الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عافيت، ولئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت. فلما قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة، قال: فما سمعناه ذكر رجله ولا ولده، ولا شكا ذلك إلى أحد حتى دخل وادي القرى، فلما كان في المكان الّذي أصابته الأكلة فيه قال:(لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) فلما دخل المدينة أتاه الناس يسلمون عليه ويعزونه في رجله وولده، فبلغه أن بعض الناس قال: إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه. فأنشد عروة في ذلك والأبيات لمعن بن أوس: -
لعمرك ما أهويت كفى لريبة
…
ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصرى لها
…
ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
ولست بماش ما حييت لمنكر
…
من الأمر لا يمشى إلى مثله مثلي
ولا مؤثر نفسي على ذي قرابة
…
وأوثر ضيفي ما أقام على أهلي
وأعلم أنى لم تصبني مصيبة
…
من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي
وفي رواية: اللَّهمّ إنه كان لي بنون أربعة فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة. كذا ذكر هذا الحديث فيه هشام. وقال مسلمة بن محارب: وقعت في رجل عروة الأكلة فقطعت ولم يمسكه أحد، ولم يدع في تلك الليلة ورده. وقال الأوزاعي: لما نشرت رجل عروة قال: اللَّهمّ إنك تعلم أنى لم أمش بها إلى سوء قط. وأنشد البيتين المتقدمين. رأى عروة رجلا يصلى صلاة خفيفة فدعاه فقال: يا أخى أما كانت لك إلى ربك حاجة في صلاتك؟ إني لأسأل الله في صلاتي حتى أسأله الملح. قال عروة:
رب كلمة ذل احتملتها أورثتني عزا طويلا. وقال لبنيه: إذا رأيتم الرجل يعمل الحسنة فاعلموا أن لها عنده أخوات، وإذا رأيتم الرجل يعمل السيئة فاعلموا أن لها عنده أخوات، فان الحسنة تدل على أختها، والسيئة تدل على أختها. وكان عروة إذا دخل حائطه ردد هَذِهِ الْآيَةَ (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ 18: 39) حتى يخرج منه والله سبحانه وتعالى أعلم] [1] .
قِيلَ إِنَّهُ وُلِدَ فِي حَيَاةِ عُمَرَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ عُمَرَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ مِائَةٍ، وَقِيلَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ إِحْدَى وَمِائَةٍ، وَقِيلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ أو خمس وتسعين، وقيل تسع وتسعين فاللَّه أعلم.
على بن الحسين
ابن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ الْمَشْهُورُ بِزَيْنِ الْعَابِدِينَ، وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا سَلَّامَةُ، وَكَانَ لَهُ أَخٌ أَكْبَرُ مِنْهُ يُقَالُ لَهُ عَلِيٌّ أَيْضًا، قُتِلَ مَعَ أَبِيهِ، رَوَى عَلِيٌّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَصَفِيَّةَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، أُمَّهَاتِ المؤمنين. وعنه
[1] زيادة من المصرية.
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بَنُوهُ زَيْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُمَرُ، وأبو جعفر محمد بن على بن قر، وزيد بن أسلم، وطاووس وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو سَلَمَةَ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَخَلْقٌ.
قال ابن خلكان: كانت أم سلمة بِنْتَ يَزْدَجِرْدَ آخِرِ مُلُوكِ الْفُرْسِ، وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي رَبِيعِ الْأَبْرَارِ أَنَّ يَزْدَجِرْدَ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ سُبِينَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَحَصَلَتْ وَاحِدَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَأَوْلَدَهَا سَالِمًا، وَالْأُخْرَى لِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَأَوْلَدَهَا الْقَاسِمَ، وَالْأُخْرَى لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فَأَوْلَدَهَا عَلِيًّا زَيْنَ الْعَابِدِينَ هَذَا، فَكُلُّهُمْ بَنُو خَالَةٍ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَمَّا قَتَلَ قُتَيْبَةُ بن مسلم فيروز ابن يَزْدَجِرْدَ بَعَثَ بِابْنَتَيْهِ إِلَى الْحَجَّاجِ فَأَخَذَ إِحْدَاهُمَا وبعث بالأخرى إلى الوليد، فَأَوْلَدَهَا الْوَلِيدُ يَزِيدَ النَّاقِصَ. وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ الْمَعَارِفِ أَنَّ زَيْنَ الْعَابِدِينَ هَذَا كَانَتْ أُمُّهُ سِنْدِيَّةً، يُقَالُ لَهَا سَلَّامَةُ، وَيُقَالُ غَزَالَةُ، وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ بِكَرْبَلَاءَ، فَاسْتُبْقِيَ لِصِغَرِهِ، وَقِيلَ لِمَرَضِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ ابْنَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ هَمَّ بِقَتْلِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَشَارَ بَعْضُ الْفَجَرَةِ عَلَى يَزِيدَ بن معاوية بقتله أيضا فمنعه الله منه، ثُمَّ كَانَ يَزِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُجْلِسُهُ مَعَهُ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا وَهُوَ عِنْدَهُ، ثم بعثهم إلى المدينة، وكان على بالمدينة محترما معظما. قال ابْنُ عَسَاكِرَ: وَمَسْجِدُهُ بِدِمَشْقَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ. قلت: وهو مشهد على بالناحية الشرقية من جَامِعِ دِمَشْقَ. وَقَدِ اسْتَقْدَمَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى دِمَشْقَ فَاسْتَشَارَهُ فِي جَوَابِ مَلِكِ الرُّومِ عَنْ بَعْضِ مَا كَتَبَ إِلَيْهِ فِيهِ مِنْ أَمْرِ السَّكَّةِ وَطِرَازِ الْقَرَاطِيسِ، قال الزهري: ما رأيت قرشيا أورع منه، ولا أفضل. وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ يَوْمَ قُتِلَ ابْنَ ثَلَاثٍ وعشرين سنة وهو مريض، فقال عمر ابن سَعْدٍ: لَا تَعَرَّضُوا لِهَذَا الْمَرِيضِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ مِنْ أَوْرَعِ النَّاسِ وَأَعْبَدِهِمْ وَأَتْقَاهُمْ للَّه عز وجل، وَكَانَ إِذَا مَشَى لَا يَخْطُرُ بِيَدِهِ، وَكَانَ يَعْتَمُّ بِعِمَامَةٍ بَيْضَاءَ يُرْخِيهَا مِنْ ورائه، وكان كنيته أبا الحسن، وقيل أبا محمد، وقيل أبا عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا كَثِيرَ الْحَدِيثِ عَالِيًا رَفِيعًا وَرِعًا، وَأُمُّهُ غَزَالَةُ خَلَفَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْحُسَيْنِ مَوْلَاهُ زُبَيْدٌ فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زُبَيْدٍ، وهو على الأصغر، فأما الْأَكْبَرُ فَقُتِلَ مَعَ أَبِيهِ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَازِمٍ: لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ مِثْلُهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأنصاري: سمعت على ابن الْحُسَيْنِ وَهُوَ أَفْضَلُ هَاشِمِيٍّ أَدْرَكْتُهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَحِبُّونَا حُبَّ الْإِسْلَامِ، فَمَا بَرِحَ بِنَا حُبُّكُمْ حَتَّى صَارَ عَلَيْنَا عَارًا. وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى بَغَّضْتُمُونَا إِلَى النَّاسِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَمْ يَكُنْ لِلْحُسَيْنِ عَقِبٌ إِلَّا مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ نسل إلا من ابن عَمِّهِ الْحَسَنِ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: لو اتخذت السراري يَكْثُرَ أَوْلَادُكُ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي مَا أَتَسَرَّى بِهِ، فَأَقْرَضَهُ مِائَةَ أَلْفٍ فَاشْتَرَى لَهُ السِّرَارِيَّ فولدت لَهُ وَكَثُرَ نَسْلُهُ، ثُمَّ لَمَّا مَرِضَ مَرْوَانُ أَوْصَى أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ
الحسين شيء مما كان أقرضه، فجميع الحسينيين من نسله رحمه الله. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ:
أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ كُلِّهَا الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ احْتَرَقَ الْبَيْتُ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فلما انصرف قالوا له: مالك لَمْ تَنْصَرِفْ؟ فَقَالَ: إِنِّي اشْتَغَلْتُ عَنْ هَذِهِ النَّارِ بِالنَّارِ الْأُخْرَى، وَكَانَ إِذَا تَوَضَّأَ يَصْفَرُّ لَوْنُهُ، فَإِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ ارْتَعَدَ مِنَ الْفَرَقِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَلَا تدرون بين يدي من أَقُومَ وَلِمَنْ أُنَاجِي؟ وَلَمَّا حَجَّ أَرَادَ أَنْ يُلَبِّيَ فَارْتَعَدَ وَقَالَ:
أَخْشَى أَنْ أَقُولَ لَبَّيْكَ اللَّهمّ لبيك، فيقال لي: لا لبيك، فشجعوه على التَّلْبِيَةِ، فَلَمَّا لَبَّى غُشِيَ عَلَيْهِ حَتَّى سَقَطَ عن الراحلة. وكان يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ. وقال طاووس: سَمِعْتُهُ وَهُوَ سَاجِدٌ عِنْدَ الْحِجْرِ يَقُولُ: عُبَيْدُكَ بفنائك. سائلك بفنائك. فقيرك بفنائك، قال طاووس: فو الله مَا دَعَوْتُ بِهَا فِي كَرْبٍ قَطُّ إِلَّا كُشِفَ عَنِّي. وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ يَقُولُ صَدَقَةُ اللَّيْلِ تُطْفِئُ غَضَبَ الرب، وتنور القلب والقبر، وتكشف عن العبد ظلمة يوم القيامة، وقاسم اللَّهُ تَعَالَى مَالَهُ مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ نَاسٌ بِالْمَدِينَةِ يَعِيشُونَ لَا يَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ يَعِيشُونَ وَمَنْ يُعْطِيهِمْ، فَلَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَدُوا ذَلِكَ فَعَرَفُوا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِمْ فِي اللَّيْلِ بِمَا يَأْتِيهِمْ بِهِ. وَلَمَّا مَاتَ وَجَدُوا فِي ظَهْرِهِ وأكتافه أثر حمل الجراب إِلَى بُيُوتِ الْأَرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ فِي اللَّيْلِ. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَعُولُ مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ وَلَا يَدْرُونَ بِذَلِكَ حَتَّى مَاتَ. وَدَخَلَ عَلِيُّ بن الحسين على محمد بن أسامة ابن زَيْدٍ يَعُودُهُ فَبَكَى ابْنُ أُسَامَةَ فَقَالَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ، قَالَ: وَكَمْ هُوَ؟ قَالَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ- وَفِي رِوَايَةٍ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ- فَقَالَ: هِيَ عَلَيَّ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ بِمَنْزِلَتِهِمَا مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَنَالَ مِنْهُ رَجُلٌ يَوْمًا فَجَعَلَ يَتَغَافَلُ عَنْهُ- يُرِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ- فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِيَّاكَ أَعْنِي، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَعَنْكَ أُغْضِي. وَخَرَجَ يَوْمًا مِنَ الْمَسْجِدِ فَسَبَّهُ رَجُلٌ فانتدب النَّاسُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: دَعُوهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فقال: ما ستره الله عنك من عيوبنا أَكْثَرُ، أَلَكَ حَاجَةٌ نُعِينُكَ عَلَيْهَا؟ فَاسْتَحْيَا الرَّجُلُ فَأَلْقَى إِلَيْهِ خَمِيصَةً كَانَتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول: أَنَّكَ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ. قَالُوا: وَاخْتَصَمَ عَلِيُّ بن الحسين وحسن ابن حَسَنٍ- وَكَانَ بَيْنَهُمَا مُنَافَسَةٌ- فَنَالَ مِنْهُ حَسَنُ بْنُ حَسَنٍ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذهب على ابن الْحُسَيْنِ إِلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَمِّ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَلَحِقَهُ فَصَالَحَهُ. وَقِيلَ لَهُ مَنْ أعظم الناس خطرا؟ فقال: من لم ير الدنيا لنفسه قدر أ، وَقَالَ أَيْضًا: الْفِكْرَةُ مِرْآةٌ تُرِي الْمُؤْمِنَ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ، وَقَالَ: فَقْدُ الْأَحِبَّةِ غُرْبَةٌ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَآخَرُونَ عَبَدُوهُ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَآخَرُونَ عَبَدُوهُ مَحَبَّةً وَشُكْرًا فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ الْأَخْيَارِ. وَقَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لَا تَصْحَبْ فاسقا فإنه
يَبِيعُكَ بِأَكْلَةٍ وَأَقَلَّ مِنْهَا يَطْمَعُ فِيهَا ثُمَّ لَا يَنَالُهَا، وَلَا بَخِيلًا فَإِنَّهُ يَخْذُلُكَ فِي مَالِهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ، وَلَا كَذَّابًا فَإِنَّهُ كَالسَّرَابِ يُقَرِّبُ مِنْكَ الْبَعِيدَ وَيُبَاعِدُ عَنْكَ الْقَرِيبَ، وَلَا أَحْمَقَ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرُّكَ، وَلَا قَاطِعَ رَحِمٍ فَإِنَّهُ مَلْعُونٌ فِي كتاب الله. قال تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ 47: 22- 23 وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ تَخَطَّى النَّاسَ حَتَّى يَجْلِسَ فِي حَلْقَةِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، أَنْتَ سَيِّدُ الناس تأتى تخطي حلق أهل العلم وقريش حَتَّى تَجْلِسَ مَعَ هَذَا الْعَبْدِ الْأَسْوَدِ؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: إِنَّمَا يَجْلِسُ الرَّجُلُ حيث ينتفع، وإن العلم يطلب حَيْثُ كَانَ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ مَسْعُودِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؟ فَقُلْتُ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ أُرِيدُ أسأله عن أشياء ينفعنا الله بها ولا منقصة، إِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا مَا يَرْمِينَا بِهِ هَؤُلَاءِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْعِرَاقِ- وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إسحاق عن زر بْنِ عُبَيْدٍ [1] قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَتَى عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَرْحَبًا بِالْحَبِيبِ ابْنِ الْحَبِيبِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بن محمد بن يحيى الصولي: ثنا العلاء ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَبَّلَهُ وَأَقْعَدَهُ إِلَى جنبه، ثم قال:«يولد لا بنى هَذَا ابْنٌ يُقَالُ لَهُ عَلِيٌّ، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ الْعَرْشِ لِيَقُمْ سَيِّدُ الْعَابِدِينَ، فَيَقُومُ هُوَ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ أَكْثَرُ مُجَالَسَتِي مَعَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْهُ، وَكَانَ قَلِيلَ الْحَدِيثِ، وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَحْسَنِهِمْ طَاعَةً، وَأَحَبِّهِمْ إِلَى مَرْوَانَ وَابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ يسمى زَيْنَ الْعَابِدِينَ. وَقَالَ جُوَيْرِيَّةُ بْنُ أَسْمَاءَ: مَا أَكَلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بِقَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِرْهَمًا قَطُّ. رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: بَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِمِائَةِ أَلْفٍ فَكَرِهَ أَنْ يَقْبَلَهَا وَخَافَ أَنْ يَرُدَّهَا، فَاحْتَبَسَهَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ الْمُخْتَارُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ بَعَثَ إِلَيَّ بِمِائَةِ أَلْفٍ فَكَرِهْتُ أَنْ أَقْبَلَهَا وَكَرِهْتُ أَنْ أَرُدَّهَا، فَابْعَثْ مَنْ يَقْبِضُهَا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: يَا ابْنَ عَمٍّ! خُذْهَا فَقَدْ طَيَّبْتُهَا لَكَ، فَقَبِلَهَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: سَادَةُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا الْأَسْخِيَاءُ الْأَتْقِيَاءُ، وَفِي الْآخِرَةِ أَهْلُ الدين وأهل الفضل والعلم الأتقياء، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ عز وجل أَنْ أَرَى الْأَخَ مِنْ إِخْوَانِي فَأَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ الْجَنَّةَ وَأَبْخَلَ عَلَيْهِ بِالدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
[1] لعله زر بن حبيش.
قيل لي فإذا كانت الجنة بيدك كنت بِهَا أَبْخَلَ، وَأَبْخَلَ وَأَبْخَلَ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ عليه السلام بَكَى حَتَّى ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ عَلَى يُوسُفَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَاتَ، وَإِنِّي رَأَيْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يذبحون في غداة واحدة، فترون حُزْنَهُمْ يَذْهَبُ مِنْ قَلْبِي أَبَدًا؟ وَقَالَ عَبْدُ الرزاق: سبكت جَارِيَةٌ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ مَاءً لِيَتَوَضَّأَ فَسَقَطَ الْإِبْرِيقُ مِنْ يَدِهَا عَلَى وَجْهِهِ فَشَجَّهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهَا فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: إِنَّ اللَّهَ يقول وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ 3: 134، فَقَالَ: قَدْ كَظَمْتُ غَيْظِي، قَالَتْ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ 3:
134 فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكِ. فَقَالَتْ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 3: 134 قال: أنت حرة لوجه الله تعالى. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن إبراهيم بن قدامة اللخمي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جلس قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَذَكَرُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَنَالُوا مِنْهُمَا، ثُمَّ ابْتَدَءُوا فِي عُثْمَانَ فقال لهم: أخبرونى أنتم من المهاجرين الأولين الذين أُخْرِجُوا من دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا من الله وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ 59: 8؟ قالوا: لا قال: فأنتم من الذين تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ 59: 9؟ قالوا لا! فقال لهم: أما أنتم فقد أقررتم وشهدتم على أنفسكم أنكم لستم من هؤلاء ولا من هؤلاء، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْفِرْقَةِ الثَّالِثَةِ الذين قال الله عز وجل فيهم وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا 59: 10 الآية، فقوموا عَنِّي لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، وَلَا قَرَّبَ دوركم، أنتم مستهزءون بِالْإِسْلَامِ، وَلَسْتُمْ مِنْ أَهْلِهِ. وَجَاءَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ مَتَى يُبْعَثُ عَلِيٌّ؟ فَقَالَ: يُبْعَثُ وَاللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَهُمُّهُ نَفْسُهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا:
حُدِّثْتُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: اللَّهمّ إِنِّي أَتَصَدَّقُ الْيَوْمَ- أَوْ أَهَبُ عِرْضِي الْيَوْمَ- مَنِ اسْتَحَلَّهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ غُلَامًا سَقَطَ مِنْ يَدِهِ سَفُّودٌ وَهُوَ يَشْوِي شَيْئًا فِي التَّنُّورِ عَلَى رَأْسِ صَبِيٍّ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَقَتَلَهُ، فَنَهَضَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مُسْرِعًا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قال للغلام: إِنَّكَ لَمْ تَتَعَمَّدْ، أَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ شَرَعَ فِي جَهَازِ ابْنِهِ. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِنَصِيبِي مِنَ الذُّلِّ حُمْرَ النَّعَمِ: وَرَوَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُ. وَمَاتَ لِرَجُلٍ وَلَدٌ مُسْرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ فَجَزِعَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ إِسْرَافِهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: إِنَّ مِنْ وَرَاءِ ابْنِكَ خِلَالًا ثَلَاثًا، شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَشَفَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَرَحْمَةَ اللَّهِ عز وجل. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: قَارَفَ الزُّهْرِيُّ ذَنْبًا فَاسْتَوْحَشَ مِنْهُ وَهَامَ عَلَى وَجْهِهِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ لَهُ: يَا زُهْرِيُّ قُنُوطُكَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَنْبِكِ، فقال الزهري: الله أعلم حيث يجعل رسالاته وفي رواية أنه كان أصاب دما حراما خَطَأً فَأَمَرَهُ عَلِيٌّ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَأَنْ يَبْعَثَ الدية إلى أهله. ففعل ذلك. وكان
الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أَعْظَمُ النَّاسِ عَلَيَّ مِنَّةً.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: لَا يَقُولُ رَجُلٌ فِي رَجُلٍ مِنَ الْخَيْرِ مَا لَا يَعْلَمُ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَقُولَ فِيهِ مِنَ الشَّرِّ مَا لَا يَعْلَمُ، وَمَا اصْطَحَبَ اثْنَانِ عَلَى مَعْصِيَةٍ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَفْتَرِقَا عَلَى غَيْرِ طاعة. وذكروا أنه زوج أمه مِنْ مَوْلًى لَهُ وَأَعْتَقَ أَمَةً فَتَزَوَّجَهَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ يَلُومُهُ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً 33: 21 وَقَدْ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ فَتَزَوَّجَهَا، وَزَوَّجَ مَوْلَاهُ زَيْدَ بن حارثة من بنت عمه زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ. قَالُوا: وَكَانَ يَلْبَسُ فِي الشِّتَاءِ خَمِيصَةً مِنْ خَزٍّ بِخَمْسِينَ دِينَارًا، فَإِذَا جَاءَ الصَّيْفُ تَصَدَّقَ بِهَا، وَيَلْبَسُ فِي الصَّيْفِ الثِّيَابَ الْمُرَقَّعَةَ وَدُونَهَا وَيَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ من الرِّزْقِ 7:32. (وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ ذَكَرَهَا الصُّولِيُّ وَالْجُرَيْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ حج في خلافة أبيه وأخيه الْوَلِيدِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ لَمْ يَتَمَكَّنْ حَتَّى نُصِبَ لَهُ مِنْبَرٌ فَاسْتَلَمَ وَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَقَامَ أَهْلُ الشَّامِ حَوْلَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحَجَرِ لِيَسْتَلِمَهُ تَنَحَّى عَنْهُ النَّاسُ إِجْلَالًا لَهُ وَهِيبَةً وَاحْتِرَامًا، وَهُوَ فِي بِزَّةٍ حَسَنَةٍ، وَشَكْلٍ مَلِيحٍ، فَقَالَ أَهْلُ الشَّامِ لِهِشَامٍ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ- استنقاصا به واحتفارا؟ لِئَلَّا يَرْغَبَ فِيهِ أَهْلُ الشَّامِ- فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ- وَكَانَ حَاضِرًا- أَنَا أَعْرِفُهُ، فَقَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ فأشار الْفَرَزْدَقُ يَقُولُ:
هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ
…
وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمُ
…
هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ
إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا
…
إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ
يُنْمَى إِلَى ذُرْوَةِ الْعِزِّ الَّتِي قَصُرَتْ
…
عَنْ نَيْلِهَا عَرَبُ الْإِسْلَامِ وَالْعَجَمُ
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ
…
رُكْنُ الْحَطِيمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ
يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ
…
فَمَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ
بِكَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهَا عَبِقٌ
…
مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِهِ شَمَمُ
مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ نَبْعَتُهُ
…
طَابَتْ عَنَاصِرُهَا وَالْخِيمُ وَالشِّيَمُ
يَنْجَابُ نُورُ الْهُدَى مِنْ نُورِ غُرَّتِهِ
…
كَالشَّمْسِ يَنْجَابُ عَنْ إشراقها الغيم
حَمَّالُ أَثْقَالِ أَقْوَامٍ إِذَا فُدِحُوَا
…
حُلْوُ الشَّمَائِلِ تَحْلُو عِنْدَهُ نَعَمُ
هَذَا ابْنُ فَاطِمَةٍ إِنْ كُنْتَ جَاهِلَهُ
…
بِجَدِّهِ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ قَدْ خُتِمُوا
مَنْ جَدُّهُ دَانَ فَضْلُ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ
…
وَفَضْلُ أُمَّتِهِ دَانَتْ لَهَا الْأُمَمُ
عم البرية بالإحسان فانقشعت
…
عنها الغواية وَالْإِمْلَاقُ وَالظُّلَمُ
كِلْتَا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفْعُهُمَا
…
يَسْتَوْكِفَانِ وَلَا يَعْرُوهُمَا الْعَدَمُ
سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لَا تخشى بوادره
…
يزينه اثنتان الحلم والكرم
لا يخلف الوعد ميمون بغيبته
…
رَحْبُ الْفِنَاءِ أَرِيبٌ حِينَ يَعْتَزِمُ
مِنْ مَعْشَرٍ حبهم دين وبغضهم
…
كفر وقر بهم منجى ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم
…
ويستزاد بِهِ الْإِحْسَانُ وَالنِّعَمُ
مُقَدَّمٌ بَعْدَ ذِكْرِ اللَّهِ ذِكْرُهُمُ
…
فِي كُلِّ حُكْمٍ وَمَخْتُومٌ بِهِ الْكَلِمُ
إِنْ عُدَّ أَهْلُ التُّقَى كَانُوا أَئِمَّتَهُمْ
…
أَوْ قِيلَ مَنْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ قِيلَ هُمُ
لَا يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بُعْدَ غَايَتِهِمْ
…
وَلَا يُدَانِيهِمُ قَوْمٌ وَإِنْ كَرُمُوا
هُمُ الْغُيُوثُ إِذَا مَا أَزْمَةٌ أَزَمَتْ
…
وَالْأُسْدُ أُسْدُ الشَّرَى وَالْبَأْسُ مُحْتَدِمُ
يَأْبَى لَهُمْ أَنْ يَحِلَّ الذَّمُّ سَاحَتَهُمْ
…
خِيمٌ كرام وأيد بالندى هضم
لا ينقص العدم بَسْطًا مِنْ أَكُفِّهِمُ
…
سِيَّانَ ذَلِكَ إِنْ أَثْرَوْا وَإِنْ عَدِمُوا
أَيُّ الْخَلَائِقِ لَيْسَتْ فِي رِقَابِهِمُ
…
لأولية هذا أوله نِعَمُ
فَلَيْسَ قَوْلُكَ مَنْ هَذَا بِضَائِرِهِ
…
الْعُرْبُ تَعْرِفُ مَنْ أَنْكَرْتَ وَالْعَجَمُ
مَنْ يَعْرِفِ اللَّهَ يَعْرِفْ أَوَّلِيَّةَ ذَا
…
فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذَا نَالَهُ الْأُمَمُ
قَالَ: فَغَضِبَ هِشَامٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِحَبْسِ الْفَرَزْدَقِ بِعُسْفَانَ، بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ بَعَثَ إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، فلم يقبلها وَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ مَا قُلْتُ للَّه عز وجل وَنُصْرَةً لِلْحَقِّ، وَقِيَامًا بِحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَلَسْتُ أَعْتَاضُ عَنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ.
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ صِدْقَ نيتك في ذلك، وأقسمت عليك باللَّه لتقبلنها فتقبلها منه ثم جعل يهجو هشاما وكان مما قال فيه:
تحبسني بين المدينة والتي
…
إليها قلوب الناس تهوى مُنِيبُهَا
يُقَلِّبُ رَأْسًا لَمْ يَكُنْ رَأْسَ سَيِّدٍ
…
وَعَيْنَيْنِ حَوْلَاوَيْنِ بَادٍ عُيُوبُهَا
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّتْ به الجنازة يقول هذين البيتين:
نُرَاعُ إِذَا الْجَنَائِزُ قَابَلَتْنَا
…
وَنَلْهُو حِينَ تَمْضِي ذَاهِبَاتِ
كَرَوْعَةِ ثَلَّةٍ لِمُغَارِ سَبْعٍ
…
فَلَمَّا غَابَ عَادَتْ رَاتِعَاتِ
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عبد الله المقري حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ سَيِّدَ الْعَابِدِينَ يُحَاسِبُ نفسه ويناجي ربه: -
يا نفس حتام إلى الدنيا سكونك، وَإِلَى عِمَارَتِهَا رُكُونُكِ، أَمَا اعْتَبَرْتِ بِمَنْ مَضَى مِنْ أَسْلَافِكِ وَمَنْ وَارَتْهُ الْأَرْضُ مِنْ أُلَّافِكِ؟ وَمَنْ فُجِعْتِ بِهِ مِنْ إِخْوَانِكِ، وَنُقِلَ إِلَى الثرى مِنْ أَقْرَانِكِ؟ فَهُمْ فِي بُطُونِ الْأَرْضِ بَعْدَ ظُهُورِهَا، مَحَاسِنُهُمْ فِيهَا بِوَالٍ دَوَاثِرُ.
خَلَتْ دُورُهُمْ مِنْهُمْ وَأَقْوَتْ عِرَاصُهُمْ
…
وَسَاقَتْهُمْ نَحْوَ الْمَنَايَا الْمَقَادِرُ
وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها
…
وضمهم تحت التراب الحفائر
كم خرمت أَيْدِي الْمَنُونِ مِنْ قُرُونٍ بَعْدَ قُرُونٍ، وَكَمْ غيرت الأرض ببلائها، وغيبت في ترابها، ممن عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى الأمارس، ثم رجعت [عنهم إلى عمل أهل الإفلاس: -
وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا مُكِبٌّ مُنَافِسٌ
…
لِخُطَّابِهَا فِيهَا حريص مكاثر
على خطر تمشى وَتُصْبِحُ لَاهِيًا
…
أَتَدْرِي بِمَاذَا لَوْ عَقَلْتَ تُخَاطِرُ
وَإِنَّ امْرَأً يَسْعَى لِدُنْيَاهُ دَائِبًا
…
وَيَذْهَلُ عَنْ أُخْرَاهُ لَا شَكَّ خَاسِرُ
فَحَتَّامَ عَلَى الدُّنْيَا إقبالك؟ وبشهواتها اشْتِغَالُكَ؟ وَقَدْ وَخَطَكَ الْقَتِيرُ، وَأَتَاكَ النَّذِيرُ، وَأَنْتَ عما يراد بك ساه وبلذة يومك وغدك لاه، وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات، وعاينت ما حل بهم من المصيبات،
وَفِي ذِكْرِ هَوْلِ الْمَوْتِ وَالْقَبْرِ وَالْبِلَى
…
عَنِ اللَّهْوِ وَاللَّذَّاتِ لِلْمَرْءِ زَاجِرُ
أَبَعْدَ اقْتِرَابِ الْأَرْبَعِينَ تربص
…
وشيب قذال منذر للكابر
كأنك معنى بما هو ضائر
…
لنفسك عمدا وعن الرشد حائر
انْظُرْ إِلَى الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْمُلُوكِ الْفَانِيَةِ كَيْفَ اختطفتهم عقبان الْأَيَّامُ، وَوَافَاهُمُ الْحِمَامُ، فَانْمَحَتْ مِنَ الدُّنْيَا آثَارُهُمْ، وبقيت فيها أخبارهم، وأضحوا رمما في التراب، إلى يوم الحشر والمآب،
أمسحوا رميما في التراب وعطلت
…
مجالسهم منهم وأخلى مقاصر
وَحَلُّوا بِدَارٍ لَا تَزَاوُرَ بَيْنَهُمْ
…
وَأَنَّى لِسُكَّانِ القبور التزاور
فما أن ترى الا قبورا قَدْ ثَوَوْا بِهَا
…
مُسَطَّحَةً تُسْفِي عَلَيْهَا الْأَعَاصِرُ
كَمْ مِنْ ذِي مَنَعَةٍ وَسُلْطَانٍ وَجُنُودٍ وَأَعْوَانٍ، تَمَكَّنَ مِنْ دُنْيَاهُ، وَنَالَ فِيهَا مَا تَمَنَّاهُ، وبنى فيها القصور والدساكر، وجمع فيها الأموال والذخائر، وملح السراري والحرائر.
فَمَا صَرَفَتْ كَفَّ الْمَنِيَّةِ إِذْ أَتَتْ
…
مُبَادِرَةً تَهْوِي إِلَيْهِ الذَّخَائِرُ
وَلَا دَفَعَتْ عَنْهُ الْحُصُونُ الَّتِي بَنَى
…
وَحَفَّ بِهَا أَنْهَارُهُ وَالدَّسَاكِرُ
وَلَا قَارَعَتْ عَنْهُ الْمَنِيَّةَ حِيلَةٌ
…
وَلَا طَمِعَتْ فِي الذَّبِّ عَنْهُ الْعَسَاكِرُ
أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يُرَدُّ، وَنَزَلَ بِهِ مِنْ قَضَائِهِ مَا لَا يُصَدُّ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ العزيز القهار، قاصم الجبارين، ومبيد المتكبرين، الّذي ذل لعزه كل سلطان، وأباد بقوته كل ديان.
مَلِيكٌ عَزِيزٌ لَا يُرَدُّ قَضَاؤُهُ
…
حَكِيمٌ عَلِيمٌ نافذ الأمر قاهر
عنى كل ذي عز لعزة وجهه
…
فكم من عَزِيزٍ لِلْمُهَيْمِنِ صَاغِرُ
لَقَدْ خَضَعَتْ وَاسْتَسْلَمَتْ وَتَضَاءَلَتْ
…
لِعِزَّةِ ذِي الْعَرْشِ الْمُلُوكُ الْجَبَابِرُ
فَالْبِدَارَ الْبِدَارَ وَالْحِذَارَ الْحِذَارَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَكَايِدِهَا، وَمَا نَصَبَتْ لَكَ مِنْ مَصَايِدِهَا، وَتَحَلَّتْ لَكَ مِنْ زِينَتِهَا، وأظهرت لك من بهجتها، وأبرزت لك من شهواتها، وأخفت عنك من قواتلها وهلكاتها،
وَفِي دُونِ مَا عَايَنْتَ مِنْ فَجَعَاتِهَا
…
إِلَى دفعها داع وبالزهد آمر
فجد ولا تغفل وكن متيقظا
…
فعما قليل يترك الدار عامر
فشمر ولا تفتر فعمرك زَائِلٌ
…
وَأَنْتَ إِلَى دَارِ الْإِقَامَةِ صَائِرُ
وَلَا تطلب الدنيا فان نعيمها
…
وَإِنْ نِلْتَ مِنْهَا غُبَّةً لَكَ ضَائِرُ
فَهَلْ يَحْرِصُ عَلَيْهَا لَبِيبٌ، أَوْ يُسَرُّ بِهَا أَرِيبٌ؟ وَهُوَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ فَنَائِهَا، وَغَيْرُ طَامِعٍ فِي بَقَائِهَا، أَمْ كَيْفَ تَنَامُ عَيْنَا مَنْ يخشى البيات، وتسكن نفس من توقع في جميع أموره الْمَمَاتَ.
أَلَا لَا وَلَكِنَّا نَغُرُّ نُفُوسَنَا
…
وَتَشْغَلُنَا اللَّذَّاتُ عَمَّا نُحَاذِرُ
وَكَيْفَ يَلَذُّ الْعَيْشَ مَنْ هو موقف
…
بِمَوْقِفِ عَدْلٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
كَأَنَّا نَرَى أن لا نشور وأننا
…
سدى مالنا بعد الممات مصادر
وَمَا عَسَى أَنْ يَنَالَ صَاحِبُ الدُّنْيَا مِنْ لَذَّتِهَا وَيَتَمَتَّعُ بِهِ مِنْ بَهْجَتِهَا، مَعَ صُنُوفِ عجائبها وقوارع فجائعها، وكثرة عذابه في مصابها وفي طَلَبِهَا، وَمَا يُكَابِدُ مِنْ أَسْقَامِهَا وَأَوْصَابِهَا وَآلَامِهَا
أما قد نرى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
…
يَرُوحُ عَلَيْنَا صَرْفُهَا وَيُبَاكِرُ
تُعَاوِرُنَا آفَاتُهَا وَهُمُومُهَا
…
وَكَمْ قَدْ تُرَى يَبْقَى لَهَا الْمُتَعَاوِرُ
فَلَا هُوَ مَغْبُوطٌ بِدُنْيَاهُ آمِنٌ
…
وَلَا هُوَ عَنْ تَطْلَابِهَا النَّفْسَ قَاصِرُ
كَمْ قَدْ غَرَّتِ الدُّنْيَا مِنْ مُخْلِدٍ إِلَيْهَا، وَصَرَعَتْ مِنْ مُكِبٍّ عَلَيْهَا، فَلَمْ تُنْعِشْهُ مِنْ عثرته، ولم تنقذه مِنْ صَرْعَتِهِ، وَلَمْ تَشْفِهِ مِنْ أَلَمِهِ، وَلَمْ تبره من سقمه. ولم تخلصه من وصمه.
بل أَوْرَدَتْهُ بَعْدَ عِزٍّ وَمَنْعَةٍ
…
مَوَارِدَ سُوءٍ مَا لَهُنَّ مَصَادِرُ] [1]
فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَا نَجَاةَ وَأَنَّهُ
…
هُوَ الْمَوْتُ لَا يُنْجِيهِ مِنْهُ التَّحَاذُرُ
تَنَدَّمَ إِذْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ نَدَامَةٌ
…
عَلَيْهِ وأبكته الذنوب الكبائر
إذ بَكَى عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَطَايَاهُ، وَتَحَسَّرَ على ما خلف من دنياه، واستغفر حتى لَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِغْفَارُ، وَلَا يُنْجِيهِ الِاعْتِذَارُ، عِنْدَ هول المنية ونزول البلية.
[1] سقط من المصرية.
أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمُومُهُ
…
وَأَبْلَسَ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ المقادر
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كُرْبَةِ الْمَوْتِ فَارِجٌ
…
وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يُحَاذِرُ نَاصِرُ
وَقَدْ جَشَأَتْ خَوْفَ الْمَنِيَّةِ نَفْسُهُ
…
تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللَّهَا وَالْحَنَاجِرُ
هُنَالِكَ خف عواده، وأسلمه أهله وأولاده، وارتفعت البرية بِالْعَوِيلِ، وَقَدْ أَيِسُوا مِنَ الْعَلِيلِ، فَغَمَّضُوا بِأَيْدِيهِمْ عينيه، ومد عند خروج روحه رجليه، وتخلى عند الصديق، والصاحب الشفيق.
فكم موجع يبكى عليه مفجع
…
وَمُسْتَنْجِدٍ صَبْرًا وَمَا هُوَ صَابِرُ
وَمُسْتَرْجِعٍ دَاعٍ له الله مخلصا
…
يعدد منه كل مَا هُوَ ذَاكِرُ
وَكَمْ شَامِتٍ مُسْتَبْشِرٍ بِوَفَاتِهِ
…
وعما قليل للذي صار صائر
فشقت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجع لرزيته إخوانه، ثم أقبلوا على جهازه، وشمروا لا برازه، كأنه لم يكن بينهم العزيز المفدى، ولا الحبيب المبدى.
وحل أحب القوم كان بقربة
…
يَحُثُّ عَلَى تَجْهِيزِهِ وَيُبَادِرُ
وَشَمَّرَ مَنْ قَدْ أحضروه لغسله
…
ووجه لما فاض لِلْقَبْرِ حَافِرُ
وَكُفِّنَ فِي ثَوْبَيْنِ وَاجْتَمَعَتْ لَهُ
…
مُشَيِّعَةً إِخْوَانُهُ وَالْعَشَائِرُ
فَلَوْ رَأَيْتَ الْأَصْغَرَ مِنْ أولاده، وقد غلب الحزن على فؤاده، ويخشى من الجزع عليه، وخضبت الدموع عينيه، وهو يندب أباه ويقول: يا ويلاه وا حرباه: -
لَعَايَنْتَ مِنْ قُبْحِ الْمَنِيَّةِ مَنْظَرًا
…
يُهَالُ لِمَرْآهُ وَيَرْتَاعُ نَاظِرُ
أَكَابِرُ أَوْلَادٍ يَهِيجُ اكْتِئَابُهُمْ
…
إِذَا ما تناساه البنون الأصاغر
وربّة نِسْوَانٍ عَلَيْهِ جَوَازِعٍ
…
مَدَامِعُهُمْ فَوْقَ الْخُدُودِ غَوَازِرُ
ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْ سَعَةِ قَصْرِهِ، إِلَى ضِيقِ قبره، فلما استقر في اللحد وهيئ عليه اللبن، احتوشته أعماله وأحاطت به خطاياه، وضاق ذرعا بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثروا البكاء عَلَيْهِ وَالِانْتِحَابَ، ثُمَّ وَقَفُوا سَاعَةً عَلَيْهِ، وَأَيِسُوا من النظر إليه، وتركوه رهنا بما كسب وطلب
فَوَلَّوْا عَلَيْهِ مُعْوِلِينَ وَكُلُّهُمْ
…
لِمِثْلِ الَّذِي لَاقَى أَخُوهُ مُحَاذِرُ
كَشَاءٍ رِتَاعٍ آمِنِينَ بَدَا لَهَا
…
بِمُدْيَتِهِ بَادِي الذِّرَاعَيْنِ حَاسِرُ
فَرِيعَتْ وَلَمْ تَرْتَعْ قَلِيلًا وَأَجْفَلَتْ
…
فَلَمَّا نَأَى عَنْهَا الَّذِي هُوَ جَازِرُ
عَادَتْ إِلَى مَرْعَاهَا، وَنَسِيَتْ مَا فِي أختها دهاها، أفبأفعال الأنعام اقْتَدَيْنَا؟ أَمْ عَلَى عَادَتِهَا جَرَيْنَا؟
عُدْ إِلَى ذكر المنقول إلى دار البلى، وَاعْتَبِرْ بِمَوْضِعِهِ تَحْتَ الثَّرَى، الْمَدْفُوعِ إِلَى هَوْلِ مَا تَرَى.
ثَوَى مُفْرَدًا فِي لَحْدِهِ وَتَوَزَّعَتْ
…
مواريثه أولاده والأصاهر
وَأَحْنَوْا عَلَى أَمْوَالِهِ يَقْسِمُونَهَا
…
فَلَا حَامِدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهَا وَشَاكِرُ
فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا وَيَا سَاعِيًا لَهَا
…
وَيَا آمِنًا مِنْ أَنْ تَدُورَ الدَّوَائِرُ
كَيْفَ أَمِنْتَ هَذِهِ الْحَالَةَ وَأَنْتَ صَائِرٌ إِلَيْهَا لا محالة؟ أم كيف ضيعت حياتك وهي مطيتك إلى مماتك؟ أم كيف تشبع من طعامك وأنت منتظر حمامك؟ أم كيف تهنأ بالشهوات، وهي مطية الآفات
وَلَمْ تَتَزَوَّدْ لِلرَّحِيلِ وَقَدْ دَنَا
…
وَأَنْتَ عَلَى حال وشيك مُسَافِرُ
فَيَا لَهْفَ نَفْسِي كَمْ أُسَوِّفُ تَوْبَتِي
…
وَعُمْرِيَ فَانٍ وَالرَّدَى لِي نَاظِرُ
وَكُلُّ الَّذِي أَسْلَفْتُ فِي الصُّحْفِ مُثْبَتٌ
…
يُجَازِي عَلَيْهِ عَادِلُ الْحُكْمِ قَادِرُ
فَكَمْ تُرَقِّعُ بِآخِرَتِكَ دُنْيَاكَ، وَتَرْكَبُ غيك وهواك، أَرَاكَ ضَعِيفَ الْيَقِينِ، يَا مُؤْثِرَ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ أَبِهَذَا أَمَرَكَ الرَّحْمَنُ؟ أَمْ عَلَى هَذَا نزل القرآن؟ أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب، وشر المآب أما تذكر حال من جمع وثمر، ورفع البناء وزخرف وعمر، أما صار جمعهم بورا، ومساكنهم قبورا:
تُخَرِّبُ مَا يَبْقَى وَتَعْمُرُ فَانِيًا
…
فَلَا ذَاكَ مَوْفُورٌ وَلَا ذَاكَ عَامِرُ
وَهَلْ لَكَ إِنْ وَافَاكَ حَتْفُكَ بَغْتَةً
…
وَلَمْ تَكْتَسِبْ خَيْرًا لَدَى اللَّهِ عَاذِرُ
أَتَرْضَى بِأَنْ تَفْنَى الْحَيَاةُ وَتَنْقَضِيَ
…
وَدِينُكَ مَنْقُوصٌ وَمَالُكَ وَافِرُ
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّارِيخِ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، زَيْنُ الْعَابِدِينَ، فَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ- فِي أَوَّلِهَا عَنْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْبَقِيعِ، وَدُفِنَ بِهِ، قَالَ الفلاس: مات على بن الحسين وسعيد بن المسيب وَعُرْوَةُ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَنَةَ أربع وتسعين، وقال بعضهم: توفى سنة ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَأَغْرَبَ الْمَدَائِنِيُّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَاللَّهُ أعلم انتهى ما ذكره المؤلف [من ترجمة على بن الحسين وقد رأيت له كلاما متفرقا وهو من جيد الحكمة، فأحببت أن أذكره لعل الله أن ينفع به من وقف عليه:
قال حفص بن غياث عن حجاج عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قال: إن الجسد إذا لم يمرض أشر وبطر، ولا خير في جسد يأشر ويبطر. وقال أبو بكر بن الأنباري: حدثنا أحمد بن الصلت حدثنا قاسم بن إبراهيم العلويّ حدثنا أبى عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال على بن الحسين: فقد الأحبة غربة. وكان يقول: اللَّهمّ إني أعوذ بك أن تحسن في لوامع العيون علانيتي، وتقبح في خفيات الغيوب سريرتي، اللَّهمّ كما أسأت وأحسنت إلى، فإذا عدت فعد إلى. اللَّهمّ ارزقني مواساة من قترت عليه رزقك بما وسعت على من فضلك. وقال لابنه: يا بنى اتخذ ثوبا للغائط فانى رأيت الذباب يقع على الشيء ثم يقع على الثوب. ثم انتبه فقال: وما كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ إِلَّا ثوب واحد، فرفضه. وعن أبى حمزة الثمالي قال: أتيت باب على بن الحسين فكرهت أن أصوت فقعدت على
الباب حتى خرج فسلمت عليه ودعوت له فرد على السلام ودعا لي، ثم انتهى إلى حائط فقال: يا حمزة ترى هذا الحائط؟ قلت: نعم! قال: فانى اتكأت عليه يوما وأنا حزين فإذا رجل حسن الوجه حسن الثياب ينظر في تجاه وجهي، ثم قال: يا على بن الحسين! ما لي أراك كئيبا حزينا على الدنيا! فهي رزق حاضر يأخذ منها البر والفاجر. فقلت: ما عليها أحزن لأنها كما تقول، فقال على الآخرة؟
فهي وعد صادق، بحكم فيها ملك قادر، فقلت: ما على هذا أحزن لأنه كما تقول. فقال: فعلام حزنك؟ فقلت: ما أتخوف من الفتنة- يعنى فتنة ابن الزبير- فقال لي: يا على! هل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه؟ قلت: لا! قال ويخاف الله فلم يكفه؟ قلت: لا! ثم غاب عنى فقيل لي: يا على إن هذا الخضر الّذي جاءك لفظ الخضر مزاد فيه من بعض الرواة.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الخضرى حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عن عمر بن حارث. قال: لما مات على بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره. فقالوا:
ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة. وقال ابن عائشة:
سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات على بن الحسين.
وروى عبد الله بن حنبل عن ابن إشكاب عن محمد بن بشر عن أبى المنهال الطائي أن على بن الحسين كان إذا ناول المسكين الصدقة قبله ثم ناوله. وقال الطبري: حدثنا يحيى بن زكريا الغلابي حدثنا العتبى حدثني أبى. قال قال على بن الحسين- وكان من أفضل بنى هاشم الأربعة- يا بنى اصبر على النوائب ولا تتعرض للحقوق، ولا تخيب أخاك إلا في الأمر الّذي مضرته عليك أكثر من منفعته لك. وروى الطبراني باسناده عنه: أنه كان جالسا في جماعة فسمع داعية في بيته فنهض فدخل منزله ثم رجع إلى مجلسه، فقيل له: أمن حدث كانت الداعية؟ قال: نعم! فعزوه وتعجبوا من صبره، فقال: إنا أهل بيت نطيع الله عز وجل فيما نحبه، ونحمده على ما نكره. وروى الطبراني عنه قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ لِيَقُمْ أهل الفضل فيقوم ناس من الناس فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة. فتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة. فيقولون قبل الحساب؟ قالوا:
نعم! قالوا: من أنتم؟ قالوا نحن أهل الفضل، قالوا: وما كان فضلكم؟ قالوا: كنا إذا جهل علينا حملنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا غفرنا، قالوا لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادى مناد: ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس فيقال لهم انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم مثل ذلك فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: فما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معصية الله، وصبرناها على البلاء. فقالوا لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادى المنادي: ليقم جيران الله في داره! فيقوم ناس من الناس وهم قليل، فيقال لهم: