لَيْلَةٍ شَاتِيَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ فَجَعَلَتْ تَكْفَأُ قُدُورَهُمْ وَتَطْرَحُ أَبْنِيَتَهُمْ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ قِصَّةِ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ أَحْسَنُ مِمَّا ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَقَدْ أَوْرَدَهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ ". فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا حَاصِلُهُ «أَنَّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُذِيعُ مَا يَسْمَعُهُ مِنَ الْحَدِيثِ فَاتَّفَقَ أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ عِشَاءً، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ تَعَالَ، فَجَاءَ فَقَالَ:" مَا وَرَاءَكَ؟ " فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَيْهِمْ فَيُنَاجِزُوكَ، فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ: نَعَمْ، فَأَرْسِلُوا إِلَيْنَا بِالرُّهُنِ. وَقَدْ ذَكَرَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا نَقَضُوا الْعَهْدَ عَلَى يَدَيْ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، بِشَرْطِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِرَهَائِنَ تَكُونُ عِنْدَهُمْ تَوْثِقَةً، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي مُسِرٌّ إِلَيْكَ شَيْئًا فَلَا تَذْكُرْهُ ". قَالَ: " إِنَّهُمْ قَدْ أَرْسَلُوا إِلَيَّ يَدْعُونَنِي إِلَى الصُّلْحِ وَأَرُدُّ بَنِي النَّضِيرِ إِلَى دُورِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ". فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ عَامِدًا إِلَى غَطَفَانَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْحَرْبُ خَدْعَةٌ، وَعَسَى أَنْ يَصْنَعَ اللَّهُ لَنَا ". فَأَتَى نُعَيْمٌ غَطَفَانَ وَقُرَيْشًا فَأَعْلَمَهُمْ، فَبَادَرَ الْقَوْمُ وَأَرْسَلُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ عِكْرِمَةَ وَجَمَاعَةً مَعَهُ، وَاتَّفَقَ ذَلِكَ لَيْلَةَ السَّبْتِ، يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لِلْقِتَالِ مَعَهُمْ فَاعْتَلَّتِ الْيَهُودُ بِالسَّبْتِ، ثُمَّ أَيْضًا طَلَبُوا الرُّهُنَ تَوْثِقَةً، فَأَوْقَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَاخْتَلَفُوا» .
قُلْتُ: وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ قُرَيْظَةُ لَمَّا يَئِسُوا مِنِ انْتِظَامِ أَمْرِهِمْ مَعَ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطْلُبُونَ مِنْهُ الصُّلْحَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ بَنِي النَّضِيرِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا اخْتَلَفَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَا فَرَّقَ اللَّهُ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، دَعَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، فَبَعَثَهُ إِلَيْهِمْ لِيَنْظُرَ مَا فَعَلَ الْقَوْمُ لَيْلًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَرَأَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَحِبْتُمُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ أَخِي. قَالَ: فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَجْتَهِدُ. قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَلَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَعْنَاقِنَا. قَالَ: فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَا ابْنَ أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَنْدَقِ، وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ:" مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ " فَشَرَطَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجْعَةَ " - أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ " - فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ؛ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي، فَقَالَ:" يَا حُذَيْفَةُ، اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ، فَانْظُرْ مَاذَا يَفْعَلُونَ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا ". قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لَا تُقِرُّ لَهُمْ قِدْرًا وَلَا نَارًا وَلَا بِنَاءً، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لِيَنْظُرِ امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ. قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ إِلَى جَنْبِي فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ. ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ، وَأَخْلَفَتْنَا
بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ وَلَقِينَا مِنْ شِدَّةِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ؛ مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ، وَلَا تَقُومُ لَنَا نَارٌ، وَلَا يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ، فَارْتَحِلُوا، فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ. ثُمَّ قَامَ إِلَى جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ بِهِ عَلَى ثَلَاثٍ، فَوَاللَّهِ مَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ، وَلَوْلَا عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيَّ:" لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي " ثُمَّ شِئْتُ؛ لَقَتَلْتُهُ بِسَهْمٍ قَالَ حُذَيْفَةُ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ مَرَاجِلَ، فَلَمَّا رَآنِي أَدْخَلَنِي إِلَى رِجْلَيْهِ، وَطَرَحَ عَلَيَّ طَرَفَ الْمِرْطِ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَإِنِّي لَفِيهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، وَسَمِعَتْ غَطَفَانُ بِمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، فَانْشَمَرُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ» وَهَذَا مُنْقَطِعٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ. فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ رِيحٍ شَدِيدَةٍ وَقُرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ " فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ ثُمَّ الثَّانِيَةَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ:" يَا حُذَيْفَةُ قُمْ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ". فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ
أَقُومَ، فَقَالَ:" ائْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ ". قَالَ: فَمَضَيْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ قَوْسِي وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" لَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ ". وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ، فَرَجَعْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَصَابَنِي الْبَرْدُ حِينَ رَجَعْتُ وَقُرِرْتُ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَلْبَسَنِي مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى الصُّبْحِ، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " قُمْ يَا نَوْمَانُ» .
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ وَالْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ " هَذَا الْحَدِيثَ مَبْسُوطًا مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَخِي حُذَيْفَةَ قَالَ: «ذَكَرَ حُذَيْفَةُ مَشَاهِدَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ جُلَسَاؤُهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا شَهِدْنَا ذَلِكَ لَكُنَّا فَعَلْنَا وَفَعَلْنَا. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَا تَمَنَّوْا
ذَلِكَ، لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَنَحْنُ صَافُّونَ قُعُودٌ، وَأَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْزَابِ فَوْقَنَا، وَقُرَيْظَةُ الْيَهُودُ أَسْفَلَ مِنَّا، نَخَافُهُمْ عَلَى ذَرَارِيِّنَا، وَمَا أَتَتْ عَلَيْنَا لَيْلَةٌ قَطُّ أَشَدُّ ظُلْمَةً وَلَا أَشَدُّ رِيحًا مِنْهَا، فِي أَصْوَاتِ رِيحِهَا أَمْثَالُ الصَّوَاعِقِ، وَهِيَ ظُلْمَةٌ مَا يَرَى أَحَدُنَا أُصْبُعَهُ، فَجَعَلَ الْمُنَافِقُونَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ. وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ فَمَا يَسْتَأْذِنُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَذِنَ لَهُ، وَيَأْذَنُ لَهُمْ وَيَتَسَلَّلُونَ، وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ إِذِ اسْتَقْبَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا رَجُلًا، حَتَّى أَتَى عَلَيَّ، وَمَا عَلَيَّ جُنَّةٌ مِنَ الْعَدُوِّ وَلَا مِنَ الْبَرْدِ إِلَّا مِرْطٌ لِامْرَأَتِي مَا يُجَاوِزُ رُكْبَتِي. قَالَ: فَأَتَانِي وَأَنَا جَاثٍ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ: " مَنْ هَذَا؟ " فَقُلْتُ: حُذَيْفَةُ. فَقَالَ: " حُذَيْفَةُ! " فَتَقَاصَرْتُ بِالْأَرْضِ، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. كَرَاهِيَةَ أَنْ أَقُومَ. قَالَ: " قُمْ ". فَقُمْتُ، فَقَالَ:" إِنَّهُ كَائِنٌ فِي الْقَوْمِ خَبَرٌ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ " قَالَ: وَأَنَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ فَزَعًا وَأَشَدِّهِمْ قُرًّا. قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ " قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فَزَعًا وَلَا قُرًّا فِي جَوْفِي إِلَّا خَرَجَ مِنْ جَوْفِي، فَمَا أَجِدُ فِيهِ شَيْئًا. قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ قَالَ: " يَا حُذَيْفَةُ، لَا تُحْدِثَنَّ فِي الْقَوْمِ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي ". قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْ عَسْكَرِ الْقَوْمِ نَظَرْتُ فِي ضَوْءِ نَارٍ لَهُمْ تَوَقَّدُ، وَإِذَا رَجُلٌ أَدْهَمُ ضَخْمٌ يَقُولُ بِيَدَيْهِ عَلَى النَّارِ، وَيَمْسَحُ خَاصِرَتَهُ
وَيَقُولُ: الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ. وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَبَا سُفْيَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَانْتَزَعْتُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي أَبْيَضَ الرِّيشِ، فَأَضَعُهُ عَلَى كَبِدِ قَوْسِي لِأَرْمِيَهُ بِهِ فِي ضَوْءِ النَّارِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" لَا تُحْدِثَنَّ فِيهِمْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي " فَأَمْسَكْتُ وَرَدَدْتُ سَهْمِي إِلَى كِنَانَتِي، ثُمَّ إِنِّي شَجَّعْتُ نَفْسِي حَتَّى دَخَلْتُ الْعَسْكَرَ فَإِذَا أَدْنَى النَّاسِ مِنِّي بَنُو عَامِرٍ، يَقُولُونَ: يَا آلَ عَامِرٍ، الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ، لَا مُقَامَ لَكُمْ. وَإِذَا الرِّيحُ فِي عَسْكَرِهِمْ مَا تُجَاوِزَ عَسْكَرُهُمْ شِبْرًا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْمَعُ صَوْتَ الْحِجَارَةِ فِي رِحَالِهِمْ وَفُرُشِهِمْ، الرِّيحُ تَضْرِبُهُمْ بِهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا انْتَصَفَتْ بِيَ الطَّرِيقُ أَوْ نَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ، إِذَا أَنَا بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مُعْتَمِّينَ، فَقَالُوا: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَاهُ قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُشْتَمِلٌ فِي شَمْلَةٍ يُصَلِّي، فَوَاللَّهِ مَا عَدَا أَنْ رَجَعْتُ؛ رَاجَعَنِي الْقُرُّ وَجَعَلْتُ أُقَرْقِفُ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَأَسْبَلَ عَلَيَّ شَمْلَتَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَ الْقَوْمِ؛ أَخْبَرْتُهُ أَنِّي تَرَكْتُهُمْ يَرْحَلُونَ. قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9] يَعْنِي الْآيَاتِ كُلَّهَا إِلَى قَوْلِهِ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25](الْأَحْزَابِ: 9 - 25) . أَيْ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَدُوَّهُمْ بِالرِّيحِ الَّتِي أَرْسَلَهَا عَلَيْهِمْ وَالْجُنُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمُ الَّتِي بَعَثَهَا اللَّهُ إِلَيْهِمْ {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] أَيْ؛ لَمْ
يَحْتَاجُوا إِلَى مُنَازَلَتِهِمْ وَمُبَارَزَتِهِمْ، بَلْ صَرَفَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ» .
لِهَذَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ ".» وَفِي قَوْلِهِ {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] إِشَارَةٌ إِلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ. وَهَكَذَا وَقَعَ، وَلَمْ تَرْجِعْ قُرَيْشٌ بَعْدَهَا إِلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، رحمه الله: فَلَمَّا انْصَرَفَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنِ الْخَنْدَقِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَلَغَنَا: " «لَنْ تَغْزُوَكُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا، وَلَكِنَّكُمْ تَغْزُونَهُمْ» " قَالَ: فَلَمْ تَغْزُهُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ يَغْزُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ. وَهَذَا بَلَاغٌ مِنِ ابْنِ إِسْحَاقَ
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ رضي الله عنه يَقُولُ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا» وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ سِتَّةٌ؛ ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ - وَسَتَأْتِي وَفَاتُهُ مَبْسُوطَةً - وَأَنَسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ الْجُشَمِيَّانِ السَّلَمِيَّانِ، وَكَعْبُ بْنُ زَيْدٍ النَّجَّارِيُّ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ. قَالَ: وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثَلَاثَةٌ، وَهُمْ: مُنَبِّهُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، أَصَابَهُ سَهْمٌ فَمَاتَ مِنْهُ بِمَكَّةَ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ؛ اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ بِفَرَسِهِ فَتَوَرَّطَ فِيهِ فَقُتِلَ هُنَاكَ، وَطَلَبُوا جَسَدَهُ بِثَمَنٍ كَبِيرٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ الْعَامِرِيُّ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: قَتَلَ عَلِيٌّ يَوْمَئِذٍ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ وَابْنَهُ حِسْلَ بْنَ عَمْرٍو. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ: عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ. وَيُقَالُ: عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ.