الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِالْجِزْيَةِ فَنَصَبُوا لَهُ الْحَرْبَ وَقَاتَلُوهُ، ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التُّرْكِ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، أَطَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَسْطَهَا وَشَرْحَهَا فَوْقَ الْحَاجَةِ. وَفِيهَا أَرْسَلَ أمير المؤمنين هشام بن عُبَيْدَةَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ مُتَوَلِّيًا عَلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَ جَهَّزَ ابْنَهُ وَأَخَاهُ فِي جَيْشٍ فَالْتَقَوْا مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرُوا بِطْرِيقَهُمْ وَانْهَزَمَ بِاقِيهِمْ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا. وفيها افتتح مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ حِصْنَيْنِ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَغَنِمَ غَنَائِمَ جَمَّةً. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَلَى الْعِرَاقِ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ، وَعَلَى خراسان أشرس السُّلَمِيُّ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَرِيرٌ الشَّاعِرُ
وَهُوَ جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفَى وَيُقَالُ ابن عَطِيَّةَ بْنِ الْخَطَفَى وَاسْمُ الْخَطَفَى حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمِ بْنِ مُرِّ بْنِ طابخة بن الياس ابن مضر بن نزار، أبو حرزة الشَّاعِرُ الْبَصْرِيُّ، قَدِمَ دِمَشْقَ مِرَارًا، وَامْتَدَحَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْخُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِ وَوَفَدَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ فِي عَصْرِهِ من الشعراء الذين يقارنونه الْفَرَزْدَقُ وَالْأَخْطَلُ، وَكَانَ جَرِيرٌ أَشْعَرَهُمْ وَأَخْيَرَهُمْ، قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ أَشْعَرُ الثَّلَاثَةِ، قَالَ ابْنُ دريد ثنا الاشناندانى ثنا الثوري عن أبى عبيدة عن عثمان البنيّ قَالَ: رَأَيْتُ جَرِيرًا وَمَا تُضَمُّ شَفَتَاهُ مِنَ التسبيح، فقلت: وما ينفعك هذا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّه وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وللَّه الْحَمْدُ إِنَّ الحسنات يذهبن السيئات، وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ حَقٌّ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخْلُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَمْتَدِحُهُ بِقَصِيدَةٍ وَعِنْدَهُ الشُّعَرَاءُ الثَّلَاثَةُ، جَرِيرٌ وَالْفَرَزْدَقُ وَالْأَخْطَلُ، فَلَمْ يَعْرِفْهُمُ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ عَبْدُ الملك للأعرابى: هل تعرف أهجى بيت قالته العرب فِي الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَوْلُ جَرِيرٍ:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ
…
فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا
فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، فَهَلْ تَعْرِفُ أَمْدَحَ بَيْتٍ قِيلَ فِي الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَوْلُ جَرِيرٍ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا
…
وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحٍ
فَقَالَ: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ، فَهَلْ تَعْرِفُ أَرَقَّ بَيْتٍ قِيلَ فِي الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَوْلُ جَرِيرٍ:
إِنَّ الْعُيُونَ الَّتِي فِي طَرْفِهَا مَرَضٌ
…
قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلَانَا
يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حَتَّى لَا حَرَاكَ بِهِ
…
وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ أَرْكَانًا
فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، فَهَلْ تَعْرِفُ جَرِيرًا؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَإِنِّي إِلَى رُؤْيَتِهِ لَمُشْتَاقٌ، قَالَ: فَهَذَا جَرِيرٌ وَهَذَا الفرزدق وهذا الأخطل، فَأَنْشَأَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: -
فَحَيَّا الْإِلَهُ أَبَا حَرْزَةٍ
…
وَأَرْغَمَ أَنْفَكَ يَا أخطل
وجدّ الفرزدق اتعس به
…
ورق خَيَاشِيمَهُ الْجَنْدَلُ
فَأَنْشَأَ الْفَرَزْدَقُ يَقُولُ:
يَا أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفًا أَنْتَ حَامِلُهُ
…
يَا ذَا الْخَنَا وَمَقَالِ الزُّورِ وَالْخَطَلِ
مَا أَنْتَ بِالْحَكَمِ التُّرْضَى حُكُومَتُهُ
…
وَلَا الْأَصِيلِ وَلَا ذِي الرَّأْيِ وَالْجَدَلِ
ثُمَّ أَنْشَأَ الْأَخْطَلُ يَقُولُ: -
يَا شَرَّ مَنْ حَمَلَتْ سَاقٌ عَلَى قَدَمٍ
…
مَا مِثْلُ قَوْلِكَ فِي الْأَقْوَامِ يُحْتَمَلُ
إِنَّ الْحُكُومَةَ لَيْسَتْ فِي أَبِيكَ وَلَا
…
فِي مَعْشَرٍ أَنْتَ مِنْهُمْ إِنَّهُمْ سفل
فقام جرير مغضبا وقال: -
أَتَشْتُمَانِ سَفَاهًا خَيْرَكُمْ حَسَبًا
…
فَفِيكُمَا- وَإِلَهِي- الزُّورُ وَالْخَطَلُ
شَتَمْتُمَاهُ عَلَى رَفْعِي وَوَضْعِكُمَا
…
لَا زِلْتُمَا فِي سَفَالٍ أَيُّهَا السَّفَلُ
ثُمَّ وَثَبَ جَرِيرٌ فَقَبَّلَ رَأْسَ الْأَعْرَابِيِّ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ جائزتي له، وكانت خمسة آلاف، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَلَهُ مِثْلُهَا مِنْ مَالِي، فَقَبَضَ الْأَعْرَابِيُّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَخَرَجَ. وَحَكَى يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ أَنَّ جَرِيرًا دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ مَعَ وَفْدِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ فَأَنْشَدَهُ مَدِيحَهُ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا
…
وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
فَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ نَاقَةٍ وَثَمَانِيَةً مِنَ الرعاء أَرْبَعَةً مِنَ النُّوبَةِ وَأَرْبَعَةً مِنَ السَّبْيِ الَّذِينَ قَدِمَ بِهِمْ مِنَ الصُّغْدِ قَالَ جَرِيرٌ: وَبَيْنَ يدي عبد الملك جامان مِنْ فِضَّةٍ قَدْ أُهْدِيَتْ لَهُ، وَهُوَ لَا يَعْبَأُ بِهَا شَيْئًا، فَهُوَ يَقْرَعُهَا بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَحْلَبَ، فَأَلْقَى إلى واحدا مِنْ تِلْكَ الْجَامَاتِ، وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْحَجَّاجِ أعجبه إكرام أمير المؤمنين له فأطلق الحجاج لَهُ خَمْسِينَ نَاقَةً تَحْمِلُ طَعَامًا لِأَهْلِهِ.
وَحَكَى نِفْطَوَيْهِ أَنَّ جَرِيرًا دَخَلَ يَوْمًا عَلَى بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ وَعِنْدَهُ الْأَخْطَلُ، فَقَالَ بِشْرٌ لِجَرِيرٍ:
أَتَعْرِفُ هَذَا؟ قَالَ: لَا، وَمَنْ هَذَا أَيُّهَا الْأَمِيرُ؟ فَقَالَ: هَذَا الْأَخْطَلُ، فَقَالَ الْأَخْطَلُ: أَنَا الّذي قذفت عِرْضَكَ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَآذَيْتُ قَوْمَكَ، فَقَالَ جَرِيرٌ: أَمَّا قَوْلُكَ شَتَمْتُ عِرْضَكَ فَمَا ضَرَّ الْبَحْرَ أَنْ يَشْتُمَهُ مَنْ غَرِقَ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُكَ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، فَلَوْ تَرَكْتَنِي أَنَامُ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ، وَأَمَّا قَوْلُكَ وَآذَيْتُ قَوْمَكَ فَكَيْفَ تُؤْذِي قَوْمًا أَنْتَ تُؤَدِّي الْجِزْيَةَ إِلَيْهِمْ؟ وَكَانَ الْأَخْطَلُ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ الْمُتَنَصِّرَةِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَ مثواه، وهو الّذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ
…
مِنْ غَيْرِ سيف ودم مهراق
وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعنى الاستيلاء، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قول الجهمية علوا كبيرا، فإنه إنما يقال استوى على الشيء إذا كان ذلك الشيء عاصيا عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء بشر على العراق، واستيلاء الملك على المدينة بعد عصيانها عليه، وعرش الرب لم يكن ممتنعا عليه نفسا واحدا، حتى يقال استوى عليه، أو معنى الاستواء الاستيلاء، ولا تجد أضعف من حجج الجهمية، حتى أداهم الإفلاس من الحجج إلى بيت هذا النصراني المقبوح وليس فيه حجة والله أعلم.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَفَدَ إِلَيْهِ الشُّعَرَاءُ فَمَكَثُوا بِبَابِهِ أَيَّامًا لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِمْ، فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ وَهَمُّوا بِالرُّجُوعِ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَمَرَّ بِهِمْ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ فَقَالَ لَهُ جَرِيرٌ: -
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُرْخِي عِمَامَتَهُ
…
هَذَا زَمَانُكَ فَاسْتَأْذِنْ لنا عمرا
فدخل ولم يذكر لعمر مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْئًا، فَمَرَّ بِهِمْ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ فَقَالَ لَهُ جَرِيرٌ مُنْشِدًا:
يَا أَيُّهَا الراكب المرخى مَطِيَّتَهُ
…
هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَدْ مَضَى زَمَنِي
أَبْلِغْ خَلِيفَتَنَا إِنْ كُنْتَ لَاقِيَهُ
…
أَنِّي لَدَى الْبَابِ كَالْمَصْفُودِ فِي قَرَنِ
لَا تَنْسَ حَاجَتَنَا لَاقَيْتَ مَغْفِرَةً
…
قَدْ طَالَ مُكْثِيَ عَنْ أَهْلِي وَعَنْ وَطَنِي
فَدَخَلَ عَدِيٌّ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الشُّعَرَاءُ بِبَابِكَ وَسِهَامُهُمْ مَسْمُومَةٌ وَأَقْوَالُهُمْ نَافِذَةٌ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يا عدي، ما لي وَلِلشُّعَرَاءِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ يَسْمَعُ الشِّعْرَ وَيَجْزِي عَلَيْهِ، وَقَدْ أَنْشَدَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ مَدْحَهُ فَأَعْطَاهُ حُلَّةً، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتَرْوِي مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَنْشَدَهُ: -
رَأَيْتُكَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا
…
نَشَرْتَ كِتَابًا جَاءَ بِالْحَقِّ مُعْلَمَا
شَرَعْتَ لَنَا دِينَ الْهُدَى بَعْدَ جَوْرِنَا
…
عَنِ الْحَقِّ لَمَّا أَصْبَحَ الْحَقُّ مُظْلِمَا
وَنَوَّرْتَ بِالْبُرْهَانِ أَمْرًا مُدَلَّسًا
…
وَأَطْفَأْتَ بِالْقُرْآنِ نَارًا تَضَرَّمَا
فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا
…
وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا كَانَ قَدَّمَا
أَقَمْتَ سَبِيلَ الْحَقِّ بَعْدَ اعْوِجَاجِهِ
…
وَكَانَ قَدِيمًا رُكْنُهُ قَدْ تَهَدَّمَا
تَعَالَى عُلُوًّا فَوْقَ عَرْشِ إِلَهُنَا
…
وكان مكان الله أعلا وأعظما
فقال عمر: مَنْ بِالْبَابِ مِنْهُمْ؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، فَقَالَ أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
ثُمَّ نَبَّهْتُهَا فَهَبَّتْ كِعَابًا
…
طَفْلَةٌ مَا تَبِينُ رَجْعَ الكلام
ساعة ثم إنها بعد قالت
…
ويلنا قَدْ عَجِلْتَ يَا ابْنَ الْكِرَامِ
أَعَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ جِئْتَ تُسْرِي
…
تَتَخَطَّى إِلَى رُءُوسِ النِّيَامِ
ما تجشمت ما تريد من الأمر
…
ولا حيت طَارِقًا لِخِصَامِ
فَلَوْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ إِذْ فَجَرَ كَتَمَ وَسَتَرَ عَلَى نَفْسِهِ، لَا يَدْخُلُ وَاللَّهِ أَبَدًا، فَمَنْ بِالْبَابِ سِوَاهُ؟ قَالَ:
هَمَّامُ بن غالب- يعنى الفرزدق- فقال عمر: أو ليس هو الّذي يقول في شعره:
هما دليانى مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً
…
كَمَا انْقَضَّ بَازٍ أَقْتَمُ الرِّيشِ كَاسِرُهْ
فَلَمَّا اسْتَوَتْ رِجْلَايَ بِالْأَرْضِ قَالَتَا
…
أَحَيٌّ يُرَجَّى أَمْ قَتِيلٌ نُحَاذِرُهْ
لَا يَطَأُ وَاللَّهِ بِسَاطِي وَهُوَ كَاذِبٌ، فَمَنْ سِوَاهُ بِالْبَابِ؟ قال: الأخطل، قال: أو ليس هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
وَلَسْتُ بِصَائِمٍ رَمَضَانَ طَوْعًا
…
ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عيسا بكور
…
إِلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ لِلنَّجَاحِ
وَلَسْتُ بِزَائِرٍ بَيْتًا بَعِيدًا
…
بِمَكَّةَ أَبْتَغِي فِيهِ صَلَاحِي
وَلَسْتُ بِقَائِمٍ كَالْعَيْرِ أَدْعُو
…
قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ
وَلَكِنِّي سَأَشْرَبُهَا شَمُولًا
…
وَأَسْجُدُ عِنْدَ مُنْبَلَجِ الصَّبَاحِ
وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ كَافِرٌ أَبَدًا، فَهَلْ بِالْبَابِ سِوَى مَنْ ذَكَرْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ الْأَحْوَصُ، قَالَ:
أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ سَيِّدِهَا
…
يَفِرُّ مِنِّي بِهَا وَأَتْبَعُهُ
فَمَا هُوَ دُونَ مَنْ ذَكَرْتَ، فَمَنْ هَاهُنَا غَيْرُهُ؟ قَالَ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: الَّذِي يَقُولُ: -
أَلَا لَيْتَنَا نَحْيَا جَمِيعًا وَإِنْ نَمُتْ
…
يوافق في الموتى خريجى خريجها
فَمَا أَنَا فِي طُولِ الْحَيَاةِ بِرَاغِبٍ
…
إِذَا قِيلَ قَدْ سُوِّيَ عَلَيْهَا صَفِيحُهَا
فَلَوْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ تَمَنَّى لِقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا لِيَعْمَلَ بذلك صالحا ويتوب، وَاللَّهِ لَا يُدْخِلُ عَلَيَّ أَبَدًا، فَهَلْ بِالْبَابِ أحد سوى ذلك؟ قلت: جَرِيرٌ، قَالَ أَمَا إِنَّهُ الَّذِي يَقُولُ:
طَرَقَتْكَ صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا
…
حِينَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلَامِ
فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَأْذَنْ لِجَرِيرٍ، فأذن له فدخل على عمر وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا
…
جَعَلَ الْخِلَافَةَ لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ
وَسِعَ الْخَلَائِقَ عَدْلُهُ وَوَفَاؤُهُ
…
حَتَّى ارْعَوى وَأَقَامَ مَيْلَ الْمَائِلِ
إِنِّي لَأَرْجُوَ مِنْكَ خَيْرًا عَاجِلًا
…
وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ العاجل
فقال له: وَيْحَكَ يَا جَرِيرُ، اتَّقِ اللَّهَ فِيمَا تَقُولُ، ثُمَّ إِنَّ جَرِيرًا اسْتَأْذَنَ عُمَرَ فِي الْإِنْشَادِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَلَمْ
يَنْهَهُ، فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً طَوِيلَةً يَمْدَحُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا جَرِيرُ لَا أَرَى لَكَ فيما هَاهُنَا حَقًّا، فَقَالَ: إِنِّي مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ، قال: إنا ولينا هذا الأمر ونحن لا تملك إِلَّا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَخَذَتْ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ مِائَةً وَابْنُهَا مِائَةً وَقَدْ بَقِيَتْ مِائَةٌ، فَأَمَرَ له بها، فخرج عَلَى الشُّعَرَاءِ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا جَرِيرُ؟ فَقَالَ:
مَا يَسُوءُكُمْ، خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ يُعْطِي الْفُقَرَاءَ وَيَمْنَعُ الشُّعَرَاءَ وَإِنِّي عَنْهُ لَرَاضٍ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
رَأَيْتُ رُقَى الشَّيْطَانِ لَا تَسْتَفِزُّهُ
…
وَقَدْ كَانَ شَيْطَانِي مِنَ الْجِنِّ رَاقِيَا
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيمَا حَكَاهُ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ قَالَتْ جَارِيَةٌ لِلْحَجَّاجِ بْنِ يوسف: إِنَّكَ تُدْخِلُ هَذَا عَلَيْنَا، فَقَالَ: إِنَّهُ مَا علمت عَفِيفًا، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَلَيْتِنِي وَإِيَّاهُ سَتَرَى مَا يَصْنَعُ، فَأَمَرَ بِإِخْلَائِهَا مَعَ جَرِيرٍ في مكان يراهما الحجاج ولا يريانه، وَلَا يَشْعُرُ جَرِيرٌ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ:
يَا جَرِيرُ، فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: هَا أَنَا ذَا، فَقَالَتْ: أَنْشِدْنِي مِنْ قَوْلِكَ كَذَا وكذا- لشعر فيه رقة- فَقَالَ:
لَسْتُ أَحْفَظُهُ وَلَكِنْ أَحْفَظُ كَذَا وَكَذَا- وَيُعْرِضُ عَنْ ذَاكَ وَيُنْشِدُهَا شِعْرًا فِي مَدْحِ الحجاج- فقالت:
لست أريد هَذَا، إِنَّمَا أُرِيدُ كَذَا وَكَذَا- فَيُعْرِضُ عَنْ ذَاكَ وَيُنْشِدُهَا شِعْرًا فِي مَدْحِ الْحَجَّاجِ- فَقَالَتْ:
لست أريد هَذَا، إِنَّمَا أُرِيدُ كَذَا وَكَذَا فَيُعْرِضُ عَنْ ذاك وينشدها في الْحَجَّاجِ- حَتَّى انْقَضَى الْمَجْلِسُ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: للَّه دَرُّكَ، أَبَيْتَ إِلَّا كَرَمًا وَتَكَرُّمًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَنْشَدْتُ أَعْرَابِيًّا بَيْتًا لِجَرِيرٍ الْخَطَفَى:
أَبُدِّلَ اللَّيْلُ لَا تَجْرِي كَوَاكِبُهُ
…
أَوْ طَالَ حَتَّى حَسِبْتُ النَّجْمَ حَيْرَانَا
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إِنَّ هَذَا حَسَنٌ فِي مَعْنَاهُ وَأَعُوذُ باللَّه مِنْ مِثْلِهِ، وَلَكِنِّي أَنْشُدُكَ فِي ضِدِّهِ مِنْ قَوْلِي
وَلَيْلٍ لَمْ يُقَصِّرْهُ رُقَادٌ
…
وَقَصَّرَهُ لَنَا وَصْلُ الْحَبِيبِ
نَعِيمُ الْحُبِّ أَوْرَقَ فِيهِ
…
حَتَّى تَنَاوَلْنَا جَنَاهُ مِنْ قِرِيبِ
بِمَجْلِسِ لَذَّةٍ لَمْ نَقْفِ فِيهِ
…
عَلَى شكوى ولا عيب الذنوب
فخشينا أَنْ نُقَطِّعَهُ بِلَفْظٍ
…
فَتَرْجَمَتِ الْعُيونُ عَنِ الْقُلُوبِ [1]
فَقُلْتُ لَهُ: زِدْنِي، قَالَ: أَمَّا مِنْ هَذَا فَحَسْبُكَ وَلَكِنْ أُنْشِدُكَ غَيْرَهُ فَأَنْشَدَنِي:
وَكُنْتُ إِذَا عَقَدْتُ حِبَالَ قَوْمٍ
…
صَحِبْتُهُمْ وَشِيمَتِيَ الْوَفَاءُ
فَأُحْسِنُ حِينَ يُحْسِنُ مُحْسِنُوهُمْ
…
وَأَجْتَنِبُ الْإِسَاءَةَ إِنْ أَسَاءُوا
أَشَاءُ سِوَى مَشِيئَتِهِمْ فَآتِي
…
مَشِيئَتَهُمْ وَأَتْرُكُ مَا أَشَاءُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ جَرِيرٌ أَشْعَرَ مِنَ الْفَرَزْدَقِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَفْخَرُ بَيْتٍ قَالَهُ جَرِيرٌ:
إِذَا غَضِبَتْ عَلَيْكَ بَنُو تَمِيمٍ حَسِبْتَ النَّاسَ كُلَّهُمُ غِضَابَا قَالَ وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ: مَنْ أَشْعَرُ النَّاسِ؟ فَأَخَذَ بِيَدِهِ وَأَدْخَلَهُ عَلَى ابنه، وإذا هو يرتضع من ثدي
[1] في هذه الأبيات تحريف، ولم نقف عليها في مرجع آخر.