المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب اللعان اللعان مأخوذ من اللعن، لأن الملاعن يقول في الخامسة: - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ٨

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: ‌ ‌باب اللعان اللعان مأخوذ من اللعن، لأن الملاعن يقول في الخامسة:

‌باب اللعان

اللعان مأخوذ من اللعن، لأن الملاعن يقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. واختير لفظ اللعان دون الغضب في التسمية؛ لأنه قول الرجل، وهو الذي بدئ به في الآية، وهو أيضًا يبدأ به، وله أن يرجع عنه فيسقط عن المرأة بغير عكس، وقيل: سمي لأن اللعن الطرد والإبعاد، وهو مشترك بينهما، وإنما خصت المرأة بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها؛ لأن الرجل إذا كان كاذبًا كان ذنبه القذف فقط، والمرأة إذا كانت كاذبة فقد خانت زوجها لتلويث فراشه، وعرضت بإلحاق من ليس من الزوج به، وأثبتت له الميراث وهو لا يستحقه، والرحامة فيما بينه وبين أقارب الأب.

واللعان والالتعان والملاعنة بمعنى، ويقال: تلاعتا والتعنا ولاعن الحاكم بينهما. والرجل ملاعن والمرأة ملاعنة. لوقوعه غالبًا من الجانبين.

والإجماع على أن اللعان مشروع، وعلى أنه لا يجوز مع عدم التحقيق، واختلف في وجوبه على الزوج، فذكر في "الشفاء" للأمير حسين أنه يجب إذا كان ثمَّ ولد وعلم أنه لم يقربها. وقال في "مهذب الشافعي" (1) و (أ) "الانتصار": إنه مع غلبة الظن بالزنى من المرأة أو العلم يجوز ولا يجب، ومع عدم الظن يحرم. قال والعلماء: والحكمة في مشروعية اللعان هو حفظ الأنساب ودفع المضرة عن الأزواج.

(أ) في جـ: في.

_________

(1)

المهذب 2/ 118، 119.

ص: 135

904 -

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سأل فلان فقال: يا رسول الله، أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة، كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك. فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به. فأنزل الله الآيات في سورة "النور"، فتلاهن عليه، ووعظه وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: لا، والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها. ثم دعاها فوعظها كذلك، قالت: لا، والذي بعثك بالحق إنه لكاذب. فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله، ثم ثنى بالمرأة، ثم فرق بينهما. رواه مسلم (1).

قوله: سأل فلان. ورد في هذه الرواية مبهما، وقد ورد تفسيره في غيرها من حديث ابن عمر بأنه عويمر العَجْلاني، وقد جاء في "الصحيحين"(2) أنه من الأنصار، وهو من الأنصار بالحِلْف، وكذا سمي في رواية سهل بن سعد (3) بعويمر، وكذا قال ابن العربي وأبو العباس القرطبي (4)، وأما ملاعنة هلال بن أمية، فهي من رواية أنس وابن عباس (5).

واختلف العلماء أيهما كان سبب نزول آية اللعان، قال النووي في "شرح

(1) مسلم، كتاب اللعان 2/ 1130، 1131 ح 4/ 1493.

(2)

البخاري 9/ 458 ح 5314، ومسلم 2/ 1132، 1133 ح 9/ 1494.

(3)

البخاري 9/ 446 ح 5308، ومسلم 2/ 1129 ح 1492.

(4)

عارضة الأحوذي 5/ 183، والفتح 8/ 450.

(5)

سيأتي ح 1018.

ص: 136

مسلم" (1): قال بعضهم: السبب عويمر العجلاني، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم لعويمر: "قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك". وقال جمهور العلماء: سبب نزولها قصة هلال بن أمية، وكان أول رجل لاعن في الإسلام، قال الماوردي في "الحاوي": قال الأكثرون: قصة هلال بن أمية أسبق من قصة العجلاني. قال: والنقل فيهما مشتبه ومختلف. وقال ابن الصباغ في "الشامل": قصة هلال تبين أن الآية نزلت فيه أولًا. قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعويمر: "إن الله قد أنزل فيك وفي صاحبتك". فمعناه: ما نزل في قصة هلال؛ لأن ذلك حكم عام لجميع الناس. قال المصنف رحمه الله تعالى (2)، وسبقه النوويُّ، وسبق النوويَّ الخطيبُ البغدادي: يحتمل أن يكون هلال سأل أولًا، ثم سأل عويمر، ونزلت في شأنهما معًا. وكذا قال أبو العباس القرطبي: يحتمل أن تكون القضيتان متقاربتي الزمان، فنزلت في شأنهما معًا. انتهى.

ويحتمل أن تكون الآية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، أي كرر نزولها عليه كما قاله بعض العلماء في "الفاتحة"، وقصة اللعان كانت في السنة الأخيرة من زمان النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث البخاري (3) المذكور في الحدود عن الزهري، قال: قال سهل بن سعد: شهدت المتلاعنين وأنا ابن خمس عشرة سنة. ووقع في نسخة [أبي](أ) اليمان (4) عن الزهري عن سهل بن

(أ) في الأصل: ابن.

_________

(1)

شرح مسلم 10/ 119.

(2)

الفتح 8/ 450.

(3)

البخاري 12/ 180 ح 6854.

(4)

الفتح 9/ 447.

ص: 137

سعد، قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة. لكن جزم الطبري وأبو حاتم (1) وابن حبان (2) بأن اللعان كان في شعبان سنه تسع، وجزم به غير واحد من المتأخرين، ووقع في حديث عبد الله بن جعفر عند الدارقطني (3) أن قصة اللعان كانت منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، وهو قريب من قول الطبري ومن وافقه، لكن في إسناده الواقدي، فلا بد من تأويل أحد القولين إن أمكن، وإلا فحديث الزهري أصح، [مع](أ) أن التوجه إلى تبوك كان في رجب، وقد ثبت في "الصحيحين"(4) أن هلال بن أمية أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، وفي قصته أن امرأته استأذنت له النبي صلى الله عليه وسلم أن تخدمه، فأذن لها بشرط ألا يقربها، فقالت: إنه لا حراك به. وفيه: أن ذلك كان بعد أن مضى لهم أربعون يومًا، فكيف تقع قصة اللعان في الشهر الذي انصرفوا فيه من تبوك، ويقع لهلال مع كونه فيما ذكر من الشغل بنفسه وهجران الناس له؟ وقد ثبت في حديث ابن عباس أن آية اللعان نزلت في حقه، وكذا عند مسلم من حديث أنس، وكذا في حديث ابن عباس عند أبي داود (5)، ولعلها كانت في شعبان سنه عشر لا تسع، وكانت الوفاة النبوية في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة باتفاق، فيلتئم حينئذ مع

(أ) ساقطة من: الأصل.

_________

(1)

الفتح 9/ 447.

(2)

الثقات 2/ 104، 105.

(3)

الدارقطني 3/ 277 ح 119.

(4)

البخاري 8/ 113 ح 4418، ومسلم 4/ 2120 - 2128 ح 2769.

(5)

أبو داود 2/ 283 ح 2254.

ص: 138

حديث سهل بن سعد، ووقع عند مسلم (1) من حديث ابن مسعود بتعيين اليوم دون الشهر، فقال: كنا ليلة جمعة في المسجد. فذكر القصة، واسم امرأة عويمر خولة بنت عاصم، قاله ابن منده في كتاب "الصحابة" وتبعه أبو نعيم (2)، ولا تعرف لها رواية، وكأن سلفهما في ذلك ابن الكلبي (3)، وحكى القرطبي عن مقاتل بن سليمان أنها خولة بنت قيس، وذكر ابن مردويه (3) أنها بنت أخي عاصم، فأخرج من طريق الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عاصم بن عدي لما نزلت:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} (4). قال: يا رسول الله، أنَّى لأحدنا أربعة شهداء؟ فابتلي به في بنت أخيه، وفي سنده مع إرساله ضعف، وأخرج ابن أبي حاتم في "التفسير"(5) عن مقاتل بن حيان، قال: لما سأل عاصم عن ذلك ابتلي به في أهل بيته، فأتاه ابن عمه، تحته ابنة عمه، رماها بابن [عمه](أ)، المرأة والزوج والخليل بنو عم عاصم. وعند ابن مردويه (3) في مرسل ابن أبي ليلى

(أ) في جـ، والفتح 9/ 448: عمة.

_________

(1)

مسلم 2/ 1133 ح 1495.

(2)

معرفة الصحابة 5/ 224.

(3)

الفتح 9/ 448.

(4)

الآية 4 من سورة النور.

(5)

تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2535.

ص: 139

المذكور أن الرجل الذي رمى عويمر امرأته به هو شَريك ابن سَحْماء، [واسم والد شريك](أ) عبدة بن مغيث بن الجد بن العجلان، وعويمر العجلاني هو عويمر بن أشقر في رواية القعنبي عن مالك، وكذا عند أبي داود وأبي عوانة (1) من رواية الزهري، وفي "الاستيعاب" (2): عويمر بن أبيض. وعند الخطيب (3): عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد بن عجلان، ولعل أباه كان يلقب أشقر أو أبيض، وشريك ابن سحماء كان أخا للبراء بن مالك، ولكن أم البراء هي أم أنس وهي أم سليم، ولعله كان أخاه من الرضاعة، وفي تفسير مقاتل (4) أن والدة شريك التي يقال لها: سحماء. كانت حبشية، وقيل: كانت يمانية. وعند الحاكم (5) من مرسل ابن سيرين كانت أمة سوداء. وحكى عبد الغني بن [سعيد](ب)(4) وأبو نعيم في "الصحابة"(6) أن لفظ شريك صفة له لا اسم، وأنه كان شريكًا لرجل يهودي، يقال له: ابن

(أ) في الأصل، جـ: وشريك هو. والمثبت من الفتح 9/ 448، وينظر الاستيعاب 2/ 507، والإصابة 3/ 344.

(ب) في الأصل، جـ: سعد. والمثبت عن مصدر التخريج.

_________

(1)

أبو داود 2/ 280، 281 ح 2245، وأبو عوانة 3/ 156، 157 ح 4548. وينظر مسند أبي عوانة 3/ 199، 200 مع الفتح 9/ 447.

(2)

الاستيعاب 3/ 1226.

(3)

الأسماء المبهمة ص 207.

(4)

الفتح 9/ 446.

(5)

الحاكم 2/ 202.

(6)

معرفة الصحابة 3/ 17.

ص: 140

سحماء. وحكى البيهقي في "المعرفة"(1) عن الشافعي أن شريك بن سحماء كان يهوديًّا، وأشار عياض (1) إلى بطلانه، وجزم بذلك النووي (2) تبعًا له، وقال: كان صحابيًّا، وكذا عدّه جمع من الصحابة، فيجوز أن يكون أسلم بعد ذلك، ويعكر على هذا قول ابن الكلبي (1): إنه شهد أحدًا. وكذا قول غيره: إن أباه شهد بدرًا. وهذا هو الذي قذف به امرأته هلال بن أمية، ولا يمتنع أن يتهم شريك ابن سحماء بالمرأتين معًا، ولا سيما مع قربه من امرأة عويمر واختلاطه بهلال بن أمية، فقد ذكر البيهقي في "الخلافيات"(1) من مرسل ابن سيرين أنه كان يأوي إلى منزل هلال. وسيأتي في باب حد القذف أن أول لعان كان في قصة هلال، ونذكر هناك زيادة بحث في هذا (3) إن شاء الله تعالى.

ووقع في "السيرة لابن حبان"(4) في حوادث سنة تسع: ثم لاعن بين عويمر بن الحارث العجلاني وهو الذي يقال له: عاصم. [وبين امرأته بعد العصر في المسجد](أ). قال المصنف رحمه الله (5): والذي يظهر لي أنه تحريف، وكأنه كان في الأصل: الذي سأل له عاصم. كما ثبت في

(أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

_________

(1)

ينظر الفتح 9/ 446.

(2)

شرح مسلم 1/ 128.

(3)

سيأتي ح 1018.

(4)

الثقات 2/ 104.

(5)

الفتح 9/ 449.

ص: 141

البخاري (1) أن عويمرًا قال لعاصم أن يسأل له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان سيد بني العجلان.

وقوله: إن سكت سكت على مثل ذلك. أي على أمر عظيم.

وقوله: فلم يجبه. السبب في ترك الجواب هو ما قال الشافعي (2): كانت المسائل فيما لم ينزل فيه حكم [زمن](أ) نزول الوحي ممنوعة، لئلا ينزل في ذلك ما يوقعهم في مشقة وعنت، كما قال الله تعالى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} (3). وكما ورد في الحديث المخرج في "الصحيح"(4): "أعظم الناس جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته". وقد استمر جماعة من السلف على كراهة السؤال عما لم يقع، لكن عمل الأكثر على خلافه، فلا يخفى ما فرعه الفقهاء من المسائل قبل وقوعها. وقال النووي (5): المراد كراهة المسائل التي لا يحتاج إليها، لا سيما ما كان فيها هتك ستر مسلم، أو إشاعة فاحشة، أو شناعة عليه، وليس المراد المسائل المحتاج إليها إذا وقعت، فقد كان المسلمون يسألون عن النوازل، فيجيبهم صلى الله عليه وسلم بغير كراهة، وكان صلى الله عليه وسلم يحب التيسير (ب) على أمته. وفي حديث

(أ) في الأصل، جـ: ومن. والمثبت من الفتح 9/ 449.

(ب) في جـ: الستر.

_________

(1)

البخاري 9/ 446 ح 5308.

(2)

الأم 5/ 127.

(3)

الآية 101 من سورة المائدة.

(4)

البخاري 13/ 264 ح 7289، ومسلم 4/ 1831 ح 2358.

(5)

شرح مسلم 10/ 120.

ص: 142

جابر: ما نزلت آية اللعان إلا لكثرة السؤال. أخرجه الخطيب في "المبهمات"(1).

وقوله: فلما كان بعد ذلك. إلى آخره. ظاهره أن سؤال عويمر وقع قبل أن يبتلى بالقصة، لكنه وقع في نفسه إرادة الاطلاع على الحكم فابتلي به، كما يقال: البلاء موكل بالمنطق. ولذلك قال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به. ويحتمل أنه قد كان وقع، فسأل عنه أولًا ولم يصرح به، عسى أن يحصل المخرج قبل أن يفصح بالأمر، فلما لم يحصل له أفصح به، ويحتمل أنه قد كان وقع معه ريبة من المرأة لإدراك مخايل الفجور فيها، فسأل، ثم وقع ذلك الأمر بمشاهدته.

وقوله: ووعظه وذكره. من عطف التفسير، فإن التذكير هو الوعظ، وعذاب الدنيا بالحد -لأجل القذف إن كان كاذبا- أهون من عذاب الآخرة الموعود به في قوله تعالى:{لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2).

وقوله: فبدأ بالرجل. إلى آخره. ظاهره شرعية البداءة بالرجل كما هو مقدم في الآية الكريمة، ولكن الآية الكريمة العطف فيها بالواو، وهي لا تقتضي الترتيب، وقد قام الإجماع بأن تقديم الرجل سنة، واختلف العلماء في الوجوب، فذهب الجمهور منهم الشافعي والهادي والقاسم والمؤيد وأبو طالب وأبو العباس والإمام يحيى وأشهب من المالكية ورجحه ابن العربي،

(1) الأسماء المبهمة ص 481.

(2)

الآية 23 من سورة النور.

ص: 143

إلى أن التقديم واجب، والحجة على ذلك أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم للآية الكريمة، ففيه دلالة على أن التقديم معتبر واجب، ولقوله صلى الله عليه وسلم لهلال:"البينة وإلا حدٌّ في ظهرك"(1). فكان لدفع الحد عن الرجل، فلو بدأ بالمرأة لكان دافعًا لأمر لم يثبت، ولأن الرجل يمكنه أن يرجع بعد أن يلتعن، فيندفع عن المرأة. وذهب أبو حنيفة وابن القاسم من المالكية إلى أنه يصح البداءة بالمرأة؛ لأن الآية الكريمة لا تدل على لزوم البداءة بالرجل، ولم يكن في الحديث صيغة دلالة. والجواب عنه ما تقدم، وإذا بُدئ بالمرأة فعند الأولين يجب الإعادة ما لم يحكم الحاكم، وعند الشافعي: يعيد ولو حكم؛ لمخالفة النص. والجواب عنه: أن المسألة ظنية، والحكم [ينفذ](أ) في الظني.

وقوله: ثم فرق بينهما. فيه دلالة على أنه لا تقع الفرقة إلا بتفريق الحاكم، ولا تقع بمجرد اللعان. وقد ذهب إلى هذا الهدوية والحنفية ورواية عن أحمد، وقال به محمد بن أبي صفرة من المالكية، ثم اختلفوا في هذا التفريق لو أكذب نفسه؛ فقال أبو حنيفة ومحمد بن [الحسن] (ب) وعبيد الله بن الحسن: إنه يجوز له نكاحها. وهو رواية عن أحمد، وقال أبو يوسف: هو تحريم مؤبد (2). والذي عليه جمهور العلماء حصول الفرقة باللعان من غير توقف على تفريق، وبه قال مالك والشافعي (3) وأحمد وزفر، ثم قال

(أ) في الأصل: يبعد.

(ب) في الأصل: الحسين.

_________

(1)

سيأتي ح 1018.

(2)

شرح فتح القدير 5/ 333.

(3)

الأم 5/ 291.

ص: 144

الشافعي وبعض المالكية: تحصل الفرقة بتمام لعانه وإن لم تلتعن هي. وقال أحمد: لا يحصل ذلك إلا بتمام لعانهما معًا. وهو المشهور عند المالكية وبه قال أهل الظاهر، قالوا: وهي فرقة فسخ، وحرمة مؤبدة. وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه ليس معناه إنشاء الفرقة بينهما، بل إظهار ذلك، وبيان حكم الشرع فيه، ويدل لذلك قوله عليه الصلاة والسلام:"لا سبيل لك عليها". وهو في "الصحيحين"(1) وغيرهما، قال ابن دقيق العيد (2): يحتمل أن يكون: "لا سبيل لك عليها". راجعًا إلى المال. وقوله في حديث سهل، وهو في "صحيح مسلم" (3): فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذلكم التفريق بين كل متلاعنين". قال أبو بكر بن العربي (4): أخبر عليه الصلاة والسلام بقوله: "ذلكم". عن قوله: "لا سبيل لك عليها". وقال: كذا حكم كل متلاعنين. وإن كان الفراق لا يكون إلا بحكم فقد نفذ الحكم فيه من الحاكم الأعظم صلى الله عليه وسلم بقوله: "ذلكم التفريق بين كل متلاعنين". ولو أشار إلى الطلاق لتزوجها بعد زوج بحكم القرآن. وروى أبو داود وغيره (5) من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس. الحديث، وفيه: وقضى -أي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا بيت لها عليه ولا قوت؛ من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها. وروى أبو داود (6) أيضًا من حديث سهل بن سعد في حديث المتلاعنين قال: فمضت السنة بعدُ في المتلاعنين أن يفرق

(1) البخاري 9/ 457 ح 5312، ومسلم 2/ 1131، 1132 ح 5/ 1493.

(2)

شرح عمدة الأحكام 4/ 67.

(3)

مسلم 2/ 1130 ح 3/ 1492.

(4)

عارضة الأحوذي 5/ 191.

(5)

أبو داود 2/ 284، 285 ح 2256، والبيهقي 7/ 394.

(6)

أبو داود 2/ 282 ح 2250.

ص: 145

بينهما، ثم لا يجتمعان أبدا. وروي البيهقي (1) في حديث سهل: ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال: "لا يجتمعان أبدًا". وعن علي وابن مسعود قالا (1): مضت السنة في المتلاعنين ألا يجتمعا أبدًا. وعن عمر بن الخطاب (1): [يفرق](أ) بينهما، ولا يجتمعان أبدًا. والخلاف في هذه المسألة بين أبي حنيفة والجمهور قريب المدرك من الخلاف بينهم وبينه في استحقاق القاتل السلب وفي إحياء الموات هل يقف كل منهما على إذن الإمام، ويجعل قوله صلى الله عليه وسلم:"من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه تنفيلًا"(2). وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له"(3) - إذنًا حكميًّا نحتاج معه في كل وقت إلى إذن الإمام في كل زمان كما أذن هو في ذلك الزمان؟ كما جعل تفريقه عليه الصلاة والسلام هنا بين المتلاعنين بطريق الحكم والقضاء، حتى يحتاج في كل واقعة إلى تفريق القاضي، والجمهور يجعلون ذلك في المواضع الثلاثة بيانًا للشرع العام المطرد، سواء قاله الإمام أم لم يقله؛ وقال عثمان البتي (4): لا أثر للعان في الفرقة، ولا يحصل به فراق أصلًا، وسبقه إلى ذلك مصعب بن الزبير، ففي "صحيح مسلم" (5): أنه لم يفرق بين المتلاعنين.

(أ) في الأصل، جـ: ففرق. والمثبت من مصدر التخريج.

_________

(1)

البيهقي 7/ 410.

(2)

البخاري 6/ 247 ح 3142، ومسلم 3/ 1370، 1371 ح 1751.

(3)

تقدم ح 746.

(4)

الفتح 9/ 447.

(5)

مسلم 2/ 1132 ح 7/ 1493.

ص: 146

وحكاه الطبري عن جابر بن زيد (1)، وحكي عن طائفة من فقهاء البصرة، وحجته في ذلك ما وقع في حديث سهل روايته لقصة عويمر أنه قال بعد التلاعن: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه في "الصحيحين"(2) وسيأتي قريبا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه الطلاق بعد اللعان، بل هو أنشأ طلاقها، ونزه نفسه أن يمسكها، وقرره على قوله: إن أمسكتها. وفيه إشعار بإمكان الإمساك. وأجيب عن ذلك بأن الطلاق وقع منه بغير إذن من النبي صلى الله عليه وسلم، والطلاق لم يزد التحريم الواقع باللعان إلا تأكيدًا، فلا يحتاج إلى إنكاره ودفع حكمه، وأما قوله: كذبت عليها إن أمسكتها. فهو لا يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه شرعًا، وإنما بادر إلى فراقها، وإن كان الأمر صائرًا إليه وذهب أبو عبيد إلى أن الفرقة تقع بمجرد القذف.

واختلف العلماء في فرقة اللعان؛ هل هي فسخ أو طلاق بائن؟ فذهب الهدوية والناصر والمؤيد والشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنها فسخ، قالوا: لأنها توجب تحريمًا مؤبدًا فكانت فسخا كفرقة الرضاع؛ لقوله: "لا يجتمعان أبدًا". ولأن اللعان ليس صريحًا في الطلاق ولا كناية فيه. وذهب أبو حنيفة ورواية عن محمد بن الحسن إلى أنها طلاق بائن، قالوا: لأنها لا تكون إلا من زوجة، فهي من أحكام النكاح المحضة، فهي طلاق؛ إذ هو من أحكام النكاح المختصة به، بخلاف الفسخ فإنه قد يكون من أحكام غير النكاح؛ كالفسخ بالعيب. والجواب أنه لا يلزم من اختصاصه بالنكاح أن

(1) الفتح 9/ 447.

(2)

البخاري 6/ 54 ح 5259، ومسلم 2/ 1129 ح 1/ 1492.

ص: 147

يكون طلاقًا، كما أنه لم يلزم فيه نفقة ولا غيرها، فإن أكذب نفسه بعد اللعان، فاختلف العلماء القائلون بتأبيد التحريم؛ فقال أبو حنيفة: تحل له لزوال المعنى المحرم. وقال مالك [والشافعي](أ): لا تحل له أبدًا لقوله: "لا سبيل لك عليها". وهو مذهب سعيد بن المسيب، قال (1): فإن أكذب نفسه فهو خاطب من الخطاب. وقال سعيد بن جبير (2): تردُّ إليه ما دامت في العدة. وقال الهادي في "المنتخب": إنه يرتفع تأبيد التحريم أيضًا، وتعود إليه إذا أراد رجوعها بعقد جديد (ب). وأما سائر الأحكام فيلزمه الحد ويلحق به نسب الولد إذا كان الولد حيًّا، فإن كان قد مات لم يرثه، وإن كان للولد ولد فحكى أبو جعفر في "شرح الإبانة" عن الهادي أنه يثبت نسب الولد ويرث منه، وقال الناصر والشافعي: إنه يثبت نسب الولد المنفي سواء كان له ولد أم لا.

واعلم أن ظاهر الحديث هذا والآية الكريمة في اللعان أنه يصح اللعان بين كل زوجين؛ سواء كانا مسلمين أو كافرين، حرَّين أو عبدين، عدلين أو فاسقين، محدودين في قذف أو أحدهما كذلك، وقد ذهب إلى هذا الحسن وابن المسيب وربيعة وسليمان بن يسار والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وذهب أهل الرأي والأوزاعي والثوري والعترة إلى أنه لا يصح؛

(أ) ساقط من: الأصل.

(ب) زاد في جـ: لا يحل أبدا لقوله لا سبيل لك عليها.

_________

(1)

سنن سعيد بن منصور 1/ 365 ح 1583 بنحوه.

(2)

سنن سعيد بن منصور 1/ 365 ح 1585 بنحوه.

ص: 148

لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا لعان بين مملوكين ولا كافرين". رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"(1)، وذكر الدارقطني (2) من حديثه أيضًا عن أبيه عن جده مرفوعًا:"أربعة ليس بينهم لعان؛ ليس بين الحر والأمة لعان، وليس بين الحرة والعبد لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان". وذكر عبد الرزاق (3) في "مصنفه" عن ابن شهاب، قال: من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعتاب بن أسيد أن لا لعان بين [أربعة](أ). فذكره. وأجاب الأولون عن حديث عمرو بن شعيب، بأن من دون عمرو ليس فيهم من يحتج به. قاله ابن عبد البر، وأما حديث الدارقطني ففي طريق الحديث عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، وهو متروك بإجماعهم، فالطريق به مقطوعة، وأما حديث عبد الرزاق فهو من مراسيل الزهري، وهي ضعيفة عندهم، وعتاب بن أسيد كان عاملًا للنبي صلى الله عليه وسلم على مكة، ولم يكن بمكة يهودي ولا نصراني حتى يوصيه ألا يلاعن بينهما، فبقي العمل بإطلاق الآية الكريمة، والحديث على العموم، واحتج بعض القائلين بالمنع، بأن اللعان جعل بدل الشهادة وقائمًا مقامها عند عدمها، ولا يصح إلا ممن تصح منه الشهادة، ولهذا تحد المرأة بلعان الزوج إذا نكلت، ولقوله تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} (4). فسماه شهادة. وأجاب الآخرون عن

(أ) في الأصل: الأربع، وكتب فوقه: الأربعة، كذا. وفي المصنف: أربع.

_________

(1)

التمهيد 6/ 192.

(2)

الدارقطني 3/ 162، 163 ح 239.

(3)

عبد الرزاق 7/ 127، 128 ح 12498.

(4)

الآية 6 من سورة النور.

ص: 149

ذلك، بأنه قد ورد قوله صلى الله عليه وسلم:"لولا ما مضى من الأيمان لكان لي ولها شأن"(1). فسماه يمينًا، واليمين يصح من الكافر والعبد، وهذه الرواية بهذا اللفظ، وإن كانت مخالفة لما في "صحيح البخاري" (2) فإن لفظه:"لولا ما مضى من كتاب الله". فهي من رواية عباد بن منصور، ولم يقدح فيه إلا بأنه قدري، وقد ثبت في الصحيح الاحتجاج بجماعة من القدرية والشيعة ممن علم صدقه. وأما تسميته شهادة فلقول الملتعن في يمينه: أشهد بالله. فسمى ذلك شهادة وإن كان يمينًا اعتبارًا بلفظها، وهو مصرح به فيه بالقسم وجوابه، ولو قال الحالف: أشهد بالله. انعقدت يمينه بذلك، سواء نوى اليمين أو أطلق، والعرب تعد ذلك يمينًا في لغاتها (أ) واستعمالها، قال قيس (3):

وأشهد عند الله أني أحبها

فهذا لها عندي فما عندها ليا

وقد قال جماعة: إن اليمين تنعقد بقول الحالف: أشهد. وإن لم يذكر معه لفظ المقسم به من غير نية اليمين، كما في رواية عن أحمد، والرواية الثانية تكون يمينًا مع النية، كما هو قول الأكثر، ويتلقى بما يتلقى به القسم، قال في "الهدي النبوي" (4): والصحيح أنه جامع للأمرين الشهادة واليمين، ولهذا اعتبر فيه ما يعتبر في اليمين من التأكيد في الجواب، فهو يمين مقرونة

(أ) في جـ: لعانها.

_________

(1)

أحمد 1/ 238، 239، وأبو داود 2/ 284، 285 ح 2256.

(2)

البخاري 8/ 449 ح 4747.

(3)

ديوانه ص 300.

(4)

زاد المعاد 5/ 362، 363.

ص: 150

بالشهادة، وشهادة مقرونة باليمين، وجعل الملتعن لقبول قوله كالشاهد، فإن نكلت المرأة مضت شهادته وحُدَّت، وإن التعنت عارضت شهادته فسقط الحد عنها. انتهى.

وذهب العترة وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يصح من أخرس؛ إذ لا يصح قذفه، ولا من خرساء؛ إذ لا يحد قاذفها، وذهب الشافعي ومالك إلى أنه يصح من الأخرس كطلاقه. وصرح به البخاري (1)، قال: وإذا قذف الأخرس [امرأته](أ) بكتابة -بمثناة ثم موحدة- أو إشارة أو إيماء معروف، فهو كالمتكلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز الإشارة في الفرائض -في الأمور المفروضة- وهو قول بعض أهل الحجاز وأهل العلم، أي من غيرهم، وخالف الحنفية والأوزاعي وإسحاق، وهو رواية عن أحمد اختارها بعض المتأخرين، ثم قال: وقال الله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (2). وجه الاستدلال أن مريم نذرت ألا تتكلم، فكانت في حكم الأخرس، فأشارت إشارة مفهمة، اكتفوا بها عن معاودة سؤالها، وإن كانوا أنكروا عليها ما أشارت به، قال: وقال الضحاك -أي ابن مزاحم-: {إلا رَمْزًا} . أي: إشارة. ثم قال: وقال بعض الناس: لا حد ولا لعان بالإشارة من الأخرس وغيره، ثم زعم إن طلق بكتاب أو إشارة أو إيماء جاز، وليس بين الطلاق والقذف فرق، فإن قال: القذف لا يكون إلا بكلام. قيل

(أ) ساقطة من: الأصل.

_________

(1)

الفتح 9/ 439.

(2)

الآية 4 من سورة مريم.

ص: 151

له: وكذلك الطلاق لا يكون إلا بكلام -أي وأنت وافقت على وقوعه بغير الكلام- فيلزمك مثله في الحد واللعان. ثم قال: وإلا بطل الطلاق والقذف، وكذلك العتق، يعني: إما أن يقال بصحتها جميعها بالإشارة، أو لا تعتبر الإشارة فيها، والتفرقة تَحَكُّمٌ بغير دليل، وبعض الحنفية وافق في هذا البحث وقال: القياس بطلان الجميع، لكن عملنا به في غير اللعان والحد استحسانًا. ومنهم من قال: منعناه لأنها غير صريحة. وهذه عمدة من وافق الحنفية من الحنابلة وغيرهم، ورده ابن التين بأن المسألة مفروضة فيما إذا كانت الإشارة مفهمة إفهامًا واضحًا، لا يبقى معه ريبة (1). ومثل هذا قول الإمام يحيى، فإنه قال: إن أفهم بكتابته أو إشارته صح؛ إذ هو كالناطق. قال الإمام المهدي في "البحر": قلنا: ليس بصريح.

905 -

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين:"حسابكما على الله تعالى، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها". قال: يا رسول الله، مالي. قال:"إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها". متفق عليه (2).

قوله: "حسابكما على الله". مبين بقوله: "أحدكما كاذب". فإذا كان أحدهما كاذبا فالله هو المتولي لجزائه، المميز للصادق عن الكاذب، وأما في العمل الدنيوي فالأيمان قد دفعت مجازاة الكاذب.

(1) ينظر الفتح 9/ 440، 441.

(2)

البخاري، كتاب الطلاق، باب المتعة للتي لم يفرض لها لقوله تمالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء

} 9/ 496 ح 5350، ومسلم، كتاب اللعان 2/ 1131 ح 5/ 1493.

ص: 152

وقوله: "لا سبيل لك عليها". هو حكم بالفرقة بينهما، وقد تقدم الكلام في ذلك. وقوله: مالي. أراد به الصداق الذي سلمه إليها، يريد أن يرجع له، فأجابه صلى الله عليه وسلم بأنك استوفيته بدخولك عليها، وتمكينها لك من نفسها، وأوضح له بتقسيم مستوعب، فقال: إن كنت صادقًا فيما ادعيته عليها فقد استوفيت حقك منها قبل ذلك، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك عن مطالبتها؛ لئلا تجمع علينا الظلم في عرضها، ومطالبتها بمال قبضته منك قبضًا صحيحًا تستحقه. وقد انعقد الإجماع على أن المدخول بها تستحق جميعه، واختلف في غير المدخول بها، فالجمهور على أن لها النصف كغيرها من المطلقات قبل الدخول، وقال أبو الزناد والحكم وحماد: لها جميعه. وقيل: لا شيء لها أصلا. قاله الزهري، وروي عن مالك.

906 -

وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ابصروها (أ)، فإن جاءت به أبيض سبطًا، فهو لزوجها، وإن جاءت به أكحل جعدا، فهو للذي رماها به". متفق عليه (1).

الحديث أخرجه مسلم والنسائي (2) في قصة هلال بن أمية، وتمام النعت في هذه الرواية في الأول:"قضيء العين". وقضيء العين بالقاف والضاد المعجمة مهموزًا فعيل هو فاسد العين، "فهو لهلال". وفي الطرف الثاني:

(أ) في جـ: انظروها.

_________

(1)

مسلم كتاب اللعان 2/ 1134 ح 1496. والحديث ليس عند البخاري، ينظر تحفة الأشراف 1/ 372 ح 1461.

(2)

النسائي 6/ 172.

ص: 153

" [أحمش] (أ) الساقين". وأحمش (ب) الساقين: أي دقيقهما، والحُمُوشة الدقة، وقال النووي (1):(جـ ممتلئ الساقين: وهو بالخاء المعجمة جـ). والسبط: بفتح المهملة وكسر الباء الموحدة وإسكانها وبعدها طاء مهملة، هو التام الخلق من الرجال. كذا ذكره ابن الأثير (2). والأكحل: الذي منابت أجفانه سود، كأن فيها كحلًا، وهي خِلقة. والجعد من الرجال: القصير، وقال الهروي: الجعد -بفتح الجيم- في صفات الرجال تكون مدحًا وتكون ذمًّا، فإذا كان مدحًا فله معنيان؛ أحدهما، أن يكون معصوب الخلق شديد الأسر. والثاني، أن يكون شعره غير سَبْط، لأن السبوطة أكثرها في شعور العجم. وأما الجعد المذموم فله معنيان؛ أحدهما للقصير التردد، والآخر النحيل، يقال: جعد الأصابع، وجعد اليدين. أي نحيل، وقد جاء في صفة الولد في قصة عويمر العجلاني (3):"إن جاءت به أحمر قصيرا كأنه وَحَرَة، فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين ذا أليتين، فلا أراه إلا قد صدق عليها". فجاءت به على المكروه من ذلك.

(أ) في الأصل، جـ: أخمش. وعند مسلم: حمش. والمثبت من النسائي.

(ب) في جـ: أحمش.

(جـ - جـ) كذا في الأصل، جـ، والذي في شرح صحيح مسلم: قوله: وكان خدلا. هو بفتح الخاء المعجمة وإسكان الدال المهملة وهو الممتلئ الساق.

_________

(1)

شرح مسلم 10/ 129، 130.

(2)

النهاية 2/ 334.

(3)

البخاري 1/ 452 ح 5308، 5309.

ص: 154

وفي أخرى للبخاري ومسلم (1): "فإن جاءت به أدعج العينين، عظيم الأليتين، فلا أُراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وَحَرَة، فلا أراه إلا كاذبا". فجاءت به على النعت المكروه. وفي رواية ابن عباس لقصة العجلاني: وكان ذلك الرجل مصفرًّا، قليل اللحم، سبط الشعر، وكان الذي ادعى عليه أنه وجده مع أهله خدلا آدم، كثير اللحم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم بيِّن". فوضعت شبيهًا بالذي ذكر زوجها أنه وجده عندها. أخرجه مسلم والبخاري والنسائي (2). وفي رواية ابن عباس لقصة هلال (3): "إن جاءت به أصيهب، أُرَيصِح، أثيبج، ناتئ الأليتين، حمش الساقين، فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعدا جُماليًّا، خَدَلَّج الساقين، سابغ الأليتين، فهو للذي رميت به". وفي رواية (4): "فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين". وجاء في رواية ابن مسعود عند مسلم وأبي داود (5): فلما أدبرا، قال:"لعلها أن تجيء به أسود جَعْدًا". فجاءت به أسود جعدًا. والمراد بالأحمر هنا هو الأبيض الذي فيه حمرة. والوَحَرة بفتح الحاء المهملة: دويبة [كالعظاءة](أ) تلصق الأرض، وأراد المبالغة في قصره. والأعين: واسع العين. والأدعج: شديد سواد العين مع سعتها،

(أ) في الأصل، جـ: كالعصاة. والمثبت من النهاية 5/ 160.

_________

(1)

البخاري 8/ 448 ح 4745، ومسلم 2/ 1130 ح 2/ 1492.

(2)

مسلم 2/ 1134 ح 1497، والبخاري 9/ 454 ح 5310، والنسائي 6/ 174 ح 3470، 3471.

(3)

أحمد 1/ 238، وأبو داود 2/ 284، 285 ح 2256.

(4)

البخاري 8/ 449 ح 4747.

(5)

مسلم 2/ 1133 ح 1495، وأبو داود 2/ 283 ح 2253.

ص: 155

ورجل أدعج: أسود. والآدم: شديد السمرة. والخَدْل: الغليظ من الرجال. والأصيهب: تصغير الأصهب وهو الأشقر، والأصهب من الإبل: الذي يخالط بياضه حمرة. والأريصح بالصاد والحاء المهملتين تصغير الأرصح، والصاد بدل من السين، والأصل الأرسح. والأرصع بالصاد والعين المهملتين بمعناه، فعلى هذا قد أبدل السين صادا العين حاء (1). والأثيبج تصغير الأثبج وهو الناتئ الثَّبَجِ، وهو ما بين الكتفين، وإنما جاء بهذه الصفات مصغرة لكونها صفةً لمولودٍ. والأورق هو الأسمر. والجُمَاليُّ العطم الخلقة كأنه الجمل في القَدْر. والخَدَلَّج الضخم. وسابغ الأليتين عظيمهما.

الحديث فيه دلالة على أن اللعان يصح للمرأة الحامل، ولا يؤخر اللعان إلى بعد الوضع، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، والخلاف في ذلك للهدوية وأبي يوسف ومحمد، وهو مروي عن أبي حنيفة وأحمد، فقالوا: لا تلاعن لنفي الحمل؛ لجواز أن يكون ريحا فينفَشَّ، فلا يكون للعان حينئذ معنى، والحديث يرد عليهم، ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولذلك ثبت للحامل أحكام تخالف الحائل؛ كالنفقة، والفطر في الصيام إذا خافت على الولد، وتأخير الحد والقصاص، وغير ذلك، كاستلحاق الحمل. ودل الحديث أيضًا على أنه ينتفي الولد باللعان وإن لم يصرح بنفيه، وإن لم يذكر النفي في اليمين، وقد ذهب إلى هذا أبو بكر عبد العزيز من أصحاب أحمد؛ عملًا بظاهر الأحاديث، وقال به بعض أصحاب مالك وأهل الظاهر، وذهبت الهدوية إلى أنه يصح نفي الولد وهو حمل، ويؤخر اللعان إلى بعد

(1) وهو الخفيف لحم الأليتين. النهاية 2/ 226.

ص: 156

الوضع، وذلك إذا وضعت لدون ستة أشهر من وقت النفي لا أكثر، لجواز أن الحمل كان بعد النفي، وقال أبو حنيفة: لا يصح نفي الحمل واللعان عليه، فإن لاعنها حاملًا ثم أتت بالولد لزمه عنده، ولم يتمكن من نفيه أصلًا؛ لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين، وهذه قد بانت (أ) بلعانها في حال حملها، وقال مالك والشافعي وجماعة من أهل الحجاز: يصح نفي الحمل وينتفي عنه؛ للأحاديث التي مرت. قال الشافعي: يحتاج الرجل إلى ذكر الولد دون المرأة. وقال الحربي: يحتاجان إلى ذكره. وقال الشافعي: إذا لم ينف الولد في الملاعنة ولم يتعرض له، فله أن يعيد اللعان لانتفائه، ولا إعادة على المرأة، وإن أمكنه النفي والرفع إلى الحاكم فأخر لغير عذر حتى ولدت لم يكن له أن ينفيه كما في الشفعة. وكلامهم مبني بأنه وقع من هلال وعويمر التصريح بنفي الولد، ولا مستند في الأحاديث، فإنه لم يذكر في روايته، وتجويز أنه وقع لا يفيد، إلا أنه [أخرج] (ب) مالك (1) عن نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته، وانتفى من ولده، ففرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة. وفي حديث سهل (2): وكانت حاملًا فأنكر حملها. ولكن ذلك لا يثبت اشتراط الانتفاء، مع أن قوله: وكانت حاملًا. بيَّن البخاري

(أ) في جـ: فاتت.

(ب) ساقط من: الأصل.

_________

(1)

الموطأ 2/ 567 ح 35.

(2)

البخاري 8/ 448 ح 4746.

ص: 157

أنه من قول الزهري، وقد جاء في رواية البخاري (1) من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن ابن عباس في قصة هلال بلفظ: فوضعت شبيهًا بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجد عندها، فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما. ظاهره أن الملاعنة تأخرت إلى وضع الحمل، قال المصنف رحمه الله (2): قد أوضحت أن رواية ابن عباس هذه هي في القصة التي في حديث سهل بن سعد، وتقدم قبلُ من حديث سهل أن اللعان وقع بينهما قبل أن تضع، فعلى هذا تكون الفاء في قوله: فلاعن. معقبة بقوله: فأخبره بالذي وجد عليه امرأته. ويحتمل -على بعد- أن يكون مرتين؛ مرة بسبب القذف، ومرة بسبب الانتفاء، والله أعلم. انتهى.

907 -

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا أن يضع يده عند الخامسة على فيه، وقال:"إنها موجبة". رواه أبو داود [والنسائي](أ) ورجاله ثقات (3).

أخرجه أبو داود والنسائي من حديث كليب بن شهاب عن ابن عباس، وأخرجه أبو داود (4) من رواية عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس، ولم

(أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من بلوغ المرام ص 239.

_________

(1)

تقدم ص 155.

(2)

الفتح 9/ 461.

(3)

أبو داود، كتاب الطلاق، باب في اللعان 2/ 284 ح 2855، والنسائي، كتاب الطلاق، باب الأمر بوضع اليد على في المتلاعنين عند الخامسة 6/ 175.

(4)

أبو داود 2/ 284، 285 ح 2256.

ص: 158

يذكر فيه الأمر بوضع الرجل يده على فم الملاعن عند الخامسة، وأما المرأة فلم يذكر في رواية أنه أمر امرأة أن تضع يدها على في المرأة، وإن أوهم ذلك كلام الرافعي (1).

وقوله: "إنها موجبة". أي: موجبة لحلول اللعنة عليه إن كان كاذبًا. فيه دلالة على أنه مشروع من الحاكم المبالغة في منع الحالف من الحلف خشية أن تكون يمينه فاجرة فتحل العقوبة [به](أ)؛ ولذلك لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بوعظهما باللفظ حتى كان المنع بالفعل.

908 -

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه في قصة المتلاعنين، قال: لما فرغا من تلاعنهما، قال: كذبت عليها يا رسول الله إنْ أمْسكتها. فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه (2).

تقدم الكلام في ذلك.

909 -

وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا ترد يد لامس. قال: "غَرِّبْها". قال: أخاف أن تتبعها نفسي. قال: "فاستمتع بها". رواه أبو داود (3) والبزار ورجاله ثقات.

(أ) ساقطة من: الأصل.

_________

(1)

ينظر التلخيص الحبير 3/ 230.

(2)

البخاري، كتاب الطلاق، باب اللعان 9/ 446 ح 5308، ومسلم، كتاب اللعان 2/ 1129 ح 1492.

(3)

أبو داود، كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء 2/ 226 ح 2049.

ص: 159

وأخرجه النسائي (1) من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ قال: "طلقها". قال: لا أصبر عنها. قال: "فأمسكها".

أخرجه أبو داود والنسائي (2) أيضًا من حديث عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه النسائي من رواية عبد الله بن عبيد بن عمير، وأخرجه الشافعي (3) من طريق عبد الله المذكور، قال: جاء رجل. فذكره مرسلًا، وقد اختلف في إسناده وإرساله، قال النسائي: المرسل أولى بالصواب. وقال في الموصول: إنه ليس بثابت. يعني من رواية عبد الله، وأطلق عليه النووي الصحة (4)، يعني رواية أبي داود، ولكن نقل ابن الجوزي عن أحمد أنه قال: لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء، وليس له أصل. فتمسك بهذا ابن الجوزي، فأورد الحديث في "الموضوعات"(5) مع أنه أورده بإسناد صحيح، وله طريق أخرى أخرجها أبو حاتم (6) عن مولى لبني هاشم، فقال: جاء رجل. فذكره، ورواه الثوري فسمى الرجل [هشامًا](أ) مولى بني هاشم، وأخرجه الخلال (4) والطبراني والبيهقي (7) من وجه آخر عن عبيد الله

(أ) في الأصل، جـ: هاشما. والمثبت من مصدر التخريج والتلخيص الحبير 3/ 225.

_________

(1)

النسائي في الكبرى، كتاب النكاح، باب تحريم تزويج الزانية 3/ 270 ح 5339، وكتاب الطلاق، باب ما جاء في الخلع 3/ 370 ح 5659.

(2)

النسائي في الكبرى 3/ 369 ح 5658.

(3)

الأم 5/ 12.

(4)

التلخيص الحبير 3/ 225.

(5)

الموضوعات 2/ 272.

(6)

العلل لابن أبي حاتم 1/ 433 ح 1304.

(7)

الطبراني في الأوسط 5/ 73 ح 4707، والبيهقي 7/ 155.

ص: 160

ابن [عمرو](أ)، ولفظه: لا تمنع يد لامس.

قوله: لا ترد يد لامس. اختلف العلماء في معنى ذلك، فقيل: معناه الفجور، وأنها لا تمتنع ممن يطلب منها الفاحشة. وبهذا قال أبو عبيد والخلال والنسائي وابن الأعرابي والخطابي والغزالي والنووي، واستدل به الرافعي على هذا الحكم، وعلى هذا أنه لا يجب تطليق من فسقت بالزنى، إذا كان الرجل لا يقدر على مفارقتها، وقيل: المراد أنها تبذر، ولا تمنع أحدًا طلب منها شيئًا من مال زوجها، وبهذا قال أحمد والأصمعي ومحمد بن ناصر ونقله عن علماء الإسلام وابن الجوزي، وأنكر على من ذهب إلى القول الأول، وقال في "النهاية" (1): وهو أشبه بالحديث؛ لأن المعنى الأول يشكل على ظاهر قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (2). وإن كان في معنى الآية وجوه كثيرة، ورجح القاضي أبو الطيب المعنى الأول؛ لأن السخاء مندوب إليه إذا كان من مالها، وإن كان من مال الزوج فهو يمكنه التحفظ من ذلك، فلا يوجب المسارعة إلى الطلاق، ولكنه يرد عليه ما ذكر، إلا أن يقال: إنه قد روي بلفظ: "أمسكها". بدل قوله: "استمتع بها". وهو يحتمل أمسمكها عن الزنى. فيزول المحظور من نكاح الزانية. أو: أمسكها عن التبذير بالمال. فكذلك مع أنه يحتمل أن يكون المراد بأنها لا ترد يد لامس لمن أراد لمسها لمن يتلذذ بها من دون جماع، وإلا لكان قاذفا لها،

(أ) في الأصل، جـ: عمر. والمثبت من مصادر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 19/ 136.

_________

(1)

النهاية 4/ 270.

(2)

الآية 3 من سورة النور.

ص: 161

أو أنها تمتنع ممن أراد منها الفاحشة ولم يكن قد وقع منها ذلك، وإنما أدرك منها مخايل المساهلة وعدم التحرز، والله أعلم (1).

910 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية التلاعنين:"أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولم يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله عنه، وفضحه على رءوس الأولين والآخرين". أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان (2).

الحديث أخرجوه من حديث سعيد المقبري عن أبي هريرة، تفرد به عنه عبد الله بن يونس، وهو لا يعرف إلا بهذا الحديث، ففي تصحيحه نظر، وصححه أيضًا الدارقطني (1) مع اعترافه بتفرد عبد الله. وفي الباب عن ابن عمر في "مسند البزار"(2)، وفيه إبراهيم بن يزيد [الخُوزي](أ) وهو ضعيف، وروى أحمد (3) من طريق مجاهد عن ابن عمر نحوه، وأخرجه الطبراني في "الأوسط"(4) عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن وكيع، وقال: تفرد به

(أ) في الأصل: الجوزي. وفي جـ: الحوزي. والمثبت من التلخيص، وينظر الإكمال 3/ 17.

_________

(1)

التلخيص الحبير 3/ 226.

(2)

أبو داود، كتاب الطلاق، باب التغليظ في الانتفاء 2/ 287 ح 2263، والنسائي، كتاب الطلاق، باب التلغيظ في الانتفاء من الولد 6/ 179، وابن ماجه، كتاب الفرائض، باب من أنكر ولده 2/ 916 ح 2743، وابن حبان، كتاب النكاح، باب ذكر نفي دخول الجنة عن المرأة الداخلة على قوم بولد ليس منهم 9/ 418 ح 4108.

(3)

أحمد 2/ 26.

(4)

الطبراني في الأوسط 4/ 312 ح 4297.

ص: 162

وكيع.

قوله: "وهو ينظر إليه". لعل المراد به: وهو يعلم أنه ولده. أو أنه قيد أغلبي، وإلا فجحد الولد محرم، وإن لم يكن مشاهِدًا للجاحد.

911 -

وعن عمر رضي الله عنه قال: من أقر بولده طرفة عين، فليس له أن ينفيه. أخرجه البيهقي (1)، وهو حسن موقوف.

أخرجه البيهقي من رواية [مجالد](أ) عن الشعبي عن شريح عن عمر. ومن طريق قبيصة بن ذؤيب (1) أنه كان يحدث عن عمر، أنه قضى في رجل أنكر ولدًا من المرأة وهو في بطنها، ثم اعترف به وهو في بطنها، حتى إذا ولدت أنكره، فأمر به عمر، فجلد ثمانين جلدة لفريته عليها، ثم ألحق به الولد. وإسناده حسن.

الحديث فيه دلالة على أنه لا يصح النفي بعد الإقرار بالولد، وهذا مجمع عليه، وأما إذا سكت بعد أن علم بالولد ولم ينفه، فقال المؤيد: إنه يلزمه وإن لم يعلم أن له النفي؛ لأن ذلك حق يبطل بالسكوت، وذلك كالشفيع إذا أبطل شفعته قبل علمه باستحقاقها. وذهب أبو طالب وأبو العباس إلى أن له النفي متى علم أن له النفي، إذ لا يثبت التخيير من دون علم، فإن سكت عند العلم لحق ولم يمكن من (ب) النفي بعد ذلك، ولا يعتبر

(أ) في الأصل: مجاهد.

(ب) ساقطة من: جـ.

_________

(1)

البيهقي، كتاب اللعان، باب الرجل يقر بحبل امرأته أو بولدها مرة فلا يكون له نفيه بعده 7/ 411، 412.

ص: 163

عندهم فور ولا تراخ، بل السكوت كالإقرار. وقال الإمام يحيى والشافعي: إن نفيه يكون على الفور، وحد الفور ألا يتراخى إلا قدر ما يلبس، أو ينتعل، أو يسرج دابته، أو يأكل، أو يحرز ما يخشى ضياعه، أو يصلي، أو يجهز ميته، أو يكون في زيارة من حضر موته، أو نحو ذلك، ثم يأتي الحاكمَ للنفي، إذ مثل هذه لا يُعد تراخيًا عرفًا، وأحد قولي الشافعي أن له إلى ثلاثة أيام بعد الولادة؛ لقوله تعالى:{تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} (1). وقد قال في القصة: {عَذَابٌ قَرِيبٌ} (2). وقال أبو حنيفة: القياس الفور، والاستحسان يسوغ التراخي يومًا أو يومين لينظر في أمره. وعن أبي حنيفة: بل إلى سبعة أيام ليكمل التأمل. وعن أبي يوسف ومحمد: بل آخر مدة النفاس، أربعين يومًا. وقال مجاهد وعطاء: النفي على التراخي، ما لم يقرَّ به، إذ دليل ذلك لم يعتبر الفور. وأجاب عن ذلك الإمام يحيى بأنه خيار شُرع لدفع ضرر يلحق بالسكوت، فكان على الفور كخيار الأمة إذا [أعتقت] (أ). وقال الإمام الهدي في "الغيث": إنه حق يبطل بالسكوت الطويل، فيبطل بالقليل. وأنت خبير برِكَّة الجواب. ومن إذا سكت وهي حامل وقد علم بالحمل، فقال مالك: لم يكن له نفيه بعد الولادة. وقال الشافعي: إذا علم الزوج بالحمل، وأمكنه الحاكم من اللعان ولم يلاعن، لم يكن له أن ينفيه. وقال أبو حنيفة: لا ينفى الولد وهو حمل، وإنما يكون

(أ) في الأصل: بين.

_________

(1)

الآية 65 من سورة هود.

(2)

الآية 64 من سورة هود.

ص: 164

النفي بعد الوضع. ومقتضى قول الهدوية أنه يصح النفي في وقت الحمل - أنه إذا لم ينفه لم يكن له النفي بعد الولادة، وهو الظاهر من إطلاق الأدلة، والله أعلم.

912 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود. قال:"هل لك من إبل؟ ". قال: نعم. قال: "فما ألوانها؟ ". قال: حمر. قال: "فهل فيها من أورق؟ ". قال: نعم. قال: "فأنى ذلك؟ ". قال: لعله نزعه عرق. قال: "فلعل ابنك هذا نزعه عرق". متفق عليه (1). وفي رواية لمسلم (2): وهو يعرِّض بأن ينفيه. وقال في آخره: ولم يرخص له في الانتفاء منه.

قوله: أن رجلا. جاء في روايهَ للبخاري (3): أن أعرابيا. وللنسائي (4): رجلا من أهل البادية. وعند ألي داود (5): أعرابيا من بني فزارة. وكذا عند مسلم وأصحاب "السنن"(6)، واسم هذا الأعرابي ضمضم بن قتادة، ذكره عبد الغني في "المبهمات"(7).

(1) البخاري، كتاب الطلاق، باب إذا عرض بنفي الولد 9/ 442 ح 5305، ومسلم، كتاب اللعان 2/ 1137 ح 18/ 1500.

(2)

مسلم، كتاب اللعان 2/ 1137 ح 19/ 1500.

(3)

البخاري 13/ 296 ح 7314.

(4)

الفتح 9/ 443. وبهذا اللفظ عند ابن ماجه 1/ 645 ح 2003.

(5)

أبو داود 2/ 286 ح 2260.

(6)

مسلم تقدم في حديث الباب، وأبو داود تقدم في الحاشية السابقة، والترمذي 4/ 382 ح 2128، والنسائي 6/ 178، وابن ماجه 1/ 645 ح 2002.

(7)

المستفاد من مبهمات المتن والإسناد لأبي زرعة العراقي 2/ 1076 ح 409.

ص: 165

وقوله: إن امرأتي ولدت غلامًا. قال المصنف رحمه الله تعالى (1): لم أقف على اسم المرأة ولا على اسم الغلام. والمرأة من بني عجل، وزاد البخاري في رواية يونس: وإني أنكرته. أي استنكرته بقلبي. ولم يرد الإنكار باللفظ، وإلا لكان تصريحًا [بالنفي](أ) لا تعريضًا، بقوله: أسود. والتعريض بقوله: أسود. لأن المعنى: إني أبيض فكيف يكون مني الغلام الأسود؟

وقوله: "أورق". بوزن أفعل، وهو الذي فيه سواد وليس بحالك، بل يميل إلى الغبرة، ومنه قيل للحمامة: ورقاء.

وقوله: "فأنى ذلك؟ ". بفتح النون الثقيلة، أي: من أين أتاها اللون المخالف لها؟ هل هو بسبب فحل من غير لونها طرأ عليها، أو لأمر آخر؟

وقوله: "لعله نزعه". بالضمير في "لعل"؛ اسمها، وهذا ثبت في رواية كريمة، وهي في غيرها من نسخ البخاري بحذف الضمير، ويكون "نزعه" منصوب باسمية "لعل"، وجوز ابن مالك بأن الاسم ضمير الشأن محذوف، فتكون "نزعه" مرفوعة، والمعنى أنه يحتمل أن يكون في أصولها ما هو باللون المذكور فاجتذبه إليه.

وقوله: "نزعه عرق". المراد بالعرق الأصل من النسب، شبهه بعرق الشجرة، ومنه قولهم: فلان عريق في الأصالة. أي أن أصله مناسب.

(أ) في الأصل، جـ: بالقذف. والمثبت من الفتح.

_________

(1)

الفتح 9/ 443.

ص: 166

وكذا: معرق في الكرم أو اللؤم. وأصل النزع الجذب، فكأنه جذبه إليه لشبهه، يقال فيه: نزع الولد لأبيه وإلى أبيه، ونزعه أبوه ونزعه إليه. وقد يطلق على الميل.

وقوله: "فلعل ابنك" إلخ. فيه ضرب المثل، وتشبيه المجهول بالمعلوم تقريبًا لفهم السامع، قال الخطابي (1): هو أصل في قياس الشبه. وقال ابن العربي (2): فيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظير. وتوقف فيه ابن دقيق العيد؛ لأن هذا تشبيه في أمر وجودي، و [النزاع](أ) إنما هو في التشبيه في الأحكام الشرعية.

ودل الحديث على أنه لا يجوز الانتفاء من الولد بالقرينة الدالة على عدم انتسابه إليه، وأن الولد يلحق به، وإن كان لونه يخالف لون أبيه، قال القرطبي (3) -وقد سبقه ابن رشد- لا خلاف في أنه لا يحل نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة؛ كالسمرة والأدمة ولا في البياض والسواد، إذا كان قد أقر بالوطء ولم تمض مدة الاستبراء. وكأنه أراد في مذهبه، وإلا فالخلاف ثابت عند الشافعية بتفصيل؛ وهو إن لم ينضم إليه قرينة زنًى لم يجز النفي، وإن اتهمها فأتت بولد على لون الرجل الذي اتهمها به جاز النفي على الصحيح، وعند الحنابلة يجوز النفي مع القرينة مطلقًا، والخلاف

(أ) في الأصل، جـ: القياس. والمثبت من الفتح 9/ 444.

_________

(1)

معالم السنن 3/ 272.

(2)

عارضة الأحوذي 8/ 289.

(3)

ينظر الفتح 9/ 444.

ص: 167

إنما هو عند عدمها، والحديث يحتمل؛ لأنه لم يذكر في الحديث أن معه قرينة على الزنى، وإنما هو مجرد مخالفة اللون.

وفي الحديث دلالة على تقديم حكم الفراش على ما يشعر به مخالفة الشبه. وفيه الاحتياط للأنساب (أوإثباتها مع الإنكار أ)، والزجر عن تحقيق ظن السوء. وقال القرطبي (1): يؤخذ منه منع المسلسل، وأن الحوادث لا بد لها أن تستند إلى أول ليس بحادث.

وفي قوله في رواية لمسلم: وهو يعرِّض بنفيه. يدل على أن التعريض بالقذف لا يثبت حكم القذف حتى يقع التصريح، خلافًا للمالكية في أن التعريض الذي يجب فيه القذف عندهم إنما هو ما يفهم منه القذف كما يفهم من التصريح. وقد يجاب بأن الزيادة لم تكن في أصل الحديث، أو المراد أن صورته صورة التعريض وليس بتعريض حقيقة؛ لأنه إنما جاء سائلًا مستفتيًا عن الحكم لا وقع له من الربية، فلما ضرب له المثل أذعن. وقال المهلب (1): التعريض إذا كان على جهة السؤال لا حد فيه، وإنما يجب الحد في التعريض إذا كان على سبيل الواجهة والمشاتمة. وقال ابن المنير (1):[الفرق](ب) بين الزوج والأجنبي في التعريض؛ أن الأجنبي يقصد الأذية المحضة، والزوج قد [يعذر](جـ) بالنسبة إلى صيانة النسب، والله أعلم.

(أ - أ) في الفتح: وإبقائها مع الإمكان.

(ب) في الأصل، جـ: يفرق. والمثبت من الفتح.

(جـ) في الأصل، جـ: يعذره. والمثبت من الفتح.

_________

(1)

ينظر الفتح 9/ 444.

ص: 168