الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْحَكَمِ لَمَّا رَجَعَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ مِنْ مكة إلى الشام، وقد كان الْتَفَّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يُدَافِعُونَ عَنْهُ، مِنْهُمْ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبَاضٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ رؤسهم.
فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ فِي الْخِلَافَةِ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: إِنَّكُمْ قَدْ أَخْطَأْتُمْ لِأَنَّكُمْ قَاتَلْتُمْ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ وَلَمْ تَعْلَمُوا رَأْيَهُ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - وَكَانُوا يَنْتَقِصُونَ عُثْمَانَ - فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فسألوه عن عثمان فأجابهم فيه بما يسوؤهم، وَذَكَرَ لَهُمْ مَا كَانَ مُتَّصِفًا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالسِّيرَةِ الْحَسَنَةِ، والرُّجوع إِلَى الحقِّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَفَرُوا عَنْهُ وَفَارَقُوهُ وَقَصَدُوا بِلَادَ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، فَتَفَرَّقُوا فِيهَا بِأَبْدَانِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ وَمَسَالِكِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُنْتَشِرَةِ، الَّتِي لَا تَنْضَبِطُ وَلَا تَنْحَصِرُ، لِأَنَّهَا مُفَرَّعَةٌ عَلَى الْجَهْلِ وَقُوَّةِ النُّفُوسِ، وَالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ، وَمَعَ هَذَا اسْتَحْوَذُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ والكور، حتى انتزعت منهم عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ذِكْرُ بَيْعَةِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ لَمَّا رَجَعَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ وَارْتَحَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الشَّامِ، وَانْتَقَلَتْ بَنُو أُمَيَّةَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ، اجْتَمَعُوا إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بن يزيد، وقد كان معاوية بن يزيد قد عَزَمَ عَلَى أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ
بَايَعَ أَهْلُهَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ عَلَى أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمْ وَيُقِيمَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ حَتَّى يجتمع الناس على إمام، وَالضَّحَّاكُ يُرِيدُ أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ بَايَعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ بِحِمْصَ، وبايع له زفر بن عبد الله الكلابي بقنسرين، وبايع له نائل (1) بْنُ قَيْسٍ بِفِلَسْطِينَ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيَّ، فَلَمْ يَزَلْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ وَالْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ بِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ يحسنون له أن يتولى، حَتَّى ثَنَوْهُ عَنْ رَأْيِهِ وَحَذَّرُوهُ مِنْ دُخُولِ سُلْطَانِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمُلْكِهِ إِلَى الشَّامِ، وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ شَيْخُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا: فَأَنْتَ أَحَقُّ بهذا الأمر.
فرجع عن البيعة لابن الزبير، وخاف ابن زياد الهلاك إن تولى غير بني أمية، فعند ذلك التف هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَعَ قَوْمِهِ بَنِي أُمَيَّةَ وَمَعَ أهل اليمن على مروان، فوافقهم على ما أرادوا، وجعل يقول ما فات شئ، وَكَتَبَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيُّ إِلَى الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ يَثْنِيهِ عَنِ الْمُبَايَعَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَيُعَرِّفُهُ أَيَادِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عِنْدَهُ وإحسانهم، وَيَذْكُرُ فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ، وَقَدْ بَايَعَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ أَهْلَ الْأُرْدُنِّ لِبَنِي أُمَيَّةَ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى ابْنِ أُخْتِهِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ معاوية بن أبي سفيان، وبعث إلى الضحاك كتاباً بِذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَهُ عَلَى أَهْلِ دِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ نَاغِضَةُ بْنُ كُرَيْبٍ الطابجي، وَقِيلَ هُوَ مِنْ بَنِي كَلْبٍ وَقَالَ لَهُ: إِنْ لَمْ يَقْرَأْهُ هُوَ عَلَى النَّاسِ فَاقْرَأْهُ أنت، فأعطاه الكتاب فَسَارَ إِلَى الضَّحَّاكِ فَأَمَرَهُ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ فَلَمْ يقبل، فقام ناغض فَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ فَصَدَّقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ
(1) في الطبري والكامل: ناتل.
(*)
النَّاسِ، وَكَذَّبَهُ آخَرُونَ، وَثَارَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَامَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ شَابٌّ حَدَثٌ عَلَى دَرَجَتَيْنِ مِنَ الْمِنْبَرِ فَسَكَّنَ النَّاسَ، وَنَزَلَ الضَّحَّاكُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، وَأَمَرَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَّقُوا نَاغِضَةَ أَنْ يُسْجَنُوا، فَثَارَتْ قَبَائِلُهُمْ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ السِّجْنِ، وَاضْطَرَبَ أَهْلُ دِمَشْقَ فِي ابْنِ الزُّبَيْرِ وبني أمية، وكان اجتماع الناس لذلك وَوُقُوفُهُمْ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِبَابِ الْجَيْرُونِ " فَسُمِّيَ هذا اليوم بيوم جَيْرُونَ ".
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَقَدْ أَرَادَ النَّاسُ الْوَلِيدَ بن عتبة بن أبي سفيان أَنْ يَتَوَلَّى عَلَيْهِمْ فَأَبَى، وَهَلَكَ فِي
تِلْكَ اللَّيَالِي (1) ، ثُمَّ إِنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ صَعِدَ مِنْبَرَ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فَخَطَبَهُمْ بِهِ، وَنَالَ مِنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَامَ إِلَيْهِ شَابٌّ مِنْ بني كلب فضربه بعصى كَانَتْ مَعَهُ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ مُتَقَلِّدِي سُيُوفَهُمْ، فَقَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَاقْتَتَلُوا فِي الْمَسْجِدِ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَيْسٌ وَمَنْ لَفَّ لَفِيفَهَا يَدْعُونَ إِلَى ابْنِ الزُّبير وَيَنْصُرُونَ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، وَبَنُو كَلْبٍ يَدْعُونَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَإِلَى الْبَيْعَةِ لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَيَتَعَصَّبُونَ لِيَزِيدَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَنَهَضَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ فَدَخَلَ دَارَ الْإِمَارَةِ وَأَغْلَقَ الْبَابَ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى الناس إلا يَوْمِ السَّبْتِ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ فَجَمَعَهُمْ إِلَيْهِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَفِيهِمْ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَخَالِدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ مِمَّا كَانَ مِنْهُ، وَاتَّفَقَ مَعَهُمْ أَنْ يَرْكَبَ مَعَهُمْ إِلَى حَسَّانَ بْنِ مَالِكٍ الْكَلْبِيَّ فَيَتَّفِقُوا عَلَى رَجُلٍ يَرْتَضُونَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ لِلْإِمَارَةِ، فَرَكِبُوا جَمِيعًا إليه، فينما هُمْ يَسِيرُونَ إِلَى الْجَابِيَةِ لِقَصْدِ حَسَّانَ، إِذْ جاء معن بن ثور بْنِ الْأَخْنَسِ فِي قَوْمِهِ قَيْسٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ دَعَوْتَنَا إِلَى بَيْعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَأَجَبْنَاكَ، وأنت الآن ذَاهِبٌ إِلَى هَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَخْلِفَ ابْنَ أُخْتِهِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ الضحاك: وما الرَّأْيُ؟ قَالَ: الرَّأْيُ أَنْ نُظْهِرَ مَا كُنَّا نُسِرُّ، وَأَنْ نَدْعُوَ إِلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ونقاتل عليها من أباها.
فَمَالَ الضَّحَّاكُ بِمَنْ مَعَهُ فَرَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ (2) ، فَأَقَامَ بِهَا بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ مِنْ قَيْسٍ وَمَنْ لَفَّ لَفِيفَهَا، وَبَعَثَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَبَايَعَ النَّاسَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَذَكَرَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَشَكَرَهُ عَلَى صَنِيعِهِ، وَكَتَبَ إليه بنيابة الشام، وقيل بل بايع لنفسه بالخلافة فالله أعلم.
وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْمَدَائِنِيُّ أَنَّهُ إِنَّمَا دَعَا إِلَى بَيْعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَوَّلًا، ثُمَّ حَسَّنَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى نفسه، وذلك إنما فعله مكراً منه وكباراً ليفسد عليه ما هو بصدده، فَدَعَا الضَّحَّاكُ إِلَى نَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَنَقَمَ الناس عليه ذلك وقالوا: دعوتنا إلى بيعة رجل فبايعناه ثم خلعته بلا سبب
(1) في مروج الذهب 3 / 89: طعن وهو يصلي علي معاوية بن يزيد ومات وهو في الركعة الثانية.
(2)
في الكامل 4 / 147 والطبري 7 / 37: رجع إلى مرج راهط ودمشق بيده (وفي الطبري: جل أهل دمشق من أهل اليمن وغيرهم على ذلك) .
وفي الامامة والسياسة 2 / 17: أن الضحاك بايع لنفسه بعد بيعة بني أمية
لمروان (وانظر الفتوح لابن الاعثم 5 / 312) .
(*)