الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَيْضًا، وَنُودِيَ بِذَلِكَ فِي الْبَلَدِ، فَكَثُرَتِ الدَّعَوَاتُ لِمَنْ أَمَرَ بِذَلِكَ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سبع وستين وسبعمائة اسْتَهَلَّتْ وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقَالِيمِ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ بن الحسين بن الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، وَعُمْرُهُ عَشْرُ سِنِينَ فَمَا فَوْقَهَا
،
وَأَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ وَمُدَبِّرُ مَمَالِكِهِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا الْخَاصِّكِيُّ، وَقَاضِي قُضَاةِ الشَّافِعِيَّةِ بِمِصْرَ بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو الْبَقَاءِ السُّبْكِيُّ، وبقية القضاة هم المذكورون في السنة الماضية، وَنَائِبُ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْكَلِي بُغَا، وَقُضَاةُ دِمَشْقَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا سِوَى الْحَنَفِيِّ فَإِنَّهُ الشَّيخ جَمَالُ الدِّين بْنُ السَّرَّاجِ شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْخَطَابَةُ بِيَدِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ الشَّافِعِيِّ، وَكَاتِبُ السِّرِّ وَشَيْخُ الشُّيُوخِ الْقَاضِي فَتْحُ الدِّينِ بْنُ الشَّهِيدِ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ الشَّيخ جَمَالُ الدِّين بْنُ الرَّهَاوِيِّ وَدَخَلَ الْمَحْمَلُ السُّلْطَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ قَرِيبَ الْغُرُوبِ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبَلَدِ، وذلك لغيبة النائب في السرحة مِمَّا يَلِي نَاحِيَةَ الْفُرَاتِ، لِيَكُونَ كَالرَّدِّ لِلتَّجْرِيدَةِ التي تعينت لتخريب الكبيسات التي هي إقطاع خيار بن مهنا من زمن السلطان أويس ملك العراق انتهى.
اسْتِيلَاءُ الْفِرَنْجِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ احْتِيطَ عَلَى الْفِرَنْجِ بِمَدِينَةِ دِمَشْقَ وَأُودِعُوا فِي الْحُبُوسِ فِي الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَاشْتَهَرَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أن مدينة الإسكندرية محاصرة بعدة شواين (1) ، وذكر أن صاحب قبرص مَعَهُمْ، وَأَنَّ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ صَمَدُوا إِلَى حِرَاسَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَصَانَهَا وَحَمَاهَا، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ أَمْرِهَا فِي الشَّهْرِ الْآتِي، فَإِنَّهُ وَضَحَ لنا فيها، وَمَكَثَ الْقَوْمُ بَعْدَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِأَيَّامٍ فِيمَا بَلَغَنَا، بَعْدَ ذَلِكَ حَاصَرَهَا أَمِيرٌ مِنَ التَّتَارِ يُقَالُ لَهُ مَامِيَهْ، وَاسْتَعَانَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْفِرِنْجِ فَفَتَحُوهَا سرا، وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا وَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُ مَامَيْهِ مَلِكًا عَلَيْهَا.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَلْخِ هَذَا الشَّهْرِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ برهان الدين إبراهيم بْنُ الشَّيْخِ شَمْسُ الدِّينِ (2) بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ بِبُسْتَانِهِ بِالْمَزَّةِ، وَنُقِلَ إِلَى عِنْدِ وَالِدِهِ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، فَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ بِجَامِعِ جَرَّاحٍ، وَحَضَرَ جَنَازَتَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ وَخَلْقٌ من التجار والعامة، وكانت
(1) كذا بالاصل، وهي شواني، القطع البحرية الكبيرة.
وفي الجوهر الثمين لابن دقماق 2 / 222: كانوا في سبعين قطعة.
وفي تاريخ الحروب الصليبية لرنسيمان 3 / 743: كانت مجموع سفن الاسطول 165 سفينة.
_________
(2)
وهو شمس الدين محمد بن أبي بكر.
جنازته حافلة، وقد بلغ من العمر ثمانياً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ بَارِعًا فَاضِلًا فِي النَّحْوِ وَالْفِقْهِ وَفُنُونٍ أُخَرَ عَلَى طَرِيقَةِ وَالِدِهِ رَحِمَهُمَا الله، وَكَانَ مُدَرِّسًا بِالصَّدْرِيَّةِ وَالتَّدْمُرِيَّةِ، وَلَهُ تَصْدِيرٌ بِالْجَامِعِ، وخطابة بجامع ابن صلحان، ترك مالاً جزيلاً يقارب المائة ألف درهم.
انتهى.
ثُمَّ دَخَلَ شَهْرُ صَفَرٍ وَأَوَّلُهُ الْجُمُعَةُ، أَخْبَرَنِي بَعْضُ عُلَمَاءِ السِّيَرِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي هَذَا اليوم - يوم الجمعة مُسْتَهَلِّ هَذَا الشَّهْرِ - الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ سِوَى الْمِرِّيخِ فِي بُرْجِ الْعَقْرَبِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُ هَذَا مِنْ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ، فَأَمَّا الْمِرِّيخُ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَبَقَ إِلَى بُرْجِ الْقَوْسِ فِيهِ وَوَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ بِمَدِينَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مِنَ الْفِرِنْجِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ وَصَلُوا إِلَيْهَا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ، فَلَمْ يَجِدُوا بِهَا نَائِبًا وَلَا جَيْشًا، وَلَا حَافِظًا لِلْبَحْرِ وَلَا نَاصِرًا، فَدَخَلُوهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ (1) بُكْرَةَ النَّهَارِ بَعْدَ ما حرقوا أبوابا كثيرة مِنْهَا، وَعَاثُوا فِي أَهْلِهَا فَسَادًا، يَقْتُلُونَ الرِّجَالَ وَيَأْخُذُونَ الْأَمْوَالَ وَيَأْسِرُونَ النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ.
وَأَقَامُوا بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ وَالْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ، فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ قَدِمَ الشَّالِيشُ الْمِصْرِيُّ، فَأَقْلَعَتِ الْفِرَنْجُ لعهم الله عنها، وقد أسروا خلقاً كثيراً يقاومون الْأَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَأَخَذُوا مِنَ الْأَمْوَالِ ذَهَبًا وَحَرِيرًا وَبُهَارًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوَصَفُ، وَقَدِمَ السُّلْطَانُ وَالْأَمِيرُ الْكَبِيرُ يَلْبُغَا ظُهْرَ يَوْمَئِذٍ (2) ، وَقَدْ تَفَارَطَ الْحَالُ وَتَحَوَّلَتِ الْغَنَائِمُ كُلُّهَا إلى الشوائن بِالْبَحْرِ، فَسُمِعَ لِلْأَسَارَى مِنَ الْعَوِيلِ وَالْبُكَاءِ وَالشَّكْوَى وَالْجَأْرِ إِلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ وَبِالْمُسْلِمِينَ، مَا قَطَّعَ الْأَكْبَادَ، وَذَرَفَتْ لَهُ الْعُيُونُ وَأَصَمَّ الْأَسْمَاعَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَلَمَّا بَلَغَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى أَهْلِ دِمَشْقَ شَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ جِدًّا، وَذَكَرَ ذَلِكَ الْخَطِيبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَبَاكَى النَّاسُ كَثِيرًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَجَاءَ الْمَرْسُومُ الشَّرِيفُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِمَسْكِ النَّصَارَى مِنَ الشَّامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَأَنْ يُأْخَذَ مِنْهُمْ رُبْعَ أَمْوَالِهِمْ لِعِمَارَةِ مَا خُرِّبَ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَلِعِمَارَةِ مَرَاكِبَ تَغْزُو الْفِرِنْجَ، فَأَهَانُوا النَّصَارَى وَطُلِبُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ بِعُنْفٍ وَخَافُوا أَنْ يُقْتَلُوا، وَلَمْ يَفْهَمُوا مَا يُرَادُ بِهِمْ، فَهَرَبُوا كُلَّ مَهْرَبٍ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْحَرَكَةُ شَرْعِيَّةً، وَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُهَا شرعاً، وقد طلبت يوم
(1) في السلوك 3 / 10 4: يوم الأربعاء حادي عشر المحرم وفي الجوهر الثمين 2 / 222: يوم الجمعة ثالث عشري المحرم.
وفي الحروب الصليبية لرنسيمان 3 / 746: ظهر يوم السبت 11 اكتوبر سنة 1365 ميلادية.
وعلل رنسيمان السهولة في دخول الفرنج إلى الاسكندرية لاسباب منها: - ان الغزاة احسنوا اختيار الوقت الملائم.
إذ أن السلطان كان صبيا لم يتجاوز الحادية عشرة وكانت السلطنة في يدي الامير يلبغا الذي تعرض لكراهية زملائه الامراء وسائر الناس.
- كان والي الاسكندرية خليل بن عرام متغيبا عنها، يؤدي فريضة الحج، وناب في الحكم عنه أمير صغير، جنغرة.
- كانت حامية المدينة ضئيلة العدد ليست كافية للدفاع عنها.
_________
(2)
وقد كان السلطان بسرياقوس وقد جاء خبر دخول الفرنج الاسكندرية فرسم للعساكر باكر نهار الاحد بالرحيل (الجوهر الثمين 2 / 222) .
السَّبْتِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ إِلَى الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ لِلِاجْتِمَاعِ بِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَكَانَ اجْتَمَاعُنَا بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَئِذٍ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ لَعِبِ الْكُرَةِ، فَرَأَيْتُ مِنْهُ أُنْسًا كَثِيرًا، وَرَأَيْتُهُ كَامِلَ الرَّأْيِ وَالْفَهْمِ، حَسَنَ الْعِبَارَةِ كَرِيمَ الْمُجَالَسَةِ، فَذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ اعْتِمَادُهُ فِي النَّصَارَى، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ فُقَهَاءِ مِصْرَ أَفْتَى لِلْأَمِيرِ الْكَبِيرِ بِذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا مِمَّا لَا يَسُوغُ شَرْعًا، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ بِهَذَا، وَمَتَى كَانُوا بَاقِينَ عَلَى الذِّمَّةِ يُؤَدُّونَ إِلَيْنَا الْجِزْيَةَ مُلْتَزِمِينَ بِالذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ، وَأَحْكَامُ الْمِلَّةِ قَائِمَةٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمُ الدِّرْهَمُ الْوَاحِدُ - الْفَرْدُ - فَوْقَ مَا يَبْذُلُونَهُ مِنَ الْجِزْيَةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى الْأَمِيرِ فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ وَقَدْ وَرَدَ الْمَرْسُومُ بِذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُنِي أَنْ أُخَالِفَهُ؟ وَذَكَرْتُ لَهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مما ينبغي اعتماده في حق أهل قبرص مِنَ الْإِرْهَابِ وَوَعِيدِ الْعِقَابِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام:" ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقَّهُ نِصْفَيْنِ " كَمَا هُوَ الْحَدِيثُ مَبْسُوطٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَجَعَلَ يُعْجِبُهُ هَذَا جِدًّا، وَذَكَرَ أن هذا كان في قبله وَأَنِّي كَاشَفْتُهُ بِهَذَا، وَأَنَّهُ كَتَبَ بِهِ مُطَالَعَةً إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَسَيَأْتِي جَوَابُهَا بَعْدَ عَشَرَةِ أيام، فتجئ
حَتَّى تَقِفَ عَلَى الْجَوَابِ، وَظَهَرَ مِنْهُ إِحْسَانٌ وَقَبُولٌ وَإِكْرَامٌ زَائِدٌ رحمه الله.
ثُمَّ اجْتَمَعْتُ به في دار السعادة في أوائل الشهر رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ قَدْ رُسِمَ بِعَمَلِ الشَّوَانِي وَالْمَرَاكِبِ لِغَزْوِ الْفِرَنْجِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
ثُمَّ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ طُلِبَ النَّصَارَى الَّذِينَ اجْتَمَعُوا فِي كَنِيسَتِهِمْ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ فَحَلَّفَهُمْ كَمْ أَمْوَالُهُمْ وَأَلْزَمَهُمْ بِأَدَاءِ الرُّبُعِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَقَدْ أَمَرُوا إِلَى الْوُلَاةِ بِإِحْضَارِ مَنْ فِي مُعَامَلَتِهِمْ، وَوَالِي الْبَرِّ (1) قَدْ خَرَجَ إِلَى الْقَرَايَا بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَجُرِّدَتْ أُمَرَاءُ إِلَى النَّوَاحِي لِاسْتِخْلَاصِ الْأَمْوَالِ مِنَ النَّصَارَى فِي الْقُدْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِي أَوَّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الأول كان سفر قاضي القضاة تقي الدِّينِ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيِّ إِلَى الْقَاهِرَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ اجْتَمَعْتُ بِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِدَارِ السَّعَادَةِ وَسَأَلْتُهُ عَنْ جَوَابِ الْمُطَالَعَةِ، فذُكر لِي أَنَّهُ جَاءَ الْمَرْسُومُ الشَّرِيفُ السُّلْطَانِيُّ بِعَمَلِ الشواني والمراكب لغزو قبرص، وَقِتَالِ الْفِرَنْجِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَأَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِتَجْهِيزِ الْقَطَّاعِينَ وَالنَّشَّارِينَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى الغابة التي بالقرب من بيروت، وأن يشرغ؟ في عمل الشواني في آخِرِ يَوْمٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، وَهُوَ يَوْمُ الجمعة، وفتحت دار القرآن التي وقفها الشريف التعاداني إلى جانب حمام الكلس، شَمَالِيَّ الْمَدْرَسَةِ الْبَادَرَائِيَّةِ، وَعُمِلَ فِيهَا وَظِيفَةُ حَدِيثٍ وحضر وَاقِفِهَا يَوْمِيَّةُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ انتهى والله أعلم.
(1) والي البر: كان اختصاص صاحب هذه الوظيفة شؤون ظواهر دمشق، كما كانت وظيفة والي دمشق مختصة بشؤون المدينة نفسها، وكان عمل كل من الوظيفتين هو التحدث في أمر الشرطة كما في سائر ولايات الشام (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 358) .
عَقْدُ مَجْلِسٍ بِسَبَبِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عُقِدَ مَجْلِسٌ حَافِلٌ بِدَارِ السَّعَادَةِ بِسَبَبِ مَا رُمِيَ بِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ، وَكُنْتُ مِمَّنْ طُلِبَ إِلَيْهِ، فَحَضَرْتُهُ فِيمَنْ حَضَرَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ، وَخَلْقٌ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ،
وَآخَرُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ، بِحَضْرَةِ نَائِبِ الشَّامِ سَيْفِ الدِّينِ مَنْكَلِي بُغَا، وَكَانَ قَدْ سَافَرَ هُوَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى الْأَبْوَابِ الشَّرِيفَةِ، وَاسْتَنْجَزَ كِتَابًا إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ لِجَمْعِ هَذَا الْمَجْلِسِ لِيَسْأَلَ عَنْهُ النَّاسَ، وَكَانَ قَدْ كُتِبَ فِيهِ مَحْضَرَانِ مُتَعَاكِسَانِ أَحَدُهُمَا لَهُ وَالْآخَرُ عَلَيْهِ، وَفِي الَّذِي عَلَيْهِ خَطُّ الْقَاضِيَيْنِ الْمَالِكِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ، وَجَمَاعَةٍ آخَرِينَ، وَفِيهِ عَظَائِمُ وَأَشْيَاءُ مُنْكَرَةٌ جِدًّا يَنْبُو السَّمْعُ عَنِ اسْتِمَاعِهِ.
وَفِي الْآخَرِ خُطُوطُ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ بِالثَّنَاءِ عليه، وفيه خطي بأني ما رأيت فيه إِلَّا خَيْرًا.
وَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِأَنْ يَمْتَازَ هَؤُلَاءِ عَنْ هَؤُلَاءِ فِي الْمَجَالِسِ، فصارت كل طائفة وحدها، وتحاذوا فيما بينهم، وتأصل عَنْهُ نَائِبُهُ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ الْغَزِّيُّ، وَالنَّائِبُ الآخر بدر الدين بن وهبة وَغَيْرُهُمَا، وَصَرَّحَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْحَنْبَلِيُّ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا كَتَبَ بِهِ خَطُّهُ فِيهِ، وَأَجَابَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ مِنْهُمْ بِدَائِمِ النُّفُوذِ، فَبَادَرَ الْقَاضِي الْغَزِّيُّ فَقَالَ لِلْحَنْبَلِيِّ: أَنْتَ قَدْ ثَبَتَتْ عَدَاوَتُكَ لِقَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ، فكثر القول وارتفعت الاصوات وكقر الْجِدَالُ وَالْمَقَالُ، وَتَكَلَّمَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْمَالِكِيُّ أَيْضًا بِنَحْوِ مَا قَالَ الْحَنْبَلِيُّ، فَأُجِيبُ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا، وَطَالَ الْمَجْلِسُ فَانْفَصَلُوا عَلَى مثل ذلك، ولما بلغت الباب أمر السَّلْطَنَةِ بِرُجُوعِي إِلَيْهِ، فَإِذَا بَقِيَّةُ النَّاسِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَالْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ جُلُوسٌ، فَأَشَارَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِالصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ - يَعْنِي وَأَنْ يَرْجِعَ الْقَاضِيَانِ عَمَّا قَالَا - فَأَشَارَ شيخ شَرَفُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ وَأَشَرْتُ أَنَا أَيْضًا بِذَلِكَ فَلَانَ الْمَالِكِيُّ وَامْتَنَعَ الْحَنْبَلِيُّ، فَقُمْنَا وَالْأَمْرُ باقٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ اجْتَمَعْنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ عَنْ طَلَبِهِ فَتَرَاضَوْا كَيْفَ يَكُونُ جَوَابُ الْكِتَابَاتِ مَعَ مُطَالَعَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَفُعِلَ ذَلِكَ وَسَارَ الْبَرِيدُ بِذَلِكَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، ثُمَّ اجْتَمَعْنَا أَيْضًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَحَضَرَ الْقُضَاةُ الثلاثة وجماعة آخرون، واجتهد نائب السلطنة على الصُّلْحِ بَيْنَ الْقُضَاةِ وَقَاضِي الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ بِمِصْرَ، فَحَصَلَ خُلْفٌ وَكَلَامٌ طَوِيلٌ، ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ أَنْ سَكَنَتْ أَنْفُسُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ إِلَى ذَلِكَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الشَّهْرِ الْآتِي.
وَفِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْآخِرِ كَانَتْ وَفَاةُ الْمُعَلِّمِ دَاوُدَ الَّذِي كَانَ مُبَاشِرًا لِنِظَارَةِ الْجَيْشِ، وَأُضِيفَ
إِلَيْهِ نَظَرُ الدَّوَاوِينِ إِلَى آخِرِ وَقْتٍ.
فَاجْتَمَعَ لَهُ هَاتَانِ الْوَظِيفَتَانِ وَلَمْ يَجْتَمِعَا لِأَحَدٍ قَبْلَهُ كَمَا فِي عِلْمِي، وَكَانَ مِنْ أَخْبَرِ النَّاسِ بِنَظَرِ الْجَيْشِ وَأَعْلَمِهِمْ بِأَسْمَاءِ رِجَالِهِ، وَمَوَاضِعِ الْإِقْطَاعَاتِ، وَقَدْ كان والده نائبا لنظائر الْجُيُوشِ، وَكَانَ يَهُودِيًّا قَرَّائِيًّا، فَأَسْلَمَ وَلَدُهُ هَذَا قَبْلَ وَفَاةِ نَفْسِهِ بِسَنَوَاتٍ عَشْرٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَقَدْ كَانَ ظَاهِرُهُ جَيِّدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِسِرِّهِ وَسَرِيرَتِهِ، وَقَدْ تَمَرَّضَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ نَحْوِهِ، حَتَّى كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ تُجَاهَ النَّسْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ حُمِلَ إلى تربة له أعدها في بستانه بحوش، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ قَرِيبُ الْخَمْسِينَ.
وَفِي أَوَائِلِ هَذَا الشَّهْرِ وَرَدَ الْمَرْسُومُ الشَّرِيفُ السُّلْطَانِيُّ بِالرَّدِّ عَلَى نِسَاءِ النَّصَارَى مَا كَانَ أُخِذَ مِنْهُنَّ مَعَ الْجِبَايَةِ الَّتِي كَانَ تَقَدَّمَ أَخْذُهَا مِنْهُنَّ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ ظُلْمًا، وَلَكِنِ الْأَخْذُ مِنَ النساء أفحشن وَأَبْلَغُ فِي الظُّلْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي يَوْمِ الاثنين الخامش عَشَرَ مِنْهُ أَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ أَعَزَّهُ اللَّهُ بِكَبْسِ بَسَاتِينِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَوُجِدَ فِيهَا مِنَ الْخَمْرِ الْمُعْتَصَرِ مِنَ الْخَوَابِيِّ وَالْحِبَابِ فَأُرِيقَتْ عَنْ آخِرِهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، بِحَيْثُ جَرَتْ فِي الأزقة والطرقات، وفاض نهر توزا من ذلك، وأمر مصادرة أَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ بِمَالٍ جَزِيلٍ، وَهُمْ تَحْتَ الْجِبَايَةِ، وَبَعْدَ أَيَّامٍ نُودِيَ فِي الْبَلَدِ بِأَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَدْخُلُ الْحَمَّامَاتِ مَعَ الْمُسَلَّمَاتِ، بَلْ تَدْخُلُ حَمَّامَاتٍ تَخْتَصُّ بِهِنَّ، وَمَنْ دَخَلَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الرِّجَالِ مَعَ الرِّجَالِ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ فِي رِقَابِ الْكُفَّارِ عَلَامَاتٌ يُعْرَفُونَ بِهَا مِنْ أَجْرَاسٍ وَخَوَاتِيمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَرَ نِسَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ خُفَّيْهَا مُخَالَفَيْنِ فِي اللَّوْنِ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَبْيَضَ وَالْآخَرُ أَصْفَرَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ التَّاسِعَ عَشَرَ من الشهر - أعني ربيع الآخر - طلب القضاة الثلاثة وجماعة من المفتيين: فَمِنْ نَاحِيَةِ الشَّافِعِيِّ نَائِبَاهُ، وَهُمَا الْقَاضِي شَمْسُ الدين الغزي والقاضي بدر الدين ابن وهبة، وَالشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الزَّبَدَانِيِّ، وَالْمُصَنِّفُ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ وَالشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ حَسَنُ الزُّرَعِيُّ، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ.
وَمِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ قَاضِيَا الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْمَالِكِيُّ وَالْحَنْبَلِيُّ، وَالشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ الْحَنْبَلِيُّ، وَالشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ
الشَّرِيشِيِّ، وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ حَمْزَةَ ابْنِ شَيْخِ السلامية الحنبلي، وعماد الدين الحنائي، فَاجْتَمَعْتُ مَعَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِالْقَاعَةِ الَّتِي فِي صَدْرِ إِيوَانِ دَارِ السَّعَادَةِ، وَجَلَسَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ فِي صَدْرِ الْمَكَانِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا قَالَ: كُنَّا نَحْنُ التُّرْكَ وَغَيْرُنَا إِذَا اختلفنا واختصمنا نجئ بِالْعُلَمَاءِ فَيُصْلِحُونَ بَيْنَنَا، فَصِرْنَا نَحْنُ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْعُلَمَاءُ وَاخْتَصَمُوا فَمَنْ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ؟ وَشَرَعَ فِي تَأْنِيبِ مَنْ شَنَّعَ عَلَى الشَّافِعِيِّ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفَاعِيلِ الَّتِي كُتِبَتْ فِي تِلْكَ الْأَوْرَاقِ وَغَيْرِهَا، وَأَنَّ هَذَا يَشْفِي الْأَعْدَاءَ بِنَا، وَأَشَارَ بِالصُّلْحِ بَيْنَ الْقُضَاةِ بَعْضِهِمْ من بعض فصمم بعضهم وامتنع، وَجَرَتْ مُنَاقَشَاتٌ مِنْ بَعْضِ الْحَاضِرِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ حَصَلَ بَحْثٌ فِي مَسَائِلَ ثُمَّ قَالَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ أَخِيرًا: أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ)[المائدة: 95] فَلَانَتِ الْقُلُوبُ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَمَرَ كَاتِبَ السِّرِّ أَنْ يَكْتُبَ مَضْمُونَ ذَلِكَ فِي مُطَالَعَةٍ إِلَى الدِّيَارِ المصرية، ثم خرجنا على ذلك انتهى والله أعلم.
عودة قاضي القضاة السُّبْكِيِّ إِلَى دِمَشْقَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى قَدِمَ مِنْ نَاحِيَةِ الْكُسْوَةِ وَقَدْ تَلَقَّاهُ جَمَاعَةٌ
من الأعيان إلى الصمين وَمَا فَوْقَهَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْكُسْوَةِ كَثُرَ الناس جداً وقاربها قاضي القضاة الْحَنَفِيَّةِ الشَّيخ جَمَالُ الدِّين بْنُ السَّرَّاجِ، فَلَمَّا أشرف من عقبة شحورا تَلَقَّاهُ خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً وَأُشْعِلَتِ الشُّمُوعُ حَتَّى مَعَ النِّسَاءِ، وَالنَّاسُ فِي سُرُورٍ عَظِيمٍ، فلما كان قريباً من الجسورة تلقته الخلائق الخليفيين مَعَ الْجَوَامِعِ، وَالْمُؤَذِّنُونَ يُكَبِّرُونَ، وَالنَّاسُ فِي سُرُورٍ عظيم، وَلَمَّا قَارَبَ بَابَ النَّصْرِ وَقْعَ مَطَرٌ عَظِيمٌ وَالنَّاسُ مَعَهُ لَا تَسَعُهُمُ الطُّرُقَاتُ، يَدْعُونَ لَهُ وَيَفْرَحُونَ بِقُدُومِهِ، فَدَخَلَ دَارَ السَّعَادَةِ وَسَلَّمَ عَلَى نائب السلنطة، ثُمَّ دَخَلَ الْجَامِعَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَمَعَهُ شُمُوعٌ كثيرة، وَالرُّؤَسَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الْعَامَّةِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثَانِيَ شَهْرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ رَكِبَ قَاضِي الْقُضَاةِ السُّبْكِيُّ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ وَقَدِ اسْتَدْعَى نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِالْقَاضِيَيْنِ الْمَالِكِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ ثَلَاثَتُهُمْ يَتَمَاشَوْنَ إِلَى الْجَامِعِ، فَدَخَلُوا دَارَ الْخَطَابَةِ فَاجْتَمَعُوا هُنَاكَ، وَضَيَّفَهُمَا الشَّافِعِيُّ، ثُمَّ
حَضَرَا خُطْبَتَهُ الْحَافِلَةَ الْبَلِيغَةَ الْفَصِيحَةَ، ثُمَّ خَرَجُوا ثَلَاثَتُهُمْ مِنْ جَوَّا إِلَى دَارِ الْمَالِكِيِّ، فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ وَضَيَّفَهُمُ الْمَالِكِيُّ هُنَالِكَ مَا تَيَسَّرَ.
وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
وَفِي أَوَائِلِ هَذَا الشَّهْرِ وَرَدَتِ الْمَرَاسِيمُ الشَّرِيفَةُ السُّلْطَانِيَّةُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِأَنْ يُجْعَلَ لِلْأَمِيرِ مِنْ إِقْطَاعِهِ النِّصْفُ خَاصًّا له، وفي النصف الْآخَرُ يَكُونُ لِأَجْنَادِهِ، فَحَصَلَ بِهَذَا رِفْقٌ عَظِيمٌ بِالْجُنْدِ، وَعَدَلٌ كَثِيرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَأَنْ يَتَجَهَّزَ الأجناد ويحرصوا عَلَى السَّبْقِ وَالرَّمْيِ بِالنُّشَّابِ، وَأَنْ يَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ مَتَى اسْتُنْفِرُوا نَفَرُوا، فَاسْتَعَدُّوا لِذَلِكَ وَتَأَهَّبُوا لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الْآيَةَ [الْأَنْفَالِ: 60] .
وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ " أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ "(1) .
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " ارْمُوا وَارْكَبُوا وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ "(2) .
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ عُقِدَ مَجْلِسٌ بِدَارِ السَّعَادَةِ لِلْكَشْفِ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ الْمَرْدَاوِيِّ الْحَنْبَلِيِّ بِمُقْتَضَى مَرْسُومٍ شَرِيفٍ وَرَدَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَا يَعْتَمِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ شُهُودِ مَجْلِسِهِ مِنْ بَيْعِ أَوْقَافٍ لَمْ يَسْتَوْفِ فِيهَا شَرَائِطَ الْمَذْهَبِ، وَإِثْبَاتِ إعسارات أيضاً كذلك وغير ذلك انتهى.
الْوَقْعَةُ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الأمير الكبير يلبغا الخاصكي خرج عليه
(1) أخرجه مسلم في الامارة ح (167) وأبو داود في كتاب الجهاد باب (23) والترمذي في كتاب التَّفسير تفسير سورة (8) وابن ماجة في الجهاد باب (19) والدارمي في الجهاد باب (14) والامام أحمد في المسند 4 / 157.
_________
(2)
أخرجه أبو داود في الجهاد باب (23) وابن ماجة في الجهاد، باب (19) والدارمي في الجهاد، باب: 14 والنسائي في الخيل باب (8) .