الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الرضاع
هو بفتح الراء وكسرها، والرضاعة بفتح الراء وكسرها، وقد رضع يرضع بفتح الضاد في الماضي وكسرها في المضارع رضعًا كضرب يضرب ضربًا، وأرضعته أمه، وامرأة مرضع؛ أي لها ولد ترضعه، فإن أردت حدوث ذلك المعنى قلت: مرضعة. بالهاء.
932 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم المصة والمصتان". أخرجه مسلم (1).
المصة، الواحدة من المص، وهو أخذ اليسير من الشيء، كذا في "الضياء"(2)، وفي "القاموس" (3): مصصته بفتح العين وكسرها: [شربته](أ) شربًا رفيقًا.
والحديث فيه دلالة على أن مص الصبي للثدي مرة أو مرتين لا يحرم ولا يكون للرضاع به حكم، وأما الزائد على ذلك كالثلاث، فيؤخذ من مفهوم العدد أن ذلك يحرم، وقد ذهب إلى هذا أبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر وداود بن علي الظاهري، وهو رواية عن أحمد، وقد اختلف العلماء في هذا؛
(أ) في الأصل: شرفته.
_________
(1)
مسلم، كتاب الرضاع، باب في المصة والمصتان 2/ 1073، 1074 ح 1450/ 17.
(2)
الضياء -كما في عون المعبود 2/ 182.
(3)
القاموس (م ص ص).
فذهبت طائفة من السلف والخلف إلى أنه يحصل التحريم بقليل الرضاع وكثيره، وهو مروي عن علي وابن عباس (1)، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة والحكم وحماد والأوزاعي والثوري، وهو مذهب الهادي والقاسم وأبي حنيفة ومالك. وحدُّه ما وصل الجوف [بنفسه](أ)، وزعم الليث بن سعد أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم منه ما يفطر الصائم، وهذا رواية عن الإمام أحمد.
وذهب الشافعي، وهو رواية عن أحمد، إلى أنه لا يثبت بأقل من خمس رضعات، وهو قول عبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير (2)، وعطاء وطاوس، وهو إحدى روايات ثلاث عن عائشة، ورواية (3) أنه لا يحرم أقل من سبع، والثالثة (4): لا يحرم أقل من عشر.
وحجة الأولين أنه سبحانه علق التحريم باسم الرضاع، فحيث وجد اسمها وجد حكمها، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:"يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"(5). وهو موافق لإطلاق القرآن، وثبت في "الصحيحين"(6) عن
(أ) ساقطة من: الأصل.
_________
(1)
مصنف عبد الرزاق 4/ 469 ح 13924، ومصنف ابن أبي شيبة 4/ 286، والإشراف على مذاهب أهل العلم 1/ 92.
(2)
مصنف عبد الرزاق 7/ 466، ومصنف ابن أبي شيبة 4/ 285، والمحلى 11/ 183، 184.
(3)
مصنف عبد الرزاق 7/ 466 ح 13911، والإشراف على مذاهب أهل العلم 1/ 93.
(4)
مصنف عبد الرزاق 4/ 469، 470 ح 13928، ومصنف ابن أبي شيبة 4/ 286.
(5)
سيأتي ح 937.
(6)
سيأتي ح 941.
عقبة بن الحارث، أنَّه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ ". ولم يسأل عن عدد الرضاع، قالوا: ولأنه قد يتعلق به التحريم، فاستوى قليله وكثيره كالوطء الموجب له، ولأن إنشاز العظم وإنبات اللحم يحصل بقليله وكثيره، ولأن أصحاب العدد قد اختلفت أقوالهم في الرضعة وحقيقتها واضطربت أشد الاضطراب، وما كان هكذا لم يجعله الشارع نصابًا؛ لعدم ضبطه والعلم به.
وحجة من قال بتحريم ما زاد على الاثنتين، أنَّه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"لا تحرم المصة والمصتان". وفي رواية (1): "الإملاجة والإملاجتان". وفي حديث آخر (2): أن رجلًا قال: يا رسول الله، هل تحرم المصة الواحدة؟ قال:"لا". وهذه الأحاديث صحيحة رواها مسلم في "صحيحه"، فهي دالة نصًّا على أن الواحدة والاثنتين لا تحرمان، ويؤخذ من مفهوم العدد أن الزائد على ذلك يحرم، ويدل عليه عموم الآية الكريمة. قالوا: ولأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار يعتبر فيه الثلاث، ولأنها أول مراتب الجمع، وقد اعتبرها الشارع في مواضع كثيرة، وحجة من اعتبر الخمس ما سيأتي من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد أخبَرت عائشة بأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي والأمر على ذلك (3). وقوله صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل:"أرضعي سالمًا خمس رضعات تحرمي عليه"(4). والعمل به لا يخالف حديث: "المصة
(1) مسلم 2/ 1074 ح 1451/ 18.
(2)
مسلم 1/ 1075 ح 1451/ 23.
(3)
مسلم 2/ 1075 ح 1452/ 24، وأبو داود 2/ 230 ح 2062.
(4)
مالك 2/ 605 ح 12، وأحمد 6/ 201، وسيأتي ح 934 بدون موضع الشاهد.
والمصتان"؛ لأن ذلك دلالة مفهوم، وهذا دلالة مفهوم، ويرجع إلى الترجيح بينهما بأن هذا نص على المقصود، لأنه لبيان أول مراتب التحريم، فلو لم يكن أول مراتب التحريم، وجوزنا أن التحريم حاصل بدونها، كان فيه تلبيس على السامع، ولم يبين له وقت الحاجة، بخلاف دلالة: "لا تحرم المصة والمصتان". فإنه يدل على أن هذا القدر لا يحرم، وإن كان الثلاث والأربع مثل هذا، والاقتصار على هذا القدر لا يوقع في الخطأ، والاعتراض على حديث عائشة بأنها روت ذلك قرآنًا، والقرآن لا يثبت بخبر الواحد، ولم تروه خبرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يثبت كونه قرآنا، ولم تروه خبرًا، فلا يعمل به - مندفع بأنه وإن لم يثبت كونه قرآنا ولا تجري [عليه](أ) أحكام القرآن من أحكام اللفظ، فقد روته عن النبي صلى الله عليه وسلم، فله حكم الخبر في جواز العمل؛ لأنهما حكمان متغايران، وقد عمل بمثل ذلك الفقهاء؛ فالشافعي وأحمد في هذا الموضع، وأبو حنيفة احتج بقراءة ابن مسعود في صيام الكفارة:(فصيام ثلاثة أيام متتابعات)(1). ومالك وأصحابه في فرض الأخ من الأم السدس بقراءة أُبي: (وله أخ أو أخت من أم)(2). والناس كلهم احتجوا بهذه القراءة، وكانت سند الإجماع، وهذا مثل رواية عمر:(الشيخ والشيخة إذا زنيا)(3).
(أ) ساقطة من: الأصل.
_________
(1)
عبد الرزاق 8/ 513، 514 ح 16102 - 16104.
(2)
لم أجدها من قراءة أبي، وهي مشهورة من قراءة سعد بن أبي وقاص. ينظر ابن أبي شيبة 11/ 416، 417، وابن جرير 4/ 287، والبحر المحيط 3/ 190.
(3)
النسائي في الكبرى 4/ 273 ح 7156، وابن ماجة 2/ 853، 854 ح 2553.
وحجة من قال بالسبع ما أخرجه ابن أبي خيثمة (1) بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها، رواها عبد الله بن الزبير، وعبد الرزاق (2) من طريق عروة: كانت عائشة تقول: لا تحرم دون سبع رضعات أو خمس.
وحجة من قال بالعشر ما أخرجه في "الموطأ"(3) عن عائشة رضي الله عنها: لا يحرم دون العشر. وعن حفصة كذلك (4)، وهذان المذهبان لا حجة لهما ظاهرة إلا على القول بأن قول الصحابي يكون حجة، ولكنه لا يعارض ما تقدم من الأحاديث المرفوعة، والموقوف دون المرفوع لا يقوى على المعارضة.
وقد سئل طاوس عن قول من يقول: لا يحرم من الرضاع دون سبع رضعات. فقال: قد كان ذلك، ثم حدث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم، المرة الواحدة [تحرم](أ)(5).
وقد روي مذهب آخر، وهو الفرق بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن، قال طاوس: كان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضعات محرمات، ولسائر الناس رضعات معلومات، ثم ترك ذلك بعد (6).
(أ) في الأصل، جـ: تحريم. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
ابن أبي خيثمة -كما في الفتح 9/ 146.
(2)
عبد الرزاق 7/ 468 ح 13921.
(3)
الموطأ 2/ 603 ح 7.
(4)
مالك 2/ 603 ح 8.
(5)
عبد الرزاق 7/ 467 ح 13916.
(6)
عبد الرزاق 7/ 467 ح 13914.
والرضعة فعلة من الرضاع، فهي مرة منه؛ كضربة وجلسة وأكلة، فمتى التقم الثدي فامتص منه ثم تركه باختياره من غير عارض كان ذلك رضعة، والقطع العارض لتنفس أو استراحة يسيرة أو لشيء يلهيه ثم يعود عن قرب لا يخرجه عن كونه رضعة واحدة، كما أن الآكل إذا قطع أكلته بذلك ثم عاد عن قريب كان ذلك أكلة واحدة، وهذا مذهب الشافعي، وللشافعية فيما إذا قطعته المرضعة ثم عاد إليه الصبي وجهان، هل ذلك رضعتان -لأن الرضاع يكون من الراضع والمرضع- أو رضعة واحدة؟ لأن الاعتبار بفعل الرضيع، كما أنَّه لو رضع وهي نائمة صح ذلك. [وكذلك إذا انتقل من ثديها الأول إلى ثديها الآخر أنها رضعة واحدة أو أنها](أ) رضعتان، لأنه ارتضع وقطعه باختياره؟ ومذهب الإمام أحمد بن حنبل فيه تفصيل.
قال صاحب "المغني"(1): إذا قطع قطعًا بينًا باختياره كان ذلك رضعة، فإن عاد كانت رضعة أخرى، وإن قطع لضيق نفس أو للانتقال من ثدي إلى ثدي أو لشيء يلهيه، أو قطعت عليه المرضعة، نُظِر؛ فإن لم يعد قريبًا فهي رضعات، وإن عاد في الحال ففيه وجهان؛ أحدهما أن الأولى رضعة، فإذا عاد فهي رضعة أخرى. والثاني أن جميع ذلك رضعة كما هو مذهب الشافعي، والله أعلم.
(أ - أ) ساقطة من: الأصل.
_________
(1)
المغني 11/ 312.
933 -
وعنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظرن مَن إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة". متفق عليه (1).
لفظ الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل، فكأنه تغير وجهه، كأنه كره ذلك، فقالت: إنه أخي. فقال: "انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة".
قال المصنف (2) رحمه الله تعالى: لم أقف على اسمه وأظنه ابنًا لأبي القعيس، وغلط من قال: هو عبد الله بن يزيد رضيع عائشة. لأن عبد الله هذا تابعي باتفاق الأئمة، وكأن أمه التي أرضعت عائشة عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم فولدته، فلهذا قيل له: رضيع عائشة. وقوله في الحديث: "انظرن من إخوانكن". بلفظ "من" في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره:"ما إخوانكن". والأولى أوجه؛ لأن "من" لمن يعقل، والمعنى الأمر بالتأمل فيما وقع من الرضاع، هل هو رضاع صحيح بشرطه، من وقوعه في زمن الرضاع ومقدار الإرضاع؟ فإن الحكم الَّذي ينشأ من الرضاع، إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط، قال المهلب: المعنى: انظرن ما سبب هذه الأخوة، فإن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر، حين تسد الرضاعة المجاعة. وقال أبو عبيد (3): معناه أن الَّذي إذا جاع كان طعامه الَّذي يشبعه اللبن من الرضاع، لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع.
(1) البخاري، كتاب النكاح، باب من قال: لا رضاع بعد حولين 9/ 146 ح 5102، ومسلم كتاب الرضاع، باب إنما الرضاعة من المجاعة 2/ 1078 ح 1455/ 32.
(2)
الفتح 9/ 147، 148.
(3)
غريب الحديث 2/ 149.
وقوله: "فإنما الرضاعة من المجاعة". تعليل للباعث على إمعان النظر والفكر، بأن الرضاعة التي تثبت بها الحرمة وتحل بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلًا يسد اللبن جوعته؛ لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن، وينبت بذلك لحمه فيصير جزءًا من المرضعة، فيشترك في الحرمة مع أولادها، فهو في قوة:[لا رضاعة](أ) معتبرة إلا المغنية عن المجاعة، أو المطعمة من المجاعة. كقوله تعالى:{أَطْعَمَهُمْ من جُوعٍ} (1). ويؤيده حديث ابن مسعود الآتي: "لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم"(2). وحديث أم سلمة: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء"(3). أخرجه الترمذي وصححه. والحديث فيه دلالة على أن الرضاع إنما يثبت له الحكم حيث كان الصبي يحتاجه لسد جوعته، وهو من يعتاد مثله الاكتفاء باللبن، وتعلق الحكم بالمظنة وإن كان الناس يختلف حالهم في ذلك ولم يكن فيه تحديد. مدة ولا تقدير ما الَّذي يحصل به ذلك، ففيه إجمال بالنظر إلى هذا الحكم، قال المصنف (4) رحمه الله تعالى: يمكن أن يستدل به على أن الرضعة الواحدة لا تحرم؛ لأنها لا تغني من جوع، وإذا كان يحتاج إلى تقدير فأولى ما يؤخذ به ما قدرته الشريعة وهو خمس رضعات، واستدل به على أن التغذية بلبن المرضعة تحرم، سواء كان بشرب أم أكل بأي صفة كان؛ وَجُورًا
(أ) في الأصل: لرضاعة، وفي جـ: ولا رضاعة.
_________
(1)
الآية 4 من سورة قريش.
(2)
سيأتي في ح 940.
(3)
سيأتي في ح 938.
(4)
الفتح 9/ 181.
أو سَعوطا (1)، أو غير ذلك، لأن ذلك يسد من الجوع. وهذا قول الجمهور، وخالفت الهدوية والحنفية في الحقنة فقالوا: لا توجب تحريمًا. وقال الليث وأهل الظاهر: إن الرضاع المحرم إنما يكون بالتقام الثدي ومص اللبن منه. وهو جمود على مسمى الرضاع كما هو مذهبهم.
934 -
وعنها قالت: جاءت سهلةُ بنتُ سُهَيلٍ فقالت: يا رسولَ اللَّهِ، إن سالمًا مولى أبي حُذيفةَ معنا في بيتنا، وقد بلَغ ما يبلُغُ الرجالُ. فقال:"أرضِعِيهِ تحرمي عليه". رواه مسلم (2).
الحديث فيه دلالة على أن الرضاع يثبت له حكم التحريم ولو كان الراضع كبيرًا بالغًا، وهذا مذهب عائشة، ورواه مالك (3) عن ابن شهاب أنَّه سئل عن رضاعة الكبير، فقال: أخبرني عروة بن الزبير بحديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل برضاع سالم ففعلت، وكانت تراه ابنًا لها. قال عروة: فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين، فمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال، فكانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال. وقال عبد الرزاق (4): ثنا ابن جريج قال: سمعت عطاء بن أبي رباح وسأل رجل فقال: سقتني امرأة من لبنها بعد ما كنت رجلًا كبيرًا، أفأنكحها؟ قال عطاء: لا تنكحها. فقلت له: وذلك رأيك؟ قال: نعم، كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها. وهذا قول ثابت عن
(1) الوجور جعل الدواء وشبهه في الفم. والسعوط جعله في الأنف. ينظر التاج (وجـ ر، س ع ط).
(2)
مسلم كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير 2/ 1076 ح 1453/ 27.
(3)
الموطأ 2/ 605، 606 ح 12.
(4)
عبد الرزاق 7/ 458 ح 13883.
عائشة، ويروى عن علي (1) وعروة بن الزبير، وهو قول الليث بن [سعد](أ) وأبي محمد بن حزم، ولم ينسبه في "البحر" إلا إلى عائشة وداود الظاهري، وحجتهم هذا الحديث، وهو حديث صحيح لا يمتري أحد في صحته، صريح في أن رضاع الكبير يحرم مثل رضاع الصغير، قالوا: وهو مبين للمراد من قوله تعالى. {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (2) أن المراد إنما هي الرضاعة الموجبة للنفقة للمرضعة، والتي يجبر عليها الأبوان رضيا أم كرها، ويزيد ذلك وضوحًا آخر الآية، وهو قوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . وقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (3). مطلق غير موقت الرضاع فيه بوقت، فهذا الحديث يبين أن (ب) الإطلاق مقصود، والرد بأن هذا خاص بسالم كما قال بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روي عن أم سلمة أنها قالت: ما نرى هذا إلا خاصًّا بسالم، وما ندري لعله رخصة لسالم (4) -لا يدفع الحديث، لأن ذلك تظنن، ولا يعارض السنة الصحيحة، ولذلك قالت عائشة: أما لك في رسول الله أسوة حسنة (5)؟ فسكتت أم سلمة ولم
(أ) في الأصل، جـ: سعيد وأبي محمد بن سعد.
(ب) ساقطة من: الأصل.
_________
(1)
عبد الرزاق 7/ 461 ح 13888.
(2)
الآية 223 من سورة البقرة.
(3)
الآية 23 من سورة النساء.
(4)
مسلم 2/ 1078 ح 1454، والنسائي 6/ 106 من حديث أم سلمة.
(5)
أحمد 6/ 174، ومسلم 2/ 1077 ح 1453/ 29 من حديث عائشة.
تنطق بحرف، ولو كان خاصًّا بسالم لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين اختصاص أبي بُردة بالتضحية بالجذعة من المعز (1). ودعوى النسخ؛ لأن هذه القصة كانت في أول الهجرة نزلت عقيب نزول قوله تعالى:{ادْعُوهُمْ لِأَبآئِهِمْ} (2). ولأن راوي أحاديث الصغير ابن عباس (3) وأبو هريرة وأم سلمة (4) لا تتم، فإن النسخ إنما يصح ويتم إذا عرف التاريخ والتقدم والتأخر وعدم احتمال التأويل، وهذه منتفية، وكون ابن عباس وأبي هريرة من المتأخرين لا يفيد التاريخ؛ لأنهما لم يصرحا بالسماع، وهو يجوز أنهما سمعا من غير النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن في بعض روايات سالم ما يدل على أن قصتها متأخرة عن اعتبار الحولين، فإنها قالت: كيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فاستنكارها يدل على أن هذا التحليل بعد اعتقاد التحريم، والتأويل أيضًا ممكن كما أولت الآية الكريمة.
وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى أن الرضاع المعتبر ما كان في الصغر، واختلفوا في قدر ذلك على أقوال؛ فذهب العترة والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد إلى أنَّه يشترط أن يكون في الحولين، ولا يحرم ما كان بعدهما، وصح ذلك عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر (5)، وروي عن سعيد بن المسيب والشعبي وابن
(1) البخاري 2/ 465 ح 976، ومسلم 3/ 1552، 1553 ح 1961/ 5.
(2)
الآية 5 من سورة الأحزاب.
(3)
سيأتي ح 939.
(4)
سيأتي ح 938.
(5)
عبد الرزاق 7/ 465 ح 13904 - 13906، وابن أبي شيبة 4/ 290، 291، والدارقطني 4/ 173.
شبرمة، وهو قول سفيان وإسحاق وأبي عبيد وابن حزم وابن المنذر وداود وجمهور أصحابه.
وقالت طائفة: الرضاع المحرم ما كان قبل الفطام. ولم يقدروه بزمن. صح ذلك عن أم سلمة وابن عباس، وروي عن علي (1)، ولم يصح عنه، وهو قول الحسن والزهري وقتادة وعكرمة والأوزاعي، قال الأوزاعي: إن فطم وله عام واحد [و](أ) استمر فطامه ثم رضع في الحولين لم يحرم هذا الرضاع شيئًا، فإن تمادى رضاعه ولم يفطم، فإنه ما كان في الحولين يحرم، وما كان بعدهما فإنه لا يحرم وإن تمادى الرضاع.
وقالت طائفة: المحرم ما كان في الصغر. ولم يوقته هؤلاء بوقت، وروي هذا عن ابن عمر وابن المسيب وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خلا عائشة (2). وقال أبو حنيفة وزفر: ثلاثون شهرًا. وعن أبي حنيفة رواية أخرى كقول أبي يوسف ومحمد.
وقال مالك في المشهور من مذهبه (3): يحرم في الحولين وما قاربهما، ولا حرمة له بعد ذلك. ثم روي عنه اعتبار أيام يسيرة، وروى عنه شهران، وروي عنه شهر ونحوه، وروى عنه الوليد بن مسلم وغيره أن ما كان بعد
(أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من المحلى 11/ 198.
_________
(1)
ينظر مصنف عبد الرزاق 7/ 464، 465 ح 13897، 13898، 13903، والمحلى 11/ 197، 198.
(2)
ينظر مصنف عبد الرزاق 7/ 465 ح 13906، 13907، وابن أبي شيبة 4/ 291، والمحلى 11/ 197، 196.
(3)
الموطأ 2/ 604.
الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو ثلاثة فإنه عندي من الحولين. وهذا هو المشهور عند كثير من أصحابه، والذي رواه عنه أصحاب "الموطأ" وكان يقرأ عليه إلى أن مات. قوله فيه: وما كان من الرضاع بعد الحولين، فإن قليله وكثيره لا يحرم شيئًا، إنما هو بمنزلة الماء. هذا لفظه، وقال (1): إذا فصل الصبي قبل الحولين، واستغنى بالطعام عن الرضاع، فما ارتضع بعد ذلك لم يكن للرضاع حرمة.
وقال الحسن بن صالح وابن أبي ذئب وجماعة من أهل الكوفة: مدة الرضاع ثلاث سنين، فما زاد عليها لم يحرم.
وقال عمر بن عبد العزيز: مدته إلى سبع سنين. وكان يزيد بن هارون يحكيه عنه كالمتعجب من قوله، وروي عنه خلاف هذا. وحكي عن ربيعة أن مدته حولان واثنا عشر يومًا.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الرضاع يعتبر فيه الصغر، إلا فيما دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الَّذي لا يستغنى عن دخوله [على](أ) المرأة ويشق احتجابها عنه كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثّر رضاعه، وأما من عداه فلا بد من الصغر، وفي هذا جمع للأحاديث الواردة، والعمل بها ممكن، وهو الواجب ما أمكن، وحجة القائلين باعتبار الحولين قوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
(أ) في الأصل: عن.
_________
(1)
هذا القول في المدونة 5/ 408، والتمهيد 8/ 262 من قول ابن القاسم.
الْرَّضَاعَةَ}. فدل على أنَّه لا حكم لما بعدهما فلا يتعلق به التحريم، وقد تقدم بيان المراد من الآية، وحديث ابن عباس:"لا رضاع إلا ما كان في الحولين". وحديث ابن مسعود: "لا يحرم من الرضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم". ورضاع الكبير لا ينبت لحمًا ولا ينشز عظمًا. والجواب ممكن عن الاحتجاج المذكور، بأن المراد بـ:"لا رضاع إلا ما كان في الحولين". أي الرضاع المحتاج إليه في حق الصغير النافع له، المغني عن الطعام والشراب. وأما حديث ابن مسعود فقد يدَّعى فيه أن رضاع الكبير بفعل ما ذكر، ويكون الغرض منه بيان أن القليل لا ينفع كالمصة، فإنها لا تنبت لحمًا، ويؤيده ذكر الخمس الرضعات أو العشر. وحديث:"لا رضاع إلا ما كان في الثدي"(1). قد يصلح متمسَّكًا لمن يقول: الرضاع لا يكون إلا قبل الفطام. وإن فسر الثدي بأيام الحولين كان حجة لأهل الحولين، وأما حجة من اعتبر الفطام فحديث أم سلمة:"يحرم من الرضاع ما كان قبل الفطام". وحديث ابن عباس: "لا رضاع بعد الفطام". علق الحكم بالفطام، وحديث:"الرضاعة من المجاعة". يفهم منه ذلك، فإن المراد سد الجوع، ولا يكون سد الجوع إلا فيمن لا يستغني بغير الرضاع، ويجاب عنه بأن الحكم معلق بالحالة الأغلبية، وإلا فقد لا يرضع أحد غير أيام اللِّبَأ (2) ويستغني بغير الرضاع، وأما حجة من قال بالثلاث أو بالسبع فلم أقف عليها، والله أعلم.
935 -
وعنها أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها بعد الحجاب، قالت: فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته
(1) سيأتي ح 938.
(2)
اللبأ: أول الألبان عند الولادة. النهاية 4/ 221، واللسان (ل ب أ).
بالذي صنعته، فأمرني أن آذن له عليَّ، وقال:"إنه عمك". متفق عليه (1).
أفلح بالفاء والحاء المهملة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. والقُعَيس بقاف، وعين وسين مهملتين، مصغرًا، وجاء في رواية مسلم: هو أفلح بن قعيس. قال المصنف (2): والمحفوظ أفلح أخو أبي القعيس، ويحتمل أن يكون اسم أبيه قعيسًا أو اسم جده فنسب إليه، فتكون كنيته -أي الأخ- أبا القعيس، وافقت اسم أبيه أو اسم جده، ويؤيده ما وقع في الأدب (3) من طريق عقيل عن الزهري:[فإن](أ) أخا [أبي](ب) القعيس. وكذا وقع عند النسائي (4) من طريق وهب بن كيسان عن عروة، وفي مسلم (5) من رواية ابن عيينة عن الزهري: أفلح بن أبي القعيس. وكذا لأبي داود (6) عن هشام بن عروة عن أبيه، ولمسلم (7) من طريق ابن جريج عن عطاء أخبرني عروة أن عائشة قالت: استأذن عليَّ عمي من الرضاعة أبو
(أ) في الأصل: كان.
(ب) في الأصل، جـ: بنى. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
البخاري، كتاب النكاح، باب: ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع 9/ 338 ح 5239 واللفظ له، ومسلم كتاب الرضاع، باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل 2/ 10، 1071 ح 1445/ 10.
(2)
الفتح 9/ 150.
(3)
البخاري 10/ 550 ح 6156.
(4)
النسائي 6/ 103.
(5)
مسلم 2/ 1069 ح 1445/ 4.
(6)
أبو داود 2/ 228 ح 257.
(7)
مسلم 2/ 1070 ح 1445/ 8.
الجعد. قال: فقال لي هشام: إنما هو أبو القعيس. وكذا عند مسلم (1) من طريق أبي معاوية عن هشام: استأذن عليها أبو القعيس. وسائر الرواة عن هشام قالوا: أفلح أخا أبي القعيس. كما هو المشهور، ووقع عند سعيد بن منصور والطبراني (2) أن الَّذي استأذن عليها أبو القعيس. واسم أبي القعيس وائل بن أفلح الأشعري، وكذا سماه الدارقطني، وحكى هذا ابن عبد البر (3)، وحكى أيضًا أن اسمه الجعد، فعلى هذا يكون أخوه وافق اسمه اسم أبيه، ويحتمل أن يكون أبو القعيس [نسب](أ) لجده، ويكون اسمه وائل بن قعيس بن أفلح، قال ابن عبد البر: لا أعلم لأبي القعيس ذكرًا إلا في هذا الحديث.
الحديث فيه دلالة على ثبوت حكم الرضاع في حق زوج المرضعة وأقاربه كالمرضعة، وذلك لأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا، فوجب أن يكون الرضاع منهما، كالجد لما كان سبب ولد الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده، ولذلك قال ابن عباس في هذا الحكم: اللقاح واحد. أخرجه ابن أبي شيبة (4)، فإن الوطء يدر اللبن، فللرجل فيه نصيب، وقد ذهب إلى هذا الجماهير من الصحابة والتابعين، والعترة، وفقهاء الأمصار؛
(أ) في الأصل، جـ: نسبا. والمثبت من الفتح 9/ 150.
_________
(1)
مسلم 2/ 1070 ح 1444/ 7.
(2)
سعيد بن منصور -كما في الفتح 9/ 150 - والطبراني في الأوسط 3/ 179 ح 2853، 5/ 157 ح 4934.
(3)
الاستيعاب 1/ 102، 4/ 1734.
(4)
ابن أبي شيبة 4/ 347.
كالأوزاعي في أهل الشام، والثوري وأبي حنيفة وصاحبيه في أهل الكوفة، وابن جريج في أهل مكة، ومالك في أهل المدينة، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأتباعهم، والحديث يدل دلالة صريحة على ذلك، وفي رواية سفيان عند أبي داود (1) زيادة تصريح، قالت: دخل عليَّ أفلح، فاستترت منه، فقال: أتستترين مني وأنا عمك؟ قلت: من أين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي. قلت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل. الحديث. ووقع في رواية شعيب (2) في آخره من الزيادة قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب. وفي رواية سفيان بن عيينة (3): ما تحرمون من النسب. وظاهره الوقف، وقد جاء في رواية مسلم (4) في هذا الحديث قال صلى الله عليه وسلم:"لا تحتجبي منه، فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب". والخلاف في ذلك عن ابن عمر وابن الزبير ورافع بن خديج وزينب بنت أم سلمة (5) وعائشة في رواية مالك في "الموطأ" وسعيد بن منصور في "السنن"(6) وأبي عبيد في كتاب النكاح بإسناد حسن -وعن سعيد بن المسيب وأبي سلمة والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار والشعبي وإبراهيم النخعي وأبي قلابة وإياس بن معاوية،
(1) أبو داود 2/ 228 ح 2057.
(2)
البخاري 8/ 531، 532 ح 4796. بلفظ: ما تحرمون من النسب.
(3)
سعيد بن منصور في سننه 1/ 237 ح 951، 952. بلفظ: ما يحرم من النسب.
(4)
مسلم 2/ 1070 ح 1445/ 9.
(5)
مصنف عبد الرزاق 7/ 474 ح 13943، وابن أبي شيبة 4/ 349، والمحلى 11/ 170، 171.
(6)
مالك 2/ 604، وسعيد بن منصور 1/ 239 ح 963.
أخرجها ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور (1) وابن المنذر وعن ابن سيرين وربيعة الرأي وإبراهيم بن علية وابن بنت الشافعي وداود وأتباعه، وأغرب عياض ومن تبعه في تخصيصهم ذلك بداود وإبراهيم، قالوا: لا يثبت حكم الرضاع للرجل؛ لأن الرضاع إنما هو للمرأة التي اللبن منها، ويدل على ذلك قول الله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (2). ولما روي أن عبد الله بن الزبير أرسل إلى زينب بنت أم سلمة يخطب ابنتها أم كلثوم على حمزة بن الزبير، وكان حمزة أمه الكلبية، وكانت زينب قد رضعت من أسماء بنت أبي بكر زوجة الزبير، فقالت: لا تحل له هي ابنة أخته. فقال عبد الله: إنما أردت المنع، أما ما ولدت أسماء فهم إخوتك، وأما ما كان من عدا أسماء فليسوا لك بلإخوة، فأرسلي فسلي عن هذا. فأرسلت فسألت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فقالوا لها: إن الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئًا. فأنكحتها إياه، فلم تزل عنده حتَّى هلك عنها (3). قالوا: ولم ينكر ذلك الصحابة رضي الله عنهم. والجواب عن ذلك أن الآية الكريمة لم يكن فيها ما يعارض الحديث، فإن ذكر الأمهات لا يدل على أن ما عداهن ليس كذلك، فإنه مفهوم لقب. وقوله:
(1) مصنف عبد الرزاق 7/ 472، 474 ح 13936، 13943، 13944، ومصنف ابن أبي شيبة 4/ 349، 350، وسنن سعيد بن منصور 1/ 238، 239، 245 ح 158 - 960، 963، 988.
(2)
الآية 23 من سورة النساء.
(3)
الشافعي 7/ 265، 266، وابن أبي شيبة 4/ 349، 350.
{وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} . [يحتمل](أ) للتناول على فرض ثبوت حكم اللبن للرجل وعدم التناول على تقرير عدمه، وأما سؤال الصحابة، فالمسألة اجتهادية، ولعل من قال بالجواز يذهب إلى هذا اجتهادًا منه، واجتهاد الصحابي لا يكون حجة على الصحيح، ولا تصح دعوى الإجماع لسكوت الصحابة عن الإنكار، لأن المسألة اجتهادية، وقد صح عن علي (1) القول باعتباره، وكذا عن ابن عباس أخرجه البخاري لما سئل عن الحل، فقال: لا، اللقاح واحد (2). إلا أنَّه يلزم الحنفية ذلك، لأن عائشة عملت بخلاف ما روت، والعمل عندهم بما رأى لا بما روى، وألزم الشافعي والمالكية مثل ذلك، وذلك أنهم يقدمون عمل أهل المدينة على الخبر الآحادي، وقد قال عبد العزيز بن محمد عن ربيعة: إن لبن الفحل لا يحرم. قال عبد العزيز: وهذا رأي فقهائنا إلا الزهري. قال الشافعي: فيلزمهم على هذا؛ إما يردوا هذا الخبر وهم لم يردوه، أو يردوا ما خالف الخبر، يعني من عمل أهل المدينة، فيخالفون أصلهم. انتهى.
والحديث قد يستدل به على أن قليل الرضاع يحرم كما يحرم كثيره، لعدم الاستفصال فيه، ويجاب عنه بأن عدم الذكر لا يدل على أنَّه لم يستفصل في نفس الأمر، وعلى أن من شك في أمر يتوقف عنه حتَّى يسأل العلماء عنه، وأن من اشتبه عليه الأمر طالب المدعي ببيانه، وأنه يجب الحجاب
(أ) كذا في الأصل، جـ، ولعل الصواب: محتمل.
_________
(1)
ينظر سنن سعيد بن منصور 1/ 240 ح 967، والبيهقي 7/ 453.
(2)
تقدم تخريجه ص 290 عند ابن أبي شيبة. وكذا عزاه في الفتح 9/ 151 إلى ابن أبي شيبة.
من الأجانب، وأن المحرم يستأذن على محرمه، وأن المرأة لا تأذن في بيت الرجل إلا بإذنه، وقد جاء في رواية (1) زيادة:"تربت يداك". وهو يؤخذ من الزيادة أنَّه لا ينبغي الجزم بالحكم قبل الاستثبات فيه، والله سبحانه أعلم.
936 -
وعنها رضي الله عنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرمن). ثم نسخن بخمس معلومات، فتُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن. رواه مسلم (2).
الحديث تقدم الكلام في أحكامه (3).
وقوله: معلومات. فائدة التقييد به بأنه لا يثبت حكم الرضاع إلا بعد تعدد الرضعات، وأنه لا يكفي في ذلك الظن، ويشترط تحقق العشر، وإلا فالرجوع إلى الأصل وهو عدم ثبوت حكم الرضاع.
وقوله: فيما يقرأ. بضم الياء، يعني أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدًّا حتَّى إنه صلى الله عليه وسلم توفي وبعض لم الناس يقرأ خمس رضعات، ويجعلها قرآنا متلوًّا؛ لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أنَّه لا يتلى.
والنسخ على ما هو معروف ثلاثة أنواع؛ أحدها، ما نسخ حكمه وتلاوته كـ:(عشر رضعات). والثاني، ما نسخ تلاوته دون حكمه كـ:(خمس رضعات)، وكـ: (الشيخ والشيخة إذا زنيا
(1) مسلم 2/ 1069 ح 1445/ 4.
(2)
مسلم، كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات 2/ 1075 ح 1452/ 24.
(3)
ينظر ما تقدم ص 275 - 280.
فارجموهما) (1). والثالث، ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، وهو الأكثر، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوَنَ مِنكُمْ} الآية (2). وقد تقدم تحقيق القول في حكم هذا الحديث.
937 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة، فقال:"إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب". متفق عليه (3).
الحديث، قوله: أريد. القائل له بذلك علي رضي الله عنه كما أخرجه مسلم من حديثه، وابنة حمزة اختلف في اسمها على سبعة أقوال؛ أمامة وعمارة وسلمى وعائشة وفاطمة وأمة الله ويعلى. وحكى المزي (4) في أسمائها أم الفضل، وجزم ابن بشكوال (5) بأن ذلك كنية، والنبي صلى الله عليه وسلم رضع من ثويبة أمة أبي لهب بعد أن أرضعت حمزة، ثم أرضعت أبا سلمة.
وقوله: "ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". وذلك بالنظر إلى المرضع، وأن أقاربه أقارب للرضيع، وأما أقارب الرضيع فلا علاقة بينهم وبين
(1) تقدم ص 278.
(2)
الآية 240 من سورة البقرة.
(3)
البخاري، كتاب النكاح، باب: [وَأُمَهَاتِكُمْ الْلَائِي أَرْضَعْنَكُمْ} 9/ 140 ح 5100، ومسلم كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة 2/ 1071، 1072 ح 1447/ 13.
(4)
تهذيب الكمال 35/ 397.
(5)
غوامض الأسماء المبهمة 12/ 710.
المرضع، فلا يثبت [لهم](أ) حكم من الأحكام، والأحكام التي تثبت في الرضاع هي: جواز النظر، والخلوة، والمسافرة، لا غير ذلك من التوارث ووجوب الإنقاق والعتق بالملك والشهادة والعقل وإسقاط القصاص. قال القرطبي (1): وقع في رواية (2): "ما يحرم من الولادة". وفي رواية: "ما يحرم من النسب". وهو دال على جواز نقل الرواية بالمعنى. قال: ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال اللفظين في وقتين.
938 -
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام" .. رواه الترمذي وصححه هو والحاكم (3).
قوله: "فتق الأمعاء". أي سلك فيها؛ من الفتق بمعنى الشق، والأمعاء جمع المعى، بفتح الميم وكسرها.
تقدم الكلام في الحديث.
939 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا رضاع إلا في الحولين. رواه الدارقطني وابن عدي (4) مرفوعًا وموقوفًا ورجحا الوقوف.
(أ) ساقطة من: الأصل.
_________
(1)
القرطبي -كما في الفتح 9/ 141.
(2)
مسلم 2/ 1068 ح 1444/ 2.
(3)
الترمذي، كتاب الرضاع، باب ما ذكر أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين 3/ 458 ح 1152. ولم نجده في المستدرك للحاكم. وفي الفتح 9/ 148: صححه الترمذي وابن حبان. وهو عند ابن حبان 10/ 37، 38 ح 4224.
(4)
الدارقطني الرضاع 4/ 173، 174 ح 9، 10، وابن عدي 7/ 2562.
الحديث أخرجه الدارقطني من حديث عمرو بن دينار عن ابن عباس، وقال: تفرد برفعه الهيثم بن جميل (1) عن ابن عيينة، وكان ثقة حافظًا. وقال ابن عدي: يعرف بالهيثم، وغيره لا [يرفعه] (أ) وكان يغلط. ورواه سعيد بن منصور (2) عن ابن عيينة فوقفه. وقال البيهقي (3): الصحيح أنَّه موقوف. وروى البيهقي (3) عن عمر وابن مسعود التحديد بالحولين.
وهو يدل على اعتبار الحولين، وإن كان يحتمل أن النفي إنما هو لنفع الرضاع للمولود، أو لما يجب على الأب فيه تسليم أجرة المرضعة، ويكون معناه ما دلت عليه الآية الكريمة، وقد تقدم الكلام في ذلك.
940 -
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا ما أنشز العظم، وأنبت اللحم". أخرجه أبو داود (4).
الحديث أخرجه أبو داود بلفظ: "لا رضاع إلا ما أنشز". إلخ، من حديث أبي موسى الهلالي عن أبيه عن ابن مسعود. وأبو موسى (5) وأبوه، قال أبو حاتم (6): مجهولان. لكن أخرجه البيهقي (7) من وجه آخر، من
(أ) في الأصل، جـ: يعرفه. والمثبت من التلخيص الحبير 4/ 4.
_________
(1)
الهيثم بن جميل البغدادي أبو سهل الحافظ وثقه ابن سعد وأحمد بن حنبل والدارقطني وغيرهم.
وينظر تهذيب الكمال 30/ 365.
(2)
سنن سعيد بن منصور 1/ 243 ح 980.
(3)
البيهقي 7/ 462.
(4)
أبو داود، كتاب النكاح، باب الرضاع 2/ 229 ح 2060.
(5)
أبو موسى الهلالي، مقبول. التقريب ص 677. وينظر تهذيب الكمال 34/ 334.
(6)
الجرح والتعديل 9/ 438.
(7)
البيهقي 7/ 461.
حديث أبي حصين عن أبي عطية مع قصة.
قوله: "أنشز". ويروى بالراء المهملة، أي شد العظم وقواه، من الإنشار بمعنى الإحياء، وروي بالزاي المعجمة، أي رفعه وأعلاه وأكبر حجمه، وهو من النشز المرتفع من الأرض. كذا في "النهاية"(1).
تقدم الكلام في الحديث.
941 -
وعن عقبة بن الحارث رضي الله عنه، أنَّه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة فقالت: قد أرضعتكما. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف وقد قيل؟ ". ففارقها عقبة، فنكحت زوجًا غيره. أخرجه البخاري (2).
هو أبو سروعة عقبة بن الحارث بن عامر القرشي النوفلي، وذكر أهل النسب أن أبا سروعة أخوه، وأنهما أسلما جميعًا يوم الفتح، وعداد عقبة في أهل مكة، روى عنه عبد الله بن أبي مليكة وعبيد بن أبي مريم، وقيل: إن ابن أبي مليكة لم يسمع منه، وأن عبيد بن أبي مريم بينهما. وسروعة بكسر السين المهملة وسكون الراء وفتح الواو والعين المهملة، وعبيد بضم العين المهملة، وأم يحيى صحابية واسمها غنية بفتح العجمة وكسر النون بعدها ياء تحتانية مثقلة، وفي النسائي (3) اسمها زينب، ولعل غنية لقبها، وإهاب بكسر الهمزة وبالباء الموحدة.
(1) النهاية 5/ 54، 55.
(2)
البخاري، كتاب النكاح، باب شهادة المرضعة 9/ 152 ح 5104.
(3)
النسائي -كما في الفتح 5/ 268.
قوله: فجاءت امرأة. قال المصنف (1) رحمه الله تعالى: لم أعرف اسمها، واحتمل أنها مملوكة، أو غير مملوكة، وجزم الإمام أحمد بن حنبل بأنها أمة، رواه عنه جماعة كأبي طالب ومهنا وحرب وغيرهم، وقال الإسماعيلي: قد جاء في بعض طرقه: فجاءت مولاة لأهل مكة. قال: وهذا اللفظ يطلق على الحرة [التي](أ) عليها الولاء، فلا دلالة فيه على أنها كانت رقيقة. وتعقب بأنه صرح البخاري في كتاب الشهادة بأنها أمة سوداء، وما عرفتَ عن أحمد.
والحديث فيه دلالة على أن شهادة المرضعة تقبل وحدها، وبوب على ذلك البخاري، وقال: باب شهادة المرضعة. وقد ذهب إلى هذا الإمام أحمد بن حنبل كما قال علي بن [سعيد](ب): سمعت أحمد يسأل (جـ) عن شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، فقال: تجوز على قول عقبة بن الحارث. وهو قول الأوزاعي، ونقل عن عثمان وابن عباس والزهري والحسن (2) وإسحاق، وروى عبد الرزاق (3) عن ابن جريج عن ابن شهاب، قال: فرق عثمان بين ناس تناكحوا بقول امرأة سوداء أنها أرضعتهم. قال ابن شهاب: الناس يأخذون [بذلك](5) من قول عثمان. واختاره أبو عبيد إلا أنَّه قال:
(أ) في الأصل: الَّذي.
(ب) في الأصل، جـ، والفتح 5/ 268: سعد. وهو علي بن سعيد بن جرو أبو الحسن النسوي، كبير القدر، صاحب حديث، كان يناظر الإمام أحمد مناظرة شافية، روى عنه جزأين مسائل. طبقات الحنابلة 1/ 224، 225.
(جـ) في الأصل، جـ: يسأله. والمثبت من الفتح 5/ 268.
(د) في الأصل، جـ: ذلك. والمثبت من الفتح.
_________
(1)
الفتح 5/ 268.
(2)
مصنف عبد الرزاق 7/ 482، 483 ح 13969، 13971، 13974.
(3)
مصنف عبد الرزاق 7/ 482 ح 13970.
يجب على الرجل [المفارقة](أ)، ولا يجب على الحاكم الحكم بذلك، وإن شهد معها غيرها وجب الحكم به. وروي عن مالك أيضًا. وفي رواية [عنه] (ب): بشرط أن يفشو ذلك. وروي عن مالك أنَّه لا يقبل في الرضاع إلا شهادة امرأتين. وبه قال ابن القاسم [من](جـ) أصحابه: بشرط أن يفشو قولهما (د) بذلك قبل الشهادة. ومن المالكية من لم يشترط الفشو، وهو مذهب مطرف وابن الماجشون.
وذهب العترة والحنفية إلى أنَّه لا يقبل في الرضاع إلا رجلان أو رجل وامرأتان كغيره من الأحكام، ولا تكفي شهادة المرضعة، لأنها تُقرر فعلها، قال في "البحر": لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} (1) الآية.
وقد أخرج أبو عبيد (2) من طريق عمر وعلي بن أبي طالب وابن عباس والمغيرة بن شعبة، أنهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين بذلك، وقال عمر: فرق بينهما إن جاءت بينة، وإلا فخل بين الرجل والمرأة، ولو فتح هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين زوجين إلا فعلت. وذهب الشافعي إلى أنها تقبل مع ثلاث نسوة بشرط ألا تتعرض لطلب أجرة.
وهذه الأقوال راجعة إلى عموم دليل الشهادة، وقد اعتبر فيها العدد،
(أ) في الأصل، جـ: المفارق. والمثبت من الفتح 5/ 268.
(ب) ساقطة من: الأصل.
(جـ) في الأصل: و.
(د) في جـ: قولها.
_________
(1)
الآية 282 من سورة البقرة.
(2)
أبو عبيد -كما في الفتح 5/ 269.
وأجابوا عن هذا الحديث بأنه محمول على الاستحباب والتحرز عن مظان الاشتباه، والجواب عنه بأن ذلك خلاف الظاهر لا سيما مع ذكر أنَّه تكرر سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أربع مرات (1)، وأجابه بقوله:"كيف وقد قيل؟ "(2). وفي بعضها: "دعها". وفي رواية الدارقطني (3): "لا خير لك فيها". ولو كان من باب الاحتياط لأمره بالطلاق مع أن في جميع الروايات لم يذكر الطلاق، ولا منع بن أن يكون هذا الحكم مخصوصًا من عموم الشهادة المعتبر فيها [العدد](أ)، كما اعتبر أكثر المخالفين لهذا في عورات النساء شهادة المرأة الواحدة، مع أن العلة واحدة في ذلك، لأنه قلَّما يطلع عليه الرجال، فالضرورة داعية إلى اعتبار ذلك.
942 -
وعن زياد السهمي قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسترضع الحمقاء. أخرجه أبو داود (4)، وهو مرسل، وليست لزياد صحبة.
الحمقاء: المرأة خفيفة العقل. والنهي عن ذلك لما أن الطباع تكتسب.
(أ) ساقطة من: الأصل.
_________
(1)
ينظر سنن الدارمي 2/ 157، 158.
(2)
البخاري 5/ 268 ح 2660.
(3)
الدارقطني 4/ 177 ح 19.
(4)
أبو داود في المراسيل ص 181، 182 ح 207.