المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[صفة دخوله صلى الله عليه وسلم مكة] - البداية والنهاية - ت التركي - جـ ٦

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

- ‌[غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ]

- ‌[وَقْتُهَا]

- ‌[مَوْقِفُ الْأَحْزَابِ بَعْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْخَنْدَقِ]

- ‌[دُعَائُهُ عليه السلام عَلَى الْأَحْزَابِ]

- ‌[غَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ]

- ‌[وَفَاةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ]

- ‌[فِيمَا قِيلَ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ]

- ‌[مَقْتَلُ أَبِي رَافِعٍ]

- ‌[مَقْتَلُ خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ ابْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيِّ]

- ‌[قِصَّةُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَعَ النَّجَاشِيِّ بَعْدَ وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ]

- ‌[تَزْوِيجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأُمِّ حَبِيبَةَ]

- ‌[تَزْوِيجُهُ عليه السلام بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ]

- ‌[قِصَّةُ زَيْنَبَ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ]

- ‌[نُزُولُ آيَةِ الْحِجَابِ]

- ‌[سَنَةُ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ]

- ‌[غَزْوَةُ ذِي قَرَدَ]

- ‌[غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ]

- ‌[الْإِقْرَاعُ بَيْنَ نِسَاءِ الرَّسُولِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ]

- ‌[قِصَّةُ الْإِفْكِ]

- ‌[غَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَةِ]

- ‌[عُمْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ]

- ‌[سِيَاقُ الْبُخَارِيِّ لِعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ]

- ‌[السَّرَايَا وَالْبُعُوثُ الَّتِي كَانَتْ فِي سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ]

- ‌[فِيمَا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فَى السَّنَةِ السَّادِسَةِ]

- ‌[سَنَةُ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ]

- ‌[غَزْوَةُ خَيْبَرَ]

- ‌[وَقْتُهَا]

- ‌[فَتْحُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُصُونَ خَيْبَرَ]

- ‌[قِصَّةُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ]

- ‌[حِصَارُ رَسُولِ اللَّهِ أَهْلَ خَيْبَرَ]

- ‌[فَتْحُ حُصُونِ خَيْبَرَ]

- ‌[مَنْ شَهِدَ خَيْبَرَ]

- ‌[ذِكْرُ قُدُومِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ]

- ‌[قِصَّةُ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ]

- ‌[قِصَّةُ مِدْعَمٍ وَنَوْمِ بِلَالٍ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ]

- ‌[مَنِ اسْتُشْهِدَ بِخَيْبَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ]

- ‌[خَبَرُ الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ الْبَهْزِيِّ]

- ‌[مُرُورُهُ صلى الله عليه وسلم بِوَادِي الْقُرَى وَمُحَاصَرَتُهُ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ]

- ‌[مُعَامَلَةُ النَّبِيِّ يَهُودَ خَيْبَرَ]

- ‌[سَرِيَّةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى بَنِي فَزَارَةَ]

- ‌[سَرِيَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِلَى تُرْبَةٍ مِنْ أَرْضِ هَوَازِنَ]

- ‌[سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ إِلَى يُسَيْرِ بْنِ رِزَامٍ الْيَهُودِيِّ]

- ‌[سَرِيَّةٌ أُخْرَى مَعَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ]

- ‌[سَرِيَّةُ أَبِي حَدْرَدٍ إِلَى الْغَابَةِ]

- ‌[السَرِيَّةُ الَّتِي قَتَلَ فِيهَا مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ عَامِرَ بْنَ الْأَضْبَطِ]

- ‌[سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ]

- ‌[عُمْرَةُ الْقَضَاءِ]

- ‌[وَقْتُهَا]

- ‌[قِصَّةُ تَزْوِيجِهِ عليه الصلاة والسلام بِمَيْمُونَةَ]

- ‌[خُرُوجُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ عُمْرَتِهِ]

- ‌[سَرِيَّةُ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيِّ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ]

- ‌[رَدُّ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ]

- ‌[رَدُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ]

- ‌[سَنَةُ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ]

- ‌[إِسْلَامُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ]

- ‌[طَرِيقُ إِسْلَامِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ]

- ‌[سَرِيَّةُ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ الْأَسَدِيِّ إِلَى نَفَرٍ مِنْ هَوَازِنَ]

- ‌[سَرِيَّةُ كَعْبِ بْنِ عُمَيْرٍ إِلَى بَنِي قُضَاعَةَ]

- ‌[غَزْوَةُ مُؤْتَةَ]

- ‌[وَقْتُهَا]

- ‌[إِخْبَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاسْتِشْهَادِ جَعْفَرٍ وَصَاحِبَيْهِ]

- ‌[اسْتِقْبَالُ رَسُولِ اللَّهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ]

- ‌[فَضْلُ الْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ زَيْدٍ وَجَعْفَرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهم]

- ‌[مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ مُؤْتَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ]

- ‌[حَدِيثٌ فِيهِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ لِأُمَرَاءِ هَذِهِ السَّرِيَّةِ]

- ‌[فِيمَا قِيلَ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ]

- ‌[كِتَابُ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ وَكَتْبِهِ إِلَيْهِمْ]

- ‌[وَقْتُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ]

- ‌[إِرْسَالُهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَلِكِ الْعَرَبِ مِنَ النَّصَارَى بِالشَّامِ]

- ‌[بَعْثُهُ إِلَى كِسْرَى مِلْكِ الْفُرْسِ]

- ‌[بَعْثُهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُقَوْقِسِ]

- ‌[غَزْوَةُ ذَاتِ السَّلَاسِلِ]

- ‌[سَرِيَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ]

- ‌[غَزْوَةُ الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ]

- ‌[دُخُولُ النَّبِيِّ مَكَّةَ]

- ‌[قِصَّةُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ]

- ‌[مِيقَاتُ خُرُوجِ النَّبِيِّ]

- ‌[إِسْلَامُ الْعَبَّاسِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ]

- ‌[نُزُولُ النَّبِيِّ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ]

- ‌[صِفَةُ دُخُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ]

- ‌[مَا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ يَوْمَ الْفَتْحِ]

- ‌[بَعْثَةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بَعْدَ الْفَتْحِ]

- ‌[بَعْثُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِهَدْمِ الْعُزَّى]

- ‌[مُدَّةُ إِقَامَتِهِ عليه السلام بِمَكَّةَ]

- ‌[فِيمَا حَكَمَ بِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ]

- ‌[مُبَايَعَةُ النَّبِيِّ النَّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ]

الفصل: ‌[صفة دخوله صلى الله عليه وسلم مكة]

[صِفَةُ دُخُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ]

ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ، جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَقَالَ: " اقْتُلُوهُ» قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا نَرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مُحْرِمًا.

وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادٌ، أَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» . وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ» .

وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ مُسَاوِرٍ الْوَرَّاقِ، «عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ

ص: 545

وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ حَرَقَانِيَّةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ» .

وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» .

وَرَوَى أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنْ شَرِيكٍ الْقَاضِي، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:«كَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ دَخَلَ مَكَّةَ أَبْيَضَ» .

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ:«كَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ أَبْيَضَ، وَرَايَتُهُ سَوْدَاءَ تُسَمَّى الْعُقَابَ، وَكَانَتْ قِطْعَةً مِنْ مِرْطٍ مُرَحَّلٍ»

ص: 546

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ:«سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ " الْفَتْحِ " يُرَجِّعُ. وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ حَوْلِي لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ» .

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا انْتَهَى إِلَى ذِي طُوًى، وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُعْتَجِرًا بِشُقَّةِ بُرْدٍ حِبَرَةٍ حَمْرَاءَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَضَعُ رَأْسَهُ تَوَاضُعًا لِلَّهِ، حِينَ رَأَى مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ، حَتَّى إِنَّ عُثْنُونَهُ لَيَكَادُ يَمَسُّ وَاسِطَةَ الرَّحْلِ» .

وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَذَقْنُهُ

ص: 547

عَلَى رَحْلِهِ مُتَخَشِّعًا» .

وَقَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَالَوَيْهِ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَاعِدٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْحَارِثِ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ «أَنَّ رَجُلًا كَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ، فَأَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ، فَقَالَ: " هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» . قَالَ: وَهَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ فَارِسٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي الْحَارِثِ، مَوْصُولًا. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي زَكَرِيَّا الْمُزَكِّي، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ قَيْسٍ، مُرْسَلًا. قَالَ: وَهُوَ الْمَحْفُوظُ.

وَهَذَا التَّوَاضُعُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ عِنْدَ دُخُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، فِي مِثْلِ هَذَا الْجَيْشِ الْكَثِيفِ الْعَرَمْرَمِ، بِخِلَافِ مَا اعْتَمَدَهُ سُفَهَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حِينَ أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا بَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُمْ سُجُودٌ، أَيْ رُكَّعٌ، يَقُولُونَ: حِطَّةٌ

ص: 548

فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: حِنْطَةٌ فِي شَعِيرَةٍ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:، ثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، ثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنْ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ. وَتَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَوُهَيْبٌ: فِي كَدَاءٍ» .

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ:«دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ» . وَهُوَ أَصَحُّ.

إِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ مِنَ الْمُسْنَدِ الْمُتَقَدِّمِ انْتَظَمَ الْكَلَامُ، وَإِلَّا فَكَدَاءٌ بِالْمَدِّ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ، وَهِيَ فِي أَعْلَى مَكَّةَ، وَكُدًى مَقْصُورًا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَالْأَنْسَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ، عليه السلام، بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، وَدَخَلَ هُوَ، عليه السلام، مِنْ أَسْفَلِهَا مِنْ كُدًى. وَهُوَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ". فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدَانَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّقْرِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيِّ، ثَنَا

ص: 549

مَعْنٌ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ رَأَى النِّسَاءَ يُلَطِّمْنَ وُجُوهَ الْخَيْلِ، فَتَبَسَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ قَالَ حَسَّانُ؟ فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ، رضي الله عنه

عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا

تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَتِفَيْ كَدَاءِ

يُنَازِعْنَ الْأَعِنَّةَ مُسْرَجَاتٍ

يُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ادْخُلُوهَا مِنْ حَيْثُ قَالَ حَسَّانُ» .

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، «عَنْ جَدَّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: لَمَّا وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي طُوًى، قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لِابْنَةٍ لَهُ مِنْ أَصْغَرِ وَلَدِهِ: أَيْ بُنَيَّةُ، اظْهَرِي بِي عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ. قَالَتْ: وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهُ. قَالَتْ: فَأَشْرَفَتْ بِهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ، مَاذَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَى سَوَادًا مُجْتَمِعًا. قَالَ: تِلْكَ الْخَيْلُ. قَالَتْ: وَأَرَى رَجُلًا يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ السَّوَادِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا. قَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ ذَلِكَ الْوَازِعُ. يَعْنِي الَّذِي يَأْمُرُ الْخَيْلَ وَيَتَقَدَّمُ إِلَيْهَا. ثُمَّ قَالَتْ: قَدْ وَاللَّهِ انْتَشَرَ السَّوَادُ

ص: 550

فَقَالَ قَدْ وَاللَّهِ إِذَنْ دَفَعَتِ الْخَيْلُ، فَأَسْرِعِي بِي إِلَى بَيْتِي. فَانْحَطَّتْ بِهِ، وَتَلَقَّاهُ الْخَيْلُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ بَيْتَهُ. قَالَتْ: وَفِي عُنُقِ الْجَارِيَةِ طَوْقٌ مِنْ وَرَقٍ، فَتَلَقَّاهَا رَجُلٌ فَيَقْتَطِعُهُ مِنْ عُنُقِهَا. قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، أَتَى أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ يَقُودُهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِي إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ أَنْتَ إِلَيْهِ. قَالَ: فَقَالَتْ: فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ، ثُمَّ قَالَ:" أَسْلِمْ ". فَأَسْلَمَ. قَالَتْ: وَدَخَلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ رَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" غَيِّرُوا هَذَا مِنْ شَعْرِهِ ". ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ بِيَدِ أُخْتِهِ، وَقَالَ: أَنْشُدُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ طَوْقَ أُخْتِي. فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، قَالَتْ فَقَالَ: أَيْ أُخَيَّةُ، احْتَسِبِي طَوْقَكِ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الْأَمَانَةَ فِي النَّاسِ الْيَوْمَ لَقَلِيلٌ» . يَعْنِي الصِّدِّيقُ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى التَّعْيِينِ، لِأَنَّ الْجَيْشَ فِيهِ كَثْرَةٌ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَلْوِي عَلَى أَحَدٍ مَعَ انْتِشَارِ النَّاسِ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَخَذَهُ تَأَوَّلَ أَنَّهُ مِنْ حَرْبِيٍّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، ثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَ بِيَدِ أَبِي قُحَافَةَ، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا وَقَفَ بِهِ عَلَى

ص: 551

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " غَيِّرُوهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ سَوَادًا» قَالَ: ابْنُ بوَهْبٍ وَأَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَنَّأَ أَبَا بَكْرٍ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ» .

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ فَرَّقَ جَيْشَهُ مِنْ ذِي طُوًى، أَمَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنْ كُدًى، وَكَانَ الزُّبَيْرُ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى، وَأَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنْ كَدَاءٍ،»

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ «أَنَّ سَعْدًا حِينَ وَجَّهَ دَاخِلًا قَالَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ. فَسَمِعَهَا رَجُلٌ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ: إِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَسْمَعُ مَا يَقُولُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ ! مَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ: أَدْرِكْهُ فَخُذِ الرَّايَةَ مِنْهُ، فَكُنْ أَنْتَ تَدْخُلُ بِهَا» .

قُلْتُ: وَذَكَرَ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا شَكَى إِلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ قَوْلَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ حِينَ مَرَّ بِهِ. وَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ - يَعْنِي الْكَعْبَةَ - فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ هَذَا يَوْمٌ تُعَظَّمُ فِيهِ الْكَعْبَةُ. وَأَمَرَ بِالرَّايَةِ - رَايَةِ الْأَنْصَارِ - أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ»

ص: 552

كَالتَّأْدِيبِ لَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا دُفِعَتْ إِلَى ابْنِهِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: دَفَعَهَا إِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ دِينَارٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّرِيِّ الْأَنْطَاكِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّايَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَجَعَلَ يَهُزُّهَا وَيَقُولُ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، يَوْمٌ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ. قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَكَبُرَ فِي نُفُوسِهِمْ. قَالَ: فَعَارَضَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرِهِ وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:

يَا نَبِيَّ الْهُدَى إِلَيْكَ لَجَا حَ

يُّ قُرَيْشٍ وَلَاتَ حِينَ لَجَاءِ

حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ سَعَةُ الْأَرْ

ضِ وَعَادَاهُمْ إِلَهُ السَّمَاءِ

وَالْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانِ عَلَى الْقَوْ

مِ وَنُودُوا بِالصَّيْلَمِ الصَّلْعَاءِ

ص: 553

إِنَّ سَعْدًا يُرِيدُ قَاصِمَةَ الظَّهْرِ

بِأَهْلِ الْحَجُونِ وَالْبَطْحَاءِ

خَزْرَجِيٌّ لَوْ يَسْتَطِيعُ مِنَ الْغَيْ

ظِ رَمَانَا بِالنَّسْرِ وَالْعَوَّاءِ

فَانْهَيَنْهُ فَإِنَّهُ الْأَسَدُ الْأَسْ

وَدُ وَاللَّيْثُ وَالِغٌ فِي الدِّمَاءِ

فَلَئِنْ أَقْحَمَ اللِّوَاءَ وَنَادَى

يَا حُمَاةَ اللِّوَاءِ أَهْلَ اللِّوَاءِ

لَتَكُونَنَّ بِالْبِطَاحِ قُرَيْشٌ

بُقْعَةَ الْقَاعِ فِي أَكُفِّ الْإِمَاءِ

إِنَّهُ مُصْلَتٌ يُرِيدُ لَهَا الرَّأْ

يَ صُمُوتٌ كَالْحَيَّةِ الصَّمَّاءِ

قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الشِّعْرَ دَخَلَهُ رَحْمَةٌ لَهُمْ وَرَأْفَةٌ بِهِمْ، وَأَمَرَ بِالرَّايَةِ فَأُخِذَتْ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَدُفِعَتْ إِلَى ابْنِهِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ،» قَالَ: فَيُرْوَى، أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام، أَحَبَّ أَنْ لَا يُخَيِّبَهَا إِذْ رَغِبَتْ إِلَيْهِ وَاسْتَغَاثَتْ بِهِ، وَأَحَبَّ أَنْ لَا يَغْضَبَ سَعْدٌ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ مِنْهُ فَدَفَعَهَا إِلَى ابْنِهِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ فِي حَدِيثِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَدَخَلَ مِنَ اللِّيطِ أَسْفَلَ مَكَّةَ فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَكَانَ خَالِدٌ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُمْنَى، وَفِيهَا: أَسْلَمُ، وَسُلَيْمٌ، وَغِفَارٌ، وَمُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ، وَقَبَائِلُ مِنْ

ص: 554

قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَأَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ بِالصَّفِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَنْصَبُّ لِمَكَّةَ بَيِّنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ، أَذَاخِرَ حَتَّى نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَضُرِبَتْ لَهُ هُنَالِكَ قُبَّتُهُ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ قَالَ زَمَنَ الْفَتْحِ:«يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا؟ فَقَالَ: " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رُبَاعٍ؟ ". ثُمَّ قَالَ: " لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ» .

ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، ثَنَا شُعَيْبٌ، ثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْزِلُنَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إِذَا فَتَحَ اللَّهُ - الْخَيْفَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ» .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يُونُسُ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ، يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْزِلُنَا غَدًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ.» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، بِهِ نَحْوَهُ.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي

ص: 555

بَكْرٍ، أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو كَانُوا قَدْ جَمَعُوا نَاسًا بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا، وَكَانَ حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ، أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدُّ سِلَاحًا قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُصْلِحُ مِنْهُ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لِمَاذَا تُعِدُّ مَا أَرَى؟ قَالَ: لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَرَى يَقُومُ لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُخْدِمَكِ بَعْضَهُمْ. ثُمَّ قَالَ:

إِنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَا لِي عِلَّهْ

هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَّهْ

وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السَّلَّهْ

قَالَ: ثُمَّ شَهِدَ الْخَنْدَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ وَعِكْرِمَةَ وَسُهَيْلٍ، فَلَمَّا لَقِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ خَالِدٍ، نَاوَشُوهُمْ شَيْئًا مِنْ قِتَالِ، فَقُتِلَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ، أَحَدُ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ، وَخُنَيْسُ بْنُ خَالِدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ، حَلِيفُ بَنِي مُنْقِذٍ، وَكَانَا فِي جَيْشِ خَالِدٍ فَشَذَّا عَنْهُ، فَسَلَكَا غَيْرَ طَرِيقِهِ، فَقُتِلَا جَمِيعًا، وَكَانَ قَبْلَ كُرْزٍ قُتِلَ خُنَيْسٌ. قَالَا: وَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدٍ أَيْضًا

ص: 556

سَلَمَةُ بْنُ الْمَيْلَاءِ الْجُهَنِيُّ، وَأُصِيبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَرِيبٌ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، ثُمَّ انْهَزَمُوا، فَخَرَجَ حِمَاسٌ مُنْهَزِمًا حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَغْلِقِي عَلَيَّ بَابِي. قَالَتْ: فَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ؟ فَقَالَ:

إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ

إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ

وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُوتَمَهْ

وَاسْتَقْبَلَتْهُمْ بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ

يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ

ضَرْبًا فَلَا يُسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ

لَهُمْ نَهِيتٌ خَلَفَنَا وَهَمْهَمَهْ

لَمْ تَنْطِقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِلرَّعَّاشِ الْهُذَلِيِّ.

قَالَ: وَكَانَ شِعَارُ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَشِعَارُ الْخَزْرَجِ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ. وَشِعَارُ الْأَوْسِ: يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ.

وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيُّ، ثَنَا أَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ، ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا الْبَلَدَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ

ص: 557

وَصَاغَهُ يَوْمَ صَاغَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَمَا حِيَالُهُ مِنَ السَّمَاءِ حَرَامٌ، وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَإِنَّمَا حَلَّ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَ كَمَا كَانَ ". فَقِيلَ لَهُ: هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَقْتُلُ. فَقَالَ: " قُمْ يَا فُلَانُ فَأْتِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَقُلْ لَهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ ". فَأَتَاهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اقْتُلْ مَنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ. فَقَتَلَ سَبْعِينَ إِنْسَانًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى خَالِدٍ فَقَالَ:" أَلَمْ أَنْهَكَ عَنِ الْقَتْلِ؟ " فَقَالَ: جَاءَنِي فُلَانٌ فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَ مَنْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: " أَلَمْ آمُرْكَ؟ " قَالَ: أَرَدْتَ أَمْرًا، وَأَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا، فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ فَوْقَ أَمْرِكَ، وَمَا اسْتَطَعْتُ إِلَّا الَّذِي كَانَ. فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا» .

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إِلَى أُمَرَائِهِ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ أَهْدَرَ دَمَ نَفَرٍ سَمَّاهُمْ، وَإِنْ وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَكَتَبَ الْوَحْيَ ثُمَّ ارْتَدَّ، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَقَدْ أَهْدَرَ دَمَهُ فَرَّ إِلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا جَاءَ بِهِ لِيَسْتَأْمِنَ لَهُ، صَمَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: " نَعَمْ ". فَلَمَّا انْصَرَفَ مَعَ عُثْمَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ حَوْلَهُ: " أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حِينَ رَآنِي قَدْ صَمَتُّ فَيَقْتُلَهُ ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا؟ " فَقَالَ: " إِنَّ النَّبِيَّ لَا يَقْتُلُ بِالْإِشَارَةِ.» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» .

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَلَّاهُ عُمَرُ بَعْضَ أَعْمَالِهِ، ثُمَّ وَلَّاهُ عُثْمَانُ.

قُلْتُ: وَمَاتَ وَهُوَ سَاجِدٌ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَاءِ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ غَالِبٍ - قُلْتُ: وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ خَطَلٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمَ سُمِّيَ عَبْدَ اللَّهِ - وَلَمَّا أَسْلَمَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقًا وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلًى لَهُ فَغَضِبَ عَلَيْهِ غَضْبَةً فَقَتَلَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا وَكَانَ لَهُ قَيْنَتَانِ، فَرْتَنَى وَصَاحِبَتُهَا، فَكَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ، فَلِهَذَا أَهْدَرَ دَمَهُ وَدَمَ قَيْنَتَيْهِ، فَقُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، اشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَقُتِلَتْ إِحْدَى قَيْنَتَيْهِ وَاسْتُؤْمِنَ لِلْأُخْرَى. قَالَ: وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ

ص: 558

قَصَيٍّ، وَكَانَ مِمَنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، وَلَمَّا تَحَمَّلَ الْعَبَّاسُ بِفَاطِمَةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ لِيَذْهَبَ بِهِمَا إِلَى الْمَدِينَةِ يُلْحِقُهُمَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ الْهِجْرَةِ، نَخَسَ بِهِمَا الْحُوَيْرِثُ هَذَا، الْجَمَلَ الَّذِي هُمَا عَلَيْهِ، فَسَقَطَتَا إِلَى الْأَرْضِ، فَلَمَّا أُهْدِرَ دَمُهُ قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، لِأَنَّهُ قَتَلَ قَاتِلَ أَخِيهِ خَطَأً بَعْدَمَا أَخَذَ الدِّيَةَ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ: نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: وَسَارَةُ مَوْلَاةٌ لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، لِأَنَّهَا كَانَتْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ بِمَكَّةَ.

قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا الَّتِي تَحَمَّلَتِ الْكِتَابَ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَكَأَنَّهَا عُفِيَ عَنْهَا أَوْ هَرَبَتْ ثُمَّ أُهْدِرَ دَمُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَرَبَتْ حَتَّى اسْتُؤْمِنَ لَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّنَهَا، فَعَاشَتْ إِلَى زَمَنِ عُمَرَ فَأَوْطَأَهَا رَجُلٌ فَرَسًا فَمَاتَتْ. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ فَرْتَنَى أَسْلَمَتْ أَيْضًا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَهَرَبَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَسْلَمَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّنَهُ، فَذَهَبَتْ فِي طَلَبِهِ، حَتَّى أَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمَ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الْفَقِيهُ،

ص: 560

أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، ثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: زَعَمَ السُّدِّيُّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ آمَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ:" اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ". وَهُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ فَأُدْرِكَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَسَبَقَ سَعِيدٌ عَمَّارًا، وَكَانَ أَشَبَّ الرَّجُلَيْنِ، فَقَتَلَهُ، وَأَمَّا مِقْيَسٌ فَأَدْرَكَهُ النَّاسُ فِي السُّوقِ فَقَتَلُوهُ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ قَاصِفٌ، فَقَالَ أَهْلُ السَّفِينَةِ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَاهُنَا. فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يُنْجِ فِي الْبَحْرِ إِلَّا الْإِخْلَاصُ فَإِنَّهُ لَا يُنْجِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ فَلَأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا. فَجَاءَ فَأَسْلَمَ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى

ص: 561

أَصْحَابِهِ فَقَالَ: " أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حِينَ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟ " فَقَالُوا: مَا يُدْرِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ، هَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ؟ فَقَالَ:" إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ ".» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُفَضَّلِ بِهِ نَحْوَهُ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ الْكُوفِيُّ، ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:«أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إِلَّا أَرْبَعَةً، عَبْدَ الْعُزَّى بْنَ خَطَلٍ، وَمَقْيَسَ بْنَ صُبَابَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَأُمَّ سَارَةَ،» فَأَمَّا عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ خَطَلٍ فَإِنَّهُ قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. قَالَ: «وَنَذَرَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ إِذَا رَآهُ، وَكَانَ أَخَا عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَشْفَعَ لَهُ، فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ الْأَنْصَارِيُّ اشْتَمَلَ عَلَى السَّيْفِ، ثُمَّ أَتَاهُ فَوَجَدَهُ فِي حَلْقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يَتَرَدَّدُ وَيَكْرَهُ أَنْ يُقَدِمَ عَلَيْهِ، فَبَسَطَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ فَبَايَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْأَنْصَارِيِّ:" قَدِ انْتَظَرْتُكَ أَنْ تُوفِيَ بِنَذْرِكَ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هِبْتُكَ، أَفَلَا أَوْمَضْتَ إِلَيَّ؟ قَالَ: " إِنَّهُ لَيْسَ لِلنَّبِيِّ

ص: 562

أَنْ يُومِضَ» ". وَأَمَّا مِقْيَسُ بْنُ صَبَابَةَ فَذَكَرَ قِصَّتَهُ فِي قَتْلِهِ رَجُلًا مُسْلِمًا بَعْدَ إِسْلَامِهِ، ثُمَّ ارْتِدَادِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: وَأَمَّا «أُمُّ سَارَةَ فَكَانَتْ مَوْلَاةً، لِقُرَيْشٍ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَشَكَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةَ، فَأَعْطَاهَا شَيْئًا، ثُمَّ بَعَثَ مَعَهَا رَجُلٌ بِكِتَابٍ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ.» فَذَكَرَ قِصَّةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ.

وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ مِقْيَسَ بْنَ صُبَابَةَ قُتِلَ أَخُوهُ هِشَامٌ يَوْمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَظُنُّهُ مُشْرِكًا، فَقَدِمَ مِقْيَسٌ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ لِيَطْلُبَ دِيَةَ أَخِيهِ، فَلَمَّا أَخَذَهَا عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ، وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ مُشْرِكًا، فَلَمَّا أَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَمَهُ قُتِلَ وَهُوَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْبَيْهَقِيُّ شِعْرَهُ حِينَ قَتَلَ قَاتِلَ أَخِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:

شَفَى النَّفْسَ مَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا

يَضَرِّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الْأَخَادِعِ

وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ

تُلِمُّ وَتُنْسِينِي وِطَاءَ الْمَضَاجِعِ

ص: 563

قَتَلْتُ بِهِ فِهْرًا وَغَرَّمْتُ عَقْلَهُ

سَرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ

حَلَلْتُ بِهِ نَذْرِي وَأَدْرَكْتُ ثُؤْرَتِي

وَكُنْتُ إِلَى الْأَوْثَانِ أَوَّلَ رَاجِعِ

قُلْتُ: وَقِيلَ: إِنَّ الْقَيْنَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أُهْدِرَ دَمُهُمَا كَانَتَا لِمِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ هَذَا، وَإِنَّ ابْنَ عَمِّهِ قَتَلَهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَتَلَ ابْنَ خَطَلٍ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، رضي الله عنه.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ ابْنَةَ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَعْلَى مَكَّةَ فَرَّ إِلَيَّ رَجُلَانِ مِنْ أَحْمَائِي مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُمَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ عِنْدَ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيِّ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ أَخِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلُهُمَا. فَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمَا بَابَ بَيْتِي، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ مِنْ جَفْنَةٍ، إِنَّ فِيهَا لَأَثَرَ

ص: 564

الْعَجِينِ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا اغْتَسَلَ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَتَوَشَّحَ بِهِ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مِنَ الضُّحَى، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيَّ، فَقَالَ:" مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِأُمِّ هَانِئٍ، مَا جَاءَ بِكِ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَ الرَّجُلَيْنِ وَخَبَرَ عَلِيٍّ فَقَالَ: " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ وَأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْتِ فَلَا يَقْتُلُهُمَا» .

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، «عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: مَا أَخْبَرَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرَ أُمِّ هَانِئٍ، فَإِنَّهَا ذَكَرَتْ أَنَّهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهَا، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ. قَالَتْ: وَلَمْ أَرَهُ صَلَّى صَلَاةً أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ» .

وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلٍ حَدَّثَهُ «أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَتْهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ، فَرَّ إِلَيْهَا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَأَجَارَتْهُمَا، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَقْتُلُهُمَا. فَلَمَّا سَمِعْتُهُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا رَآنِي رَحَّبَ، وَقَالَ:" مَا جَاءَ بِكِ؟ " قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كُنْتُ أَمَّنْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَحْمَائِي، فَأَرَادَ عَلِيٌّ قَتْلَهُمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ ". ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى

ص: 565

غُسْلِهِ فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ، ثُمَّ أَخَذَ ثَوْبًا فَالْتَحَفَ بِهِ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ سُبْحَةَ الضُّحَى» .

وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا «دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ، فَقَالَ: " مَنْ هَذِهِ؟ " قَالَتْ: أُمُّ هَانِئٍ. قَالَ: " مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ ". قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَاتِلُ رَجُلَيْنِ قَدْ أَجَرْتُهُمَا. فَقَالَ: " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ ". قَالَتْ: ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ» ، وَذَلِكَ ضُحًى فَظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ صَلَاةَ الضُّحَى. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَتْ هَذِهِ صَلَاةُ الْفَتْحِ. وَجَاءَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى السُّهَيْلِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ صَلَاةَ الْفَتْحِ تَكُونُ ثَمَانِيًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ صَلَّى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ فَتْحِ الْمَدَائِنِ فِي إِيوَانِ كِسْرَى، ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ

ص: 566

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، «عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ، خَرَجَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ فِي يَدِهِ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَفُتِحَتْ لَهُ فَدَخَلَهَا فَوَجَدَ فِيهَا حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ، فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ طَرَحَهَا، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدِ اسْتَكَفَّ لَهُ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ» .

وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى زَمْزَمَ فَاطَّلَعَ فِيهَا وَدَعَا بِمَاءٍ فَشَرِبَ مِنْهَا وَتَوَضَّأَ، وَالنَّاسُ يَبْتَدِرُونَ وَضُوءَهُ، وَالْمُشْرِكُونَ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا مَلِكًا قَطُّ وَلَا سَمِعْنَا بِهِ - يَعْنِي مِثْلَ هَذَا -. وَأَخَّرَ الْمَقَامَ إِلَى مَقَامِهِ الْيَوْمَ وَكَانَ مُلْصَقًا بِالْبَيْتِ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا كُلُّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدَّعَى فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ، أَلَا وَقَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا فَفِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً، مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي

ص: 567

بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بِالْآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ " ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] الْآيَةَ كُلَّهَا (الْحُجُرَاتِ: 13) . ثُمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ " قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ:" اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ ". ثُمَّ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السِّقَايَةِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ؟ " فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ: " هَاكَ مِفْتَاحُكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاءٍ» .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهُوَ عَلَى دَرَجِ الْكَعْبَةِ:«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ» وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: «مُغَلَّظَةً فِيهَا، أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأْثُرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَدَمٍ وَدَعْوَى - وَقَالَ مَرَّةً: وَمَالٍ - تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَسِدَانَةِ الْبَيْتِ، فَإِنِّي أَمْضَيْتُهُمَا لِأَهْلِهِمَا عَلَى مَا كَانَتْ» . وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ

ص: 568

جُدْعَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ جَوْشَنٍ الْغَطْفَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَرَأَى فِيهِ صُوَرَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ، عليه السلام، مُصَوَّرًا فِي يَدِهِ الْأَزْلَامُ يَسْتَقْسِمُ بِهَا، فَقَالَ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ جَعَلُوا شَيْخَنَا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ، مَا شَأْنُ إِبْرَاهِيمَ وَالْأَزْلَامِ؟! {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] (آلِ عِمْرَانَ: 67) . ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الصُّوَرِ كُلِّهَا فَطُمِسَتْ» .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:«كَانَ فِي الْكَعْبَةِ صُوَرٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يَمْحُوَهَا، فَبَلَّ عُمَرُ ثَوْبًا وَمَحَاهَا بِهِ، فَدَخَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا فِيهَا مِنْهَا شَيْءٌ» . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ - قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ

ص: 569

وَثَلَاثُمِائَةِ نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ» . وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ مَكَّةَ، وَعَلَى الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةِ صَنَمٍ، فَأَخَذَ قَضِيبَهُ فَجَعَلَ يَهْوِي بِهِ إِلَى الصَّنَمِ، وَهُوَ يَهْوِي، حَتَّى مَرَّ عَلَيْهَا كُلَّهَا» .

ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ وَجَدَ بِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ صَنَمًا، فَأَشَارَ إِلَى كُلِّ صَنَمٍ بِعَصَا وَقَالَ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا فَكَانَ لَا يُشِيرُ إِلَى صَنَمٍ إِلَّا وَيَسْقُطُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ بِعَصَاهُ» . ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، فَالَّذِي قَبْلَهُ يُؤَكِّدُهُ.

وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى قَالَ: «لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، جَاءَتْ عَجُوزٌ شَمْطَاءُ حَبَشِيَّةٌ تَخْمِشُ وَجْهَهَا، وَتَدْعُو بِالْوَيْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

ص: 570

تِلْكَ نَائِلَةُ، أَيِسَتْ أَنْ تُعْبَدَ بِبَلَدِكُمْ هَذَا أَبَدًا» .

وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ فِي إِسْنَادٍ لَهُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:«دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَطَافَ عَلَيْهَا، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ أَصْنَامٌ مَشْدُودَةٌ بِالرَّصَاصِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ إِلَى الْأَصْنَامِ وَيَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا " فَمَا أَشَارَ إِلَى صَنَمٍ فِي وَجْهِهِ إِلَّا وَقَعَ لِقَفَاهُ، وَلَا أَشَارَ إِلَى قَفَاهُ إِلَّا وَقَعَ لِوَجْهِهِ، حَتَّى مَا بَقِيَ مِنْهَا صَنَمٌ إِلَّا وَقَعَ» ، فَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أَسَدٍ الْخُزَاعِيُّ:

وَفِي الْأَصْنَامِ مُعْتَبَرٌ وَعِلْمٌ

لِمَنْ يَرْجُو الثَّوَابَ أَوِ الْعِقَابَا

وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي حَدِيثِ فَتْحِ مَكَّةَ قَالَ: «، وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَأَتَى إِلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْسٌ، وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَتِهَا، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّنَمِ، جَعَلَ يَطْعُنُ

ص: 571

فِي عَيْنِهِ وَيَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا " فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا، فَعَلَا عَلَيْهِ، حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ» .

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنَا أَبِي، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأَخْرَجَ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، عليهما السلام، وَفِي أَيْدِيهِمَا مِنَ الْأَزْلَامِ، فَقَالَ: " قَاتَلَهُمُ اللَّهُ لَقَدْ عَلِمُوا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ ". ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ، فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْبَيْتِ، وَخَرَجَ وَلَمْ يُصَلِّ» . تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنَا هَمَّامٌ، ثَنَا عَطَاءٌ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَفِيهَا سِتُّ سَوَارٍ، فَقَامَ إِلَى كُلِّ سَارِيَةٍ، وَدَعَا وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ» . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى الْعُوذِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ بِهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

ص: 572

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَجَدَ فِيهِ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَصُورَةَ مَرْيَمَ، فَقَالَ: " أَمَّا هُمْ فَقَدَ سَمِعُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، هَذَا إِبْرَاهِيمُ مُصَوَّرًا، فَمَا بَالُهُ يَسْتَقْسِمُ؟!» . وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ مِقْسَمًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ فَدَعَا فِي نَوَاحِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ.»

قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ اللَّيْثُ: ثَنَا يُونُسُ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، مُرْدِفًا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَمَعَهُ بِلَالٌ، وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، مِنَ الْحَجَبَةِ، حَتَّى أَنَاخَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، فَدَخَلَ وَمَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ

ص: 573

وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَمَكَثَ فِيهِ نَهَارًا طَوِيلًا، ثُمَّ خَرَجَ فَاسْتَبَقَ النَّاسُ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ، فَوَجَدَ بِلَالًا وَرَاءَ الْبَابِ قَائِمًا، فَسَأَلَهُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَأَشَارَ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى مِنْ سَجْدَةٍ» .

وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ هُشَيْمٍ، ثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ وَابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ وَمَعَهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، وَبِلَالٌ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَجَافَ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَمَكَثَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ خَرَجَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيتُ مِنْهُمْ بِلَالًا، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: هَاهُنَا بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ» .

قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَغَيْرِهِ، «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ تِلْقَاءَ وِجْهَةِ بَابِهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، فَجَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَائِطِ الْغَرْبِيِّ مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ» .

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ

ص: 574

الْكَعْبَةَ عَامَ الْفَتْحِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَعَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ جُلُوسٌ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ عَتَّابٌ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أَسِيدًا أَنْ لَا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا، فَيَسْمَعُ مِنْهُ مَا يَغِيظُهُ. فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مُحِقٌّ لَاتَّبَعْتُهُ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا أَقُولُ شَيْئًا، لَوْ تَكَلَّمْتُ لَأَخْبَرَتْ عَنِّي هَذِهِ الْحَصَا. فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" قَدْ عَلِمْتُ الَّذِي قُلْتُمْ ". ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ. فَقَالَ الْحَارِثُ وَعَتَّابٌ: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، مَا اطَّلَعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا فَنَقُولَ: أَخْبَرَكَ» .

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي وَالِدِي، حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَمَرَ بِلَالًا، فَعَلَا عَلَى الْكَعْبَةِ عَلَى ظَهْرِهَا، فَأَذَّنَ عَلَيْهَا بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ سَعِيدًا إِذْ قَبَضَهُ قَبْلَ أَنْ يَرَى هَذَا الْأَسْوَدَ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ.»

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَالًا فَأَذَّنَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَوْقَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِلْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ: أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الْعَبْدِ أَيْنَ صَعِدَ؟! فَقَالَ: دَعْهُ، فَإِنْ يَكُنِ اللَّهُ يَكْرَهُهُ، فَسَيُغَيِّرُهُ»

ص: 575

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَالًا عَامَ الْفَتْحِ فَأَذَّنَ عَلَى الْكَعْبَةِ لِيَغِيظَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ» .

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، «أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ جَالِسًا، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ جَمَعْتُ لِمُحَمَّدٍ جَمْعًا. فَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، إِذْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَقَالَ: " إِذًا يُخْزِيكَ اللَّهُ ". قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: مَا أَيْقَنْتُ أَنَّكَ نَبِيٌّ حَتَّى السَّاعَةَ» .

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ إِجَازَةً، أَنْبَأَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«رَأَى أَبُو سُفْيَانَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي وَالنَّاسُ يَطَئُونَ عَقِبَهُ، فَقَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ: لَوْ عَاوَدْتُ هَذَا الرَّجُلَ الْقِتَالَ. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ: " إِذًا يُخْزِيكَ اللَّهُ ". فَقَالَ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا تَفَوَّهْتُ بِهِ»

ص: 576

ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي حَامِدٍ ابْنِ الشَّرْقِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ الْجَزَرِيُّ، ثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ:«لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ دَخَلَ النَّاسُ مَكَّةَ لَيْلَةَ الْفَتْحِ، لَمْ يَزَالُوا فِي تَكْبِيرٍ وَتَهْلِيلٍ وَطَوَافٍ بِالْبَيْتِ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِهِنْدٍ: أَتَرَيْنَ هَذَا مِنَ اللَّهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هَذَا مِنَ اللَّهِ. قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحَ أَبُو سُفْيَانَ فَغَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " قُلْتَ لِهِنْدٍ: أَتَرَيْنَ هَذَا مِنَ اللَّهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هَذَا مِنَ اللَّهِ ". فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ مَا سَمِعَ قَوْلِي هَذَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرُ هِنْدٍ» .

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا إِسْحَاقُ، ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي حَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا، إِلَّا لِمُنْشِدٍ " فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ

ص: 577

لَلَقَيْنِ وَالْبُيُوتِ. فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: " إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ حَلَالٌ» .

وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ - هُوَ ابْنُ مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ - عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِ هَذَا أَوْ نَحْوَ هَذَا. وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَمِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي أَيْضًا.

وَبِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ اسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَلِلْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْخَنْدَمَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ قُتِلَ فِيهَا قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، لِأَنَّهَا لَمْ تُقْسَمْ، وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْفَتْحِ:«مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ» وَمَوْضِعُ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ الْمُقْبُرِيِّ، «عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ائْذَنْ

ص: 578

لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يُعَضِّدَ بِهَا شَجَرًا، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنَ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَاذَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ» . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ نَحْوَهُ.

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْأَثْوَعِ. قَتَلَ رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ خُزَاعَةَ يُقَالُ لَهُ: أَحْمَرُ بَأْسًا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ ابْنَ الْأَثْوَعِ وَهُوَ بِمَكَّةَ، قَتَلَهُ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقَتْلِ، لَقَدْ كَثُرَ الْقَتْلُ إِنْ نَفَعَ، لَقَدْ قَتَلْتُمْ رَجُلًا لَأَدِيَنَّهُ»

ص: 579

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ:«لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا صَنَعَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ: " إِنَّ خِرَاشًا لَقَتَّالٌ» .

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ الْعَدَوِيِّ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ مَكَّةَ لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، جِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، عَدَتْ خُزَاعَةُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا خَطِيبًا فَقَالَ:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ مِنْ حَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ فِيهَا شَجَرًا، لَمْ تَحْلِلْ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ يَكُونُ بَعْدِي، وَلَمْ تُحْلِلْ لِي إِلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ، غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا، أَلَا ثُمَّ قَدْ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، فَمَنْ قَالَ لَكُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَاتَلَ فِيهَا. فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يُحِلَّهَا لَكُمْ. يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقَتْلِ فَلَقَدْ كَثُرَ إِنْ نَفَعَ، لَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنَّهُ، فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِنْ شَاءُوا فَدَمُ قَاتِلِهِ، وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُهُ ". ثُمَّ وَدَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي قَتَلَتْهُ خُزَاعَةُ، فَقَالَ عَمْرٌو لِأَبِي شُرَيْحٍ:

ص: 580

انْصَرِفْ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْكَ، إِنَّهَا لَا تَمْنَعُ سَافِكَ دَمٍ، وَلَا خَالِعَ طَاعَةٍ، وَلَا مَانِعَ جِزْيَةٍ. فَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ: إِنِّي كُنْتُ شَاهِدًا، وَكُنْتَ غَائِبًا، وَقَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَلِّغَ شَاهِدُنَا غَائِبَنَا، وَقَدْ أَبْلَغْتُكَ، فَأَنْتَ وَشَأْنُكَ» .

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي «أَنَّ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَكْوَعِ، قَتَلَتْهُ بَنُو كَعْبٍ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِائَةِ نَاقَةٍ» .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ:«لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كُفُّوا السِّلَاحَ، إِلَّا خُزَاعَةَ عَنْ بَنِي بَكْرٍ ". فَأَذِنَ لَهُمْ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ قَالَ: " كُفُّوا السِّلَاحَ ". فَلَقِيَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ مِنْ غَدٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَقَتَلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ - فَرَأَيْتُهُ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالَ -: " إِنَّ أَعْدَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ بِذُحُولِ الْجَاهِلِيَّةِ» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، فَأَمَّا مَا فِيهِ مِنْ أَنَّهُ رَخَّصَ لِخُزَاعَةَ أَنْ تَأْخُذَ بِثَأْرِهَا مَنْ بَنِي بَكْرٍ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَلَمْ أَرَهُ

ص: 581

إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكَأَنَّهُ - إِنْ صَحَّ - مِنْ بَابِ الِاخْتِصَاصِ لَهُمْ مِمَّا كَانُوا أَصَابُوا مِنْهُمْ لَيْلَةَ الْوَتِيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ الْخُزَاعِيِّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ «: لَا تُغْزَى هَذِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ نَهْيًا، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ نَفْيًا، فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مَعْنَاهُ عَلَى كُفْرِ أَهْلِهَا.

وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ مُطِيعِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْعَدَوِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ «: لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْأَوَّلِ سَوَاءً.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ «: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ وَدَخَلَهَا،

ص: 582

قَامَ عَلَى الصَّفَا يَدْعُو وَقَدْ أَحْدَقَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَتُرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ يُقِيمُ بِهَا؟ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ: " مَاذَا قُلْتُمْ؟ " قَالُوا: لَا شَيْءَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَعَاذَ اللَّهِ، الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ» .

وَهَذَا الَّذِي عَلَّقَهُ ابْنُ هِشَامٍ قَدْ أَسْنَدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي " مُسْنَدِهِ " فَقَالَ: ثَنَا بَهْزٌ وَهَاشِمٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، وَقَالَ هَاشِمٌ: حَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ، قَالَ: «وَفَدَتْ وُفُودٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَا فِيهِمْ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَجَعَلَ بَعْضُنَا يَصْنَعُ لِبَعْضٍ الطَّعَامَ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ مَا يَدْعُونَا - قَالَ هَاشِمٌ: يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَنَا - إِلَى رَحْلِهِ. قَالَ: فَقُلْتُ: أَلَا أَصْنَعُ طَعَامًا فَأَدْعُوهُمْ إِلَى رَحْلِي؟ قَالَ: فَأَمَرْتُ بِطَعَامٍ يُصْنَعُ، وَلَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنَ الْعِشَاءِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، الدَّعْوَةُ عِنْدِي اللَّيْلَةَ. قَالَ: أَسَبَقْتَنِي؟! - قَالَ هَاشِمٌ: قُلْتُ: نَعَمْ - قَالَ: فَدَعَوْتُهُمْ فَهُمْ عِنْدِي. قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَلَّا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالَ: فَذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ. قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ مَكَّةَ. قَالَ: فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ، وَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَتِيبَتِهِ. قَالَ: وَقَدْ وَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشَهَا

ص: 583

قَالَ: قَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَاهُ الَّذِي سُئِلْنَا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَنَظَرَ فَرَآنِي فَقَالَ: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ". فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: " اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ، وَلَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ ". فَهَتَفْتُ بِهِمْ، فَجَاءُوا فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَتَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ؟ " ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى: " احْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا ". قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَانْطَلَقْنَا، فَمَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ مَا شَاءَ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا مِنْهُمْ شَيْئًا. قَالَ: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ". قَالَ: فَغَلَّقَ النَّاسُ أَبْوَابَهُمْ. قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ. قَالَ: وَفِي يَدِهِ قَوْسٌ، آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ. قَالَ: فَأَتَى فِي طَوَافِهِ عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَعْبُدُونَهُ. قَالَ: فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِهَا فِي عَيْنِهِ وَيَقُولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ. قَالَ: ثُمَّ أَتَى الصَّفَا فَعَلَاهُ حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَى الْبَيْتِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَذْكُرُ اللَّهَ بِمَا شَاءَ أَنْ يَذْكُرَهُ وَيَدْعُوَهُ. قَالَ: وَالْأَنْصَارُ تَحْتَهُ. قَالَ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَاءَ الْوَحْيُ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْنَا، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى

ص: 584

يَقْضِيَ. قَالَ هَاشِمٌ: فَلَمَّا قَضَى الْوَحْيُ رَفْعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ:" يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَقُلْتُمْ: أَمَا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ؟ " قَالُوا: قُلْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " فَمَا اسْمِي إِذًا؟! كَلَّا، إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ ". قَالَ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ» وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، زَادَ النَّسَائِيُّ: وَسَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيِّ نَزِيلِ الْبَصْرَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ نَحْوَهُ.

وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي - يَعْنِي بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ - «أَنَّ فَضَالَةَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ الْمُلَوَّحِ، يَعْنِي اللَّيْثِيَّ، أَرَادَ قَتْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَامَ الْفَتْحِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَفَضَالَةُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، فَضَالَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:" مَاذَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟ " قَالَ: لَا شَيْءَ، كُنْتُ أَذْكُرُ اللَّهَ.

ص: 585

قَالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: " اسْتَغْفِرِ اللَّهَ ". ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، فَسَكَنَ قَلْبُهُ، فَكَانَ فَضَالَةُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتَّى مَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ. قَالَ فَضَالَةُ: فَرَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي، فَمَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ كُنْتُ أَتَحَدَّثُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: هَلُمَّ إِلَى الْحَدِيثِ. فَقَالَ: لَا. وَانْبَعَثَ فَضَالَةُ يَقُولُ:

قَالَتْ هَلُمَّ إِلَى الْحَدِيثِ فَقُلْتُ لَا

يَأْبَى عَلَيْكِ اللَّهُ وَالْإِسْلَامُ

أَوَمَا رَأَيْتِ مُحَمَّدًا وَقَبِيلَهُ

بِالْفَتْحِ يَوْمَ تَكَسَّرُ الْأَصْنَامُ

لَرَأَيْتِ دِينَ اللَّهِ أَضْحَى بَيِّنًا

وَالشِّرْكَ يَغْشَى وَجْهَهُ الْإِظْلَامُ

» قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: «خَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ يُرِيدُ جُدَّةَ لِيَرْكَبَ مِنْهَا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَقَدْ خَرَجَ هَارِبًا مِنْكَ لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، فَأَمِّنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ:" هُوَ آمِنٌ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطِنِي آيَةً يَعْرِفُ بِهَا أَمَانَكَ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِمَامَتَهُ الَّتِي دَخَلَ فِيهَا مَكَّةَ، فَخَرَجَ بِهَا عُمَيْرُ حَتَّى أَدْرَكَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ: يَا صَفْوَانُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، اللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ أَنْ تُهْلِكَهَا، هَذَا أَمَانٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ جِئْتُكَ بِهِ، قَالَ: وَيْلَكَ! اعْزُبْ عَنِّي فَلَا تُكَلِّمْنِي. قَالَ: أَيْ صَفْوَانُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي،

ص: 586

أَفْضَلُ النَّاسِ وَأَبَرُّ النَّاسِ وَأَحْلَمُ النَّاسِ وَخَيْرُ النَّاسِ ابْنُ عَمِّكَ، عِزُّهُ عِزُّكَ وَشَرَفُهُ شَرَفُكَ وَمُلْكُهُ مُلْكُكَ. قَالَ: إِنِّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي. قَالَ: هُوَ أَحْلَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْرَمُ. فَرَجَعَ مَعَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ صَفْوَانُ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّكَ قَدْ أَمَّنْتَنِي. قَالَ: " صَدَقَ " قَالَ: فَاجْعَلْنِي بِالْخِيَارِ فِيهِ شَهْرَيْنِ. قَالَ: " أَنْتَ بِالْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» .

ثُمَّ حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ «أَنْ فَاخِتَةَ بَنَتَ الْوَلِيدِ امْرَأَةَ صَفْوَانَ، وَأُمَّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ امْرَأَةَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ [أَسْلَمَتَا] وَقَدْ ذَهَبَتْ وَرَاءَهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَاسْتَرْجَعَتْهُ فَأَسْلَمَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا أَقَرَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَهُمَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ.»

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: رَمَى حَسَّانُ ابْنَ الزِّبَعْرَى وَهُوَ بِنَجْرَانَ بِبَيْتٍ وَاحِدٍ مَا زَادَ عَلَيْهِ:

لَا تَعْدَمَنْ رَجُلًا أَحَلَّكَ بُغْضُهُ

نَجْرَانَ فِي عَيْشٍ أَحَذَّ لَئِيمِ

فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الزِّبَعْرَى، خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ، وَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ:

يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي

رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ

ص: 587

إِذْ أُبَارِي الشَّيْطَانَ فِي سَنَنِ الْ

غَيِّ وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ

آمَنَ اللَّحْمُ وَالْعِظَامُ لِرَبِّي

ثُمَّ قَلْبِي الشَّهِيدُ أَنْتَ النَّذِيرُ

إِنَّنِي عَنْكَ زَاجِرٌ ثَمَّ حَيًّا

مِنْ لُؤَيٍّ وَكُلُّهُمْ مَغْرُورُ

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى أَيْضًا حِينَ أَسْلَمَ:

مَنَعَ الرُّقَادَ بَلَابِلٌ وَهُمُومُ

وَاللَّيْلُ مُعْتَلِجُ الرِّوَاقِ بَهِيمُ

مِمَّا أَتَانِي أَنَّ أَحْمَدَ لَامَنِي

فِيهِ فَبِتُّ كَأَنَّنِي مَحْمُومُ

يَا خَيْرَ مَنْ حَمَلَتْ عَلَى أَوْصَالِهَا

عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ

إِنِّي لَمُعْتَذِرٌ إِلَيْكَ مِنَ الَّذِي

أَسْدَيْتُ إِذْ أَنَا فِي الضَّلَالِ أَهِيمُ

أَيَّامَ تَأْمُرُنِي بِأَغْوَى خُطَّةٍ

سَهْمٌ وَتَأْمُرَنِي بِهَا مَخْزُومُ

وَأَمُدُّ أَسْبَابَ الرَّدَى وَيَقُودُنِي

أَمْرُ الْغُوَاةِ وَأَمْرُهُمْ مَشْئُومُ

فَالْيَوْمَ آمَنَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ

قَلْبِي وَمُخْطِئُ هَذِهِ مَحْرُومُ

مَضَتِ الْعَدَاوَةُ وَانْقَضَتْ أَسْبَابُهَا

وَدَعَتْ أَوَاصِرُ بَيْنَنَا وَحُلُومُ

ص: 588

فَاغْفِرْ فِدًى لَكَ وَالِدَايَ كِلَاهُمَا

زَلَلِي فَإِنَّكَ رَاحِمٌ مَرْحُومُ

وَعَلَيْكَ مِنْ عِلْمِ الْمَلِيكِ عَلَامَةٌ

نُورٌ أَغَرُّ وَخَاتَمٌ مَخْتُومُ

أَعْطَاكَ بَعْدَ مَحَبَّةٍ بُرْهَانَهُ

شَرَفًا وَبُرْهَانُ الْإِلَهِ عَظِيمُ

وَلَقَدْ شَهِدْتُ بِأَنَّ دِينَكَ صَادِقٌ

حَقٌّ وَأَنَّكَ فِي الْعِبَادِ جَسِيمُ

وَاللَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ أَحْمَدَ مُصْطَفًى

مُسْتَقْبَلٌ فِي الصَّالِحِينَ كَرِيمُ

قَرْمٌ عَلَا بُنْيَانُهُ مِنْ هَاشِمٍ

فَرْعٌ تَمَكَّنَ فِي الذُّرَا وَأُرُومُ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لَهُ.

قُلْتُ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ مِنْ أَكْبَرِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَمِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ اسْتَعْمَلُوا قُوَاهُمْ فِي هِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْقِيَامِ بِنَصْرِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ.

ص: 589