المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌كتاب الطلاق الطلاق في اللغة: حل الوثاق، مشتق - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ٨

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌كتاب الطلاق الطلاق في اللغة: حل الوثاق، مشتق

بسم الله الرحمن الرحيم

‌كتاب الطلاق

الطلاق في اللغة: حل الوثاق، مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك، وفلان طلق اليد بالخير، أي كثير البذل. وفي الشرع: حل عقدة التزويج (أ). وهو موافق لبعض مدلوله اللغوي، قال إمام الحرمين (1): هو لفظ جاهلي ورد الشرع بتقريره. وطَلقت المرأة بفتح الطاء وضم اللام -وبفتحها أيضًا- وهو أفصح، وبضم الطاء وكسر اللام المثقلة، فإن خففت فهو خاص بالولادة، والمضارع فيهما (ب) بضم اللام، والمصدر في الولادة: طَلْقًا ساكنة اللام، فهي طالق فيهما.

وهو ينقسم إلى حرام ومكروه وواجب ومندوب و (جـ) جائز. أما (د) الأول: فهو الطلاق البدعي، والثاني: إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال، والثالث: إذا كانت غير عفيفة، وعند البعض أن ذلك مثال للمندوب، وأن الواجب في صورة الشقاق بينهما ورأى ذلك الحكمان، والرابع: قال النووي (2): لا

(أ) زاد في جـ: فقط.

(ب) في جـ: فيه.

(جـ) في جـ: أو.

(د) ساقطة من: جـ.

_________

(1)

الفتح 9/ 346.

(2)

صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 61. وكلام الإمام النووي إنما هو عن الطلاق الجائز. وقد وقع هنا خلط في تمثيل نوع من أنواع الطلاق يعرف صوابه من شرح النووي 10/ 61، 62، والفتح 9/ 346، والله أعلم.

ص: 5

يوجد مثاله. وصوّره غيره بما إذا كان لا يريدها ولا تطيب نفسه أن يتحمل مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع، فقد صرح الجويني (1)(أأن الطلاق أ) في هذه الصورة لا يكره.

883 -

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الحاكم، ورجح أبو حاتم إرساله (2).

أخرجوه (ب) من حديث محارب بن دثار عن ابن عمر، [وأخرجه](جـ) أبو داود والبيهقي (3) مرسلًا ليس فيه ابن عمر، ورجح أبو حاتم والدارقطني في "العلل"(4) والبيهقي المرسل، وأورده ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(5) بإسناد ابن ماجه، وضعفه بعبيد الله بن الوليد [الوصَّافي](د)، وهو ضعيف (6)،

(أ- أ) ساقط من: جـ.

(ب) في جـ: أخرجه.

(جـ) في الأصل: وأخرجوه.

(د) في الأصل، جـ: الوصالي. وترجمته في تهذيب الكمال 19/ 173 - 176.

_________

(1)

الفتح 9/ 346.

(2)

أبو داود، كتاب الطلاق، باب كراهية الطلاق 2/ 261 ح 2178، وابن ماجه، كتاب الطلاق 1/ 650 ح 2018، والحاكم، كتاب الطلاق 2/ 196، وينظر علل ابن أبي حاتم 1/ 431 ح 1297.

(3)

أبو داود 2/ 261 ح 2177، والبيهقي 7/ 322.

(4)

العلل 4 / ق 51 - مخطوط.

(5)

العلل المتناهية 2/ 149 ح 1056.

(6)

هو أبو إسماعيل الكوفي ضعفه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم. ينظر تهذيب الكمال 19/ 173.

ص: 6

ولكنه لم ينفرد به -فقد تابعه معرِّف بن واصل (1) - إلا أن المنفرد عنه بوصله محمَّد بن خالد الوهْبيُّ (2). ورواه الدارقطني (3) من حديث مكحول عن معاذ بن جبل بلفظ: "ما خلق الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق". وإسناده ضعيف ومنقطع أيضًا.

الحديث فيه دلالة على أن ثَمَّ أشياء من الحلال مبغوضة إلى الله تعالى، وأن الطلاق أبغضها، فيكون البغض مجازا عن كون ذلك لا ثواب ولا [قربة من فعله](أ)، وحق العاقل أن يختار الأعمال التي تكون وسيلة إلى نيل رضا الله تعالى مبعدة عن المساوئ، وقد مثَّل بعضهم للمبغوض (5) من الحلال: الصلاة المكتوبة في غير المسجد لغير عذر. والله أعلم.

884 -

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "مُرْه فلْيراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهُر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمسّ، فتلك العِدّة التي أمر الله أن تُطلَّق

(أ) في الأصل: في قربة في فعاله.

(ب) في جـ: للمتعوض.

_________

(1)

في حديث الحاكم المتقدم في الصفحة السابقة.

(2)

محمَّد بن خالد بن محمَّد الوهبي الحمصي، صدوق. التقريب ص 476، وينظر تهذيب الكمال 25/ 145.

(3)

الدارقطني 4/ 35 ح 94.

ص: 7

لها النساء". متفق عليه (1). وفي رواية لمسلم (2): "[مُره](أ) فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا أو حاملًا". وفي أخرى للبخاري (3):"وحُسبت تطليقة". وفي رواية لمسلم (4): قال ابن عمر: أمَّا أنت (5) طلقتها واحدة أو اثنتين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أراجعها، ثم أُمسكَها حتى تحيض حيضة أخرى، [ثم أمهلها حتى تطهر، ثم أطلقَها قبل أن أمسها](ب)، وأما أنت طلقتها ثلاثًا، فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك.

وفي رواية أخرى (6): قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: فرَدَّها عليَّ، ولم يرها (جـ) شيئًا وقال:"إذا طهَرتْ فليطلق أو ليمسك".

قوله: طلق امرأته. قال النووي (7) نقلًا عن ابن باطيش: اسمها آمنة

(أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج وبلوغ المرام ص 230.

(ب) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج وبلوغ المرام ص 231.

(جـ) في جـ: بردها.

_________

(1)

البخاري، كتاب الطلاق، باب قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} 9/ 345، 346 ح 5251، ومسلم، كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض 2/ 1093 ح 1471/ 1.

(2)

مسلم 2/ 1095 ح 1471/ 5.

(3)

البخاري 9/ 351 ح 5253.

(4)

مسلم 2/ 1094 ح 1471/ 3.

(5)

قال القاضي عياض: هذا مشكل، قال: قيل: إنه بفتح الهمزة من (أما) أي: أما إن كنت

صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 65، 66.

(6)

أبو داود، كتاب الطلاق، باب طلاق السنة 2/ 262، 263 ح 218.

(7)

تهذيب الأسماء واللغات 2/ 373 - القسم الأول. وفيه أن اسمها أمية. ونقل الحافظ في الفتح 9/ 346 عن النووي أنها آمنة.

ص: 8

بنت غفار. قال المصنف رحمه الله (1): [ومستند](أ) ابن باطيش في "أحاديث قتيبة" جمع سعيد [العيَّار](ب) بسند فيه ابن لهيعة، أنها آمنة بنت عمار -بعين مفتوحة ثم ميم مثقلة- والأول أقوى، وفي "مسند أحمد"(2) -بسند على شرط الشيخين- أن عبد الله طلق امرأته النوار. ويمكن الجمع بأن اسمها آمنة ولقبها النوار، [وأوردها الذهبي في آمنة، وأبوها غفار. [ضبطه ابن نقطة](جـ)(3) بكسر المعجمة وتخفيف الفاء.

وزاد الليث عن نافع: تطليقة واحدة. أخرجه مسلم (4). من طريق ابن سيرين (5) قال: مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثًا وهي حائض، فأُمر أن يراجعها، فكنت لا أتهمهم، ولا أعرف وجه الحديث حتى لقيت أبا غلَّاب يونس بن جبير، وكان ذا ثَبَت (6)، فحدثني أنه سأل ابن عمر، فحدثه أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض.

(أ) في الأصل، جـ: وفي مسند. والمثبت من الفتح.

(ب) في جـ: العفار. وتنظر ترجمته في السير 18/ 86 - 89.

(جـ) في الأصل، جـ: وضبط الذهبي اسم أبيها نقطة -وفي الأصل: نفطة-. والمثبت من الفتح، غير أنه تصحفت هناك: ابن نقطة إلى: ابن يقظة.

_________

(1)

الفتح 9/ 347.

(2)

أحمد 2/ 124، بدون ذكر اسمها.

(3)

تكملة الإكمال لابن نقطة 4/ 180، 181.

(4)

مسلم 2/ 1093 ح 1471.

(5)

مسلم 2/ 1095، 1096 ح 1471/ 7.

(6)

ذا ثبت أي متثبتًا. الديباج 4/ 87.

ص: 9

وأخرجه الدارقطني والبيهقي (1) من طريق الشعبي قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض واحدة. ومن طريق عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض (2).

قوله: فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. جاء في روايات في "الصحيحين"(3): فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك. وأخرجه الدارقطني (4)، وزاد البخاري (5) في التفسير عن سالم أن ابن عمر أخبره. الحديث، وفيه زيادة: فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم تكن هذه الزيادة في غير رواية سالم، وهو أجلُّ من روى الحديث عن ابن عمر.

وفي الحديث إشعار بأنهم قد فهموا [النهي عن](أ) الطلاق في الحيض، وإلا لم يتغيظ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبادر عمر بالسؤال ليتعرف ما يكون حكم هذا النهي. وقال ابن دقيق العيد: تغيظ النبي صلى الله عليه وسلم إما لأن المعنى الذي يقتضي النهي كان ظاهرا، أو لأنه كان ينبغي مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: "مُره فليراجعها". فيه دلالة على أن ابن عمر مأمور بالمراجعة من قِبل النبي صلى الله عليه وسلم لظهور القرينة بأن الأمر ليس باختيار عمر لابنه، وإنما هو

(أ) ساقطة من: الأصل.

_________

(1)

الدارقطني 4/ 11 ح 30، والبيهقي 7/ 326.

(2)

الدارقطني 4/ 31 ح 84، والبيهقي 7/ 330.

(3)

البخاري 9/ 356 ح 5258، ومسلم 2/ 1097 ح 1471/ 10.

(4)

الدارقطني 4/ 11 ح 31.

(5)

البخاري 8/ 653 ح 4908.

ص: 10

لأجل كونه متعبدًا بالحكم، فيكون [عمر](أ) مبلِّغا عن النبي صلى الله عليه وسلم الحكم، فهو مثل قوله تعالى:{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} (1). ونحوه، فنحن مأمورون من الله تعالى بإقامة الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم مبلِّغ، فلا يقال: هذا متنزل على الخلاف في مسألة الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرًا بالشيء كما اختاره ابن الحاجب.

واختلف العلماء في وجوب المراجعة، فذهب مالك إلى وجوب الرجعة ورواية عن أحمد، والمشهور عنه -وهو قول الجمهور- أنها مستحبة، قالوا: لأن ابتداء النكاح لا يجب، فاستدامته كذلك، فكان القياس قرينة على أن الأمر للندب، وصحح صاحب "الهداية"(2) من الحنفية أنها واجبة، والحجة ورود الأمر، ولأن الطلاق لما كان محرّما في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة.

فلو تمادى الذي طلق في الحيض حتى طهرت، قال مالك وأكثر أصحابه: يجبر على الرجعة أيضًا. وقال أشهب منهم: إذا طهرت لم تجب الرجعة، وأما بعد انقضاء العدة فاتفاق أنه لا رجعة، وكذا لو طلقها في طهر قد وطئها فيه لا رجعة عليه اتفاقًا، كذا نقله ابن بطال (3) وغيره.

قال المصنف (4) رحمه الله تعالى: بل الخلاف فيه ثابت قد حكاه

(أ) ساقطة من: الأصل.

_________

(1)

الآية 31 من سورة إبراهيم.

(2)

الهداية 2/ 6.

(3)

شرح صحيح البخاري 7/ 381.

(4)

الفتح 9/ 349.

ص: 11

الحَنَّاطي (أ) من الشافعية وجهًا. واتفقوا على أنه لو طلق قبل الدخول وهي حائض لم يؤمر بالمراجعة، إلا ما نقل عن زفر فقال: يؤمر بالمراجعة.

قوله: "ثم ليمسكهما". أي يستمر بها في عصمته.

قوله: "حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر". وقع في هذه وفي غيرها أن الطلاق في الطهر الذي بعد الحيضة التي لا طلاق فيها، واختلف العلماء في جواز الطلاق في الطهر الأول؛ فذهب إلى أنه يحرم الطلاق في ذلك الطهر مالك (1)، وللشافعية (ب) وجهان أصحهما المنع، وبه قطع المتُولِّي، وهو الذي يقتضيه ظاهر الأمر. وقال ابن تيمية في "المحرر" (2): ولا يطلِّقها في الطهر المتعقب له فإنه بدعة. وذهب أبو حنيفة، وعن أحمد، أن الانتظار إلى الطهر الثاني مستحب، والحجة لذلك ما أخرجه مسلم (3) من رواية محمَّد بن عبد الرحمن عن سالم بلفظ:"مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا". قال الشافعي: غير نافع إنما روى: "حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها، [ثم] (جـ) إن شاء أمسك، وإن شاء طلق". رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم. ولأن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا زال زال موجب التحريم، فجاز طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الطهر الذي

(أ) في جـ: الحياطي. وينظر طبقات الشافعية الكبرى 4/ 367.

(ب) في جـ: الشافعي.

(جـ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

_________

(1)

قال الحافظ في الفتح 9/ 349: وكلام المالكية يقتضي أن التأخير مستحب.

(2)

المحرر 2/ 51.

(3)

تقدم ص 8.

ص: 12

بعده، وكما يجوز في الطهر الذي لم يتقدم طلاق في حيضته. وأجيب عن ذلك بأن رواية نافع فيها زيادة، وهي زيادة من ثقة حافظ مقبولة، مع أنه قد روى الزهريّ عن سالم (1) موافقته لرواية نافع، فتُحمل الرواية على اختصار الراوي، وعن المناسبة المذكورة بأنها معارضة للنص، ومعارضة بمناسبة أقوى منها، وهو أن الغرض من ذلك إيواء المرأة ولذلك سماه إمساكا، ويدل على ذلك أنه قد ورد في رواية عبد الحميد بن جعفر:"مُره أن يراجعها، فإذا طهرت مسها، حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها"(2). فإذا كان مأمورا بأن يمسها في ذلك الطهر، فكيف [يبيح](أ) له أن يطلقها فيه وقد ثبت النهي عن الطلاق في طهر جامعها فيه؟

وقال الشافعي: يحتمل أن ذلك ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها إمام يحمل أو حيض، أو ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل وهو غير جاهل بما صنع إذ يرغب فيمسك للحمل، أو ليكون إن كانت سألت الطلاق غير حامل أن تكف (ب) عنه.

وقيل: الحكمة فيه ألا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فإذا أمسكها زمانا يحل له فيه طلاقها ظهرت فائدة الرجعة؛ لأنه قد يجامعها مع طول المدة فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها فيمسكها. وقيل: إن الطهر الذي يلي

(أ) في الأصل: يصح.

(ب) في جـ: يكف.

_________

(1)

مسلم 2/ 1095 ح 1471/ 4.

(2)

ابن عبد البر في التمهيد 15/ 54.

ص: 13

الحيضة التي طلقها [فيها](أ) كقرء واحد، فلو طلقها في الطهر كان كمن طلق في الحيض، فلزم أن يتأخر إلى الطهر الثاني.

قوله: "قبل أن يمس". فيه دلالة على أن الطلاق في الطهر بعد أن مس يكون بدعيا حراما، وقد صرح بذلك الجمهور، وقال بعض المالكية: إنه يجبر على الرجعة إذا طلق فيه كما إذا طلقها وهي حائض. والمشهور عندهم أن ذلك في الحائض دون الطاهر، وقالوا: إذا طلقها وهي حائض يجبر على الرجعة، فإن امتنع أدبه الحاكم، فإن أصر ارتجع الحاكم عليه. وهل يجوز له وطؤها بذلك الارتجاع؟ في ذلك روايتان لهم أصحهما الجواز. وداود يقول: يجبر على الرجعة إذا طلقها حائضا، ولا يجبر إذا طلقها نفساء. وهو جمود منه على لفظ الدليل من غير اعتبار القياس، والجمهور أن النفاس كالحيض في جميع أحكامه.

واختلف الفقهاء في المراد بقوله: "طاهرا"؛ في أن المراد به انقطاع الدم، أو لا بد من الغسل؟ فعن أحمد روايتان، والراجح اعتبار الغسل (ب)؛ لما

(أ) في الأصل: فيه.

(ب) بعده في حاشية جـ: في حاشية

على البحر ما لفظه: قوله: ما لم تغسل الحائض جميع بدنها

بقياس الدلالة وهو أنه علق بانقضاء الحيض أمران؛ حل الوطء في غير المطلقة، وانقضاء عدة المطلقة. وقد جعل الله سبحانه غاية [؟] تحريم الوطء هو التطهر .... في العدة مثله [؟] وأما [؟] وضع العمل فهو الغاية بنفسه فلا [؟] دليل على الاغتسال فيه، وقياس النقاء على الوضع بلا جامع فليتأمل. فكما [؟] قال تعالى:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} كان المعنى هنا: فإذا تطهرن حل لهن الأزواج. وحاصله إثبات [؟] التطهر بقياس الدلالة كما أثبت [؟] علي رضي الله عنه الاغتسال من الإكسال قياسا على حد الزنى. وقد يقال: الذي نشأ [؟] عنه الحكمان هو انقطاع الحيض وهو يتحقق بالنقاء، وأما وجوب الاغتسال بجواز [؟] =

ص: 14

في رواية النسائي (1): "فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها، وإن شاء أن يمسكها فليمسكها". وهذا مفسِّر لقوله: "فإذا طهرت". فليحمل عليه، ويتفرع من هذا أن العدة هل تنقضي بانقطاع الدم وترتفع الرجعة أو لا بد من الاغتسال؟ فيه خلاف أيضًا.

قوله: "فتلك العدة التي أمر الله". أي أذن، وهذا بيان لمعنى قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2). بل في رواية مسلم (3): قال ابن عمر: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} الآية.

وفي الحديث دلالة على أن الأقراء الأطهار، للأمر بطلاقها في الطهر، وقوله:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} . أي وقت ابتداء عدتهن. ومن قال: هي الحيف. يقول في معنى الآية: مستقبلات لعدتهن. ولكن الحديث يرد عليه.

قوله: "طاهرًا أو حاملًا". فيه دلالة على أن طلاق الحامل سُني، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وعن أحمد رواية أنه ليس بسني ولا بدعي.

قوله: "وحُسبت تطليقة". هو بضم الحاء مبني للمفعول من الحساب، وهو جعلها واحدة من الثلاث الطلقات التي يملك الزوج، ولم يصرَّح

= الوطء فتكليف مستقل قد تحقق الانقطاع بدونه، وليس ذكر النفاس في حجة الخصم للنعاس [؟] بل للتمثيل وبيان المساواة. فإذا الأقوى ما قواه المصنف أعني عدم اعتبار الغسل أعني مذهب

[لعلها المؤيد] بالله وشي [؟]. انتهى ما أردت نقله.

_________

(1)

النسائي 6/ 140، 141.

(2)

الآية 1 من سورة الطلاق.

(3)

مسلم 2/ 1098 ح 1471/ 14.

ص: 15

بالفاعل، وقد صُرِّح به في غير هذه الرواية كما في "مسند ابن وهب"(1)، أخرجه عن ابن أبي ذئب وزاد في آخره: قال ابن أبي ذئب في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وهي واحدة". قال ابن أبي ذئب: وحدثني حنظلة بن أبي سفيان: سمع سالما يحدث عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

وأخرجه الدارقطني (2) من [طريق](أ) يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعًا عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هي واحدة". وعند الدارقطني (3) في رواية شعبة عن أنس بن سيرين عن ابن عمر في القصة: فقال عمر: يا رسول الله، أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال:"نعم". ورجاله إلى شعبة ثقات. وعنده (4) من طريق [سعيد](ب) بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن [عمر](جـ) عن نافع عن ابن عمر أن رجلًا قال (5): إني طلقت امرأتي البتة وهي حائض. فقال (6): عصيت ربك وفارقت امرأتك. قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أن يراجع امرأته. قال: إنه

(أ) في الأصل: حديث.

(ب) في الأصل، جـ: شيبة. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 10/ 528.

(جـ) في الأصل، جـ: عمير. والمثبت من مصدر التخريج.

_________

(1)

ابن وهب كما في الفتح 9/ 353.

(2)

الدارقطني 4/ 9 ح 24.

(3)

الدارقطني 4/ 5، 6 ح 6.

(4)

الدارقطني 4/ 8 ح 17.

(5)

في مصدر التخريج: "قال لعمر".

(6)

أي عمر بن الخطاب رضي الله عنه -كما في مصدر التخريج.

ص: 16

أمر ابن عمر أن يراجعها بطلاق بقي له، وأنت لم تُبق ما ترتجع به امرأتك.

فظهر من هذا أن الحاسب هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن القصة واحدة، فبعض الروايات تفسر بعضا.

والحديث فيه دلالة على وقوع الطلاق على الحائض، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من السلف والخلف، والخلاف فيه لطاوس وخِلَاس بن عمرو، وحكاه الخطابي (1) عن الخوارج والروافض، وحكاه في "البحر" عن الباقر والصادق والناصر وابن عليه وهشام بن الحكم وأبي عبيدة. ابن عبد البر (2): لا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال -يعني الآن- قال: وروي مثله عن بعض التابعين، وهو شذوذ. وحكاه ابن العربي (3) وغيره عن ابن عُلَيَّة، يعني إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي قال الشافعي (4) في حقه: إبراهيم ضال، جلس في باب الضوال يضل الناس. وكان بمصر، وله مسائل يتفرد بها، وكان متفقهاء المعتزلة، وقد غلط فيه من ظن أن المنقول عنه المسائل الشاذة أبوه، وحاشاه فإنه من كبار أهل السنة.

ونصر هذا المذهب ابن حزم الظاهري، ورجحه ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، واحتجوا بما جاء في رواية مسلم وأبي داود والنسائي (5) في القصة وفيه: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليراجعها". وقال: "إذا طهرت

(1) معالم السنن 3/ 232.

(2)

التمهيد 15/ 58، 59.

(3)

الفتح 9/ 353، 352.

(4)

"تاريخ بغداد 6/ 21.

(5)

مسلم 2/ 1098 ح 1471/ 14، وأبو داود 2/ 262، 263 ح 2185، والنسائي 6/ 139.

ص: 17

فليطلق أو ليمسك (أ) ". ولفظ مسلم والنسائي وأبي داود: فرَدَّها علي. زاد أبو داود: ولم يرها شيئًا. وإسناده على شرط الصحيح، فإن مسلما أخرجه من رواية حجاج بن محمَّد عن ابن جريج، وساقه على لفظه، ثم أخرجه من رواية أبي عاصم عنه وقال نحو هذه القصة، ثم أخرجه من رواية عبد الرزاق عن ابن جريج قال مثل حديث حجاج، وفيه بعض الزيادة، فأشار إلى هذه الزيادة ولعله طوى ذكرها عمدا، وقد أخرج أحمد (1) الحديث عن روح بن عبادة عن ابن جريج فذكرها، فلا يتخيل انفراد عبد الرزاق بها.

قال أبو داود (2): روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة، وأحاديثهم كلها على خلاف ما قال أبو الزبير.

وقال ابن عبد البر (3): قوله: ولم يرها شيئًا. منكر لم يقله غير أبي الزبير (4)، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بمن هو أثبت منه؟! ولو صح فمعناه عندي -والله أعلم- ولم يرها شيئًا مستقيما؛ لكونها لم تقع على السُّنة.

(أ) في جـ: تمسك.

_________

(1)

أحمد 2/ 80، 81.

(2)

أبو داود 2/ 263 عقب ح 2185.

(3)

التمهيد 15/ 65، 66.

(4)

أبو الزبير المكي، محمَّد بن مسلم بن تدرس، صدوق إلا أنه يدلس. التقريب ص 506، وينظر تهذيب الكمال 26/ 402.

ص: 18

وقال الخطابي (1): قال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا، ويحتمل أن معناه: لم يرها شيئًا تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئًا جائزا في السنة ماضيا في الاختيار، وإن كان لازمًا له مع الكراهة.

ونقل البيهقي في "المعرفة"(2) عن الشافعي أنه ذكر رواية أبي الزبير فقال: نافع أثبت من أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافعا غيره من أهل الثَّبَت. قال: وبسط الشافعي القول في ذلك، وحمل قوله: ولم يرها شيئًا. على أنه لم يعدّها شيئا صوابا غير خطأ، بل يؤمر صاحبه ألَّا يقيم عليه؛ لأنه أمره بالمراجعة، ولو كان طلقها طاهرا لم يؤمر بذلك، فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله، أو أخطأ في جوابه: لم يصنع شيئًا. أي لم يصنع شيئًا صوابا. قالوا: فقوله: لم يرها شيئًا. يدل (أ) على عدم الاعتداد بتلك الطلقة، ودعوى تفرد أبي الزبير غير مسلَّمة، فقد رواه عبد الوهاب الثقفي عن [عبيد](ب) الله عن نافع أن ابن عمر قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر: لا يعتد بذلك. أخرجه محمَّد ابن عبد السلام الخشني (جـ) عن بندار عنه، وإسناده صحيح، وأخرجه (د) ابن

(أ) في جـ: ينزل.

(ب) في الأصل، جـ: عبد. والمثبت من مصدر التخريج، والفتح 9/ 354.

(جـ) في جـ: الحبشي.

(د) في جـ: أخرج.

_________

(1)

معالم السنن 3/ 235.

(2)

معرفة السنن 5/ 453.

ص: 19

حزم (1). [وعن](أ) الشعبي بإسناد صحيح (2) قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض لم يعتدّ بها في قول ابن عمر. وروى سعيد بن منصور (3) من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس ذلك بشيء". وهذه متابعات لأبي الزبير. واحتج لهم في "البحر" بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة"(4). وقوله صلى الله عليه وسلم "البدعة شَرَك الشِّرك".

واحتج ابن القيم بما حاصله أنه منهي عن الطلاق في حال الحيض، وقال (5): الطلاق ينقسم إلى حلال وحرام، فالقياس أن حرامه باطل كالنكاح وسائر العقود، وأيضًا فهو طلاق منع منه الشرع، فأفاد منعه عدم جواز إيقاعه، فكذلك يفيد عدم نفوذه، وإلا لم يكن للمنع فائدة؛ لأن الزوج لو وكل رجلًا أن يطلق امرأته على وجه، فطلقها على غير الوجه المأذون فيه، لم ينفُذ، فكذلك لم يأذن الشارع للمكلف في الطلاق إلا إذا كان مباحا، فإذا طلق طلاقا محرما لم يصح، وأيضًا فكل ما حرمه الله من العقود مطلوبُ الإعدام، فالحكم ببطلان ما حرمه أقرب إلى تحصيل هذا المطلوب.

(أ) في الأصل: عن.

_________

(1)

المحلى 11/ 453.

(2)

التمهيد 15/ 66. وينظر الفتح 9/ 354.

(3)

سعيد بن منصور 1/ 358، 359 ح 1552.

(4)

أخرجه مسلم 2/ 592 ح 867.

(5)

حاشية ابن القيم 6/ 166.

ص: 20

وتأول ابن حزم (1) الأمر بالمراجعة بأن المراد بها الارتجاع إلى ما كان عليه من العِشرة؛ لأنه كان قد اجتنبها، وليس المراد الرجعة بالطلاق.

والجواب عما احتجوا: أما الحديث فرواية الاعتداد أقوى وأصرح لا تحتمل التأويل، ورواية أبي الزبير محتملة التأويل كما تقدم عن الشافعي، ويحتمل -كما قال ابن عبد البر (2) - أنه لم يرد بقوله: لم يرها شيئًا. أي الطلقة، وإنما الضمير عائد إلى الحيضة، أي لم ير الاعتداد بتلك الحيضة في العدة، يعني أن الطلاق إذا كان في الحيضة كانت العدة من الحيضة المستقبلة، وقد روي عن ابن عمر هذا منصوصا أنه يقع عليها الطلاق ولا تعتد بتلك الحيضة (3). وهذا التأويل يتعين المصير إليه لصحة الرواية.

وأما الاحتجاج بـ: "كل بدعة ضلالة". ونحوه، فالجواب عنه بأن مضمونه أنه منهي عن ذلك، والنهي يقتضي الفساد، وليس ذلك بمسلّم مطلقا، والمختار أن اقتضاءه الفساد إذا كان النهي لذات المنهي عنه (أ) أو لوصف ملازم، وأما [إذا كان الوصف مفارقا](ب) فهو لا يقتضي الفساد، كالنهي عن البيع وقت النداء للجمعة، وهنا النهي عن الطلاق لوصف يفارق الطلاق، وهو الحيض، وإن سلمنا ذلك فهو عام، وهذا الذي نحن فيه

(أ) ساقطة من: جـ.

(ب) في الأصل: لوصف مفارق.

_________

(1)

المحلى 11/ 458.

(2)

التمهيد 15/ 66.

(3)

ابن أبي شيبة 5/ 5.

ص: 21

خاص قام الدليل على اعتباره. وأجاب الإِمام المهدي بأن البدعة المراد بها ما كان في الاعتقاد لا في العمليات.

وأما ما احتج به ابن القيم، فالجواب عنه بأنه مبني على أن النهي يقتضي الفساد، وقد عرفت ما فيه.

وقال ابن القيم: لم يرد التصريح بأن ابن عمر احتسب بتلك الطلقة إلا في رواية سعيد بن جبير عنه عند البخاري (1)، وليس فيها تصريح بالرفع. قال:[فانفراد](أ) سعيد بن جبير بذلك كانفراد أبي الزبير بقوله: لم يرها شيئًا. فإما أن يتساقطا، وإما أن ترجح رواية أبي الزبير لتصريحها بالرفع، وتُحمل رواية سعيد بن جبير على أن أباه هو الذي حسبها عليه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ألزم الناس فيه بالطلاق الثلاث، بعد أن كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتسب عليهم به ثلاثًا إذا كان بلفظ واحد.

والجواب عنه ما مر من طرق متعددة أن النبي صلى الله عليه وسلم حسبها عليه طلقة، وما في "صحيح مسلم" (2) من رواية أنس بن سيرين ولفظه: سألت ابن عمر عن امرأته التي طلق، فقال:[طلقتها](ب) وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"مُرْه فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها لطهرها". قال:

(أ) في الأصل، جـ: فانفرد. والمثبت من حاشية ابن القيم 6/ 171، وينظر الفتح 9/ 355.

(ب) في الأصل، جـ: طلقها. والمثبت من مصدر التخريج.

_________

(1)

البخاري 9/ 351 ح 5253.

(2)

مسلم 2/ 1097 ح 1471/ 11.

ص: 22

فراجعتها، ثم طلقتها لطهرها. قلت: فاعتددت (أ) بتلك الطلقة وهي حائض؟ فقال: ما لي لا أعتد بها، وإن كنتُ عجزتُ واستحمقت؟! وعند مسلم (1) أيضًا من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن سالم في حديث الباب: وكان عبد الله بن عمر طلقها تطليقة فحسبت من طلاقها، فراجعها كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وله (2) من رواية الزُّبيدي عن ابن شهاب، قال ابن عمر: فراجعتها، وحسبت لها التطليقة التي طلقتها. وعند الشافعي (3) عن مسلم بن خالد عن ابن جريج أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه: هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم. فظهر بطلان ما قاله (ب) ابن القيم رحمه الله تعالى.

ودل الحديث على تحريم الطلاق في الحيض.

وأن الرجعة يستقل بها الزوج من دون رضا المرأة والولي؛ لأنه جعل ذلك إليه، ولقوله تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (4).

وأن الأب يقوم عن ابنه البالغ الرشيد في الأمور التي تقع له مما يحتشم الابن من ذكره، وينفي عنه ما لعله يلحقه من العقاب على فعله شفقة منه وبرًّا.

(أ) في جـ: فاعتدت.

(ب) في جـ: ذكر.

_________

(1)

مسلم 2/ 1095 ح 1471/ 4.

(2)

مسلم 2/ 1095 ح 1471 عقب - 4.

(3)

مسند الشافعي 2/ 68 ح 108 - شفاء العي.

(4)

الآية 288 من سورة البقرة.

ص: 23

وأن طلاق الطاهر هو الذي لا يلام عليه.

وأن الحامل لا تحيض؛ لقوله: "ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا". فدل على أن الحامل لا تحيض؛ لإطلاق الطلاق فيه. وأجيب بأن حيض الحامل لما لم يكن له أثر في تطويل العدة لم يعتبر؛ لأن عدتها بوضع الحمل.

وأن الأقراء في العدة هي الأطهار.

وقال الغزالي (1): يستثنى من تحريم طلاق الحائض طلاق المخالعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل حال امرأة ثابت هل هي (أ) طاهر أو حائض مع أمره له بالطلاق. والشافعي يذهب إلى أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزَّل منزلة العموم في الأقوال. قال الإِمام المهدي جوابا: لنا عموم: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2). ولم يفصّل، وتركه صلى الله عليه وسلم البحث اتكالا على الآية أو لغير ذلك، أو عرف طهرها.

وقال أيضًا: لا بدعة في طلاق المؤلي منها لتضيق الطلاق عند المطالبة. قال الإِمام المهدي: لنا ما مرَّ، ولكنه مع تسليم القاعدة المذكورة يكون بين الدليلينِ عموم وخصوص من وجه، فالتعارض حاصل إلا أن يظهر مرجح لأحدهما.

وظهر أن طلاق الحامل والآيسة من الحيض والضهياء (3) والصغيرة لا

(أ) ساقطة من: جـ.

_________

(1)

الوسيط 5/ 362.

(2)

الآية 1 من سورة الطلاق.

(3)

الضهياء: هي المرأة التي لا تحيض ولا تحمل. وقيل غير ذلك. ينظر التاج (ض هـ ي).

ص: 24

يتقيد (أ) بوقت؛ أما الحامل فقد تقدم الكلام فيه، وأما الصغيرة والآيسة والضهياء فلعدم المانع إلا أنه يستحب الكف عن جماعها شهرا عند العترة والحنفية والشافعية لقيام الشهور فيها مقام الحيض، وقال زفر: بل يجب كوجوب الفصل بين الجماع والطلاق في ذوات الحيض بحيضة. ويجاب عليه بأنه إنما وجب هناك ليتقرر براءة الرحم، وهي هنا متقررة.

قوله في رواية مسلم: وأما أنت طلقتها ثلاثًا فقد عصيت ربك. الحديث. فيه دلالة على أن تطليق الحائض ثلاثا عصيان؛ لأنه قد وقع الطلاق، ولم يمكن تداركه بالرجعة (ب)، وهو يحتمل أن العصيان وقع بسبب الطلاق في وقت الحيض وحده، أو مع ذلك اعتبار كونه ثلاثًا، والظاهر أنه مجموع الأمرين في هذه الرواية، والمراد أن العصيان في هذه الصورة عصيان بليغ لا يمكن تداركه بالرجعة، وأما إذا كانت واحدة أو اثنتين فهو وإن كان عصيانا لكنه يمكن التدارك فيه بالرجعة.

وفيه دلالة على وقوع الثلاث الطلقات وإن كانت بلفظ واحد، وسيأتي الكلام فيه.

ويؤخذ من هذا أن إرسال الثلاث بدعة، وسيأتي أيضًا قريبًا.

885 -

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة،

(أ) في جـ: تقيد.

(ب) في جـ: بالمراجعة.

ص: 25

فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم. رواه مسلم (1).

الحديث أخرجه مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس، وأخرج من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم. ومن طريق حماد بن زيد (2) عن أيوب عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس، أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة؟ قال: كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم. وهذه الطريق الأخيرة أخرجها أبو داود (3)، ولكنه لم يسم إبراهيم بن ميسرة، وقال بدله: عن غير واحد. ولفظه: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة؟

واعلم أنه قد استشكل هذا الحديث، بأنه كيف يصح من عمر رضي الله عنه أن يخالف الأمر الذي كان في أيام النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاته، وتلاه عصر الصديق وصدر خلافته، وظاهره الإجماع على ذلك، وحاشا على مقام عمر واقتفائه للسنة النبوية أن يخالف ويشرع حكمًا غير ما كان في عهد النبوة؟! وأجيب عن ذلك بوجوه؛ أولها: أن ذلك الحكم كان مشروعًا ثم

(1) مسلم، كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث 2/ 1099 ح 1472/ 16.

(2)

مسلم 2/ 1099 ح 1472/ 17.

(3)

أبو داود 2/ 268 ح 2199.

ص: 26

نسخ، وناسخه وارد في عصر النبوة، ولكنه لم يشتهر النسخ، وبقي على الحكم المنسوخ جمع ممن لم يطلع على الناسخ في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وفي عصر أبي بكر وفي صدر خلافة عمر، ثم اشتهر الإنكار من عمر، والعمل بالناسخ، وإعلام الكافة به (أ)، وهذا غير بعيد كما في حديث تحريم المتعة (1)، ولا يلزم من هذا أن يكون قد وقع العمل بالخطأ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا محذور في أن يعمل من لم يبلغه الناسخ بالمنسوخ، وإنما المحذور أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قرر ذلك، إذ لا يجوز منه التقرير على محرم، ولم يكن في لفظ الرواية ما يدل على ذلك بعد ورود الناسخ، وما روي مما يدل عليه يحمل أنه وقع قبل نسخ الحكم ولم ينقل الراوي ذلك (أ) كما هو في كثير من السنة، ولذلك كان لمعرفة أسباب الوقائع فوائد جزيلة، ولا يعترض بأن وقوع ذلك في عصر أبي بكر ظاهره الإجماع، ولا يجوز الإجماع على الخطأ، لأنا نقول: لم يكن في الرواية ما يقضي بالإجماع، وإنما ظاهرها العمل بذلك، ويجوز أن يكون بقي على العمل بذلك من لم يطلع على الناسخ، ومثل هذا الجواب نقل البيهقي عن الشافعي، حيث قال في الجواب عن فتيا ابن عباس بخلاف ما رواه، وأنه كان يقول بلزوم الثلاث: يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئًا نسخ ذلك. قال البيهقي: ويقويه ما أخرج أبو داود (2) من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا طلق امرأته فهو

(أ) ساقطة من: جـ.

_________

(1)

ينظر ما تقدم في 7/ 117 - 120.

(2)

أبو داود 2/ 266 ح 2915.

ص: 27

أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك. وظهر مما قررناه بطلان ما قال المازري (1): وزعم بعضهم أن هذا الحكم منسوخ، وهو غلط، فإن عمر لا ينسخ، ولو نسخ -وحاشاه- لبادر الصحابة إلى إنكاره، وإن أراد القائل أنه نسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمتنع، لكن يخرج عن طاهر الحديث. انتهى.

ثانيها: أن الحديث مضطرب، قال القرطبي في "المفهم" (2): وقع فيه مع الاختلاف عن ابن عباس الاضطراب في لفظه، وظاهر سياقه أن هذا الحكم منقول عن جميع أهل ذلك العصر، والعادة تقضي أن يظهر ذلك وينتشر، ولا ينفرد به ابن عباس، فهذا يقضي التوقف من العمل بظاهره، إن لم يقتض القطع ببطلانه.

ثالثها: أن هذا الحديث ورد في صورة خاصة، وهو في قول المطلق: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. وهو أنه كان في عصر النبوة وما بعده الناس في سلامة الصدور والصدق في الأمور، إذا ادعى أحدهم أن اللفظ الثاني تأكيد لما قبله، لا تأسيس طلاق آخر، قبلت دعواه وصدق في ذلك، ورأى عمر تغير أحوال الناس وكثرة الدعاوى الباطلة، فرأى من المصلحة أن يجري المتكلم على ظاهر قوله، ولا يصدق في دعوى ضميره، ولا بأس في ذلك، فهو في الحقيقة عمل بمقتضى اللفظ حقيقة، وقد أشار إلى هذا ابن [سريج](أ) ولم يجزم به، وارتضاه القرطبي (3)، قال النووي (1): وهو أصح

(أ) في الأصل، جـ: شريح. والصواب ما أثبتناه.

_________

(1)

صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 71.

(2)

ينظر الفتح 9/ 364.

(3)

تفسير القرطبي 3/ 130.

ص: 28

الأجوبة، وفي (أ) لفظ الحديث ما يشعر بهذا، وهو قوله: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. وذلك أن السلف [لعلمهم](ب) بمقاصد الكتاب من التأني على الفراق الكلي كما قال تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1). كانوا لا يسارعون إلى البينونة الكلية، بل يتدرجون في الأمر عسى أن يحصل الائتلاف والرجوع عن الشقاق والنفار، وكان الخلف قد أدركهم بعض الغفلة فيتعاجلون إلى البينونة الكلية ويقصدونها، فمن ادعى التأكيد كان خلاف الظاهر مما ادعاه.

رابعها: أن معنى قوله: كان طلاق الثلاث واحدة. يعني أن الطلاق الذي كان يوقع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يوقع في الغالب واحدة، لا يطلقون ثلاثا، فقوله: كان طلاق الثلاث. يعني أن هذا طلاق الثلاث الذي يوقعونه يوقع في ذلك العهد واحدة، وقوله: فلو أمضيناه عليهم. يعني أجريناه على حكم ما شرع من وقوع الثلاث. وهذا الجواب يتنزل عليه قوله: استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. تنزلًا قريبًا من غير تكلف، فيكون معناه الإخبار عن اختلاف عادة الناس في إيقاع الطلاق لا في وقوعه، فالحكم متقرر، وقد رجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة، وكذا البيهقي (2) أخرجه عن أبي زرعة قال: معناه: إنما تطلقون أنتم

(أ) ساقطة من: جـ.

(ب) في الأصل: لعملهم.

_________

(1)

الآية 1 من سورة الطلاق.

(2)

البيهقي 7/ 338.

ص: 29

ثلاثًا، كانوا يطلقون واحدة.

خامسها: ما ذكر بعضهم أن هذا ليس له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل يكون موقوفًا على ابن عباس، وأجيب عنه بأن الأصح في مثل: كنا نفعل، وكانوا يفعلون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. أنه مرفوع.

سادسها: أن المراد من قوله: طلاق الثلاث واحدة. هو لفظ البتة، إذا قال القائل: أنت طالق البتة -كما سيأتي في حديث ركانة- وذلك أن ابن عباس هو راوي حديث البتة، وكان لفظ البتة يحتمل البينونة الكلية والتي دونها، فإذا قال القائل: أنت طالق البتة. قُبِل تفسيره بالواحدة وبالثلاث، فلما كان في عصر عمر لم يقبل منهم التفسير بالواحدة. واستشهد بقوله: إن الناس استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة. كما تقدم نظير هذا التأويل، وأشار إلى هذا البخاري (1) بأن أدخل في هذا الباب الآثار التي فيها البتة، والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث، كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما، وأن البتة إذا أطلقت حملت على الثلاث إلا إذا أراد المطلق واحدة فيقبل، فروى بعض الرواة (أ) البتة بلفظ الثلاث، وهذا أيضًا قريب جمعًا بين الروايات، لا سيما وابن عباس عاملٌ بخلاف ظاهر الرواية، كما أخرج أبو داود (2) بسند صحيح من طريق مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننت أنه يردها إليه،

(أ) في جـ: الرواية.

_________

(1)

البخاري 9/ 361.

(2)

أبو داود 2/ 267 ح 2197.

ص: 30

فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يابن عباس، يابن عباس! إن الله قال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1). وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك. وأخرج أبو داود له (أ) متابعات عن ابن عباس بنحوه.

وقوله: كانت لهم فيه أناة. هو بفتح الهمزة؛ أي مهلة وبقية استمتاع لانتظار الرجعة.

886 -

وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: أُخبِر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان، ثم قال:"أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! ". حتى قام رجل، فقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟ رواه النسائي ورواته موثقون (2).

هو محمود بن لبيد بن رافع الأنصاري الأشهلي من بني عبد الأشهل، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحدث عنه أحاديث، قال البخاري (3): له صحبة. وقال أبو حاتم (4): لا يعرف له صحبة. وذكره مسلم (5) في التابعين في الطبقة الثانية منهم، وقال ابن عبد البر (6): والصواب قول البخاري.

(أ) ساقطة من: أ.

_________

(1)

الآية 2 من سورة الطلاق.

(2)

النسائي، كتاب الطلاق، باب الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ 6/ 142.

(3)

التاريخ الكبير 7/ 402 ح 1762.

(4)

الجرح والتعديل 8/ 289، 290 ح 1329.

(5)

الطبقات (658).

(6)

الاستيعاب 3/ 1378.

ص: 31

فأثبت له صحبة، وكان محمود بن لبيد أحد العلماء، روى عن ابن عباس وعتبان بن مالك بكسر العين المهملة وسكون التاء فوقها نقطتان وبالباء الموحدة، مات سنة ست وتسعين، وقد ترجم أحمد له في "مسنده"(1)، وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع، وقد قال النسائي (2): لا أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير، يعني ابن الأشج، عن أبيه. انتهى.

والحديث فيه دلالة على أن جمع الطلقات الثلاث بدعة، ومثله ما أخرج سعيد بن منصور (3) عن أنس، أن عمر كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثًا أوجع ظهره. وسنده صحيح، وقد تقدم حديث ابن عباس في ذلك (4). وقد ذهب إلى هذا أيضًا ابن مسعود (5) والهدوية وأبو حنيفة ومالك. وذهب الحسن بن علي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن سيرين، والشافعي، وأحمد، والإمام يحيى، إلى أن جمع الثلاث ليس بدعة ولا مكروهًا، قالوا: لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (6). وقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (7). ولما سيأتي في حديث المتلاعنين أنه طلقها ثلاثًا (8). فلو كان محرمًا إرسال الثلاث لأنكر عليه ذلك. والجواب عليهم أن الآيتين

(1) أحمد 5/ 427.

(2)

النسائي في الكبرى 3/ 349 ح 5594.

(3)

سعيد بن منصور في سننه 1/ 264 ح 1073.

(4)

تقدم ح 885.

(5)

سعيد بن منصور في سننه 1/ 265 ح 1076.

(6)

الآية 1 من سورة الطلاق.

(7)

الآية 229 من سورة البقرة.

(8)

سيأتي ح 908.

ص: 32

مطلقتان، وما تقدم مصرح بأن إرسال الطلقات محرم، فيكون ذلك مقيدًا للإطلاق، وأما حديث المتلاعنين فلأنه لما لم تكن المرأة محلًّا للطلاق لم يكن ذلك محرمًا، والحديث هذا لم يكن فيه تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمضى عليه الثلاث أو لم يمض عليه وجعلها واحدة.

887 -

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: طَلَّقَ أبو ركَانةَ أمَّ ركَانةَ، فقال له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"راجع امرأتَك". فقال: إني طَلّقْتُها ثلاثًا. قال: "قد علمتُ، راجعْها". رواه أبو داود (1).

وفي لفظ أحمد (2): طلق ركانة امرأتَهُ في مجلسٍ واحدٍ ثلاثًا، فَحَزِن عليها، فقال له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فإنها واحدةٌ". وفي سندهما ابن إسحاق (3) وفيه مقال.

وقد روى أبو داود (4) من وجه آخر أحسن منه، أن ركانةَ طلق امرأته سهيمةَ البتةَ، فقال: واللهِ ما أرَدْتُ بها إلَّا واحدةً. فردَّها إليه النبي صلى الله عليه وسلم.

الحديث أخرجه أبو داود، وأحمد، وأبو يعلى (5)، وصححه من طريق محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمةَ، عن ابن عباس،

(1) أبو داود، كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، 2/ 266 ح 2196.

(2)

أحمد 1/ 265.

(3)

محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي مولاهم، المدني، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يدلس، ورمي بالتشيع والقدر. التقريب ص 467، وينظر تهذيب الكمال 24/ 405.

(4)

أبو داود 2/ 270 ح 2206.

(5)

أبو يعلى 4/ 379 ح 2500، وعند أبي داود من غير طريق محمد بن إسحاق به.

ص: 33

وابن إسحاق وشيخه (1) مختلف فيهما، بل وعكرمة (2) فيه مقال. وأجيب عن ذلك بأن العلماء قد عملوا بمثل هذا الإسناد في عدة من الأحكام مثل حديث: أنه رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول (3). وليس كل مختلف فيه مردودًا. وقد روى الخطابي (4) أن الإمام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها، ورواية أبي داود الأخرى عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة. الحديث. وأخرجها الشافعي (5) أيضًا، والترمذي (6) عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده، قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: فيه اضطراب. وصححه أبو داود وابن حبان والحاكم (7)، وقال ابن عبد البر في "التمهيد": ضعفوه، واختلفوا هل هو من مسند ركانة، أو مرسل عنه؟ وفي الباب عن ابن عباس روَاه أحمد والحاكم (8)، وهو معلول أيضًا.

والحديث فيه دلالة على أن إرسال الثلاث التطليقات في مجلس واحد يكون طلقة واحدة، وقد اختلف الناس فيها على أربعة مذاهب؛ الأول: أنه

(1) هو داود بن الحصين الأموي مولاهم، أبو سليمان المدني، ثقة إلا في عكرمة، ورمي برأي الخوارج. التقريب ص 198، وينظر تهذيب الكمال 8/ 379.

(2)

عكرمة أبو عبد الله، مولى ابن عباس، أصله بربري، ثقة ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر ولم تثبت عنه بدعة. التقريب ص 397، وينظر تهذيب الكمال 20/ 264.

(3)

تقدم ح 829.

(4)

معالم السنن 3/ 236.

(5)

الأم 5/ 118.

(6)

الترمذي 3/ 480 ح 1177.

(7)

أبو داود 2/ 271 ح 2208، وابن حبان 10/ 97 ح 4274، والحاكم 2/ 199.

(8)

الحاكم 2/ 491، وتقدم عند أحمد الصفحة السابقة.

ص: 34

يقع بها الثلاث التطليقات. وقد ذهب إلى هذا عمر، وابن عباس، وعائشة، ورواية عن علي، والناصر، والمؤيد بالله، والإمام يحيى، والأئمة الأربعة، وجماهير من السلف والخلف وبعض الإمامية. الثاني: أنه لا يقع به شيء؛ لأنه بدعة. وهذا قول الرافضة كما تقدم. الثالث: أنه تقع به واحدة رجعية. وهو مروي عن أبي موسى الأشعري، ورواية عن علي وابن عباس، وهو قول طاوس وعكرمة وجابر بن زيد، وذهب إليه الهادي، والقاسم، والباقر، والصادق، وعبد الله بن الحسن، وموسى بن عبد الله، ورواية عن زيد بن علي، واختاره من الحنابلة شيخ الإسلام ابن تيمية. الرابع: أنه يفرق بين المدخول بها وغيرها؛ فتقع الثلاث على المدخول بها، وتقع على غير المدخولة واحدة. وهذا قال به جماعة من أصحاب ابن عباس. وهو مذهب إسحاق بن راهويه، فيما حكاه عنه محمد بن نصر المروزي في كتاب "اختلاف العلماء"(1).

أما المذهب الأول: فمنهم من يقول بأن إرسال الثلاث واقع أيضًا، وهو سنة أيضًا؛ وهم الشافعي، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وجماعة من أهل الظاهر. واحتجوا عليه بقوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الآية (2). ولم يفرق بين أن تكون الثلاث مجموعة أو متفرقة، وقوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (3). ولم

(1) اختلاف العلماء ص 133.

(2)

الآية 230 من سورة البقرة.

(3)

الآية 237 من سورة البقرة.

ص: 35

يفرق، وقوله:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية (1). ولم يفرق، وقال:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (2). ولم يفرق، وبما أخرجاه في "الصحيحين" (3): أن عويمر العجلاني طلق امرأته ثلاثًا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه. وفي "صحيح البخاري"(4) من حديث القاسم بن محمد عن عائشة، أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا، فتزوجت فطلق، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؟ قال: "لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول". فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا يدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها، وفي "الصحيحين"(5) في حديث فاطمة بنت قيس، أن زوجها طلقها ثلاثًا، فانطلق خالد بن الوليد في نفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه: هل لها نفقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس لها نفقة، وعليها العدة". وفي "صحيح مسلم"(6)، أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"كم طلقك؟ ". قلت: ثلاثًا. فقال: "صدق، ليس لك نفقة". وفي لفظ له (7): قلت: يا

(1) الآية 236 من سورة البقرة.

(2)

الآية 241 من سورة البقرة.

(3)

البخاري 9/ 361 ح 5259، ومسلم 2/ 1129 ح 1492.

(4)

البخاري 9/ 362 ح 5261.

(5)

مسلم 2/ 1114 ح 1480/ 38. وقال الحافظ: هكذا أخرج مسلم قصتها من طرق متعددة عنها، ولم أرها في البخاري وإنما ترجم لها كما ترى - باب قصة فاطمة بنت قيس، وقوله عز وجل: {

لا تخرجوهن من بيوتهن} إلى قوله: {بعد عسر يسرا} - وأورد أشياء من قصتها بطريق الإشارة إليها، ووهم صاحب العمدة فأورد حديثها بطوله في المتفق. الفتح 9/ 477، 478.

(6)

مسلم 2/ 119 ح 1480/ 48.

(7)

مسلم 2/ 1121 ح 1482.

ص: 36

رسول الله، صلى الله عليك، إن زوجي طلقني ثلاثًا، وأنا أخاف أن يقتحم علي. وقد روى عبد الرزاق في "مصنفه"(1) عن يحيى بن العلاء، عن عبيد الله بن الوليد [الوصَّافي](أ)، عن إبراهيم بن [عبيد](ب) الله بن عبادة بن الصامت، عن داود، عن عبادة بن الصامت، قال: طلق جدي امرأة له ألف تطليقة، فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما اتقى الله جدك؛ أما ثلاث فله، وأما تسعمائة وسبع وتسعون فعدوان وظلم، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له".

ورواه بعضهم عن صدقة بن أبي عمران، عن إبراهيم بن عبيد (جـ) الله بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جده، قال: طلق بعض آبائي امرأته، فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن أبانا قد (د) طلق أمنا ألفًا، فهل له من مخرج؟ فقال:"إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجًا، بانت منه بثلاث على غير السنة، وتسعمائة وسبع وتسعون إثم في عنقه"(2).

(أ) في الأصل، جـ: الوصابي. وتقدم ص 6.

(ب) في الأصل، جـ: عبد. والمثبت من مصدر التخريج وما سيأتي ص 42، وينظر لسان الميزان 1/ 79.

(جـ) في جـ: عبد.

(د) ساقطة من: جـ.

_________

(1)

عبد الرزاق 6/ 393 ح 11339 - وفيه: داود بن عبادة. بدلا من: داود عن عبادة- ومن طريقه ابن حزم في المحلى 11/ 463، وفيه: داود عن عبادة.

(2)

الدارقطني 4/ 20 ح 53 من طريق صدقة به.

ص: 37

وأخرج محمد بن (أ) شاذان عن [معلى](ب) بن منصور، عن شعيب بن رزيق، أن عطاء الخراساني حدثهم، عن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها تطليقتين أخريين عند القرءين الباقيين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يابن عمر، ما هكذا أمرك الله، أخطأت السنة". وذكر الحديث. وفيه: فقلت: يا رسول الله، لو كنت طلقتها ثلاثًا، أكان لي أراجعها؟ قال:"لا، كانت تبين، وتكون معصية"(1). وحديث ركانة، أنه طلقها البتة. الذي مر، وهو أرجح من حديث: ثلاثًا؛ لأن راويه (جـ) ولد الرجل فهو أعلم به، بخلاف حديث: ثلاثًا، فإنه من رواية ابن جريج عن بعض بني رافع، وهو محتمل أن يكون عبيد الله (2)، وهو ثقة معروف، وإن كان غيره من إخوته، (د فهو مجهول د) العدالة لا تقوم به حجة، وأما الطريق التي فيها ابن إسحاق ففيه مقال، فدل ظاهر الآيات على وقوع الطلاق مطلقًا من غير نظر إلى كونه في مجلس أو

(أ) في جـ: عن.

(ب) في الأصل، جـ: يعلى. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 28/ 288.

(جـ) في جـ: رواية.

(د- د) في جـ: فمجهول.

_________

(1)

الدارقطني 4/ 31 ح 84 من طريق ابن شاذان به.

(2)

عبيد الله بن أبي رافع المدني، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، كان كاتب علي، وهو ثقة. التقريب ص 370.

وينظر تهذيب الكمال 19/ 34.

ص: 38

مجالس، وهذه الأحاديث تؤيد ظاهر الآيات، وتبين المراد منها، ويزيدها بيانًا وتأكيدًا لبقاء حكمها عملُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده، وهم أعلم بسنته، وأشد اقتفاء لحكمه، فروى وكيع، عن الأعمش، عن حبيب ابن أبي ثابت، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: إني طلقت امرأتي ألفًا. فقال له علي: بانت منك بثلاث، واقسم سائرهن بين نسائك (1). وروى عبد الرزاق (2)، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، ثنا زيد بن وهب، أنه رُفع إلى عمر بن الخطاب رجل طلق امرأته الفًا، فقال له عمر: أطلقت امرأتك؟ فقال: إنما كنت ألعب. فعلاه عمر بالدرة وقال: إنما يكفيك من ذلك ثلاث. وروى وكيع، عن جعفر بن برقان، عن معاوية ابن أبي يحيى، قال: جاء رجل إلى عثمان بن عفان فقال: طلقت امرأتي ألفا. قال: بانت منك بثلاث (3). وروى عبد الرزاق (4)، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، قال: قال رجل لابن عباس: طلقت امرأتي ألفًا. فقال له ابن عباس: ثلاث تحرمها عليك، وبقيتها عليك وزر، اتخذت آيات الله هزوًا. وروى عبد الرزاق (5) أيضًا، عن معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: إني طلقت امرأتي تسعًا وتسعين. فقال له ابن مسعود:

(1) ابن أبي شيبة 5/ 12، 13.

(2)

عبد الرزاق 6/ 393 ح 11340.

(3)

ابن أبي شيبة 5/ 12، 13 عن وكيع به.

(4)

عبد الرزاق 6/ 397، 398 ح 11353.

(5)

عبد الرزاق 6/ 395 ح 11343.

ص: 39

ثلاث تبينها، وسائرهن (أ) عدوان. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي (1) عن علقمة بن قيس، قال: أتى رجل ابن مسعود، فقال: إن رجلًا طلق امرأته البارحة مائة. قال: قلتها مرة واحدة؟ قال: نعم. قال: تريد أن تبين منك امرأتك؟ قال: نعم. قال: هو كما قلت. قال: وأتاه رجل، فقال: رجل طلق امرأته عدد النجوم. قال: قلتها مرة واحدة؟ قال: نعم. قال: تريد أن تبين منك امرأتك؟ قال: نعم. قال: هو كما قلت. ثم قال: قد بين الله أمر الطلاق؛ فمن طلق كما أمره الله فقد بين له، ومن لبَس على نفسه جعلنا به لبسه، والله لا تلبِسون على أنفسكم ونتحمله عنكم، هو كما تقولون. وذكر أبو داود (2) في "سننه"، عن محمد بن إياس أن ابن عباس، وأبا هريره، وعبد الله بن عمرو بن العاص، سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثًا، [قالوا] (ب): لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. وأخرج الطبراني والبيهقي (3)، عن سويد بن غفلة (جـ)، عن الحسن بن علي بن أبي طالب في قصة، أنه قال: سمعت جدي -أو قال: حدثني أبي، أنه سمع جدي- يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثًا عند الأقراء أو ثلاثًا مبهمة، لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. فهؤلاء أعيان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حكموا بأن الثلاث واقعة جملة، فلو كان ثابتًا غير هذا لم يخف عليهم، مع أن ابن عباس اشتهر عنه ذلك، ومن

(أ) زاد في الأصل: عليك.

(ب) في الأصل، جـ: قال. والمثبت من مصدر التخريج.

(جـ) في جـ: علقمة.

_________

(1)

عبد الرزاق 6/ 394، ح 1142، والبيهقي 7/ 335.

(2)

أبو داود 2/ 267، 268 ح 2198.

(3)

الطبراني 3/ 93، 94 ح 2757، والبيهقي 6/ 336.

ص: 40

البعيد أن يروي شيئًا ويتعمد العمل بخلافه، ما ذاك إلا لكون ما رواه مرادًا به ما تقدم من التأويل، ولا يكون هذا من ترك العمل بالحديث إذا خالف مذهب الراوي، وإنما هو من باب ترجيح التأويل وإن كان مخالفا للظاهر لهذه القرينة، وأجيب من جانب من قال: إن الثلاث واحدة. وهو المذهب الثالث: [أما](أ) عن الآيات الكريمة، فهي ألفاظ مطلقة مقيدة بالسنة، وأما طلاق الملاعن، فإن التقرير لا يدل على الجواز، ولا على وقوع الثلاث، لأنا نقول: إن النهي إنما وقع فيما يكون رافعًا لنكاح كان مطلوب الدوام، والملاعن إنما يريد الفراق سواء كان فراقه بنفس اللعان أو بتفريق الحاكم، فلا يدل على المطلوب، ويمكن الجواب عنه بأنه قد طلقها في حال يصح منه فيه (ب) الطلاق، فحرمت عليه بالطلاق قبل أن يفرق الحاكم، فلو كان لا يحرمها الطلاق لاحتاج إلى تفريق، ولم يرو، إلا أنه لا يستقيم إلا على قول من يشترط في الفرقة تفريق الحاكم، وأما على قول الشافعي: إن الفرقة تقع بلعان الزوج أو بلعانهما. كما هو مذهب أحمد على إحدى الروايات عنه، فلا، إلا أنه قد يقال: في سكوت النبي صلى الله عليه وسلم وعدم إنكاره عليه تقرير على أن ذلك مشروع في البينونة على حسب ما اعتقده، وإلا لبين له أنه لا فائدة في جمع الثلات لإرادة البينونة فتأمل، وأما حديث عائشة فلم يكن فيه تصريح بأنه وقع الثلاث في مجلس واحد، فلا يدل على المطلوب، وقد يجاب عنه بأن عدم استفصاله صلى الله عليه وسلم هل كان في مجلس أو مجالس، يدل على أنه لا فرق في ذلك، وكذلك حديث فاطمة فيه ما ذكر إلا أنه قد يقال: لا يصح

(أ) ساقطة من: الأصل.

(ب) ساقطة من: جـ.

ص: 41

الاحتجاج به في هذا الحكم لمخالفتكم له في إثبات النفقة، فكيف تقرون به في طرف وتردونه في طرف؟ مع أن في "الصحيحين" (1) في خبرها نفسها من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها. وفي لفظ في "الصحيح"(2): أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات. وهو سند صحيح متصل، فلا يصح الاحتجاج به، وأما حديث عبادة بن الصامت (3) ففي إسناده يحيى بن العلاء (4) وإبراهيم بن عبيد الله (5)، وهما ضعيفان، ثم إن والد عبادة بن الصامت لم يعرف أنه أدرك الإسلام فضلًا عن جده، وأما حديث عبد الله بن عمر (3) فأصله صحيح بلا شك، لكن قوله: لو كنت طلقتها ثلاثًا أكانت تحل لي؟ إنما جاءت من رواية شعيب بن رزيق وهو الشامي، وبعضهم يقلبه ويقول: رزيق بن شعيب. وكيفما كان فهو ضعيف، قال في "الميزان" (6): رزيق بن شعيب ضعفه ابن حزم.

وأما المذهب الثاني: فحجتهم أن ذلك بدعة، والبدعة مردودة؛

(1) مسلم 2/ 1117 ح 41/ 1480. وينظر التعليق عليه ص 36.

(2)

البخاري 10/ 502 ح 6084، وسقط منه لفظ "آخر"، وينظر البخاري 8/ 27، 28.

(3)

تقدم ص 37.

(4)

يحيى بن العلاء البجلي، أبو عمرو أو أبو سلمة، الرازي، رمي بالوضع. التقريب ص 595.

وينظر تهذيب الكمال 31/ 484.

(5)

إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت ضعفه الدارقطني، وقال في موضع آخر: مجهول.

وكذا قاله ابن حزم. لسان الميزان 1/ 79.

(6)

ميزان الاعتدال 2/ 48.

ص: 42

لقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"(1). وقد مر (أ) الجواب عنه (ب)(2).

وأما المذهب الثالث: فحجتهم ما مرَّ في (جـ) حديثي ابن عباس، وفيهما صراحة [في المطلوب](د)، واحتج في "البحر" (3) بقوله تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . فجعل وقوع الثالثة كالمشروط بأن يكون في حال يصح من الزوج فيها الإمساك: إذ من حق كل مخيرين أن يصح أحدهما في الحال التي يصح فيها الآخر وإلا بطل التخيير، فإذا لم يصح الإمساك إلا بعد الرجعة لم تصح الثالثة إلا بعدها لذلك، وإذا لزم في الثالثة وحديث مثله في الثانية، إذ لم يفصل بينهما أحد، والجواب عنهما هو أن حديث ركانة وإن اختلفت طريقاه ففي طريقهما ابن إسحاق، وهو معارض برواية البتة، وهي أرجح، فبقي إما الاطراح أو التأويل برجوع الثلاث إلى حديث البتة الذي فيه احتمال أن يريد بها (ب) الثلاث أولى، ولذلك استحلفه النبي صلى الله عليه وسلم، والتأويل أولى؛ إذ فيه إعمال الروايات كلها وتفسير بعضها لبعض في القصة الواحدة كما هو الواجب، فضعف الاحتجاج به، وأما ما

(أ) في جـ: تقدم.

(ب) ساقطة من: جـ.

(جـ) في جـ: من.

(د) في الأصل: بالمطلوب.

_________

(1)

مسلم 3/ 1343، 1344 ح 1718/ 19.

(2)

تقدم ص 20 - 23.

(3)

البحر 4/ 175.

ص: 43

احتج به في "البحر" بأن الإمساك بالمعروف مترتب على الرجعة فيكون التسريح مرتبا عليها، فالجواب عنه أنه لم يكن في اللفظ ما يدل على الحصر، وأنه لا يقع الطلاق إلا بعد الرجعة، وإنما غاية ذلك أنه تعريف للحكم المشروع المأذون فيه من دفع الضرار، مثل قوله تعالى:{فَطلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} . فكما وقع الطلاق عند خلاف ذلك كما في حديث ابن عمر كذلك في هذه الحالة، وإنما يستقيم الاحتجاج على أصل من لا يقول بوقوع البدعي، وإذا تأملت ما تلوناه عليك من حجج الفريقين لم يخف عليك الراجح من المذهبين، فهذا نهاية إقدام الفريقين في هذا المقام الضنك والمعترك الصعب، وبالله التوفيق.

وأما المذهب الرابع الذي فرقوا بين المدخول بها وغيرها، فحجتهم ما وقع في رواية أبي داود كما تقدم (1): أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الحديث، ومن جهة القياس أنه إذا قال: أنت طالق. بانت منه بذلك، فإذا أعاد اللفظ لم يصادف محلًّا للطلاق فكان لغوًا، وجعلوا هذا تأويلًا لحديث عمر. والجواب عنه ما مر من ثبوت ذلك مطلقًا في حق المدخولة وغيرها، وقد ورد في ذلك آثار؛ فأخرج سعيد بن منصور والبيهقي (2) عن أنس بن مالك، قال عمر بن الخطاب في الرجل يطلق ثلاثًا قبل أن يدخل بها، قال: هي ثلاث، لا تحل له حتى تنكحَ زوجًا غيرَه. وأخرج البيهقي (3) من طريق

(1) تقدم تخريجه ص 26.

(2)

سعيد بن منصور 1/ 264 ح 1074، والبيهقي 7/ 334.

(3)

البيهقي 7/ 334، 335.

ص: 44

عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي رضي الله عنه، فيمن طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.

وأخرج البيهقي (1) عن ابن مسعود قال: المطلقة ثلاثًا قبل أن يدخل بها بمنزلة التي (أقد دخل أ) بها. وأخرج مالك والشافعي وأبو داود والبيهقي (2)، عن محمد بن إياس بن البكير قال: طلق رجل امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، ثم بدا له أن ينكحها، فجاء يستفتي، فذهبت معه أسأل له، فسألت أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك، فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجًا غيرك. قال: إنما كان طلاقي إياها واحدة. قال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل. وأخرج مالك والشافعي وأبو داود والبيهقي (3) عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري أنه كان جالسًا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر، فجاءهما محمد بن إياس بن البكير، فقال: إن رجلًا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة، فإني تركتهما عند عائشة فاسألهما. فذهب فسألهما، قال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة. فقال أبو هريرة: الواحدة تَبتها، والثالثة تحرمها حتى تنكح زوجًا غيره. وقال ابن عباس مثل ذلك.

(أ- أ) في جـ: يدخل.

_________

(1)

البيهقي 7/ 335.

(2)

مالك 2/ 570 ح 37، والشافعي 5/ 138، وأبو داود 2/ 267، 268 ح 2198، والبيهقي 7/ 335.

(3)

مالك 2/ 571 ح 39، والشافعي 5/ 138، 139، وأبو داود 2/ 268 معلقًا عن مالك عقب ح 2198، والبيهقي 7/ 335.

ص: 45

وأخرج مالك والشافعي [والبيهقي](أ)(1)، عن عطاء بن يسار قال: جاء رجل ليسأل عبد الله بن عمرو بن العاص عن رجل طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يمسها، فقلت: إنما طلاق البكر واحدة. فقال عبد الله بن عمرو: إنما أنت قاص، الواحدة تبتها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجًا غيره. واعلم أن ظاهر الأحاديث والآثار أنه لا فرق بين أن يقول: أنت طالق ثلاثًا. أو: أنت طالق أنت طالق.

وفي كتب الفروع فرقوا بين ذلك في حكاية الخلاف. قال في "البحر": فصل؛ علي، عمر، وابن مسعود، وزيد، ثم العترة، والفريقان: والثلاث بألفاظ على غير المدخولة واحدة لبينونتها بالأولى. مالك والنخعي وعن الشافعي: بل بثلاث، إذ هو كالكلمة الواحدة كانت كذا ثلاثًا. قلنا: بل الألفاظ تخالف اللفظ. مسألة: الباقر، والصادق، والهادي، والقاسم، والحسن البصري، وطاوس، وأحمد، وجابر بن زيد: فإن قال: أنت طالق كذا ثلاثًا. فواحدة أيضًا كالألفاظ؛ إذ قوله: ثلاثًا. منفصلة فوقع واحدة بما قبله. علي، عمر، ابن عباس، ابن عمر، ثم زيد، الناصر، الداعي، المؤيد، الإمام يحيى، الفريقان، مالك: بل بتثليث أيضًا؛ إذ قوله: ثلاثًا. تفسير لطالق، وهو يحتملها، قلنا: ينبني على أن الطلاق يتوالى، وقد أبطلناه، سلمنا، فطالق وحده لا يحتملها. انتهى. وهذا في غير المدخولة. والله أعلم.

888 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(أ) ساقطة من: الأصل.

_________

(1)

مالك 2/ 570 ح 38، والشافعي 5/ 138، والبيهقي 7/ 335.

ص: 46

"ثلاثٌ جِدُّهن جِد وهزلهن جد؛ النكاحُ، والطلاقُ، والرجعةُ". رواه الأربعة إلا النسائي وصححه الحاكم (1).

وفي رواية لابن عدي (2) من وجه آخر ضعيف: "الطلاق والعتاق والنكاح".

وللحارث بن أبي أسامة (3) من حديث عبادة بن الصامت رفعه: "لا يجوزُ اللعب في ثلاث؛ الطلاق، والنكاح، والعتاق، فمن قالهن فقد وجبن". وسنده ضعيف.

الحديث باللفظ الأول وأخرجه ابن ماجه والدارقطني (4)، وهو من حديث عطاء عن يوسف بن ماهك، قال الترمذي: حسن. وقال الحاكم: صحيح. وهو من رواية عبد الرحمن بن حبيب بن [أردك](أ)، وهو مختلف فيه (5)؛ قال النسائي (6): منكر الحديث. ووثقه غيره، فهو على هذا حسن.

(أ) في الأصل: أزدك.

_________

(1)

أبو داود، كتاب الطلاق، باب في الطلاق على الهزل 2/ 265، 266 ح 2194، والترمذي، كتاب الطلاق، باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق 3/ 490 ح 1184، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب من طلق أو نكح أو راجع لاعبًا 1/ 658 ح 2039، والحاكم، كتاب الطلاق 2/ 197، 198.

(2)

ابن عدي 6/ 2033.

(3)

الحارث ص 162 ح 501 - بغية.

(4)

الدارقطني 3/ 256 ح 45.

(5)

عبد الرحمن بن حبيب بن أردك المدني المخزومي مولاهم، ويقال: حبيب بن عبد الرحمن، لين الحديث. التقريب ص 338.

(6)

ينظر تهذيب الكمال 17/ 53.

ص: 47

والضعف في الرواية الآخرة بسبب ابن لهيعة (1)، وفيه أيضًا انقطاع. وأخرج عبد الرزاق (2)، عن إبراهيم بن محمد، عن صفوان بن سليم، [عن أبي ذر رفعه] (أ):"من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز، ومن أعتق وهو لاعب فعتاقه جائز، ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز". وهو منقطع أيضًا.

الحديث فيه دلالة على وقوع طلاق الهازل، وأنه لا يحتاج الصريح إلى نية. وقد ذهب إلى هذا أكثر العترة والحنفية والشافعية، ولعموم قوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (3). ولم يفصل، وذهب الباقر والصادق والناصر وأحمد ومالك إلى أنه يفتقر اللفظ الصريح إلى النية؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} (4). والعزم هو الإرادة، قال الإمام المهدي في "البحر" جوابًا: قلنا: أراد حيث يفتقر لا الصرائح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث هزلهن" الحديث. والطلاق في الهزل غير مقصود ولا منوي، ولأنه إزالة ملك كالعتق، أو حل عقد كالإقالة. انتهى.

ولا يخفى ضعف الاحتجاج بالآية وركة الجواب، فإن الآية الكريمة وردت في حق المؤلي، واختلف العلماء في تفسيرها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة، هل يكفي في حق المؤلي التصميم على الطلاق

(أ) في الأصل، جـ: عن عبادة. والمثبت من التلخيص 3/ 209.

_________

(1)

تقدمت ترجمته في 1/ 175.

(2)

عبد الرزاق 6/ 134 ح 10249.

(3)

الآية 229 من سورة البقرة.

(4)

الآية 227 من سورة البقرة.

ص: 48

وتطلق بذلك أو لا بد من إعادة الطلاق؟ فالذي قال: يكفي التصميم. يقول: الطلاق، والطلاق وقع بالإيلاء، والتصميم على المفارقة به، وهذا خاص بالمؤلي لما كان الإيلاء غير صريح في الطلاق. والأولى في الاحتجاج لهم قوله صلى الله عليه وسلم:"الأعمال بالنيات"(1). ويجاب عنه بأنه عام مخصوص أو مؤول.

889 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللهَ تَجَاوَزَ عن أُمّتِي ما حَدّثَتْ بِهِ أنْفُسَها مَا لَم تَعْمَلْ أو تَكَلَّمْ". متفق عليه (2).

ورواه ابن ماجه (3) بلفظ: "عما توسوس به صدورها". بدل: "ما حدثت به أنفسها". وزاد في آخره: "وما استكرهوا عليه".

قال المصنف رحمه الله (4): وأظن الزيادة هذه مدرجة، كأنها دخلت على هشام بن عمار من حديث في حديث، والله أعلم.

لفظ "أنفسها" منصوب على مفعولية "حدثت"، وذكر المطرزي عن أهل اللغة أنهم يقولونه بالضم، يريدون بغير اختيار.

والحديث حجة في أن الطلاق لا يقع بحديث النفس. وهو قول الجمهور، وروي عن ابن سيرين والزهري وعن مالك رواية ذكرها أشهب

(1) البخاري 1/ 9 ح 1، ومسلم 3/ 1515 ح 1907.

(2)

البخاري، كتاب النكاح، باب الطلاق في الإغلاق

9/ 338 ح 5269، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس

1/ 116، 117 ح 127/ 202.

(3)

ابن ماجه 1/ 659 ح 6044.

(4)

الفتح 5/ 161.

ص: 49

عنه بأنه إذا طلق في نفسه وقع الطلاق. وقوَّى ذلك ابن العربي بأن من اعتقد الكفر بقلبه ومن أصر على المعصية أثِمَا، وكذلك الرياء بالعمل، وكذا من قذف مسلمًا بقلبه، وكل ذلك من أعمال القلب دون اللسان، والجواب عنه بالحديث المذكور وقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} (1)، وحديث النفس يخرج عن الوسع، وما ذكر ابن العربي الجواب عنه بأن الكفر هو من عمل القلب فهو مخصوص، وكذلك الرياء فهو مخصوص، والمصر على المعصية، فالإثم على عمل المعصية المتقدم على الإصرار، وكذا نقول في الرياء: إنه متعلق بالعمل الذي فعله، وكذا العجب، واحتج الخطابي بالإجماع على أن من عزم على الظهار لا يصير مظاهرًا. قال (2): وكذلك الطلاق، وكذا لو حدث نفسه بالقذف لم يكن قاذفًا. قال: ولو كان حديث النفس يؤثر لأبطل الصلاة. واحتج الطحاوي بهذا الحديث للجمهور فيمن قال لامرأته: أنت [طالق](أ). ونوى في نفسه ثلاثًا، أنه لا يقع إلا واحدة خلافًا للشافعي ومن وافقه، قال: لأن الخبر دل على أنه لا يجوز وقوع الطلاق بنية لا لفظ معها. وتعقب بأنه لفظ بالطلاق ونوى الفرقة التامة فهي نية صحبها لفظ، واحتج به أيضًا لمن قال لامرأته: يا فلانة. ونوى (ب) بذلك طلاقها، أنه (جـ) لا تطلق، خلافًا

(أ) في الأصل: طلاق.

(ب) زاد في الأصل: الطلاق ونوى.

(جـ) في جـ: أنها.

_________

(1)

الآية 286 من سورة البقرة.

(2)

الفتح 9/ 394.

ص: 50

لمالك وغيره؛ لأن الطلاق لا يقع بالنية دون اللفظ، ولم يأت بصيغ لا صريحة ولا كناية، واستدل به على أن (أ) من كتب الطلاق طلقت امرأته؛ لأنه عزم بقلبه وعمل بكتابته. وهو قول (ب) الجمهور وشرط مالك فيه الإشهاد على ذلك.

890 -

وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللهَ وَضَعَ عن أُمتي الخطَأ والنسيانَ وما استُكْرِهُوا عليه". رواه ابن ماجه والحاكم (1). وقال أبو حاتم (2): لا يثبت.

قال النووي في الطلاق من "الروضة"(3) في تعليق الطلاق: حديث حسن. وكذا قال في أواخر "الأربعين"(4) له. انتهى، وقد أخرجوه من حديث الأوزاعي، واختلف عليه؛ فقيل: عنه عن عطاء، عن عبيد بن (جـ) عمير، عن ابن عباس بهذا اللفظ. وللحاكم والدارقطني والطبراني (5)"تجاوز". وهي رواية بشر بن بكر. ورواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ولم

(أ) ساقط من: جـ.

(ب) زاد في جـ: مالك وشرط.

(جـ) في جـ: عن.

_________

(1)

ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي 1/ 659 ح 2045، والحاكم، كتاب الطلاق 2/ 198.

(2)

علل ابن أبي حاتم 1/ 431 ح 1296.

(3)

روضة الطالبين 8/ 193.

(4)

الحديث التاسع والثلاثين.

(5)

الحاكم 2/ 198، والدارقطني 4/ 170، 171 ح 33، والطبراني في الصغير 1/ 270.

ص: 51

يذكر عبيد بن عمير (1)، قال البيهقي (2): جوده بشر بن بكر (3) وهو من الثقات، وقال الطبراني في "الأوسط" (4): لم يروه عن الأوزاعي -يعني مجودًا- إلا بشر، وتفرد به الربيع بن سليمان. وللوليد فيه إسنادان آخران، قال ابن أبي حاتم (5): سألت أبي عنها، فقال: هذه أحاديث منكرة، كلها (أ) موضوعة. وقال في موضع آخر [عنه] (ب): لم يسمعه الأوزاعي من عطاء، إنما سمعه (جـ من رجل جـ) لم يسمه، أتوهم أنه عبد الله بن عامر الأسلمي، أو إسماعيل بن مسلم. قال: ولا يصح هذا الحديث ولا يثبت إسناده. وقال عبد الله بن أحمد في "العلل"(6): سألت أبي عنه فأنكره جدًّا، وقال: ليس يروى هذا إلا عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم. ونقل الخلال عن أحمد (7)، قال: من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع فقد خالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله أوجب في قتل النفس الخطأ الكفارة.

(أ) في مصدر التخريج: كأنها.

(ب) في الأصل: منه.

(جـ - جـ) في جـ: لرجل.

_________

(1)

ابن ماجه 1/ 659 ح 2045، والطبراني في الأوسط 8/ 161 ح 8273.

(2)

البيهقي 7/ 356.

(3)

بشر بن بكر التنيسي، أبو عبد الله البجلي، دمشقي الأصل، ثقة يغرب. التقريب ص 122، وينظر تهذيب الكمال 4/ 95.

(4)

الطبراني في المعجم الصغير 1/ 270.

(5)

العلل 1/ 431.

(6)

العلل ومعرفة الرجال 1/ 227.

(7)

ينظر التلخيص الحبير 1/ 282.

ص: 52

يعني من زعم ارتفاعها على العموم في خطاب الوضع والتكليف، وأورده [محمد](أ) بن نصر في كتاب "الاختلاف"(1) في باب طلاق المكره، وقال: ليس له إسناد يحتج بمثله. ورواه العقيلي في "تاريخه"(2) من حديث الوليد عن مالك به. ورواه البيهقي، وقال الحاكم: هو صحيح غريب تفرد به الوليد عن مالك. وقال البيهقي في موضع آخر: ليس بمحفوظ عن مالك. ورواه الخطيب في كتاب "الرواة عن مالك" في ترجمة سوادة بن إبراهيم (3) عنه، وقال: سوادة مجهول، والخبر منكر عن مالك. ورواه ابن ماجه (4) من حديث أبي ذر، وفيه شهر بن حوشب (5)، وفي إسناده انقطاع. ورواه الطبراني من حديث أبي الدرداء ومن حديث ثوبان (6)، وفي إسنادهما ضعف.

الحديث فيه دلالة على أن الأحكام الأخروية من العقاب معفوة عن الأمة المحمدية، إذا صدرت عن خطأ ونسيان وإكراه، كما في قوله: {ربنا لا

(أ) في الأصل، جـ: أحمد. والمثبت هو الصواب.

_________

(1)

اختلاف العلماء ص 175، 176.

(2)

العقيلي 4/ 145.

(3)

سوادة بن إبراهيم الأنصاري قال الدارقطني: ضعيف. ميزان الاعتدال 2/ 245، لسان الميزان 3/ 125.

(4)

ابن ماجه 1/ 659 ح 2043.

(5)

تقدمت ترجمته في 1/ 159.

(6)

الطبراني في المعجم الكبير 2/ 94 ح 1430.

ص: 53

تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1). وأما ابتناء الأحكام والآثار الشرعية عنها ففي ذلك تفصيل وخلاف بين العلماء، أما طلاق الناسي فأخرج ابن أبي شيبة (2) عن الحسن أنه كان يراه كالعمد إلا إذا اشترط، وأخرج (3) عن عطاء أنه كان لا يراه شيئًا. ويحتج بالحديث، وهو قول الجمهور، وأما طلاق الخاطئ فذهب الجمهور إلى أنه لا يقع، وعن الحنفية فيمن أراد أن يقول لامرأته شيئًا فسبقه لسانه، فقال: أنت طالق. يلزمه الطلاق، وأما طلاق المكره فاختلف السلف فيه؛ فأخرج ابن أبي شيبة (4) عن إبراهيم النخعي أنه يقع، لأنه شيء افتدى به نفسه، وبه قال أهل الرأي، وعنه: إن ورّى المكره لم يقع، وإلا [وقع] (أ). قال الشعبي (4): إن أكرهه اللصوص وقع، وإن أكرهه السلطان لم يقع. ووجّه بأن السلاطين من شأنهم أن يقتلوا مخالفهم غالبًا بخلاف اللصوص. وذهب الجمهور إلى عدم اعتبار ما يقع من المستكره، واحتج عطاء بقوله تعالى:{لَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (5). قال عطاء: الشرك أعظم من الطلاق. أخرجه سعيد بن منصور (6) بسند صحيح، وقرره الشافعي بأن الله لما وضع الكفر عمن تلفظ

(أ) في الأصل: لم يقع.

_________

(1)

الآية 286 من سورة البقرة.

(2)

ابن أبي شيبة 5/ 219.

(3)

ابن أبي شيبة 5/ 219، 220.

(4)

ابن أبي شيبة 5/ 49.

(5)

الآية 106 من سورة النحل.

(6)

سعيد بن منصور 1/ 277، 278 ح 1142.

ص: 54

به حال الإكراه، وأسقط عنه أحكام الكفر، فكذلك يسقط عن المكره ما دون الكفر؛ لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو دونه بطريق الأولى.

891 -

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: إذا حرم امرأته ليس بشيءٍ. وقال: لقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ. رواه البخاري (1). ولمسلم (2): إذا حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها.

الحديث فيه دلالة على أن تحريم الزوجة لا يكون طلاقًا، وهو المراد يقوله: ليس بشيء. وإن كان يلزمه كفارة يمين، وقد روى البخاري (3) بالإسناد الذي روى به هذه الرواية المطلقة زيادة "يكفر". وأخرج الإسماعيلي (4) من طريق محمد بن المبارك الصوري، عن معاوية بن سلام، بإسناد هذا الحديث: إذا حرم الرجل امرأته، فإنما هي يمين يكفرها. فعرف أن المراد بقوله: ليس بشيء. أي ليس بطلاق. وأخرج النسائي (5)، وابن مردويه، من طريق سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رجلًا جاءه، فقال: إني جعلت امرأتي علي حرامًا. قال: كذبت، ما هي عليك بحرام. ثم تلا:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (6). قال له: عليك رقبة. انتهى.

(1) البخاري، كتاب الطلاق، باب لم تحرم ما أحل الله لك 9/ 374 ح 5266.

(2)

مسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته 2/ 110 ح 1473/ 19.

(3)

البخاري 8/ 656 ح 4911.

(4)

الفتح 9/ 376.

(5)

النسائي في الكبرى 3/ 356، 6/ 495، ح 5613، 1169.

(6)

الآية 1 من سورة التحريم.

ص: 55

ويحتمل أنه أراد بقوله: ليس بشيء. أي لا يلزم فيه شيء. والأول أولى.

الحديث فيه دلالة على أن تحريم الرجل لامرأته لا يكون طلاقًا، ويلزم في ذلك كفارة يمين كما صرح به في رواية مسلم واحتمله في (أ) رواية البخاري، والمسألة اختلف فيها السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم والخلف من الأئمة المجتهدين. وانتهت أقوالهم إلى ثلاثة عشر قولًا أصولًا وتفرعت إلى عشرين مذهبًا:

الأول: أن التحريم لغو لا شيء فيه لا في الزوجة ولا في غيرها، لا طلاق ولا إيلاء ولا ظهار ولا يمين، وقد ذهب إلى هذا مسروق، فأخرج وكيع (1) عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن مسروق أنه قال: ما أبالي حرمت امرأتي أو قصعة من ثريد. وأخرج عبد الرزاق (2)، عن الثوري، عن صالح بن مسلم، عن الشعبي أنه قال في تحريم المرأة: لهي أهون علي من نعلي. وأخرج (3) ابن جريج قال: أخبرني عبد الكريم عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن أنه قال: ما أبالي حرمتها -يعني امرأته- أو حرمت ماء النهر. وعن قتادة (4): سأل رجل حميد بن عبد الرحمن الحميري عن ذلك

(أ) ساقطة من: جـ.

_________

(1)

ابن حزم في المحلى 11/ 388 من طريق وكيع به.

(2)

عبد الرزاق 6/ 403 ح 1378.

(3)

عبد الرزاق 6/ 402 ح 11376.

(4)

المحلى 11/ 388.

ص: 56

فقال: قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (1). وأنت رجل تلعب، فاذهب فالعب. وهذا قول الظاهرية، والحجة على هذا أن التحريم والتحليل إنما هو إلى الله تعالى، كما قال تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} (2). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (3). فإذا لم يجعل لنبيه أن يحرم، فكيف يجعل لغيره التحريم؟! قالوا: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"(4). والتحريم كذلك، فيكون مردودًا باطلا، ولأنه لا فرق بين تحليل الحرام وتحريم الحلال، فكما كان الأول باطلًا يكون الثاني كذلك. وقوله: هي علي حرام. إن أراد به الإنشاء فإنشاء التحريم ليس إليه، وإن أراد به الإخبار فهو كذب، قالوا: ونظرنا إلى ما عدا هذا القول، فوجدناها أقوالًا مضطربة لا برهان عليها من الله، فتعين القول بهذا.

الثاني، أن تحريم الزوجة طلاق ثلاث. وهذا رواه ابن حزم (5) عن علي ابن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عمر. وهو قول الحسن ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (6). وروي عن الحكم بن عتيبة. ورواه في "البحر" أيضًا عن علي وزيد بن ثابت. قال ابن القيم (7): الثابت عن زيد بن ثابت

(1) الآيتان 7، 8 من سورة الشرح.

(2)

الآية 116 من سورة النحل.

(3)

الآية 1 من سورة التحريم.

(4)

تقدم تخريجه ص 43.

(5)

المحلى 11/ 384.

(6)

مصنف عبد الرزاق 6/ 403 ح 11382، 11383، والمحلى 11/ 384.

(7)

زاد المعاد 5/ 303.

ص: 57

وابن عمر هو ما رواه أيضًا ابن حزم (1)، من طريق الليث بن سعد، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن [ابن هبيرة](أ)، عن قبيصة، أنه سأل زيد بن ثابت وابن عمر عمن قال لامرأته: أنت علي حرام. فقالا جميعًا: كفارة يمين. ولم يصح عنهما خلاف ذلك، وأما علي فقد روى أبو محمد (2)، من طريق يحيى القطان، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: يقول رجال في الحرام: هي حرام حتى تنكح زوجًا غيره، لا، والله ما قال ذلك علي، وإنما قال علي: ما أنا بمحلها ولا محرمها عليك، إن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر. وأما الحسن فقد روى أبو محمد (3)، من طريق قتادة، عنه أنه قال: كل حلال علي حرام، فهي يمين. ولعل أبا محمد غلط علَى عليٍّ، وزيد، وابن عمر من مسألة الخلية والبرية والبتة، فإن أحمد حكى عنهم أنها ثلاث، وقال: هو عن علي وابن عمر صحيح. فوهم أبو محمد، وحكاه في: أنت علي حرام. وهو وهم ظاهر، فإنهم فرقوا بين التحريم، فأفتوا فيه بأنه يمين، وبين الخلية فأفتوا فيها بثلاث، ولا أعلم أحدًا قال: إنه ثلاث بكل حال. انتهى.

وحجة أهل هذا القول أن التحريم يجعل كناية عن الطلاق، وأعلى أنواعه تحريم الثلاث، فيحمل على ذلك احتياطًا في تحريم البضع، ولأنه قد

(أ) في الأصل، جـ: أبي هريرة. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 16/ 242.

_________

(1)

المحلى 11/ 395.

(2)

المحلى 11/ 387.

(3)

المحلى 11/ 386.

ص: 58

أفتوا في الخلية والبرية بأنها ثلاث، كما تقدم، وغاية ما يستفاد من الخلية والبرية هو التحريم، فإذا صرح بالتحريم فهو أولى أن يكون ثلاثًا، ولأن الواحدة لا تحرم إلا إذا كانت بعوض أو قبل الدخول، فإذا أطلق التحريم انصرف إلى التحريم المطلق الذي يثبت، سواء كان قبل الدخول أو بعده، وبعوض أو غيره وهو الثلاث.

الثالث: أنه ثلاث في حق المدخول بها لا يقبل منه غير ذلك، وإن كانت غير مدخول بها وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثلاث، فإن أطلق فواحدة، فإن قال: لم أرد طلاقًا. فإن كان قد تقدم كلام يجوز صرفه إليه قُبل منه، وإن كان ابتداء لم يقبل، وإن حرّم أمته أو طعامه أو متاعه فليس بشيء. وهذا مذهب مالك، وحجته أن المدخول بها لا يحرمها إلا الثلاث، وغير المدخول بها تحرمها الواحدة، والزائدة عليها ليست من لوازم التحريم، وهذا المذهب نسبه في "نهاية المجتهد"(1) إلى علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت.

الرابع: أنه إذا نوى الطلاق كان طلاقًا، ثم إن نوى به الثلاث فثلاث، وإن نوى دونها فواحدة بائنة، وإن نوى يمينًا فهو يمين فيها كفارة، وإن لم ينو شيئًا فهو إيلاء فيه حكم الإيلاء، فإن نوى الكذب صدِّق في الفتيا، وإن لم ينو شيئًا فيكون في القضاء إيلاء، وإن صادف غير الزوجة كالأمة والطعام

(1) الهداية في تخريج البداية 7/ 44.

ص: 59

وغيره فهو يمين فيه كفارتها. وهذا مذهب أبي حنيفة، وحجة هذا القول أن لفظ التحريم لا يفيد عددًا بوضعه، وإنما يقتضي بينونة يحصل بها التحريم، فإن نوى الثلاث كان ثلاثا، وإن نوى دون الثلاث أفاد البينونة بواحدة بدون عوض، ويكون كما إذا قال: أنت طالق طلقة بائنة (أ). فإن الرجعة حق، فإذا أسقطها سقطت، ولأنه إذا ملك إبانتها بعوض يأخذه منها ملك الإبانة بدونه، فإنه محسن بتركه لأن العوض حق له، فإذا أسقطه كان له ذلك، وهو صريح في الإيلاء، فإذا لم ينو شيئًا كان إيلاء كما روي في قصة التحريم في حق النبي صلى الله عليه وسلم.

الخامس: أنه إن نوى به الطلاق كان طلاقًا، ويقع ما نواه، فإن أطلق وقعت واحدة، وإن نوى الظهار كان ظهارًا، وإن نوى اليمين كان يمينًا، وإن نوى تحريم عينها من غير طلاق ولا ظهار، فعليه كفارة يمين، وإن لم ينو شيئًا ففيه قولان، أحدهما: لا يلزمه شيء. والثاني: يلزمه كفارة يمين. وإن صادف جارية، فنوى عتقها وقع العتق، وإن نوى تحريمها لزمه بنفس اللفظ كفارة يمين، وإن نوى الظهار منها، لم يصح، ولم يلزمه شيء، وقيل: يلزمه كفارة يمين. وإن لم ينو شيئًا ففيه قولان؛ أحدهما: لا يلزمه شيء. والثاني: عليه كفارة يمين. وإن صادف غير الزوجة والأمة لم تحرم، ولم يلزمه شيء. وهذا مذهب الشافعي، وحجة هذا القول أن اللفظ أفاد التحريم، والتحريم متردد بين التحريم بالطلاق أو بالظهار أو بالإيلاء، فإذا صرفه إلى بعضها بالنية انصرف إليه؛ لأنه استعمله فيما هو صالح له، وكذا عتق الأمة؛ لأن العتق يحرمها عليه، وتحريم

ص: 60

العين يلزمه بنفس اللفظ كفارة يمين؛ لظاهر قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1). وحديث ابن عباس هذا.

السادس: أنه ظهار بإطلاقه وإن لم ينوه، إلا أن ينوي به الطلاق أو اليمين فينصرف إلى ما نواه. وهذا ظاهر مذهب أحمد. وعنه رواية ثانية أنه بإطلاقه يمين إلا أن يصرفه بالنية إلى الظهار أو الطلاق، فينصرف إلى ما نواه. وعنه رواية أخرى ثالثة، أنه ظهار بكل حال، ولو نوى غيره. وعنه رواية رابعة حكاها أبو الحسين في "فروعه" أنه طلاق بائن. وإذا قال المتكلم بالتحريم: أعني به الطلاق - متصلًا، فعنه روايتان؛ إحداهما: أنه طلاق، فيتفرع عنه أنه هل يلزمه الثلاث، أو واحدة؟ على روايتين. والثانية: أنه ظهار أيضًا، كما لو قال: أنت علي كظهر أمي، أعني به الطلاق. هذا تحقيق مذهبه، وحجة هذا القول أن اللفظ صريح في التحريم، وتحريم الإنسان لزوجته منكر من القول وزور، لأن التحليل والتحريم إلى الله سبحانه، فيكون هذا ظهارًا، لأن الظهار هو منكر وزور، وغايته تحريم الزوجة، وهذا قد صرح فيه بالتحريم، وإنما صح صرفه إلى الطلاق بالنية، لأنه يصلح كناية عنه، وكذلك إذا نوى به اليمين كان يمينًا لصلاحيته الكناية عن اليمين، لأن المآل إلى التحريم الذي هذا اللفظ صالح له، وأما الرواية بأنه ظهار ولا ينصرف إلى غيره فمرجعه إلى أنه لما كان صريحًا في الظهار، وقد نسخ الله تعالى ما كان عليه أمر الجاهلية من جعل الظهار طلاقا، فصار اللفظ غير محتمل للطلاق فلا تؤثر النية، ويتخرج على أصل أحمد الفرق

(1) الآية 2 من سورة التحريم.

ص: 61

بين أن يقصد إنشاء التحريم وبين الحلف به، فيكون في الحلف به حالفا يلزمه كفارة يمين، وفي تنجيزه أو تعليقه بشرط مقصود مظاهرًا يلزمه كفارة الظهار، وهذا يوافق المنقول عن ابن عباس أنه جعله مرة ظهارًا ومرة يمينًا.

السابع: أنه إن نوى به ثلاثًا، فهي ثلاث، وإن نوى به واحدة، فواحدة بائنة، وإن نوى به يمينًا، فهي يمين، وإن لم ينو شيئًا فهي كذبة لا شيء فيها. وهذا مذهب سفيان الثوري حكاه ابن حزم (1)، وحجة هذا القول تؤخذ مما تقدم.

الثامن: أنه طلقة واحدة بائنة بكل حال. وهذا مذهب حماد بن أبي سليمان، وحجة هذا القول أنه قد أراد تحريم الزوجة، والتحريم الحقيقي إنما هو بالطلاق الثلاث أو بالطلقة البائنة، فيقتصر على أقل مراتبه وهو الطلقة البائنة.

التاسع: أنه إذا نوى ثلاثًا فثلاث، وإن نوى واحدة، أو (أ) لم ينو شيئًا، فواحدة بائنة. وهذا مذهب إبراهيم النخعي حكاه ابن حزم (1)، وحجته أن الثلاث يحتملها اللفظ، فإذا نوى صح ذلك، وإن لم ينو اقتصر على أقل المراتب.

العاشر: أنه طلقة رجعية. حكاه ابن الصباغ وصاحبه أبو بكر الشاشي

(أ) في جـ: إن.

_________

(1)

المحلى 11/ 384.

ص: 62

عن الزهري عن عمر بن الخطاب، وحجته أن التحريم المطلق يصدق بالواحدة لا سيما على قول من يجعل الطلقة الرجعية محرمة للوطء، فيقتصر على ذلك والزيادة لا موجب لها.

الحادي عشر: أن هذا يقتضي تحريم الزوجة، ولم يذكروا طلاقًا ولا ظهارًا ولا يمينًا، بل ألزموه بموجب تحريمه. قال ابن حزم (1): صح هذا عن علي ورجال من الصحابة لم يسموا، وعن أبي هريرة، وصح عن الحسن وخلاس بن عمرو وجابر بن زيد وقتادة أنهم أمروه باجتنابها فقط، وهذا القول مرجعه إلى التوقف في حكمه، والاقتصار على صريح اللفظ.

الثاني عشر: التوقف في ذلك لا يحرمها المفتي على الزوج ولا يحلها له كما رواه الشعبي عن علي أنه قال: ما أنا بمحلها ولا محرمها عليك، إن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر (2). وهذا القول يخالف الذي قبله، من حيث إن الأول جزم بالتحريم وإن توقف في أي نوع، وهذا لم يجزم بالتحريم.

الثالث عشر: الفرق بين أن يوقع التحريم منجزًا أو معلقًا تعليقًا مقصودا، وبين أن يخرجه مخرج اليمين، فالأول ظهار بكل حال، ولو نوى به الطلاق ولو وصله بقوله: أعني به الطلاق. والثاني يمين يلزمه كفارة يمين، فإذا قال: أنت علي حرام. أو: إذا دخل رمضان فأنت علي حرام. فظهار، وإذا قال: إن سافرت، أو إن كلمت هذا، أو كلمت فلانًا، فامرأتي عليَّ

(1) المحلى 11/ 384.

(2)

تقدم تخريجه ص 58.

ص: 63

حرام. فيمين مكفرة، وهذا ذهب إليه ابن تيمية.

وقوله: لقد كان لكم. الحديث. فيه استشهاد أنه لا يحرم بالتحريم ما حرمه على نفسه، فإن الأسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر الله عليه تحريم ما أحل الله له، ولا يلزم من ظاهره أنه لا كفارة، بل الكفارة لازمة كما قال تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1). وكما ثبت في بعض ألفاظ الحديث عن ابن عباس: فعاتبه الله في ذلك، وجعل له كفارة اليمين. أخرجه البخاري (2). وأشار ابن عباس إلى قصة التحريم في قوله تعالى:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (3). واختلف العلماء في السبب، هل المراد تحريم العسل أو تحريم مارية أو غير ذلك؟ وقد أخرج النسائي (4) بسند صحيح عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله تعالى هذه الآية:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} . وهذا أصح طرق هذا السبب، وله شاهد مرسل أخرجه الطبري (5) بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي الشهير قال: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم ولده في بيت بعض نسائه، فقالت: يا رسول الله، في بيتي وعلى فراشي؟! فجعلها عليه حرامًا، فقالت: يا رسول الله، كيف تحرم عليك الحلال؟ فحلف بالله لا يصيبها، فنزلت. قال زيد بن أسلم: فقول الرجل لامرأته: أنت علي

(1) الآية 2 من سورة التحريم.

(2)

البخاري 2/ 657 ح 4913، وهذا اللفظ أخرجه الترمذي 5/ 391 ح 3318.

(3)

الآية 1 من سورة التحريم.

(4)

النسائي 7/ 71.

(5)

الطبري في تفسيره 28/ 155.

ص: 64

حرام. لغو، وإنما تلزمه كفارة يمين إن حلف. والتأسي وقع بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه حرم على نفسه وكفر عن يمينه، وليس من تناول (أ) الخطاب للأمة فإن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم الخاص به ليس خطابًا للأمة على ما هو الصحيح.

892 -

وعن عائشة رضي الله عنها: أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك. قال: "لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك". رواه البخاري (1).

قوله: أن ابنة الجون. اختلف في اسم ابنة الجون؛ ففي كتاب أبي نعيم في "معرفة الصحابة" أن اسمها عمرة بنت الجون (2)، وفي إسناده عبيد بن القاسم (ب)(3) وهو متروك، وفي رواية للبخاري (4) أن اسمها أميمة بنت النعمان بن شراحيل، وجزم الكلبي بأن اسمها أسماء بنت النعمان بن شراحيل بن الأسود بن الجون الكندية (5)، وكذا محمد بن إسحاق ومحمد بن حبيب (6) وغيرهما، ولعل اسمها أسماء ولقبها أميمة، ووقع في "المغازي" أنها أسماء

(أ) في جـ: يتأول.

(ب) في جـ: القسيم. وينظر تهذيب الكمال 19/ 229.

_________

(1)

البخاري، كتاب الطلاق، باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق؟ 9/ 356 ح 5254.

(2)

معرفة الصحابة 5/ 172 (7505).

(3)

تقدمت ترجمته في 7/ 281.

(4)

البخاري 9/ 356 ح 5256 وفيه: أميمة بنت شراحيل.

(5)

انظر أنساب الأشراف 2/ 94، وفيه: أسماء بنت النعمان بن الأسود بن الحارث بن شراحيل بن كندي.

(6)

المحبر لابن حبيب ص 94. لكن اسمها فيه كما في أنساب الأشراف.

ص: 65

بنت كعب الجونية (1)، فلعل في نسبها من اسمه كعب فنسبت إليه، وقيل: أسماء بنت (أ) الحارث بن النعمان، وقد وقع في نسخة الصغاني للبخاري أن ابنة الجون الكلبية (2)، وقد روى ابن سعد (3)، عن الواقدي، عن ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم الكلابية. فذكر مثل حديث الباب، والظاهر أن الكلابية تصحيف الكندية، والكلابية قصة أخرى ذكرها ابن سعد (4) أيضًا بهذا السند إلى الزهري، وقال: اسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، استعاذت منه فطلقها، فكانت تلقط البعر وتقول: أنا الشقية. قال: وتوفيت سنة ستين. ومن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن الكندية لما وقع التخيير اختارت قومها، ففارقها، فكانت تقول: أنا الشقية (5). ومن طريق [سعيد](ب) بن أبي هند، أنها استعاذت منه فأعاذها (5). ومن طريق

(أ) زاد في جـ: الأسود بن.

(ب) في الأصل، جـ: شعبة. وانظر تهذيب الكمال 11/ 93.

_________

(1)

سيرة ابن إسحاق ص 248.

(2)

انظر الفتح 9/ 357.

(3)

ابن سعد 8/ 141.

(4)

ابن سعد 8/ 141، 218.

(5)

ابن سعد 8/ 142.

ص: 66

الكلبي، اسمها العالية بنت ظبيان بن عمرو (1)، وحكى ابن سعد (2) أيضًا أن اسمها عمرة بنت يزيد بن عبيد وقيل: بنت يزيد بن الجون، وقال ابن عبد البر (3): أجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج الجونية، واختلفوا في سبب فراقه لها، فقال قتادة: لما دخل عليها دعاها فقالت: تعال أنت. فطلقها، وقيل: كان بها وضح (4) كالعامرية (5)، قال: وزعم بعضهم أنها قالت: أعوذ بالله منك. فقال: "قد عذت بمعاذ؛ وقد أعاذك الله مني". فطلقها. قال: وهذا باطل، وإنما قاله لامرأة من بني [العنبر](أ) وكانت جميلة، فخافت نساؤه أن تغلبهن عليه، فقلن لها: إنه يعجبه أن يقال له: أعوذ بالله منك. ففعلت فطلقها، ولكن الحكم [بالبطلان](ب) غير قويم مع ثبوت ذلك في "الصحيح" وكثرة الروايات، والقول الذي نسبه إلى قتادة ذكر مثله أبو سعيد النيسابوري عن شرقي بن قطامي (6)، قال ابن سعد (2): اختلف علينا اسم الكلابية؛

(أ) في الأصل، جـ: العشير. وفي الاستيعاب: سليم، والمثبت من الفتح، وورد في أسد الغابة 7/ 17 بلعنبر.

(ب) في الأصل: بالطلاق.

_________

(1)

ابن سعد 8/ 143.

(2)

ابن سعد 8/ 141.

(3)

الاستيعاب 4/ 1785.

(4)

الوضح: البرص. اللسان (وض ح).

(5)

هي عمرة بنت يزيد بن عبيد بن كلاب، انظر تاريخ دمشق 3/ 231، والبداية 8/ 217.

(6)

انظر الفتح 9/ 357.

ص: 67

فقيل: فاطمة بنت الضحاك بن سفيان. وقيل: عمرة بنت يزيد بن عبيد. وقيل: سنا (أ) بنت سفيان بن عوف. وقيل: العالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف. فقال بعضهم: هي واحدة واختلف في اسمها. وقال بعضهم: بل كن جميعًا ولكل واحدة منهن قصة غير قصة صاحبتها. ثم ترجم الجونية، فقال: أسماء بنت النعمان. ثم أخرج من طريق عبد الواحد بن أبي عون، قال: قدم النعمان بن أبي الجون الكندي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ألا أزوجك أجمل أيم في العرب؛ كانت تحت ابن عم لها فتوفي، وقد رغبت (ب) فيك؟ قال:"نعم". قال: فابعث من يحملها إليك. فبعث معه أبا أسيد الساعدي، قال أبو أسيد: فأقمت ثلاثة أيام، ثم تحملت معي في محفة (1)، فأقبلت بها حتى قدمت المدينة، فأنزلتها في بني ساعدة، ووجهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بني عمرو بن عوف فأخبرته. الحديث. قال ابن أبي عون (2): وكان ذلك في ربيع الأول سنة تسع. ثم أخرج ذلك من طريقين، وفي تمام القصة، قيل لها: استعيذي منه؛ فإنه أحظى لك عنده. وخدعت لما رُئي من جمالها، وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حملها على ما قالت، فقال:"إنهن صواحب يوسف وكيدهن".

وقد اختلفت الروايات في سبب طلاقها؛ هل هو بسبب الاستعاذة كما

(أ) في مصدر التخريج: سبا. وانظر الإصابة 7/ 714.

(ب) في جـ: رغب.

_________

(1)

المحفة بكسر الميم: مركب من مراكب النساء كالهودج. المصباح المنير (ح ف ف).

(2)

ابن سعد 8/ 145.

ص: 68

في حديث عائشة وحديث أبي أسيد، أو أنها كرهت لما بسط يده إليها كما في رواية سهل عن أبيه؟ فيحتمل أن القصة واحدة، وأنه وقع مجموع الأمرين واقتصر الراوي على البعض، وأن القصة متعددة، ويدل عليه أن الذي في [حديث](أ) أبي أسيد اسمها أسماء، والذي في حديث سهل اسمها أميمة، وقد أخرج البخاري أيضًا في باب الأشربة (1) من حديث أبي أسيد فذكر الحديث وأنها نزلت في أجم (2) بني ساعدة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاءها فدخل عليها، فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها قالت: أعوذ بالله منك. فقال: "أعذتك مني". فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك. قالت: كنت أنا أشقى من ذلك. فظاهر هذه القصة أنه لم يكن قد عقد بها، ولذا قال المصنف رحمه الله تعالى: يحمل على تعدد القصة، وأن هذه لم يكن قد عقد بها والأخرى قد عقد بها. وأما القول بأن الكلابية مستعيذة، والكندية كذلك، وأن قصتهما متفقة، فمستبعد؛ لأن الاستعاذة يستبعد أن تكون من امرأتين بالخديعة، فإن العادة تقضي بشيوع ذلك، فلا يكاد يحصل مع واحدة بعد أن يبلغها ما وقع مع غيرها.

وقوله: "الحقي بأهلك". فيه دلالة على أنه طلاق، لأنه لم يرو أنه زاد

(أ) في الأصل: رواية.

_________

(1)

البخاري 10/ 98، 99 ح 5637.

(2)

أجم بضم الهمزة والجيم: بناء يشبه القصر، وهو من حصون المدينة، والجمع آجام مثل أطم وآطام. الفتح 10/ 99.

ص: 69

غير ذلك فيكون كناية طلاق، إذا أريد به الطلاق كان طلاقًا. قال البيهقي (1): زاد ابن أبي ذئب عن الزهري: "الحقي بأهلك". جعلها تطليقة. قال: وهذا من قول الزهري، وجاء في قصة كعب بن مالك لا قيل له:"اعتزل امرأتك". قال: الحقي بأهلك فكوني عندهم (2). فلم يرد الطلاق فلم تطلق، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من العلماء منهم الأئمة الأربعة وغيرهم، وكذا غيره من الألفاظ المحتملة للطلاق مثل: أنت حرام. وقد حكم علي وابن عمر في قوله: أنت خلية. أنها ثلاث (3). وقال عمر: واحدة، وهو أحق بها (4). وفرق معاوية بين رجل وامرأته قال لها: إن خرجت فأنت خلية (5). وقال علي وزيد في البرية: إنها ثلاث (6). وقال عمر: هي واحدة، وهو أحق بها (7). وكذا يقع الطلاق من العجمي والتركي، فعرف من هذا أن الطلاق يقع باللفظ الذي يحتمله مجازًا إذا نواه. وقال أهلُ الظاهر: لا يقع الطلاق بقوله: الحقي بأهلك. قالوا: و (أ)

(أ) زيادة في الأصل: قول.

_________

(1)

البيهقي 7/ 342.

(2)

البخاري 8/ 113 - 116 ح 4418، ومسلم 4/ 2120 ح 2769.

(3)

مصنف عبد الرزاق 6/ 358 ح 11184، وسنن سعيد بن منصور 1/ 385 ح 1678، 1679، وسنن البيهقي 7/ 343.

(4)

مصنف عبد الرزاق 6/ 356، 11176، وسنن سعيد بن منصور 1/ 383 ح 1666، وسنن البيهقي 7/ 343.

(5)

المحلى 11/ 507.

(6)

مصنف عبد الرزاق 6/ 359، وسنن سعيد بن منصور 1/ 385 ح 1678، وسنن البيهقي 7/ 344.

(7)

كذا في النسخ وهو تكرار الأثر السابق.

ص: 70

النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عقد على ابنة الجون، وإنما أرسل إليها ليخطبها، قالوا: ويدل على ذلك ما جاء في حديث أبي أسيد في "صحيح البخاري"(1) أنه قال لها: "هبي لي نفسك". فقالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ فأهوى ليضع يده عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك. ولكنه يبعده قوله: فأهوى ليضع يده عليها. وفي رواية: فلما دخل عليها (2). فإن مثل ذلك لا يكون إلا مع زوجة، وإن كان الدخول يحتمل أنه لم يرد به الدخول على الزوجة، وإنما هو الدخول إلى المحل للخطبة منها، وعرض الأمر عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم له أن يتزوج من [غير](أ) عقد الولي له، ومن غير إذن الزوجة، فكان مجرد إرساله إليها أو إحضارها ورغبته فيها كافيًا في ذلك، ويكون قوله:"هبي لي نفسك". تطييبًا لخاطرها واستمالة لقلبها، ويؤيده قوله في رواية لابن سعد (3): أنه اتفق مع أبيها على مقدار صداقها، وأن أباها قال له: إنها رغبت فيك.

واعلم أن التي لم يدخل بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يضرب عليها الحجاب، لا يكون لها حكم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم النكاح على الغير، كما روي أنه تزوج بهذه المهاجر بن أبي أمية، فأراد عمر معاقبتها، فقالت: ما ضرب علي الحجاب، ولا سميت أم المؤمنين. فكف عنها (4). وعن الواقدي (5):

(أ) ساقطة من: الأصل.

_________

(1)

البخاري 9/ 356 ح 5255.

(2)

هي رواية البخاري السابقة.

(3)

ابن سعد 8/ 143.

(4)

ابن سعد 8/ 147.

(5)

ابن سعد 8/ 146، 147.

ص: 71

سمعت من يقول: إن عكرمة بن أبي جهل خلف عليها. قال: وليس ذلك بثبت (أ). والله أعلم. وروي أنها توفيت في خلافة عثمان وأنها ماتت كمدًا (1).

893 -

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك". رواه أبو يعلى، وصححه الحاكم، وهو معلول. وأخرج ابن ماجه عن المسور بن مخرمة مثله، وإسناده حسن، لكنه معلول أيضًا (2).

الحديث أخرجه الحاكم (3) من طريق محمد بن المنكدر، قال الدارقطني (4): الصحيح مرسل ليس فيه جابر. قال يحيى بن معين (5): لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق قبل نكاح". وأصح شيء فيه حديث ابن المنكدر عمن سمع طاوسًا عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وقال أبو داود الطيالسي (6): حدثنا ابن أبي ذئب، حدثني من سمع عطاء عن جابر نحوه. ورواه ابن أبي شيبة (7) عن وكيع عن ابن أبي ذئب عن عطاء وابن المنكدر عن

(أ) في جـ: يثبت.

_________

(1)

ابن سعد 8/ 146، 147.

(2)

أبو يعلى -كما في إتحاف الخيرة 5/ 83 ح 4470 - والحاكم، كتاب الطلاق 1/ 204، وابن ماجه، الطلاق، باب لا طلاق قبل نكاح 1/ 660 ح 2048.

(3)

الحاكم 2/ 420.

(4)

التخليص الحبير 3/ 211.

(5)

التلخيص الحبير 3/ 212.

(6)

الطيالسي 3/ 261 ح 1787.

(7)

ابن أبي شيبة 5/ 16.

ص: 72

جابر. واستدركه الحاكم (1) من حديث وكيع، وهو معلول. ورواه أبو قرة في "سننه" عن ابن جريج عن عطاء عن جابر مرفوعًا (2). وقال ابن عبد البر (3): روي من وجوه إلا أنها عند أهل العلم بالحديث معلولة.

وحديث المسور اختلف فيه عن الزهري؛ فقال علي بن الحسين بن واقد: عن هشام عن سعيد عن الزهري عن عروة عن المسور. وقال حماد بن خالد: عن هشام بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة، وعن أبي بكر الصديق، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وأبي سعيد الخدري، وعمران بن حصين، وغيرهم. ذكرها البيهقي في "الخلافيات"(4)، وأما الحاكم (5) فصححه من حديث جابر وقال: أنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه؟! فقد صح على شرطهما من حديث ابن عمر وعائشة وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر. انتهى.

وقد تكلم على جميع طرقه، قال البيهقي (4): أصح حديث فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال الترمذي (6): هو أحسن شيء روي في الباب. وهو عند أصحاب "السنن"(7) بلفظ: "ليس على رجل طلاق

(1) الحاكم 2/ 420.

(2)

أبو قرة -كما في التلخيص الحبير 3/ 212.

(3)

الاستذكار 18/ 122.

(4)

التلخيص الحبير 3/ 211.

(5)

الحاكم 2/ 419.

(6)

الترمذي 3/ 486.

(7)

أبو داود 2/ 264 ح 2190، وابن ماجه 1/ 660 ح 2047، والترمذي 3/ 486 ح 1181، والنسائي 7/ 12.

ص: 73

فيما لا يملك" الحديث. ورواه البزار (1) من طريقه بلفظ: "لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك". وقال البيهقي في "الخلافيات" (2): قال البخاري: أصح شيء فيه وأشهره حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وحديث الزهري عن عائشة، وعن علي، ومداره على جويبر عن الضحاك في النزال بن سبرة عن علي، وجويبر متروك (3). ورواه ابن الجوزي في "العلل"(4) من طريق أخرى عن علي، وفيه عبد الله بن زياد بن سمعان وهو متروك (5). وفي "الطبراني"(6) من طريق [عبد الله بن أبي أحمد بن جحش](أ) عن علي، وعن المسور بن مخرمة. رواه ابن ماجه (7) بإسناد حسن.

الحديث فيه دلالة على أنه لا يقع الطلاق على المرأة الأجنبية، فإن كان ذلك تنجيزًا فإجماع، وإن كان تعليقًا بالنكاح، كأن يقول: إن نكحت فلانة فهي طالق. فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:

فذهب الشافعي وأحمد وداود -وهو مذهب زيد بن علي والهدوية والصادق، وأخرجه البخاري عن اثنين وعشرين من الصحابة والتابعين إلى

(أ) في الأصل، جـ: عبيد الله بن أبي أحمد بن حجر. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 14/ 292.

_________

(1)

البزار 9/ 439 ح 2472.

(2)

التلخيص الحبير 3/ 211.

(3)

جويبر، ويقال: اسمه جابر، وجويبر لقبه، ابن سعيد الأزدي، أبو القاسم البلخي، نزيل الكوفة، راوي التفسير، ضعيف جدا. التقريب ص 143، وينظر تهذيب الكمال 5/ 167.

(4)

العلل المتناهية 2/ 141 ح 1060.

(5)

تقدمت ترجمته في 2/ 336.

(6)

الطبراني في الأوسط 1/ 95 ح 290.

(7)

ابن ماجه 1/ 660 ح 2048.

ص: 74

أنه لا يصح منه مطلقًا سواء كانت معينة أو لا، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وهو أحد قولي المؤيد بالله إلى أنه يصح التعليق مطلقًا، وذهب مالك في المشهور عنه وربيعة والثوري والليث وابن أبي ليلى وابن مسعود و [أصحاب](أ) مالك- إلى التفصيل وهو أنه إن خص، بأن يقول: كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من بلد كذا فهي طالق. أو قال: في وقت كذا. وقع الطلاق، وإن عمم بأن يقول: كل امرأة أتزوجها فهي طالق. لم يقع شيء، قال صاحب "نهاية المجتهد" (1): سبب الخلاف، هل من شرط وقوع الطلاق وجود الملك متقدمًا بالزمان على الطلاق، أم ليس من شرطه؟ فمن قال: هو من شرطه، قال: لا يتعلق الطلاق بالأجنبية. ومن قال: ليس من شرطه إلا وجود الملك فقط. قال: يقع. وأما الفرق بين التخصيص والتعميم فاستحسان مبني على المصلحة، وذلك أنه إذا وقع التعميم، فلو قلنا بوقوعه امتنع منه التزويج، فلم يجد سبيلًا إلى النكاح الحلال فكان من باب النذر بالمعصية، وأما إذا خصص فلا يمتنع منه ذلك. انتهى.

وقال في "الهَدْي"(2): إن القائل: إن تزوجت فلانة فهي طالق. مطلق لأجنبية؛ فإنها حين أنشأ الطلاق أجنبية، والمتجدد هو نكاحها، فهو كما لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق. فدخلت وهي زوجته لم تطلق إجماعًا. انتهى.

(أ) ساقط من: الأصل.

_________

(1)

الهداية في تخريج أحاديث البداية 7/ 53.

(2)

زاد المعاد 5/ 217.

ص: 75

والقول الأول هو الراجح لعموم الحديث المذكور، وإن كان في إسناده مقال فهو متأيد بكثرة الطرق، وأيضًا فقد روى الحاكم (1) من طريق ابن عباس قال: ما قالها ابن مسعود، وإن كان قالها فزلة من عالم. في الرجل يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} (2). ولم يقل: إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن، ورواه عنه بلفظ آخر وفي آخره: فلا يكون طلاق حتى يكون نكاح (3). وهذا علقه البخاري (4)، وأخرج الدارقطني (5) من حديث زيد بن علي بن الحسين بن علي عن آبائه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي عرضت علي قريبة لها أن أتزوجها فقلت: إن تزوجتها فهي طالق ثلاثًا. فقال: "هل كان قبل ذلك من ملك؟ " قال: لا. قال: "لا بأس، تزوجها". وإسناده ضعيف، وأورده (6) أيضًا عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال عم لي: اعمل لي عملًا حتى أزوجك بنتي. فقلت: إن تزوجتها فهي طالق ثلاثًا. ثم بدا لي أن أتزوجها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم. فذكر الحديث. وفيه علي بن [قرين](أ)(7) وهو متروك، ولكن هذه

(أ) في النسخ: يزيد. والمثبت من مصادر الترجمة.

_________

(1)

الحاكم 2/ 205.

(2)

الآية 49 من سورة الأحزاب.

(3)

الحاكم 2/ 419.

(4)

البخاري 9/ 381.

(5)

الدارقطني 4/ 19، 20 ح 52.

(6)

الدارقطني 4/ 35، 36 ح 97.

(7)

علي بن قرين بن نبهش البصري، رماه بالكذب ابن معين وغيره، وقال أبو حاتم: متروك =

ص: 76

الأحاديث بعضها يشد بعضًا فيترجح العمل بها والله أعلم.

والخلاف في العتق كالخلاف في الطلاق فيصح عند أبي حنيفة وأصحابه والأصح من روايتين عن أحمد وعليه أصحابه، وفرق على أصله صاحب "الهَدْي"(1) بين العتق والطلاق؛ بأن العتق له قوة وسراية، فإنه يسري إلى ملك الغير، ولأنه يصح أن يجعل الملك سببًا للعتق، كما لو اشترى عبدًا ليعتقه عن كفارة أو نذر، أو اشتراه بشرط العتق، ولأن العتق من باب القرب والطاعات وهو يصح النذر بها، وإن لم يكن المنذور به مملوكًا، كقولك: لئن آتاني الله من فضله لأتصدقن بكذا وكذا.

894 -

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك". أخرجه أبو داود والترمذي وصححه (2)، ونقل عن البخاري أنه أصح ما ورد فيه (3).

تقدم الكلام في ذلك وسيأتي ما يتعلق بالنذرِ.

895 -

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبَر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق". رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي وصححه

= الحديث. الجرح والتعديل 6/ 201، وميزان الاعتدال 3/ 151.

(1)

زاد المعاد 5/ 217.

(2)

أبو داود، كتاب الطلاق، باب في الطلاق قبل النكاح 2/ 264 ح 2190، والترمذي كتاب الطلاق، باب لا طلاق قبل النكاح 3/ 486 ح 1181.

(3)

علل الترمذي ص 173 ح 302.

ص: 77

الحاكم، وأخرجه ابن حبان (1).

وقال يحيى بن معين (2): ليس يرويه إلا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان. يعني عن إبراهيم عن الأسود عنها، ورواه أبو داود والنسائي وأحمد والدارقطني والحاكم وابن حبان وابن خزيمة (3) من طرق عن علي، وفيه قصة جرت له مع عمر علقها البخاري (4)، ووصل البغوي في "الجعديات"(5) عن علي بن الجعد عن شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس، أن عمر أتي بمجنونة قد زنت وهي حبلى، فأراد أن يرجمها، فقال له علي: أما بلغك أن القلم قد وضع عن ثلاثة؟ فذكره، وتابعه ابن نمير ووكيع وغير واحد عن الأعمش (6)، ورواه جرير بن حازم عن الأعمش فصرح فيه بالرفع (7)، وعلق البخاري (8) أيضًا عن علي رضي الله عنه: كل

(1) أحمد 6/ 100، 101، وأبو داود، كتاب الحدود، باب المجنون يسرق أو يصيب حدًّا 4/ 137 ح 4398، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم 1/ 658 ح 2041، والنسائي، كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج 6/ 156، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 59، وابن حبان، كتاب الإيمان، باب التكليف 1/ 355 ح 142.

(2)

انظر التلخيص الحبير 1/ 183.

(3)

أبو داود 4/ 137، 138 ح 4399، والنسائي في الكبرى 4/ 323 ح 7343، وأحمد 1/ 154، 155، والدارقطني 3/ 138، 139 ح 173، والحاكم 1/ 258، وابن حبان 1/ 356 ح 143.

(4)

البخاري 12/ 120.

(5)

الجعديات 1/ 233 ح 740.

(6)

أبو داود 4/ 137، 138 ح 4399، 4400، والبيهقي 8/ 264.

(7)

ابن حبان 1/ 356 ح 143.

(8)

البخاري 9/ 338.

ص: 78

طلاق جائز إلا طلاق المعتوه. ووصله البغوي في "الجعديات"(1) عن [عابس](أ) بن ربيعة أن عليًّا قال: كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه. وهكذا أخرجه سعيد بن منصور (2) عن علي، وأخرج الترمذي (3) مثله من حديث أبي هريرة مرفوعًا وزاد في آخره:"المغلوب على عقله".

والمعتوه: بفتح الميم وسكون المهملة وضم المثناة وسكون الواو بعدها هاء، وهو الناقص العقل فيدخل فيه الطفل والمجنون والسكران.

والحديث فيه دلالة على أن الثلاثة لا يتعلق بهم الخطاب التكليفي، وهذا مجمع عليه حيث كان الصغير لا يميز، وأما الخطاب الوضعي ففيه تفصيل، وهو إن صدر من الأفعال التي توجب حكمًا وضعيًّا كالجنايات فالحكم لازم على تفاصيل مذكورة في علم الفروع، وأما الألفاظ كالطلاق ونحوه، فالظاهر الإجماع في حق النائم أنه لا يقع منه، وأما الصبي فالجمهور أنه لا يقع منه حتى يبلغ، وروي عن الحسن وابن المسيب أنه يصح منه إذا عقل وميّز (4)، وحدّه عند أحمد أن يطيق الصيام ويحصي الصلاة، وعن عطاء إذا بلغ اثنتي عشرة سنة، وروي عن عمر وعن مالك رواية إذا ناهز الاحتلام. ذكره في "المختصر"، والمشهور عن مالك أنه لا يلزمه حتى يبلغ.

(أ) في الأصل، جـ: عامر. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 13/ 472.

_________

(1)

الجعديات 1/ 233 ح 741.

(2)

سعيد بن منصور 1/ 272 ح 1115.

(3)

الترمذي 3/ 496 ح 1191.

(4)

ابن أبي شيبة 5/ 34.

ص: 79

وقوله في الحديث: "حتى يكبَر". محتمل أن يراد به البلوغ، وأن يراد به ما ذكر، والعلماء مختلفون أيضًا بما يحصل البلوغ، فالاحتلام في حق الذكر مع إنزال النبي بلوغ إجماعًا، وفي حق الأنثى عند الهدوية، وكذا عندهم الإمناء في حال اليقظة (أإذا كان أ) لشهوة، والخلاف للمنصور فيما كان عن جماع، وكذا خروجه لغير شهوة، قال الإمام المهدي: لأنه قد كمل انعقاده، ونبات الشعر الأسود المتجعد في العانة بعد التسع السنين بلوغٌ عند الهدوية. وقال أبو حنيفة: لا يكون بلوغًا. وقال الشافعي: يكون بلوغا في حق أولاد المشركين. وله في المسلم قولان، ومضي خمسة عشر سنة منذ الولادة بلوغ في حق الذكر والأنثى؛ لحديث ابن عمر، أنه لم يجزه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربع عشرة سنة، وأجازه في السنة الثانية، وهو في خمس عشرة سنة (1). وقال أبو حنيفة: ويكون بمضي ثماني عشرة للذكر وسبع عشرة للأنثى، وفي حق الأنثى الحيض والحبل، وقال الإمام يحيى: الحبل ليس في نفسه سببًا للبلوغ، وإنما هو كاشف عن نزول المني الذي هو سبب، والحكم لأولهما. وقال أبو مضر من الهدوية: لا تبلغ في الحيض إلا بعد إكمال الثلاث. وقال أبو جعفر: لا تبلغ بالحبل حتى يحصل النفاس، واخضرار الشارب في الرجل عند الفم سبب للبلوغ، وعند المنصور بالله تفلك الثدي بلوغ في حق المرأة.

وفي قوله: "وعن المجنون حتى يفيق". فيه دلالة على أن طلاق المجنون

(أ- أ) ساقط من: جـ.

_________

(1)

تقدم ح 700.

ص: 80

لا يقع، وهو مجمع عليه، والعلة فيه ذهاب العقل، واختلف العلماء في السكران، هل حكمه حكم العاقل فيقع طلاقه، أو حكم المجنون فلا يقع؟ فذهب إلى الأول علي رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر والحسن البصري والزهري والنخعي وابن المسيب [والضحاك] و (أ)(ب) سليمان بن يسار والهادي وزيد بن علي والمؤيد وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي، وذهب إلى الثاني [عثمان](أ) وجابر بن زيد وعمر بن عبد العزيز وطاوس والقاسم بن محمد والناصر وأبو طالب وتخريج أبي العباس والطحاوي والبتي وربيعة والليث وإسحاق بن راهويه والمزني ويحيى بن سعيد الأنصاري وحميد بن عبد الرحمن وأبو ثور والشافعي في أحد قوليه والمصحح عنه الأول، واستقر على ذلك مذهب أحمد وصرح برجوعه إليه فقال في رواية عنه: الذي لا يأمر بالطلاق إنما أتى خصلة واحدة وهو تحليلها لزوجها، والذي يأمر بالطلاق أتى بخصلتين حرمها عليه وأحلها لغيره، وقال في رواية الميموني: قد كنت أقول: إن طلاق السكران يجوز حتى غلب عليَّ أنه لا يجوز طلاقه؛ لأنه لو أقر لم يلزمه، ولو باع لم يجز بيعه، والجناية لا تلزمه. قال أبو بكر (جـ) عبد العزيز: وبهذا أقول. وهو مذهب أهل الظاهر كلهم. احتج بعضهم لأهل القول الأول بقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (1). فإنه نهاهم عن قربان الصلاة حال السكر، والنهي يقتضي

(أ) ساقطة من: الأصل.

(ب) زاد بعده في جـ: ابن.

(جـ) زاد في الأصل، جـ: بن.

وهو أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بن أحمد الحنبلي، المعروف بغلام الخلال، كان أحد أهل الفهم، موثوقا به في العلم، متسع الرواية، توفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. طبقات الحنابلة 2/ 119 - 127.

_________

(1)

الآية 43 من سورة النساء.

ص: 81

التكليف، والمكلف يصح منه الإنشاءات، ولأن إيقاع الطلاق عقوبة له، ولأن ترتيب الطلاق على التطليق من باب ربط الأحكام بأسبابها فلا يؤثر فيه السكر، ولأن الصحابة رضي الله عنهم أقاموه مقام الصاحي في كلامه؛ فإنهم قالوا: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفترى ثمانون (1). لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا قيلولة (2) في الطلاق". أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(3)، ولما رواه عطاء بن عجلان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله"(4). ولأن الصحابة أوقعوا عليه الطلاق، أخرج أبو عبيد (5) أن رجلًا طلق امرأته وهو سكران، فرفع إلى عمر بن الخطاب، وشهد عليه أربع نسوة ففرق بينهما. وأخرج (5) من حديث سعيد بن المسيب أن معاوية أجاز طلاق السكران.

وأجيب عن هذا الاستدلال؛ أما الآية الكريمة: فليس توجيه النهي إلى السكران بألا يقرب الصلاة وإنما هو نهي عن السكر الذي يلزم من إدامته الدخول في الصلاة وهو عليه، أو أنه نهي للثمل (6) الذي يعقل الخطاب، وقد احتج بالآية أهل القول الثاني؛ لقوله:{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} . فقال

(1) النسائي في الكبرى 3/ 252، 253 ح 5288.

(2)

أي لا رجوع فيه إذا طلقها ثلاثًا. قواعد الفقه للبركتي ص 438.

(3)

سنن سعيد بن منصور 1/ 275، 276 ح 1130، 1131.

(4)

ابن عدي 5/ 2003، وينظر المحلى 9/ 265.

(5)

أبو عبيد -كما في المحلى 11/ 536.

(6)

الثمل: الذي أخذ فيه الشراب. ينظر الوسيط (ث م ل).

ص: 82

بعضهم: إنه سبحانه جعل قول السكران غير معتبر؛ لأنه لا يعلم ما يقول، والقول بأنه مكلف باطل، إذ الإجماع منعقد على أن شرط التكليف العقل، ومن لا يعقل ما يقول فليس بمكلف، وكان يلزم لو كان مكلفًا أن يقع طلاقه إذا كان مكرها على شربها أو غير عالم بأنها خمر، وهم لا يقولون به، وأما كون ذلك وقع في حقه مع عدم العقل عقوبة، فاعتبار وقوعه عقوبة يحتاج إلى دليل، ولا دليل عليه، وأما جعله من ربط الأحكام بأسبابها كالجنايات، فهذا محل نزاع، فإنه قال عثمان البتي: لا يلزمه عقد ولا بيع ولا حد إلا حد الخمر فقط. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد أنه كالمجنون في كل فعل يعتبر له العقل. والذين اعتبروا أفعاله كالليث دون أقواله فرقوا بفرقين:

أحدهما: أن إسقاط أفعاله ذريعة إلى تعطيل القصاص، إذ كل من أراد قتل غيره أو الزنى أو السرقة سكر وفعل ذلك، وليس هذا من مقاصد الشرع أنه إذا فعل جرمًا واحدا لزمه حكمه، وإذا تضاعف جرمه بالسكر وفعل المحرم الآخر سقط عنه الحكم، وهذا مما تأباه قواعد الشرع وأصوله.

والفرق الثاني: أن إلغاء أقواله لا يتضمن مفسدة؛ لأن (أ) القول المجرد من غير العاقل لا مفسدة فيه بخلاف الأفعال، فإن مفاسدها لا يمكن إلغاؤها إذا وقعت، فإلغاء أفعاله ضرر محض وفساد مستشر، بخلاف أقواله، فإن صح الفرقان بطل الإلحاق، وإن لم يصحا كانت التسوية بين أقواله وأفعاله متعينة، ثم إن قولهم: إنه من ربط الأحكام بأسبابها. إن أرادوا أن السبب هو إصدار لفظ الطلاق مطلقا، لزمهم وقوع الطلاق من المجنون والنائم

(أ) في جـ: إلا أن.

ص: 83

والسكران وإن لم يعص بالسكر، وإن قالوا: إن ذلك مشروط بالشروط، وهي البلوغ والعقل وغيرهما. فالسكران خارج عن ذلك الاعتبار، فلا يثبت كون لفظ السكران سببًا إلا بدليل، ولم يثبت ذلك حتى يربط به الحكم، وهل النزاع إلا في هذا؟!

وأما أن الصحابة جعلوه كالصاحي في قولهم: إذا شرب سكر. إلى آخره، فقال ابن حزم (1): هو خبر مكذوب، قد نزه الله عليًّا وعبد الرحمن عنه، وفيه من المناقضة ما يدل على بطلانه، فإن فيه إيجاب الحد على من هذى، والهاذي لا حد عليه.

وأما حديث: "لا قيلولة في الطلاق". فخبر لا يصح، ولو صح لوجب حمله على طلاق مكلف يعقل دون من لا يعقل، ولهذا لم يدخل فيه طلاق المجنون والصبي والمبرسم، وخبر:"كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه". مثله، لا يصح، ولو صح لكان في حق المكلف، مع أن السكران إما معتوه أو ملحق به، وقد ادعت طائفة أنه معتوه، وقالوا: المعتوه في اللغة الذي لا عقل له ولا يدري ما يتكلم به، وأما أن الصحابة أوقعوا طلاقه، فالصحابة مختلفون، فأخرج ابن أبي شيبة (2) عن عثمان أنه قال: ليس لمجنون ولا سكران طلاق. وقال عطاء: طلاق السكران لا يجوز. وقال ابن طاوس عن أبيه: طلاق السكران لا يجوز. وقال القاسم بن محمد: لا يجوز طلاقه. وصح عن عمر بن العزيز أنه أتي بسكران طلق فاستحلفه بالله الذي لا إله إلا هو، لقد طلقها وهو لا يعقل؛ فحلف فرد عليه امرأته، وضربه

(1) المحلى 11/ 540.

(2)

ابن أبي شيبة 5/ 30.

ص: 84

الحد (1). وأما الرواية عن ابن عباس فهي من طريقين في إحداهما الحجاج بن أرطاة (2)، وفي الثانية إبراهيم بن أبي يحيى (3)، وهي معارضة أيضًا بما أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور جميعا (4) عن هشيم عن [عبد] (أ) الله بن طلحة الخزاعي عن أبي يزيد [المديني] (ب) عن عكرمة عن ابن عباس قال: ليس لسكران ولا مضطهد طلاق. والمضطهد بضاد معجمة ساكنة، ثم طاء مهملة مفتوحة، ثم هاء ودال مهملة، وهو المغلوب المقهور.

وروى ذلك البخاري (5) تعليقًا، قال ابن عباس: طلاق السكران والمستكره ليس بجائز. أي بواقع. واحتجوا أيضًا بأنه عاص بفعله لم يَزُلْ عنه الخطاب بذلك ولا الإثم (جـ)؛ لأنه يؤمر بقضاء الصلوات وغيرها مما وجب عليه قبل وقوعه في السكر أو فيه. وأجاب الطحاوي بأنه لا يختلف حكم فاقد العقل بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو من جهة غيره، إذ لا

(أ) في الأصل، جـ: عبيد. والمثبت من الفتح 9/ 392 ومصدرى التخريج.

(ب) في الأصل، جـ، الفتح: المزنى. والمثبت من مصدري التخريج. وينظر تهذيب الكمال 34/ 409.

(جـ) زاد في الأصل: عليه.

_________

(1)

سعيد بن منصور 1/ 271 ح 1110، 1111.

(2)

تقدمت ترجمته في 2/ 168.

(3)

تقدمت ترجمته في 5/ 312.

(4)

ابن أبي شيبة 5/ 48، وسعيد بن منصور 1/ 278 ح 1143 كلاهما بلفظ ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق. وليس في إسنادهما ذكر عكرمة.

(5)

البخاري 9/ 388.

ص: 85

فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسبب من قبل الله أو من قبل نفسه، كمن كسر رجل نفسه، فإنه يسقط عنه فرض القيام، وتعقب بأن القيام انتقل إلى بدل وهو القعود، فافترقا، وأجاب ابن المنذر (1) عن الاحتجاج بقضاء الصلوات بأن النائم يجب عليه قضاء الصلاة، ولا يقع طلاقه، فافترقا، وقال ابن بطال (2): الأصل في السكران العقل، والسكر شيء طرأ على عقله، فمهما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على الأصل، حتى يثبت فقدان عقله.

واحتج أهل القول الثاني بما وقع في قصة حمزة، قال البخاري (3): قال عليٌّ: بقر حمزة خواصر شارفي، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة، فإذا حمزة قد ثمل محمرة عيناه، ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي. فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد ثمل، فخرج وخرجنا معه. قال ابن القيم (4): وهذا القول لو قاله غير سكران لكان ردة وكفرًا، فلم يؤاخذ بذلك حمزة. يعني: فدل على أن قول السكران غير معتبر. والجواب عنه بأن الخمر كانت مباحة حينئذ، والقائلون باعتبار طلاق السكران، إنما هو إذا كان عاصيًا بها، وبما تقدم من الآثار، وقد عرفت الجواب عن ذلك. وقال ابن المرابط (5): إذا تيقنا ذهاب عقل السكران لم يلزمه طلاق، وإلا لزمه. ومثله ذكر الإمام يحيى، وقال

(1) ابن المنذر كما في الفتح 9/ 391، والذي في شرح ابن بطال 7/ 413 أن ابن المنذر ذكره عن بعض أهل العلم.

(2)

شرح صحيح البخاري لابن بطال 7/ 415.

(3)

البخاري 6/ 196 ح 3091.

(4)

زاد المعاد 5/ 210.

(5)

الفتح 9/ 391.

ص: 86

ابن رشد المالكي في "نهاية المجتهد"(1): سبب الخلاف اختلافهم، هل حكمه حكم المجنون أم بينهما فرق؟ فمن قال: هو والمجنون سواء، إذ (أ) كان كلاهما فاقد العقل، ومن شرط التكليف العقل. قال: لا يقع. ومن قال: الفرق بينهما أن هذا السكران أدخل الفساد على عقله بإرادته، والمجنون بخلاف ذلك. ألزم السكران الطلاق، وذلك من باب التغليظ عليه. انتهى.

وإذا تنبهت لما تلونا عليك، وهو معظم ما ذكره العلماء في المسألة، لم يترجح أي القولين بدليل واضح، والله سبحانه أعلم بالصواب. واعلم أن السبكي ذكر في الحديث سؤالين (2).

أحدهما: أن قوله: "حتى يبلغ". و: "حتى يستيقظ". و: "حتى يفيق". عادات مستقبلة، والفعل المعني بها هو رفع ماض، والماضي لا يجوز أن يكون غايته مستقبلة؛ لأن مقتضى كون الفعل ماضيًا كون إجراء المعنى جميعًا ماضيه، والغاية ظرف المعنى، ويستحيل أن يكون المستقبل ظرفًا للماضي؛ لأن الآن [فاصل](ب) بينهما، والغاية إما داخلة في المعنى فيكون ماضيًا، وإما خارجة مجاورة، فالمجاور هو الآن، فيكون الآن هو الغاية لا المستقبل الذي الآن فاصل بينه وبين المعنى.

(أ) في جـ: إذا.

(ب) في الأصل: فاصلة.

_________

(1)

الهداية في تخريج البداية 7/ 50.

(2)

انظر الأشباه والنظائر للسيوطي 1/ 225.

ص: 87

الثاني: أن الرفع يستدعي سبق وضع، ولم يكن القلم موضوعًا.

وأجاب عن الأول بالتزام حذف في الكلام، وهو رفع القلم، فلا يزال مرتفعًا حتى يبلغ، إذ هو مرتفع حتى يبلغ. وعن الثاني أن الرفع لا يستدعي تقدم وضع، والبيهقي قال (1): إن الأحكام إنما نيطت بخمس عشرة سنة من عام الخندق، وقبل ذلك كانت تتعلق بالتمييز. فإن ثبت هذا، احتمل أن يكون المراد بهذا الحديث انقطاع ذلك الحكم، وبيان أنه ارتفع التكليف عن الصبي وإن ميّز حتى يبلغ، فيصح فيه أنه رفع بعد الوضع، وهذا الاعتبار صحيح في النائم، فإنه كان عليه التكليف قبل نومه، وفي المجنون أيضًا إذا كان المجنون بعد التكليف، والله أعلم.

(1) الإبهاج للسبكي 1/ 159، وينظر الأشباه والنظائر 1/ 225.

ص: 88