الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب قتال الجاني وقتل المرتد
995 -
عن عبد الله بن [عمرو](أ) رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِه فهو شَهِيدٌ". رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه (1).
وأخرجه البخاري (2) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وأخرجه أصحاب "السنن" وابن حبان والحاكم (3) من حديث سعيد بن زيد، وأخرجه مسلم (4) من طريق ثابت بن عياض عن عبد الله بن عمرو، وذكر قصة منع عبد الله لعنبسة بن أبي سفيان من إجراء الماء من حائط لآل عمرو بن العاص، وكان المنع لما يدخل عليه من الضرر.
والحديث فيه دلالة على أنه يجوز المقاتلة لن قصد أخذ مال غيره بغير حق، سواء كان المال قليلًا أو كثيرًا. وهو قول الجمهور. وقال بعض المالكية: لا تجوز المقاتلة عن المال القليل. قال القرطبي (5): سبب الخلاف في ذلك أنه هل ذلك لدفع المنكر، فلا يفترق الحال بين القليل والكثير، أو من
(أ) في الأصل، جـ، وبلوغ المرام: عمر. والمثبت من مصادر التخريج.
_________
(1)
أبو داود، كناب الأدب، باب في قتال اللصوص 4/ 246 ح 4771، والنسائي، كتاب التحريم، باب من قتل دون ماله 7/ 114، 115، والترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد 4/ 20 ح 1419.
(2)
البخاري 5/ 123 ح 2480.
(3)
الترمذي 4/ 20، 21 ح 1418، وأبو داود 4/ 246، 247 ح 4772، والنسائي 7/ 115، وابن ماجه 2/ 861 ح 2580، وابن حبان 7/ 467 ح 3194، والحاكم في علوم الحديث 1/ 176.
(4)
مسلم 1/ 124، 125 ح 141.
(5)
الفتح 5/ 124.
باب دفع الضرر، فيختلف الحال في ذلك؟ وحكى ابن المنذر (1) عن الشافعي أنه من أريد ماله أو نفسه أو حريمه ولم يمكن الدفع إلا بالقتل فله ذلك، وليس عليه عقل ولا دية ولا كفارة، لكن ليس له أن يقصد القتل. قال ابن المنذر (2): والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلمًا بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان؛ للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه. وفرق الأوزاعي بين الحال التي للناس فيها جماعة وإمام فحمل الحديث عليها، وأما في حال الاختلاف والفرقة فليستسلم ولا يقاتل أحدًا. ويؤيد قول الجمهور ما أخرجه مسلم (3) من حديث أبي هريرة بلفظ: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله". قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد". قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "فهو في النار". وظاهر الحديث إطلاق الأحوال. والله أعلم.
996 -
وعن عمران بن حصين قال: قَاتَلَ يَعلَى بن أُمَيَّة رجلًا، فعَضّ أحَدُهما صاحبَه، فَانتزع يده من فمه فنزع ثنيته، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل، لا دية له". متفق عليه واللفظ لمسلم (3).
قوله: فعض أحدهما صاحبه. لم يصرح في الرواية من العاض، ولا من
(1) الإشراف على مذاهب أهل العلم 2/ 325.
(2)
مسلم 1/ 124 ح 140.
(3)
البخاري، كتاب الديات، باب إذا عض رجلا فوقعت ثناياه 12/ 219 ح 6892، ومسلم، كتاب القسامة، باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه 3/ 1300 ح 1673.
المعضوض، وقد جاء في بعض رواياته (1): أن أجيرًا ليعلى عض رجل ذراعه. وجاء في بعضها (2): أن رجلًا من بني تميم قاتل رجلًا فعض يده. ويعلى هو من بني تميم، وقد استبعد القرطبي (3) أن يكون يعلى مع جلالة قدره عاضًّا، وأجيب بأنه لا استبعاد فقد يكون ذلك في أول إسلامه. وقال النووي (4): إن في الرواية الأولى -يعني في مسلم- أن المعضوض يعلى، وفي الرواية الثانية والثالثة أن المعضوض هو أجير يعلى، وقال الحفاظ: الصحيح المعروف أن المعضوض أجير يعلى لا يعلى. قال: ويحتمل أنهما قضيتان جرتا ليعلى ولأجيره في وقت أو وقتين. وتعقبه في "شرح الترمذي"(5) بأنه ليس في رواية مسلم ولا رواية غيره في "الكتب الستة" ولا غيرها أن يعلى هو المعضوض لا صريحًا ولا إشارة. قال في "شرح الترمذي": فيتعين أن يكون يعلى هو العاض.
وقوله: فانتزع يده. وجاء في رواية لمسلم (6): عض ذراع رجل. وجاء في رواية للبخاري (7): فعض إصبع صاحبه. وفي الجمع بين الإصبع والذراع بُعْد، ويبعد أن يحمل على تعدد القصة لاتحاد المخرج، إلا أنه يترجح ذكر الذراع؛ فإنها وقعت في رواية بديل بن ميسرة عن عطاء عند مسلم (8)،
(1) مسلم 3/ 1301 ح 1674.
(2)
النسائي 8/ 30.
(3)
الفتح 12/ 220.
(4)
شرح مسلم 11/ 160.
(5)
شرح الترمذي للعراقي -كما في الفتح 12/ 220.
(6)
مسلم 3/ 1300 ح 1673/ 19.
(7)
البخاري 4/ 443 ح 2265.
(8)
مسلم 3/ 1301 ح 1674/ 20.
وكذا في رواية الزهري عن صفوان عند النسائي (1)، ووافقه سفيان بن عيينة عن ابن جريج في رواية إسحاق بن راهويه عنه (1)، وفي حديث سلمة بن أمية عند النسائي (2)، وانفرد إسماعيل ابن علية عن ابن جريج بلفظ الأصبع (1)، فلا تقاوم الروايات المتعاضدة على ذكر الذراع.
وقوله: فنزع ثنيته. وقع بصيغة الإفراد في رواية هشام (3)، ووقع في رواية الأكثر للبخاري (4): فوقعت ثنيتاه. بصيغة التثنية، وللكشميهني (5): ثناياه. بصيغة الجمع، وقد تترجح رواية التثنية؛ لأن رواية الجمع مطابقة لها عند من يجيز في [الاثنين](أ) صيغة الجمع، ورواية الإفراد تُرَدُّ إليها بحمله على إرادة الجنس، إلا أنه وقع في رواية محمد بن بكر (6): فانتزع إحدى ثنيتيه. فهذه مصرحة بالوحدة، والحمل على تعدد الواقعة بعيد لاتحاد الخرج.
وقوله: فاختصما. بصيغة التثنية. وفي رواية البخاري (4): فاختصموا. والمراد يعلى وأجيره ومن انضم إليهما ممن يلوذ بهما أو بأحدهما. وفي رواية (7): فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية (8): فاستعدى عليه. وفي
(أ) في الأصل، جـ: الاثنتين. والمثبت من الفتح 12/ 221.
_________
(1)
النسائي 8/ 31.
(2)
النسائي 8/ 30.
(3)
مسلم 3/ 1300 ح 1673/ 19.
(4)
البخاري 12/ 219 ح 6892.
(5)
الفتح 12/ 221.
(6)
البخاري 8/ 112 ، 113 ح 4417.
(7)
مسلم 3/ 1300 ح 1673/ 19 ،20.
(8)
مسلم 3/ 1301 ح 1673/ 21.
رواية (1): فانطلق. وفي رواية (2): فأتينا (أ). وفي رواية: فأتياه (ب).
وقوله: "أيعَض". هو بفتح أوله وفتح العين المهملة والضاد المعجمة ثقيلة، وفي رواية (3):"يعمد أحدكم إلى أخيه فيعضه". وأصل ماضيه عضِض بكسر الضاد الأولى يعضَض بفتحها في المضارع، فأدغمت ونقلت حركتها إلى ما قبلها.
وقوله: "الفحل". المراد به الذكر من الإبل، ويطلق على غيره من ذكور الدواب.
وجاء في رواية: "يقضَمها"(4). بسكون القاف وفتح الضاد المعجمة على الأفصح، وهو الأكل بأطراف الأسنان.
وقوله: "لا دية له". وفي رواية (5): فأبطله. وقال: "أردت أن تأكل لحمه؟ ". وفي رواية (3): "ثم تأتي تلتمس العقل؟ لا عقل لها". فأبطلها. وفي رواية (6): "تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها قضم الفحل،
(أ) كذا في الأصل، جـ. وفي الفتح 12/ 221: فأتى.
(ب) في جـ: فأتيناه، وفي الفتح 12/ 221: فأتيا.
_________
(1)
البخاري 4/ 443 ح 2265.
(2)
ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 2/ 383 ح 1170.
(3)
ابن ماجه 2/ 886، 887 ح 2656.
(4)
البخاري 4/ 443، 6/ 125، 8/ 112، 113 ح 2265، 2973، 4417.
(5)
مسلم 3/ 1300 ح 1673/ 19.
(6)
مسلم 3/ 1301 ح 1673/ 21.
ارفع يدك حتى يقضمها ثم انتزعها". وفي رواية (1): "إن شئت أمرناه فعض يدك، ثم انتزعْها أنت". وفي رواية (2): فأهدرها.
والحديث فيه دلالة على أن هذه الجناية التي وقعت لأجل الدفع عن الضرر تهدر، ولا ضمان على الجاني، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وقالوا: لا يلزمه شيء؛ لأنه في حكم الصائل. واحتجوا أيضًا بالإجماع على أن من شهر على آخر سلاحًا ليقتله، فدفع عن نفسه فقتل الشاهر، أنه لا شيء عليه، قالوا: ولو جرحه المعضوض في موضع آخر لم يلزمه شيء. وشرط الإهدار أن يتألم المعضوض، وألا يمكنه تخليص يده بغير ذلك، من ضرب شدقه أو فك [لحييه](أ) ليرسلها، ومهما أمكن التخلص بدون ذلك فعدل عنه إلى الأثقل لم يهدر. وعند الشافعية وجه أنه يهدر على الإطلاق، ووجه أنه لو دفعه بغير ذلك ضمن. وعن مالك روايتان؛ أشهرهما يجب الضمان.
وأجابوا عن هذا الحديث باحتمال أن يكون سبب الإهدار شدة العض لا النزع، فيكون سقوط ثنية العاض بفعله لا بفعل المعضوض؛ إذ لو كان من فعل صاحب اليد لأمكنه التخلص من غير قلع، ولا يجوز الدفع بالأثقل مع إمكان الأخف. وقال بعض المالكية: العاض قصد العضو نفسه، والذي استحق [في](ب) إتلاف ذلك العضو غير ما فعل به، فوجب أن يكون كل
(أ) في الأصل، جـ: لحيته. والمثبت موافق لما في الأم 6/ 29، والمغني 12/ 538.
(ب) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
المزي في تهذيب الكمال 23/ 588، 589.
(2)
البخاري 6/ 125 ح 2973.
منهما ضامنًا ما جناه على صاحبه، كمن قلع عين رجل، فقطع الآخر يده، ورد عليه بأنه قياس في مقابلة النص، فهو فاسد. وقال بعضهم: لعل أسنانه كانت متحركة فسقطت عقيب النزع. وسياق الحديث يدفع [هذا](أ) الاحتمال، وتمسك بعضهم بأنها واقعة عين ولا عموم فيها، ورد عليه بأن البخاري (1) أخرج من حديث أبي بكر رضي الله عنه، أنه وقع عنده مثل ما وقع عند النبي صلى الله عليه وسلم وقضى فيه بمثله. فدل على تعدي الحكم في غير ما ورد فيه.
وما شرطه الجمهور في الإهدار إنما هو من باب التقييد بما قد عرف حكمه من القواعد الكلية، وكذا إجراء الحكم في غير جناية الفم، بأن يكون في عضو آخر من باب القياس، وقد قال يحيى بن عمر: لو بلغ مالكًا هذا الحديث لم يخالفه. وكذا قال ابن بطال (2). وقال الداودي (3): لم يروه مالك؛ لأنه من رواية أهل العراق. وقال عبد الملك: كأنه لم يصح الحديث عنده؛ لأنه أتى من قبل المشرق.
قال المصنف (3) رحمه الله تعالى: وهو مسلَّم في حديث عمران، وقد أخرجه مسلم، وأما طريق يعلى بن أمية فرواه أهل الحجاز وحملها عنهم أهل العراق، واعتذر بعض المالكية بفساد الزمان، ونقل القرطبي عن بعض أصحابهم إسقاط الضمان. قال: وضمنه الشافعي، وهو مشهور مذهب
(أ) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
البخاري 4/ 443، 444 ح 2266.
(2)
شرح صحيح البخاري 8/ 522.
(3)
الفتح 12/ 223.
مالك. وتُعقِّب بأن المعروف عن الشافعي أنه لا ضمان، وكأنه انعكس على القرطبي. والله أعلم.
997 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة، ففقأت عينه، لم يكن [عليك] (أ) جناح". متفق عليه (1)، وفي لفظ لأحمد والنسائي وصححه ابن حبان (2):"فلا دية (ب) ولا قصاص".
قوله: "اطلع عليك بغير إذن". الحديث فيه دلالة على أن من قصد النظر إلى محل غيره مما لا يجوز الدخول إليه إلا بإذن مالكه -أنه يجوز للمنظور إليه دفعه بما ذكر، وإن فقأ عينه فلا ضمان عليه فيها، وأما إذا كان مأذونًا له في النظر فالجناح غير مرفوع على من جنى على الناظر، وكذا إذا كان المنظور إليه في محل لا يحتاج إلى الإذن منه، ولو نظر منه ما لا يحل له النظر إليه؛ لأن التقصير من المنظور إليه، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وغيره.
وذهبت المالكية إلى أنه لا يقصد المنظور إليه إضرار العين ولا غيرها، وأنه إن فعل ذلك وجب القصاص والدية، قالوا: لأن المعصية لا تدفع بمعصية. وأجيب بأن هذا الدفع المأذون فيه ليس بمعصية. وقد وافق المالكية في جواز
(أ) ساقط من: الأصل.
(ب) بعده في جـ: له.
_________
(1)
البخاري، كتاب الديات، باب من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينه 12/ 243 ح 6902، ومسلم، كتاب الديات، باب تحريم النظر في بيت غيره 3/ 1699 ح 2158/ 44.
(2)
أحمد 2/ 243، والنسائي كتاب القسامة، باب من اقتص وأخذ حقه دون السلطان 8/ 61، وابن حبان، كتاب الجنايات، ذكر نفي الجناح عمن فقأ عين الناظر
…
13/ 350 ح 6004.
دفع الصائل ولو أدى إلى هلاكه ولا ضمان فيه، والحديث منابذ لقولهم وراد عليهم، وقد أجابوا عنه بأنه وردَّ على سبيل التغليظ والإرهاب، ويجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم[جعل](أ) يَخْتِل -بفتح الياء التحتية وسكون الخاء المعجمة بعدها مثناة مكسورة، من الختل، وهو الإصابة- ليطعنه -بضم العين المهملة بناء على المشهور أن الفعل في المضارع بضم العين وبالفتح للقول، وقيل: هما سواء- فإن ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن ذلك على جهة الحقيقة.
وقال يحى بن [عمر](ب) من المالكية: لعل مالكًا لم يبلغه الخبر. واعتل بعض المالكية في تأويل الحديث بالإجماع على أن من قصد النظر إلى عورة غيره أن ذلك لا يبيح فقء عينه ولا سقوط ضمانها، فكذلك إذا كان النظر إلى المذكور وهو في بيته وتجسس الناظر إلى ذلك. ونازع القرطبي في ثبوت هذا الإجماع، وقال: إن الحديث يتناول كل مطَّلع. قال: لأن الحديث المذكور فيه إنما هو مظنة الاطلاع على العورة، فبالأولى نظر العورة المحقق. وقد يجاب بأن النظر إلى البيت غير منحصر في نظر العورة فقط، بل هو عام لنظر الحريم، وما يقصد صاحب البيت ستره من الأمور التي لا يجب اطلاع أحد عليها، فلم يكن ذلك أولى.
وقال ابن دقيق العيد (1): تصرف الفقهاء في هذا الحكم بأنواع من التصرفات:
(أ) في الأصل، جـ: يجعل. والمثبت من الفتح 12/ 244.
(ب) في الأصل، جـ: يعمر. والمثبت من الفتح 12/ 245، وينظر شجرة النور الزكية ص 73.
_________
(1)
شرح عمدة الأحكام 4/ 122 - 124.
منها: أن يفرق بين أن يكون هذا الناظر واقفًا في الشارع، أو في خالص ملك المنظور إليه، أو في سكة منسدة الأسفل، اختلفوا فيه، والأشهر أن لا فرق، ولا يجوز مد العين إلى حرم الناس بحال، وفي وجه للشافعية أنه لا تفقأ إلا عين من وقف في ملك المنظور إليه.
ومنها: أنه هل يجوز رمي الناظر قبل النهي والإنذار؟ فيه وجهان للشافعية؛ أحدهما: لا. على قياس الدفع في البداية بالأهون. والثاني نعم. وإطلاق الحديث يشعر بهذين الأمرين معًا؛ أعني لا فرق بين مواقف الناظر، وأنه لا يحتاج إلى الإنذار، ويدل عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أنه لو سمع إنسان، فهل يلحق السمع بالنظر؟
وفي الحديث إشعار بأنه إنما يقصد العين بشيء خفيف كالمدرى والبندقة والحصاة؛ لقوله: "فحذفته". قال الفقهاء: أما إذا زرقه (1) بالنُّشَّاب، أو رماه بحجر يقتله، فقتله، فهذا قتيل يتعلق به القصاص أو الدية.
ومما تصرف فيه الفقهاء أن هذا الناظر إذا كان له محرم في الدار أو زوجة أو متاع لم يجز قصد عينه؛ لأن له في النظر شبهة. وقيل: لا يكفي أن يكون له في الدار محرم، إنما يمتنع قصد عينه إذا لم يكن فيها إلا محارمه.
ومنها: أنه إذا لم يكن في الدار إلا صاحبها، فله الرمي إن كان مكشوف العورة، ولا ضمان، وإلا فوجهان؛ أظهرهما لا يجوز رميه.
ومنها: أن الحرم إذا كانت في الدار مستترات، أو في بيت، ففي وجه
(1) زرقه: رماه. التاج (ز ر ق).
لا يجوز قصد عينه؛ لأنه لا يطلع على شيء. قال بعض الفقهاء: والأظهر الجواز؛ لإطلاق الأخبار، وأنه لا تنضبط أوقات الستر والتكشف، فالاحتياط حسم الباب.
ومها: أن ذلك إنما يكون إذا لم يقصر صاحب الدار، فإن كان بابه مفتوحًا أو ثَم كوة واسعة، أو ثلمة مفتوحة؛ فيُنظَر فإن كان مجتازًا لم يجز قصده، وإن كان وقف وتعمد؛ فقيل: لا يجوز قصده لتفريط صاحب الدار بفتح الباب وتوسيع الكوة. وقيل: يجوز لتعديه بالنظر. وأجري هذا الخلاف فيما إذا نظر من سطح بيته، أو نظر المؤذن من المئذنة، لكن الأظهر ها هنا عندهم جواز الرمي؛ لأنه لا تقصير من صاحب الدار. ثم قال: واعلم أن ما كان من هذه التصرفات الفقهية داخلًا تحت إطلاق الحديث، فهو مأخوذ منها (أ)، وما لا، فبعضه مأخوذ من الأخبار من فهم المعنى المقصود بالحديث، وبعضه مأخوذ من القياس وهو قليل فيما ذكر. انتهى كلامه.
واعلم أنه يؤخذ من هذا الحديث صحة قول الفقهاء: إنها تهدم الصوامع المحدثة المعورة، وكذا تعلية الملك إذا كانت معورة، وهو مروي عن القاسم الرسي، ويحتج له بما أخرجه ابن عبد الحكم في " فتوح مصر"(1) عن يزيد بن أبي حبيب، قال: أول من بنى غرفة بمصر خارجة بن حذافة، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فكتب إلى عمرو بن العاص: سلام عليك، أما بعد، فإنه
(أ) في هامش الأصل، جـ: أي من الأحاديث.
_________
(1)
فتوح مصر ص 104.
بلغني أن خارجة بن حذافة بنى غرفة، ولقد أراد أن يطلع على عورات جيرانه، فإذا أتاك كتابي هذا فاهدمها إن شاء الله تعالى، والسلام. والله أعلم.
998 -
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل. رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي، وصححه ابن حبان (1)، وفي إسناده اختلاف.
الحديث مداره على الزهري، وقد اختلف عليه؛ فرواه الليث عن الزهري عن ابن محيصة، ولم يذكر أن القضية في ناقة البراء.
ورواه مالك في "الموطأ"(2) عن الزهري عن حرام بن [سعد](أ) بن محيصة بلفظ: أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدته المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها.
(أ) في الأصل، جـ: سعيد. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر التاريخ الكبير 3/ 101.
_________
(1)
أحمد 4/ 295، وأبو داود، كتاب الأقضية، باب المواشي تفسد زرع قوم 3/ 296 ح 3570، وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب الحكم فيما أفسدت المواشي 2/ 781 ح 2332، والنسائي في الكبرى، كتاب العارية، باب تضمين أهل الماشية ما أفسدت 3/ 411 ح 5784، وابن حبان، كتاب الجنايات، باب القصاص 13/ 354، 355 ح 6008.
(2)
الموطأ 2/ 747 ح 37.
ورواه معن بن عيسى (1) عن مالك فزاد فيه: عن جده محيصة.
ورواه معمر (2) عن الزهري عن حرام عن أبيه، ولم يتابع عليه. أخرجه أبو داود وابن حبان (2).
ورواه الأوزاعي، وإسماعيل بن أمية، وعبد الله بن عيسى، كلهم (3) عن الزهري عن حرام عن البراء، وحرام لم يسمع من البراء. قاله عبد الحق تبعًا لابن حزم (4).
ورواه النسائي (5) من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن البراء.
ورواه ابن عيينة (6) عن الزهري عن حرام وسعيد بن المسيب، أن البراء.
ورواه ابن جريج (7) عن الزهري أخبرني أبو [أمامة](أ) بن سهل، أن ناقة البراء.
(أ) في الأصل، جـ: أسامة. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
كما في التخليص الحبير 4/ 86.
(2)
أبو داود 3/ 296 ح 3569، وابن حبان 13/ 354، 355 ح 6008.
(3)
النسائي في الكبرى 3/ 411، 412 ح 5785، 5786.
(4)
ينظر المحلى 8/ 584، والتلخيص الحبير 4/ 87.
(5)
النسائي في الكبرى 3/ 412 ح 5787.
(6)
البيهقي 8/ 342 من طريق ابن عيينة.
(7)
عبد الرزاق 10/ 82 ح 8438/ 1 عن ابن جريج به.
ورواه ابن أبي ذئب (1) عن الزهري قال: بلغني أن ناقة البراء.
وأخرجه البيهقي (2) من هذه الطرق المذكورة مع الاختلاف. وقال الشافعي (3) رحمه الله تعالى: أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله. قال البيهقي (4): وروينا عن الشعبي عن شريح، أنه كان يُضَمِّن ما أفسدت الغنم بالليل، ولا يُضَمِّن ما أفسدت بالنهار. ويتأول هذه الآية:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} (5). وكان يقول: النفش بالليل. وأخرج عن الشعبي قال: أتي شريح بشاة أكلت عجينًا، فقال: نهارًا أو ليلًا؟ قالوا: نهارًا. فأبطله، وقرأ:{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} . وقال: إنما النفش بالليل. وفي رواية قتادة عن الشعبي: أن شريحًا رفعت إليه شاة أصابت غزلًا، فقال الشعبي: أبصروه؛ فإنه سيسألهم: أبليل كان أم بنهار؟ فسألهم، فقال: إن كان بليل فقد ضمنتم، وإن كان بنهار فلا ضمان عليكم. قال: وقال: النفش بالليل، والهمل بالنهار. وروى مرة عن مسروق:{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} . قال: كان كرمًا، فدخلت فيه ليلًا، فما تركت فيه خضرًا.
والحديث فيه دلالة على أنه لا يضمن مالك البهيمة ما جنته في النهار؛ لأنه يعتاد إرسالها بالنهار، ويضمن ما جنته [بالليل](أ)؛ لأنه يعتاد حفظها
(أ) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
ينظر التلخيص الحبير 4/ 87.
(2)
البيهقي 8/ 341، 342، ومعرفة السنن 6/ 485، 487.
(3)
ينظر معرفة السنن 6/ 487.
(4)
البيهقي 8/ 342.
(5)
الآية 78 من سورة الأنبياء.
بالليل، وقد ذهب إلى هذا مالك والشافعي، وأطلقه الإمام المهدي في "البحر" لمذهب الهدوية، وحجتهم الحديث والآية الكريمة في قصة داود كذلك، وإن كان الاحتجاج بها مبنيًّا على أن شرع من قبلنا يلزمنا.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا ضمان على أهل الماشية مطلقًا، وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم:"العجماء جرحها جبار"(1). قال الطحاوي: إلا أن تحقيق مذهب أبي حنيفة، أنه لا ضمان إذا أرسلها مع حافظ، وأما إذا أرسلها من دون حافظ ضمن، وهذا التقييد خارج عن الدليل، وكذلك أصحاب مالك يقيدون قولهم بأنها إذا سرحت الدواب في مسارحها المعتادة للرعي، وأما إذا كانت في أرض مزروعة لا مسرح فيها، فهم يُضَمِّنون ليلًا ونهارًا.
وذهب بعضهم إلى أنه يضمن مالكها ما أفسدت ليلًا ونهارًا، قال: لأنه متعدٍّ بإرسالها، والأصول قاضية بأن المتعدي ضامن، وقد ذهب إلى هذا الليث، إلا أنه قال: لا يضمن أكثر من قيمة الماشية.
وقول رابع: أنه لا يضمن ما أتلفت مما لا يقدر على حفظه، ويضمن ما أمكنه حفظه. وهو مروي عن عمر رضي الله عنه، وجعل الإمام يحيى الحكم منوطًا باعتياد الحفظ، فإن كان يعتاد الحفظ في النهار والإرسال في الليل انعكس الحكم، وضمن جنايتها نهارًا لا ليلًا، وهو مصادم لحديث ناقة البراء، ولحديث:"العجماء جرحها جبار". وللآية الكريمة، ولعله يقول: إن الحديثين مقيد إطلاقهما بالمعنى المناسب. ثم قال الإمام المهدي بعد ذلك: مسألة: ويضمن الراعي ما أكلت الغنم في مرعاها إذ عليه حفظها، فإن أبعدها
(1) تقدم ح 472.
عن الزرائع وغفل يسيرًا فتعدت لم يضمن، إذ يعذرون في اليسير مع إبعادها، ولو سرحها ليلًا فدخلت بساتين ذات حيطان وأبواب فلا ضمان؛ إذ التفريط بفتح الأبواب بخلاف الزروع التي بلا حيطان. انتهى.
فهذه المسألة لا تستقيم إلا على ما ذكره الإمام يحيى، إذا كان يعتاد حفظها، وهو خارج عن الأقوال الأربعة.
999 -
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه في رجل أسلم ثم تهود: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله. فأمر به فقتل. متفق عليه (1). وفي رواية لأبي داود (2): وكان قد استتيب قبل ذلك.
الحديث فيه دلالة على أنه يقتل المرتد عن الإسلام، وأنه يقتل من غير استتابة؛ لقوله: لا أجلس حتى يقتل. وقد جاء في رواية أبي داود التصريح بذلك، بقول معاذ: لا أنزل عن دابتي حتى يقتل. فقتل. إلا أنه في قول أحد الرواة: وكان قد استتيب قبل ذلك. ولأبي داود (3) في رواية: فدعاه أبو موسى عشرين ليلة أو قريبًا منها، وجاء معاذ فدعاه، فأبى فضرب عنقه. قال أبو داود: رواه عبد الملك بن عمير عن أبي بردة. فلم يذكر الاستتابة، وكذا ابن فضيل عن الشيباني. وقال المسعودي عن القاسم، يعني ابن عبد الرحمن
(1) البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتلهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتها 12/ 268 ح 6923، ومسلم، كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها 3/ 1456 ، 1457 ح 1733/ 15.
(2)
أبو داود، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد 4/ 125 ح 4355.
(3)
أبو داود 4/ 125، 126 ح 4356.
في هذه القصة: فلم ينزل حتى ضربت عنقه وما استتابه (1). إلا أن الرواية التي لم يذكر فيها الاستتابة لا تعارض ما ذكرت فيها الاستتابة، ولعل معاذًا قد كان بلغه استتابة أبي موسى له.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب الاستتابة، واستدل ابن القصار لذلك بالإجماع السكوتي؛ لأن عمر كتب في أمر المرتد: هلا حبستموه ثلاثة أيام، وأطعمتموه كل يوم رغيفًا، لعله يتوب فيتوب الله عليه (2). قال: ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة، وقد قال الله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (3).
وذهب الحسن وطاوس وأهل الظاهر، ونقله ابن المنذر (4) عن معاذ وعبيد بن عمير -وأشار إليه البخاري، فإنه ذكر البخاري في الباب الآيات التي لا ذكر للاستتابة فيها- إلى أنه لا يستتاب المرتد وأنه يقتل في الحال، قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه". وبهذه، قصة معاذ. قال الطحاوي: ذهب هؤلاء إلى أن حكم المرتد حكم الحربي الذي بلغته الدعوة، فإنه يقاتل من قبل أن يدعى، قالوا: وإنما تشرع الدعوة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة، وأما من خرج عن بصيرة فلا. ثم نقل عن أبي يوسف موافقتهم، لكن قال: إن جاء مبادرًا بالتوبة خلي سبيله ووكل أمره إلى الله. وعن ابن عباس وعطاء: إن كان أصله مسلمًا لم يستتب، وإلا استتيب (5).
(1) أبو داود 4/ 126 ح 4357.
(2)
ينظر سنن سعيد بن منصور 2/ 225 ح 2585، والبيهقي 8/ 206.
(3)
الآية 5 من سورة التوبة.
(4)
الإشراف على مذاهب أهل العلم 3/ 156، ونقل فيه هذا القول عن عبيد بن عمير وطاوس.
(5)
مصنف عبد الرزاق 10/ 164 ح 18690.
ثم اختلف القائلون بالاستتابة، هل يكتفى بالمرة أو لا بد من ثلاث في مجلس، أو في يوم أو في ثلاثة أيام؟ وعن علي (1): يستتاب شهرًا. وعن النخعي (2): يستتاب أبدًا. كذا نقل عنه، والتحقيق أنه في حق من تكررت منه الردة.
وقوله: قضاء الله. يجوز فيه الرفع على خبرية مبتدأ محذوف، ويجوز نصبه على أنه مصدر حذف فعله؛ أي أقضي قضاء الله، والمراد بقضاء الله ورسوله هو قوله صلى الله عليه وسلم:"من بدل دينه فاقتلوه". وقد جاء هذا التفسير مصرحًا به في رواية أيوب بعد: قضاء الله ورسوله. أن من رجع عن دينه فاقتلوه. أو قال: "من بدل دينه فاقتلوه".
1000 -
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه". رواه البخاري (3).
الحديث فيه دلالة على قتل المرتد إذا لم يرجع إلى الإسلام، ولفظ "من" عام يشمل المذكر والمؤنث (أ)، فتقتل المرأة إذا ارتدت عن الإسلام، والخلاف في ذلك لمن يقول: إن "من" لا تعم المؤنث، وأنها لعموم المذكر، إذ يقول بأنه عموم مخصوص، والقائلون بأنها لا تقتل هم الحنفية، قالوا:
(أ) بعده في جـ: عند الأكثر.
_________
(1)
مصنف عبد الرزاق 10/ 164 ح 18691.
(2)
مصنف عبد الرزاق 10/ 166 ح 18697، والبيهقي 8/ 197.
(3)
البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم 12/ 267 ح 6922.
لأنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن قتل النساء لما رأى امرأة مقتولة، وقال:"ما كانت هذه لتقاتل"(1).
وأجاب الجمهور بأن "من" عامة للرجال والنساء، وأما النهي المذكور فإنما هو في الكافرة الأصلية كما وقع في سياق قضية (أ) النهي، فيكون النهي مخصوصًا بما فهم من العلة؛ وهو لمَّا كانت لا تقاتل، فالعلة في النهي عن قتلها إنما هو لتركها المقاتلة، وكان ذلك في حق الكفار الأصليين المتحزبين للقتال، وهي عموم قوله:"من بدل". سالمًا عن [المعارض](ب)، ويؤيد هذا أن ابن عباس راوي الحديث قال: إنها تقتل المرتدة. أخرجه ابن المنذر (2). وأخرج أيضًا والدارقطني (3) أن أبا بكر الصديق قتل امرأة مرتدة في خلافته والصحابة متوافرون، ولم ينكر ذلك عليه أحد. وهو حديث حسن.
وأخرج (4) أيضًا مرفوعًا في قتل المرتدة لكن بسند ضعيف. ووقع في حديث معاذ (5) بإسناد حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن، قال له:"أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها". وهو نص في محل
(أ) في جـ: قصة.
(ب) في الأصل: العارض.
_________
(1)
سيأتي في شرح الحديث ح 1062.
(2)
كما في الفتح 12/ 272.
(3)
ابن المنذر -كما في الفتح 12/ 272 - والدارقطني 3/ 114 ح 110.
(4)
الدارقطني 3/ 113 ح 109.
(5)
الطبراني 20/ 53، 54 ح 93.
النزاع، فيجب المصير إليه، ويؤيده من جهة النظر أن الكافرة الأصلية تسترق، فتكون غنيمة للمجاهدين، والمرتدة لا تسترق عندهم، فلا تغنم، فلا يترك قتلها، وأيضًا اشتراك الرجال والنساء في الحدود كلها؛ الزنى وغيره، ومن جملة الحدود رجم المحصنة، فهو مخصص [الحديث](أ) النهي عن قتل النساء.
وظاهر الحديث إطلاق التبديل، [فيتناول](ب) من تنصر بعد أن كان يهوديًّا، وغير ذلك من الأديان الكفرية، وقد ذهب إلى هذا الشافعية، وسواء كان من الأديان التي يقرر عليها بالجزية أم لا؛ لإطلاق هذا اللفظ. وأجاب بعض الحنفية بأن المراد بالتبديل إنما هو بكفر بعد إسلام، وإطلاق الحديث متروك الظاهر اتفاقًا في حق الكافر إذا أسلم، فإنه كان متناولًا له الإطلاق، وبأن الكفر ملة واحدة، فلو تنصر اليهودي لم يخرج عن دين الكفر، فكأن المراد: من بدل دين الإسلام بدين آخر؛ لأن الدين في الحقيقة هو الإسلام، قال الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1). وإن كان ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} (2). وظاهره أن غير الإسلام يسمى دينًا، وأنه لن يقبل منه. وأجيب بأن الآية ظاهرة فيمن ارتد عن الإسلام أنه لا يقر على ذلك، ولم يكن في الآية أيضًا أنه لا يقر على جزية، وإنما عدم القبول والخسران في الآخرة، ومع كونه يُقرر بالجزية صادقًا
(أ) في الأصل، جـ: بحديث. والمثبت يقتضيه السياق.
(ب) في الأصل: فتناول.
_________
(1)
الآية 19 من سورة آل عمران.
(2)
الآية 85 من سورة آل عمران.
عليه أنه لن يقبل منه، وقد أخرج الطبراني (1) عن عكرمة عن ابن عباس رفعه:"من خالف في دينه دين الإسلام فاضربوا عنقه". فصرح بدين الإسلام.
والحديث شامل للزنديق؛ فيقتل الزنديق ويستتاب كغيره من المرتدين، وكما روي عن علي (2) رضي الله عنه، أنه استتاب السبئية الذين قالوا: إنه إله. ثلاثة أيام، وعرض عليهم التوبة وأحرقهم بالنار في اليوم الثالث، وقال:
إني إذا رأيت أمرًا منكرا
…
أوقدت ناري ودعوت قَنْبَرا
وقد ذهب إلى قبول توبة الزنديق العترة والشافعىِ، قال الشافعي في "المختصر": وأي كفر ارتد إليه مما يظهر أو يُسَرُّ من الزندقة وغيرها ثم تاب سقط عنه القتل. وقال: يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتد. وعن أبي حنيفة وأحمد روايتان وهو المشهور عن المالكية. وحكي عن مالك: تقبل منه التوبة إذا جاء تائبًا وإلا فلا. وبه قال أبو يوسف، واختاره الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وأبو منصور البغدادي. وعن بقية الشافعية أوجه كالمذاهب المذكورة، ووجه يفرق بين من كان داعية فلا تقبل توبته، وتقبل ممن كان غير داعية، وذهب ابن الصلاح إلى أنها تقبل توبته ويعزر، فإن عاد قتل بغير استتابة، واحتج القائلون [باستتابتهم] (أ) بقوله تعالى:{إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} (3). وبقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} (4). فإنهم لم يعاجَلوا بالقتل، بل أُمهلوا حتى حلفوا،
(أ) ساقطة من: الأصل، جـ، والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
الطبراني 11/ 242 ح 11617.
(2)
ينظر التمهيد 5/ 317، 318، وتاريخ دمشق 42/ 475.
(3)
الآية 160 من سورة البقرة.
(4)
الآية 16 من سورة المجادلة، والآية 2 من سورة المنافقون.
فدل على الإمهال للاستتابة، وأن إظهار الأيمان يحصن من القتل، وقد قام الإجماع على أن أحكام الدين على الظاهر، والله يتولى السرائر، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأسامة:"هلا شققت عن قلبه"(1). وقال للذي ساره في قتل رجل: "أليس يصلي؟ ". قال: نعم. قال: "أولئك الذين نهيت عن قتلهم"(2). والأحاديث في هذا كثيرة، واستدل لمن لم يقبل التوبة، بأن توبة الزنديق لا تعرف، قالوا: وإنما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين للتأليف، والجواب عنه بأن الظاهر من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم التغاضي عن المنافقين مع ظهور الإسلام وقوة شوكته، وطلب جماعة من الصحابة لقتل من ظهر نفاقه، وإجابته صلى الله عليه وسلم في حق البعض بقوله:"أليس يصلي؟ "."أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ " وذلك للاكتفاء بظاهر الإسلام، وإن ظهر منه ما يدل على أن باطنه يخالف ما ظهر منه، وأن الأحكام الشرعية [بنيت](أ) على المعاملة بالظاهر والله يتولى السرائر، فمهما كانت اليد مع المسلمين، فحكم الإسلام جار عليه.
والزنديق بكسر أوله وسكون ثانيه، قال أبو حاتم (3): هو فارسي معرب أصله زَنْدَهْ كَرْدْ، أي يقول بدوام الدهر؛ لأن زَنْدَهْ الحياة، وكَرْدْ العمل، ويطلق على من يكون دقيق النظر في الأمور. وقال ثعلب (4): ليس في كلام العرب زنديق، وإنما قالوا: زندقي. لمن يكون شديد التحيل، وإذا أرادوا ما
(أ) في الأصل: تثبت.
_________
(1)
مسلم 1/ 96 ح 96/ 158.
(2)
أحمد 5/ 432، وأبو داود 4/ 284 ح 4928.
(3)
الجمهرة لابن دريد 3/ 504، 505. وفيه: زنده كر، بدون الدال في آخره. وينظر المعجم الذهبي ص 463.
(4)
المعرب للجواليقي ص 214، 215.
تريد العامة، قالوا: ملحد ودهري. بفتح الدال، أي يقول بدوام الدهر، وإذا قالوا بالضم: أرادوا كبر السن. وقال الجوهري (1): الزنديق من الثنوية. كذا قال. وفسره بعض شراح البخاري بأنه الذي يدعي أن مع الله إلها آخر، وتعقب بأنه يلزم منه أن يطلق على كل مشرك، والتحقيق ما ذكره مَن صَنَّف في الملل، أن أصل الزنادقة (أ) اتباع ديصان ثم ماني ثم مزدك، ودَيصان: بفتح الدال المهملة وسكون الياء المثناة من تحت بعدها صاد مهملة، ومانِّي: بتشديد النون وقد تخفف، ومزدَك: بزاي ساكنة ودال مهملة مفتوحة ثم كاف، وحاصل مقالاتهم أن النور والظلمة قديمان، و [أنهما](أ) امتزجا، فحدث العالم كله منهما، فمن كان من أهل الشر فهو من الظلمة، ومن كان من أهل الخير فهو من النور، وأنه يجب السعي في تخليص النور من الظلمة، وإلى ذلك أشار المتنبي (2) حيث قال في قصيدته المشهورة:
وكم لظلام الليل عندك من يد
…
تُخَبِّر أن المانوية تكذب
وكان بهرام جدُّ كسرى تحيل على ماني حتى حضر عنده، وأظهر له أنه قبل مقالته، ثم قتله وقتل أصحابه، وبقيت منهم بقايا اتّبعت مزدَك المذكور، وقام الإسلام والزنديق يطلق على من يعتقد ذلك، وأظهر جماعة منهم الإسلام خشية القتل، ومن ثمَّ أطلق [الاسم](ب) على كل من أسرَّ الكفر وأظهر الإسلام، حتى قال مالك: الزنديق ما كان عليه المنافقون، وكذا
(أ) في الأصل، جـ: إنما. والمثبت من الفتح 12/ 271.
(ب) في الأصل، جـ: الإسلام. والمثبت من الفتح 12/ 271.
_________
(1)
ينظر اللسان (زندق).
(2)
ديوان المتنبي ص 464.
أطلق جماعة من الفقهاء الشافعية وغيرهم، أن الزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر، فإن أرادوا اشتراكهم في الحكم فهو كذلك وإلا فأصلهم ما ذكر، وقد قال النووي في لغات "الروضة ": الزنديق: الذي لا ينتحل دينًا. وقد قال محمد بن معن في "التنقيب على المهذب": الزنادقة من الثنوية، يقولون ببقاء الدهر وبالتناسخ. قال: ومن الزنادقة الباطنية، وهم قوم زعموا أن الله تعالى خلق شيئًا، ثم خلق منه شيئًا آخر، فدبَّر العالم بأسره، ويسمونهما العقل والنفس، وتارة العقل الأول والعقل الثاني، وهو من قول الثنوية في النور والظلمة، إلا أنهم غيروا الاسمين. قال: ولهم مقالات سخيفة في النبوَّات، وتحريف الآيات، وفرائض العبادات. وقيل: إن سبب تفسير الفقهاء الزنديق بما يفسر به المنافق، قول الشافعي في "المختصر": وأي كفر ارتد إليه. المتقدم، وهذا لا يلزم منه اتحاد الزنديق والمنافق، بل كل زنديق منافق من غير عكس، وقد كان من أطلق عليه في الكتاب والسنة المنافق من يظهر الإسلام ويبطن عبادة الوثن أو اليهودية، وأما الثنوية فلا يحفظ أن أحدًا منهم أظهر الإسلام في العهد النبوي، والله أعلم.
ومن تكرر منه الردة والإسلام فتوبته مقبولة عند الأكثر، وقال أبو حنيفة والشافعي: ويعزَّر في الثالثة، وذهب أحمد وإسحاق والمروزي من أصحاب الشافعي إلى أنها لا تقبل منه التوبة؛ لقوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} (1). والجواب: أن الآية محمولة على الذين بقُوا على الكفر، لا مَن قد تاب؛ لإطلاق قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ
(1) الآية 137 من سورة النساء.
{لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1). وقوله: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (2).
1001 -
وعن ابن عباس، أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، فلما كان ذات ليلة أخذ المعول فجعله في بطنها، واتكأ عليها فقتلها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ألا اشهدوا أن دمها هدْر". رواه أبو داود (3) ورواته ثقات.
الحديث فيه دلالة على أنه يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم ويهدر دمه، فإن كان مسلمًا كان سب النبي صلى الله عليه وسلم ردة عن الإسلام؛ فيقتل، قال ابن بطال (4): من غير استتابة. ونقل ابن المنذر (5) عن الليث والأوزاعي أنه يستتاب، وإن كان من أهل العهد فإنه يقتل إلا أن يسلم، ونقل ابن المنذر (5) عن الليث [و](أ) الشافعي وأحمد وإسحاق أنه يقتل أيضًا من غير استتابة، وعن الكوفيين أنه يعزَّر المعاهد ولا يقتل، واحتج الطحاوي على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهود الذين قالوا:"السام عليك"(6). ولو كان هذا من مسلم لكان ردة؛ لأن ما هم عليه من الكفر أشد من السب، وقد يقال: إن دماءهم إنما حقنت بالعهد، وليس في العهد أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم فمن سبَّه منهم انتقض عهده، فيصير كافرًا بلا عهد، فيهدر دمه إلا أن يسلم. والله أعلم.
(أ) في الأصل: عن.
_________
(1)
الآية 38 من سورة الأنفال.
(2)
الآية 53 من سورة الزمر.
(3)
أبو داود، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم 4/ 127 ح 4361.
(4)
شرح صحيح البخاري لابن بطال 8/ 581.
(5)
ينظر الإشراف على مذاهب أهل العلم 3/ 160.
(6)
البخاري 11/ 41 ح 6256، ومسلم 4/ 1706 ح 2165.