الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجنايات
الجنايات جمع جناية، مصدر من جنَى الذنب عليه يجنيه جناية، أي جرّ إليه، وجمع المصدر لاختلاف أنواعه، فإنها (أ) تكون في النفس وفي الأطراف.
961 -
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله إلا بإحدى ثلاث؛ الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفسِ، والتارك لدينه المفارق للجماعة". متفق عليه (1).
الحديث فيه دلالة على أنه لا يحل قتل المسلم إلا لأحد (ب) الأسباب الثلاثة.
وقوله: "الثيب الزاني". المراد به الزاني المحصن، والمراد (جـ) رجمه بالحجارة حتى يموت، وهذا حكم مجمع عليه، وسيأتي إيضاحه وشروطه (د) إن شاء الله تعالى.
وقوله "النفس بالنفس". المراد به القصاص بشروطه، وسيأتي أيضًا إن
(أ) زاد في جـ: قد.
(ب) في جـ: لإحدى.
(جـ) بعده في جـ: به.
(د) في جـ: شرطه.
_________
(1)
البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف
…
} 12/ 201 ح 6878، ومسلم، كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم 3/ 1302، 1303 ح 1676.
شاء الله تعالى. وقد يستدل بعمومه أصحاب أبي حنيفة في قتل (أ) المسلم بالذمي والحر بالعبد، وجمهور العلماء على خلافه، منهم مالك والشافعي وأحمد والليث.
وقوله: "التارك لدينه". هو عامٌّ في كل مرتدٍّ عن الإسلام بأي ردة كان، فيُقتل إن لم يرجع إلى الإسلام، ويتناول أيضًا كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما، والخوارج إذا قاتلوا وأفسدوا، ويرد الصائل، فإنه يجوز قتله دفعًا إلا أنه يقال: إنه مندرج تحت قوله: "التارك لدينه المفارق للجماعة". أو المراد في هؤلاء أنه يجوز قتلهم قصدًا، وهو لا يقتل قصدًا، وقتله دفعًا.
وقوله: "يشهد أن لا إله إلا الله". تفسير لقوله: "مسلم".
وقوله: "الثيب الزاني". وقع في نسخ مسلم "الزان" بحذف الياء وهي لغة صحيحة، قرئ بها في السبع في قوله تعالى:{الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (1). وفي غيره، والأشهر في اللغة إتيان الياء في كل هذا.
962 -
وعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل قتل مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال؛ زان مُحصَن فيُرجَم، أو رجل يقتُل (ب) مسلما متعمدا فيُقتَل، ورجل يخرج من الإسلام، فيحارب الله
(أ) في جـ: قتله.
(ب) في جـ: قتل. وهو لفظ النسائي.
_________
(1)
الآية 9 من سورة الرعد، وبإثبات الياء وصلًا ووقفًا قرأ ابن كثير ويعقوب. النشر 2/ 224.
ورسوله؛ فيقتل، أو يُصلَب، أو يُنفَى من الأرض". رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم (1).
الحديث، الكلام فيه تقدم في الذي قبله.
وفي قوله: "يخرج من الإسلام". يكون استثناؤه مما قبله لشموله له، باعتبار ما كان عليه، وإلا فقد صار غير مسلم في الحال بعد خروجه من الإسلام.
963 -
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء". متفق عليه (2).
الحديث فيه دلالة على تعظيم الذنب الكائن بسبب [دم](أ) ابن آدم، فإن البداية إنما تكون بالأهم، وذلك لأن الذنب يعظم بعظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك، وقد ورد في التغليظ في ذلك. النصُّ في كتاب الله سبحانه وتعالى، وأحاديثُ صحيحة، وأخبار (ب) شهيرة.
و"أول" مضافٌ إلى "ما" الموصولة، والعائد محذوف، والتقدير: يقضى فيه. ويجوز أن تكون "ما" مصدرية، والمعنى: أول قضاء يكون في
(أ) ساقط من: الأصل.
(ب) في جـ: أخباره.
_________
(1)
أبو داود، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد 4/ 124 ح 4353، والنسائي، كتاب المحاربة، باب الصلب 7/ 101، 102، والحاكم، كتاب الحدود 4/ 367.
(2)
البخاري، كتاب الرقاق، باب القصاص يوم القيامة 11/ 395 ح 6533، ومسلم، كتاب القسامة، باب المجازاة بالدماء في الآخرة
…
3/ 1304 ح 1678.
الدماء. ويجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم المفعول، أي أول مَقْضِىّ يكون في الدماء. و "في الدماء" خبر على كل تقدير.
ولا يعارض الحديث حديث: "أول ما يحاسب العبد عليه صلاته". أخرجه أصحاب "السنن" من حديث أبي هريرة (1). لأن الأول محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق، والثاني فيما يتعلق بعبادة الخالق (أ)، وقد جمع النسائي (2) في روايته في حديث ابن مسعود ولفظه:"أول ما يحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء". وحديث علي (3): أنا أول من يجثو للخصومة يوم القيامة. يعني هو ورفيقاه حمزة وعبيدة، وخصومهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن [عتبة](ب)، مندرج في ذلك، وفي حديث الصُّور عن أبي هريرة:"أول ما يُقضَى بين الناس في الدماء، ويأتي كل قتيل قد حمل رأسه، فيقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني" الحديث (4). وفي حديث نافع بن جُبير عن ابن عباس يرفعه: "يأتي المقتول معلق رأسه بإحدى يديه، ملبِّيًا قاتله بيده الأخرى، تشخب أوداجه دمًا،
(أ) في جـ: الخلق.
(ب) في الأصل، جـ: عقبة. والمثبت من حديث علي عند البخاري 8/ 443، 444 ح 4744.
_________
(1)
أبو داود 1/ 228 ح 864، والترمذي 2/ 269، 270 ح 413، والنسائي 1/ 232، 233، 234، وابن ماجه 1/ 458 ح 1425.
(2)
النسائي 7/ 83.
(3)
النسائي في الكبرى 5/ 195، 196 ح 8650، وينظر تحفة الأشراف 7/ 439 ح 10256، 8/ 183 ح 11974.
(4)
الطبراني في الأحاديث الطوال ص 266 - 277 ح 36.
حتى يقفا بين يدي الله" (1) الحديث. هذا في الدماء، والقضاء في الأموال في حديث ابن عمر رفعه: "من مات وعليه دينار أو درهم، قُضي من حسناته". أخرجه ابن ماجه (2). وقد استشكل إعطاء الثواب، وهو لا يَتَنَاهٍ في مقابلة العقاب وهو مُتناهٍ، وأجيب بأنه محمول على أنه يعطي من أجر حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته من غير المضاعفة التي يضاعف بها الله سبحانه وتعالى الحسنات؛ لأن ذلك من محض الفضل الذي يخصُّ الله به من يشاء من عباده. كذا قاله البيهقي (3). وهذا لا يستقيم إلا على أصول أهل السنة، ولا يناسب أصول العدلية المعتزلة. والله سبحانه أعلم.
964 -
وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه". رواه أحمد والأربعة، و [حسنه](أ) الترمذي (4).
وهو من رواية الحسن البصري، عن سمرة، وقد اختلف في سماعه
(أ) في الأصل، جـ: صححه. والمثبت من بلوغ المرام ص 254، ولفظ الترمذي: حسن غريب.
_________
(1)
الطبراني في الكبير 10/ 372 ص 10742، وفي الأوسط 4/ 286 ح 4217.
(2)
ابن ماجه 2/ 807 ح 2414.
(3)
في شعب الإيمان 1/ 68.
(4)
أحمد 5/ 10، وأبو داود، كتاب الديات، باب من قتل عبده أو مثل به
…
4/ 174 ح 4516، والترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء في الرجل يقتل عبده 4/ 18، 19 ح 1414، والنسائي، كتاب القسامة، باب القود من السيد للمولى 8/ 21، وابن ماجه، كتاب الديات، باب هل يقتل الحر بالعبد؟ 2/ 888 ح 2663.
منه (أ). وفي رواية أبي داود والنسائي: "ومن خصى عبده خصيناه". وصحح الحاكم (1) هذه الزيادة.
الحديث ضعفه يحيى بن معين (2)، وقال: إن الحسن لم يسمع من سمرة شيئًا، هو كتاب. وقال في [الحديث] (ب): ذاك في سماع البغداديين، ولم يسمع الحسن من سمرة. وذهب بعضهم إلى أنه لم يسمع منه غير حديث العقيقة (3). وأما علي بن المديني فكان يثبت سماع الحسن من سمرة (4). وقال قتادة [راويه] (جـ) عن الحسن: ثم إن الحسن نسي هذا الحديث، وقال:"لا يقتل حر بعبد"(5). ولكن يقال: يحتمل أن الحسن لم ينسه، وإنما لم يعمل به لضعفه (6).
والحديث فيه دلالة على أن السيد يقاد بالعبد في النفس والأطراف، ويقاس عليه إذا كان القاتل غير السيد بقياس الأَوْلى، وقد ذهب إلى هذا إبراهيم النخعي (د)، وهو متأيد بعموم قوله تعالى:
(أ) ساقط من: جـ.
(ب) في الأصل: حديث.
(جـ) في الأصل، جـ: رواية. والمثبت يقتضيه السياق.
(د) بعده في جـ: وغيره.
_________
(1)
الحاكم، كتاب الحدود 4/ 367، 368.
(2)
تاريخ يحيى بن معين 4/ 229 (4094).
(3)
ينظر سنن البيهقي 8/ 35، وحديث العقيقة سيأتي ح 1138.
(4)
ينظر التاريخ الصغير 1/ 282، وسنن البيهقي 8/ 36، وتحفة التحصيل ص 76.
(5)
ينظر سنن الدارمي 2/ 191، وسنن أبي داود 4/ 174 عقب ح 4517، وسنن البيهقي 8/ 35.
(6)
ينظر سنن البيهقي 8/ 35.
{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية (1). وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى أنه يقتل الحر بالعبد إذا كان القاتل غير السيد؛ لعموم الآية الكريمة وتخصيص السيد بأحاديث المثلة الآتية (أ)، ولم يثبت القود. وذهب العترة جميعًا، والشافعي، ومالك، وأحمد، وأبو ثور، إلى أنه لا يُقاد الحر بالعبد مطلقًا؛ وذلك لما يفهم من دليل الخطاب من قوله تعالى:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (2). فهو يحتمل أن يكون معناه: أن الحر لا يقتل بغير الحر، لما يستفاد من تعريف المبتدأ من القصر، وحديث سمرة ضعيف أو منسوخ، أو خرج مخرج التحذير من وقوع مثل ذلك، وقد يحتجّ لنسخه بما أخرجه البيهقي (3) من حديث عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده". أخرجه في قصة مَن مثَّل بأَمَته. قال أبو صالح (3): وقال الليث: وهذا القول معمول به. وأخرجه من طريق أخرى (3)، وفي الطريقين عمر بن عيسى (ب)(4)،
(أ) ساقطة من: جـ.
(ب) في جـ: عباس.
_________
(1)
الآية 45 من سورة المائدة.
(2)
الآية 178 من سورة البقرة.
(3)
البيهقي 8/ 36.
(4)
عمر بن عيسى الأسلمي قال الحافظ: وأظن أن الأسلمي تصحيف من الأسدي. قال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. وضعفه النسائي، وقال العقيلي: حديثه غير محفوظ. ينظر: المجروحين 2/ 87، ولسان الميزان 4/ 320.
ويذكر عن البخاري (1) أنه منكر الحديث. وأخرج من حديث عبد الله بن عمرو (2) في قصة زنباع لما جبَّ عبده وجدَع أنفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من مثّل بعبده أو حرق بالنار، فهو حرّ، وهو مولى الله ورسوله". فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتصّ من (أ) سيده. وفيه المثنى بن الصباح (3) وهو ضعيف لا يحتج به.
ورواه الحجاج بن أرطاة من طريق أخرى (2)، ولا يحتج به، ورواه سوار أبو (ب) حمزة (4)، وهو ليس [بالقوي](جـ).
وأخرج أيضًا (2) من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلًا قتل عبده متعمدا، فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين ولم يُقده به وأمره أن يعتق رقبة، وأخرج (2) أيضًا عن علي رضي الله عنه قال: أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قتل عبده متعمدًا، فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يُقده به.
(أ) ساقط من: الأصل.
(ب) في الأصل، جـ: بن. والمثبت من مصدر التخريج.
(جـ) في الأصل: بقوي.
_________
(1)
التاريخ الكبير 6/ 182.
(2)
سنن البيهقي 8/ 36.
(3)
تقدمت ترجمته في 1/ 53.
(4)
سوار بن داود المزني، أبو حمزة الصيرفي البصري، صاحب الحلي، صدوق له أوهام. التقريب ص 259، وينظر تهذيب الكمال 12/ 236.
وفي (أ) طريقه إسماعيل بن عياش، لكن رواه عن الأوزاعي (1)، وروايته عن الشاميين قوية، لكن من دونه محمد بن عبد العزيز الشامي (2)، قال فيه أبو حاتم (3): لم يكن عندهم بالمحمود، وعنده غرائب. ورواه ابن عدي من حديث عمر مرفوعًا (4)، وفيه عمر بن عيسى الأسلمي، وهو منكر الحديث.
وأخرج (5) أيضًا عن عمرو بن شعيب، أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يقولان: لا يُقتَل المؤمن بعبده، ولكن يُضرب، ويُطال حبسه، ويُحرم سهمه. قال (5): وأسانيد هذه الأحاديث ضعيفة، لا تقوم بشيء منها الحجة، إلا أن أكثر أهل العلم على ألا يُقتَل الرجل بعبده، وقد رويناه عن سليمان بن يسار والشعبي والزهري وغيرهم.
وأخرج ابن أبي شيبة (6)، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن
(أ) في الأصل: من.
_________
(1)
البيهقي 8/ 36.
(2)
محمد بن عبد العزيز، العمري، الرملي، ابن الواسطي، صدوق يهم، وكانت له معرفة.
التقريب ص 493، وينظر تهذيب الكمال 26/ 11.
(3)
ينظر الجرح والتعديل 8/ 8.
(4)
الكامل 5/ 1713.
(5)
البيهقي 8/ 37.
(6)
ابن أبي شيبة 9/ 305.
أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يقتلان الحر بقتل العبد. وأخرج البيهقي (1) عن علي رضي الله عنه: من السنة ألا يُقتَل حرٌّ بعبدٍ. وفي إسناده جابر الجعفي (2).
وأخرج (3) عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يُقتَل حر بعبد". قال: وفي إسناده ضعف. ضعفه بجويبر (4) وغيره من المتروكين.
وأخرج (3) عن قتادة، عن الحسن قال: لا يُقاد الحر بالعبد.
وأخرج (3) عن أبي جعفر، عن بكير، أن السنة مضت (أ) بألا يقتل الحر المسلم بالعبد، وإن قتَله عمدًا، وعليه العقل.
وأخرج (3) عن ابن شهاب أنه قال: لا قودَ بين الحر والعبد في شيء، إلا أن العبد إذا قتَل الحر عمدًا قُتِل به. قال (3): وروينا عن ابن جريج عن عطاء مثله.
فهذه الأحاديث وإن كان فيها ضعف فبعضها يقوي بعضا، فيمكن أن يدعى التخصيص بها لعموم قوله تعالى: {النَّفْسَ
(أ) بعده في جـ: بأن السنة مضت.
_________
(1)
البيهقي 8/ 34.
(2)
تقدمت ترجمته في 3/ 108.
(3)
البيهقي 8/ 35.
(4)
جويبر بن سعيد الأزدي ويقال: اسمه جابر، وجويبر لقب، أبو القاسم البلخي نزيل الكوفة، راوي التفسير، ضعيف جدا. التقريب ص 143، وينظر تهذيب الكمال 5/ 167.
بِالنَّفْسِ} (1). وتأيّدها بمفهوم قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (2). وأما قَتْل العبد بالحرِّ فإجماع.
965 -
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يُقاد الوالدُ بالولد". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه ابن الجارود والبيهقي (3). وقال الترمذي: إنه مضطرب.
الحديث، في إسناد الترمذي الحجاج بن أرطاة، وطريق أحمد والدارقطني والبيهقي أيضًا أصح منها، وقد ذكر البيهقي قصة المدلجي (4) الذي حذف ابنه بالسيف حتى نزف الدم منه ومات، وصحح البيهقي سنده، لأن رواته ثقات. ورواه الترمذي من حديث سراقة (5)، وإسناده ضعيف، وفيه اضطراب واختلاف على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ فقيل: عن عمرو (أ). وقيل: عن سراقة.
(أ) كذا في النسخ، والتلخيص الحبير 4/ 16، ولعل الصواب: عُمَر. وينظر سنن الدارقطني 3/ 141، والدراية 2/ 264.
_________
(1)
الآية 45 من سورة المائدة.
(2)
الآية 178 من سورة البقرة.
(3)
أحمد 1/ 22، 23، والترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء في الرجل يقتل ابنه
…
4/ 12 ح 1400، وابن ماجه، كتاب الديات، باب لا يقتل الوالد بولده 2/ 888 ح 2662، وابن الجارود ص 297 ح 788، والبيهقي، كتاب الجنايات، باب الرجل يقتل ابنه 8/ 38.
(4)
البيهقي 8/ 38.
(5)
الترمذي 4/ 11 ح 1399.
وقيل: بلا واسطة. وهي عند أحمد (1)، وفيها [ابن لهيعة، ورواه الترمذي أيضًا وابن ماجه (2) من حديث ابن عباس وفي إسناده](أ) إسماعيل بن مسلم المكي (3) وهو ضعيف، لكن تابعه (ب) [عبيد الله بن الحسن] (جـ) العنبري عن عمرو بن دينار. قاله البيهقي (4). وقال عبد الحق (5): هذه الأحاديث كلها معلولة، لا يصح منها شيء. وقال الشافعي (6): حفظت عن عدد (د) من أهل العلم لقيتهم، ألا يُقتل الوالد بالولد، وبذلك أقول. قال البيهقي (7): طرق هذا الحديث منقطعة. وأكده الشافعي بأن عددًا من أهل العلم يقولون به.
والحديث فيه دلالة على أن الوالد لا يُقاد بابنه إذا قتَله عمدًا، سواء كان
(أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من التلخيص الحبير 4/ 16.
(ب) في جـ: تابع.
(جـ) في الأصل: الحسن بن عبيد الله. وفي جـ: الحسن بن عبد الله. والمثبت من البيهقي.
(د) في جـ: عدة.
_________
(1)
أحمد 1/ 22، 23.
(2)
الترمذي 4/ 12 ح 1401، وابن ماجه 2/ 888 ح 2661.
(3)
تقدمت ترجمته في 2/ 400.
(4)
البيهقي 8/ 39.
(5)
الأحكام الوسطى 4/ 70.
(6)
الأم 6/ 34.
(7)
البيهقي 8/ 38.
بالذبح أو بغيره، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من الصحابة؛ علي، وعمر، وعثمان، وغيرهم، والحنفية، والشافعية، وأحمد، وإسحاق، والعترة جميعًا. وذهب مالك إلى أنه يقاد بالولد إذا أضجعه وذبحه. قال: لأن ذلك عمد (أ) حقيقة لا يحتمل غيره. وأما إذا كان على غير هذه الصفة مما كان يحتمل عدم تعمُّد إزهاق الروح وقضد التأديب من الأب، وإن كان في حق غيره يُحكَم فيه بالعمد، وذللث كما روي في قصة المدلجي الذي حذف ابنه بالسيف، وإنما فرق بين الأب وغيره، وذللث لأن الأب لما (ب) له من الشفقة على ابنه، وغلبة قصد التأديب عند فعله ما يغضب الأب -فيحمل (1) على عدم قصد القتل كما في قصة المدلجي، فإنه لما أغضب الولد والده حذَفه بالسيف، بخلاف غيره من سائر الناس، فإن الظاهر في مثل استعمال الجارح في المقتل (جـ) هو قصد العمد، والعمدية أمر خفي لا يحكم بإثباتها إلا بما يظهر من قرائن الأحوال، والفرق هذا حسن، إلا أن الجمهور عللوا الحكم في حق الأب لثبوت حقه على الابن، وقالوا: إن الأب سبب في وجود الولد، فلا يكون الولد سببًا في إعدامه، فيبقى الدليل على عمومه، ألا يقاد الوالد بالولد، واستشهاد عمر بالحديث على قصة المدلجي لا يكون مخصصًا لعمومه، بل هي مندرجة من
(أ) في جـ: عمدًا.
(ب) في جـ: بما.
(جـ) في جـ: القتل.
_________
(1)
هذا جواب قوله: وأما إذا كان على غير هذه الصفة
…
إلخ.
جملة أفراده. وذهب [البتي](أ) إلى أنه يجب القود؛ لعموم: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (1) وغيرها. ويجاب بأن العموم مخصوص، ولعله لم يثبت عنده الخبر، وقد عرفت ما فيه، فبقي عنده العموم سالمًا من التخصيص، ويلزمه الدية كما في قصة المدلجي، فإن عمر قال له: اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك. فلما قدم عليه عمر أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة، ثم قال: أين أخو المقتول؟ فقال: هأنذا. قال: خذها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس لقاتل شيء".
ولا يرث من الدية إجماعًا ولا من غيرها أيضًا عند الجمهور، وذهب بعض أصحاب الشافعي وفقهاء البصرة إلى أنه يرث من المال دون الدية لآيات المواريث -قال الإمام المهدي في "البحر": لنا عموم الخبر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يرث القاتل"(2).
ولا كفارة عليه لعمده عند زيد بن علي، والهادي، والناصر - وأبو حنيفة وأصحابه، وأحد قولي الشافعي.
وذهب مالك، وأحد قولي الشافعي، والقاسم، إلى وجوب الكفارة لسقوط القود كالخطأ، والجد من قبل الأب أو من قبل الأم كالأب في سقوط القود، وذهب بعض أصحاب الشافعي والحسن بن صالح إلى أنه يقاد
(أ) في الأصل: البستي.
_________
(1)
الآية 45 من سورة المائدة.
(2)
الترمذي 4/ 370 ح 2109، وابن ماجه 2/ 883 ح 2645 بلفظ:"القاتل لا يرث".
ممن عدا الأب كالأم والجد، قال في "البحر":(أمخالف للإجماع أ)؛ إذ يعمهم لفظ الوالد.
966 -
وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي غير القرآن؟ قال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهم يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر. رواه البخاري (1).
وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي (2)، من وجه آخر عن علي وقال فيه:"المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده". وصححه الحاكم (3).
قوله: هل عندكم؟ الخطاب لعلي رضي الله عنه، والجمع إما [لتعليته](ب) على غيره من أهل البيت، وإن كانوا غائبين، أو للتعظيم، وقد جاء مثل هذا في قوله (4):
(أ - أ) في جـ: يخالف الإجماع.
(ب) هذه الكلمة جاءت في الأصل غير منقوطة.
_________
(1)
البخاري، كتاب الجهاد، باب فكاك الأسير 6/ 167 ح 3047.
(2)
أحمد 1/ 119، وأبو داود: كتاب الديات، باب أيقاد المسلم بالكافر؟ 4/ 179 ح 4530، والنسائي، كتاب القسامة، باب القود بين الأحرار والمماليك في النفس 8/ 19، 20.
(3)
الحاكم، كتاب قسم الفيء 2/ 141.
(4)
صدر بيت جاء في شرح ديوان عمر بن أبي ربيعة ص 315، وعجزه: =
*ولو شئت حرَّمت النساء سواكمُ*
وقوله: شيء من الوحي. قد جاء هذا في البخاري بألفاظ؛ في باب العلم (1): هل عندكم كتاب؟ قال: لا. وفي الجهاد (2): هل عندكم شيء من الوحي؟ وفي الديات (3): هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ وفي "مسند إسحاق بن راهويه"(4): هل علمت شيئًا من الوحي؟
قال المصنف رحمه الله تعالى (5): وإنما مسألة أبو جحيفة عن ذلك؛ لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون لأهل البيت، لا سيما علي، اختصاصًا بشيء من الوحي لم يطلع عليه غيرهم، وقد سأل عليًّا رضي الله عنه عن هذه المسألة أيضًا قيس بن عُباد (أ)، بضم العين المهملة وتخفيف الموحدة، والأشتر النخعي (6).
وقوله: [لا](ب). رد لمن يعتقد اختصاصه بشيء من الوحي، والظاهر
(أ) في جـ: عبادة.
(ب) ساقط من: الأصل.
_________
= * وإن شئت لم أطعم نُقَاخا ولا بردا *
وصدر بيت أيضًا في ديوان العباس بن الأحنف ص 184، وعجزه.
* بحِلْف وأيمانٍ وحقّ لكم حِلْفي*
(1)
البخاري 1/ 204 ح 111.
(2)
هو لفظ حديث الباب.
(3)
البخاري 12/ 260 ح 6915.
(4)
مسند إسحاق -كما في الفتح 1/ 204.
(5)
الفتح 1/ 204.
(6)
أبو داود 4/ 179 ح 4530، والنسائي 8/ 19، 20.
أن المسئول [عنه](أ) هو ما يتعلق بالأحكام الشرعية من الوحي الشامل لكتاب الله العجز، ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى سماها وحيًا، [إذ] (ب) فسر قوله:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} (1). بما هو أَعمُّ من القرآن، ويدل عليه قوله: وما في هذه الصحيفة. ويؤيده أيضًا ما أخرجه أحمد والبيهقي في "الدلائل"(2)، أن عليًّا كان يأمر بالأمر، فيقال: قد فعلناه. فيقول: صدق الله ورسوله. فقال له الأشتر: هذا الذي تقول، هو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة من دون الناس؟ فذكره بطوله. فلا يلزم منه نفي ما يُنسب إلى علي رضي الله عنه من علم الجفر (3) وغيره، أو (جـ) أن يقال: إنه مندرج في قوله: إلا فهم يعطيه الله رجلا في القرآن. فإنه كما ينسب إلى كثيرٍ مما فتح الله عليه بأنواع العلوم، ونوّر بصيرته، يُستنبَط ذلك من القرآن.
(أ) ساقط من: الأصل.
(ب) في الأصل: وإذا.
(جـ) في جـ: و.
_________
(1)
الآية 3 من سورة النجم.
(2)
أحمد 1/ 119، والبيهقي في الدلائل 7/ 228.
(3)
كتاب الجفر يدعون أنه كُتب فيه الحوادث، والجفر: ولد الماعز، يزعمون أنه كتب ذلك في جلده. والكتب المنسوبة إلى عليٍّ أو غيره من أهل البيت في الإخبار بالمستقبلات، كلها كذب، مثل كتاب الجفر والبطاقة وغير ذلك، وكذلك ما يضاف إليه أنه كان عنده علم من النبي صلى الله عليه وسلم خصّه به دون غيره من الصحابة. وما يُنقل عن غير عليِّ من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم خصّه بشيء من علم الدين الباطن، كل ذلك باطل. ينظر مجموع الفتاوي 4/ 78، 79، ومنهاج السنة النبوية 8/ 136.
وقوله: إلا فهم. استثناء من لفظ شيء، ويكون مرفوعًا على البدلية، ويجوز نصبه على الاستثناء، والفهم بمعنى المفهوم، وهو المأخوذ من فحوى لفظ القرآن، أو من معناه، إما بالقياس أو بغيره، فيكون الاستثناء متصلًا، وإن كان بمعناه المصدري كان البدلية على مذهب بني تميم في المنقطع، ويكون المعنى أن من أعطاه الله الفهم كان عنده الزيادة، ويكون علي رضي الله عنه مندرجًا في ذلك اندراجًا أوليًّا لتحقُّق الفهم عنده، واشتهاره [بمعرفة ما](أ) خفي ودق من الأحكام وغيرها.
وقوله: وما في هذه الصحيفة. أي الورقة المكتوبة. وللنسائي (1) من طريق الأشتر: فأخرج كتابًا من قِراب سيفه.
وقوله: العقل. أي الدية، وإنما سميت الدية عقلًا، لأنهم كانوا يعطون فيها الإبل، ويربطونها بفناء دار المقتول بالعقال، وهو الحبل، ووقع في رواية ابن ماجه (2) بدل العقل الديات. والمراد أحكامها ومقاديرها وأصنافها.
وقوله: فكاك. بكسر الفاء وفتحها، وقال الفراء: الفتح أفصح. والمعنى أن فيها حكم تخليص الأسير من يد العدو، والترغيب في ذلك.
وقوله: ولا يقتل مسلم. بنصب "يقتل" لعطفه على الاسم وهو فكاك، أو العقل، يعني أنه مكتوب حكم تحريم قتل المسلم بالكافر في
(أ) في الأصل: بما.
_________
(1)
تقدم تخريجه ص 372.
(2)
ابن ماجه 2/ 887 ح 2658.
الصحيفة مع هذه الأمور، وقد جاء في رواية البخاري ومسلم (1): قال: ما عندنا شيء نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة. فإذا فيها: "المدينة حرم". ولمسلم (2): وأخرج صحيفة [مكتوب](أ) فيها: "لعن الله من ذبح لغير الله". الحديث. ولأحمد (3): فيها فرائض الصدقة. والجمع بين هذه الأحاديث، أن الصحيفة واحدة وروى كلٌّ ما حفظه منها (ب)، وهو يدل على أنه لا يقتل المسلم بالكافر قودًا، وقد ذهب إلى هذا الجمهور. وذهبت الحنفية إلى أنه يقتل المسلم بالذمي إذا قتله بغير استحقاق ولا يقتل بالمستأمن. والشعبي والنخعي: يقتل باليهودي والنصراني دون المجوسي. واحتجوا بقوله: "ولا ذو عَهْدٍ في عهده". فإن هذا اللفظ ظاهره أنه معطوف على قوله: مؤمن. فلا بد من تقدير في الثاني، كما في الطرف الأول، فيقدر: ولا ذو عهدٍ في عهده بكافر. ولابد من تقييد الكافر في المعطوف بلفظ الحربي، لأن الذمي يقتل بالذمي ويقتل بالمسلم، وإذا كان التقييد لا بد منه في المعطوف، وهو مطابق للمعطوف عليه، فلا بد من تقدير مثل ذلك في المعطوف عليه، فيكون التقدير: لا يقتل مؤمن بكافر حربي. ومفهوم حربي أنه يقتل بالذمي بدليل مفهوم المخالفة، و (جـ) إن كانت الحنفية
(أ) في الأصل: مكتوبة.
(ب) في جـ: فيها.
(جـ) ساقط من: جـ.
_________
(1)
البخاري 6/ 273 ح 3172، ومسلم 2/ 994، 995 ح 1370/ 467، واللفظ لمسلم.
(2)
مسلم 3/ 1567 ح 1978/ 45.
(3)
أحمد 1/ 100.
لا تعمل بالمفهوم، فالظاهر أنهم يقولون: الحديث يدل على أنه لا يقتل بالحربي صريحًا، وأما قتله بالذمي فبعموم قوله تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (1). ولما (أ) رواه عبد الرحمن [بن البيلماني](ب)، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مسلمًا بمعاهد، وقال:"أنا أكرم من وفى بذمته". أخرجه البيهقي (2). فهذا الحديث مرسل، وقد جاء في رواية عمار بن مطرٍ: عن ابن البيلماني، عن ابن عمر مرفوعًا. قال البيهقي: وهو خطأ من وجهين، أحدهما: وصله بذكر ابن عمر. والآخر: أنه رواه عن إبراهيم، عن ربيعة، وإنما يرويه إبراهيم عن ابن المنكدر، والحمل فيه على عمار بن مطر الرهاوي (3)، فقد كان يقلب الأسانيد، ويسرق (جـ) الأحاديث، حتى كثر ذلك في رواياته، وسقط (د) عن حد الاحتجاج به. قال الدارقطني (4): ابن البيلماني (5) ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما
(أ) في جـ: بما.
(ب) في جـ: السلماني.
(جـ) في جـ: سرق.
(د) في جـ: يسقط.
_________
(1)
الآية 45 من سورة المائدة.
(2)
البيهقي 8/ 30، وسيأتي ح 974.
(3)
عمار بن مطر، أبو عثمان الرهاوي، قال أبو حاتم: كتبت عنه، وكان يكذب. وقال ابن حبان: يسرق الحديث ويقلبه. وقال الحافظ: هالك وثقه بعضهم، ومنهم من وصفه بالحافظ.
الجرح والتعديل 6/ 394، والمجروحين 2/ 196، ولسان الميزان 4/ 275.
(4)
سنن الدارقطني 3/ 135.
(5)
عبد الرحمن بن البيلماني، مولى عمر، مدني، نزل نجران، ضعيف. وقال أبو حاتم: لين.
وذكره ابن حبان في الثقات. التقريب ص 337. وينظر تهذيب الكمال 17/ 8.
يرسله؟ وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (1): هذا حديث ليس بمسند، ولا يُجعَل مثله إمامًا تُسفَك به دماء السلمين. قال:[وقد أخبرني عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الواحد بن زياد، قال](2): قلت لزفر: إنكم تقولون: إنا ندرأ الحدَّ بالشبهات. وإنكم جئتم إلى أعظم الشبهات فأقدمتم عليها. قال: وما هو؟ قال: قلت: المسلم يقتل بالكافر. قال: فاشهد أنت على رجوعي عن هذا. قال: وكذلك قول أهل الحجاز لا يقيدونه به.
وأما قوله: "ولا ذو عهد في عهده". فإن ذا العهد الرجل من أهل دار الحرب، يدخل إلينا بأمان، فقتله محرَّم على السلمين حتى يرجع إلى مأمنه، وأصل هذا من قوله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (3). وقال علي بن المديني (4): حديث ابن البيلماني هذا إنما يدور على إبراهيم بن أبي يحيى (5) ليس له وجه حجاج، إنما أخذه عنه. وهذا غير مسلم، وقد أخرجه أبو داود في "المراسيل"(6)،
(1) غريب الحديث 2/ 105، 106.
(2)
جعل محقق غريب الحديث هذه الزيادة في الحاشية، وقد ذكرها عن أبي عبيد بإسناده هذا؛ البيهقي في سننه 8/ 31، والحافظ في الفتح 12/ 262، وينظر السير 8/ 35.
(3)
الآية 6 من سورة التوبة.
(4)
ينظر سنن البيهقي 8/ 31.
(5)
تقدمت ترجمته في 5/ 312.
(6)
المراسيل ص 155.
والطحاوي (1)، من طريق سليمان بن بلال، عن ربيعة، عن ابن البيلماني.
وذكر الشافعي في "الأم"(2) كلامًا حاصله أن حديث ابن البيلماني كان في قصة المستأمن الذي قتله عمرو بن أمية. قال: فعلى هذا لو ثبت لكان منسوخًا؛ لأن حديث: "لا يقتل مسلم بكافر". خطب به النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح -كما في رواية عمرو بن شعيب (3) - وقضية عمرو بن أمية متقدمة على ذلك بزمان. وخطبة يوم الفتح كانت بسبب [القتيل الذي قتلته](أ) خزاعة وكان له عهد، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"لو قتلت مؤمنًا (ب) بكافر لقتلته (جـ) به"(4). وقال: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده"(5). فأشار بحكم الأول إلى ترك اقتصاصه من الخزاعي بالمعاهد الذي قتله، وبالحكم (د) الثاني إلى النهي عن الإقدام على ما فعله (هـ)
(أ) في الأصل، جـ: القتل الذي قتله. والمثبت من الفتح 12/ 262.
(ب) زاد في الأصل: مسلما.
(جـ) في جـ: لقتله.
(د) في جـ: فالحكم.
(هـ) في جـ: فعل.
_________
(1)
شرح معاني الآثار 3/ 195.
(2)
الأم 7/ 323.
(3)
أبو داود 3/ 81 ح 2751، والترمذي 4/ 18 ح 1413.
(4)
البيهقي 8/ 29.
(5)
تقدم ص 371.
القاتل المذكور، والله أعلم.
وقد يؤيَّد القول بعدم الاقتصاص بقصة اليهودي الذي لطمه المسلم لما قال: لا والله الذي اصطفى موسى على البشر. فلطمه المسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُثبت له الاقتصاص (1)، وهو حجة على الكوفيين الذين يثبتون الاقتصاص باللطمة، وأما من لا يثبت الاقتصاص باللطمة فلا يستقيم التأييد عنه. وذهب مالك والليث إلى أنه يقتل المسلم بالذمي إذا قتله غيلة، و (أ) والغيلة أن يضجعه فيذبحه. وقد يستأنس لهذا القول بما روى عمرو بن دينار (2)، أن عمر رضي الله عنه كتب في مسلم قتل نصرانيًّا: إن كان القاتل قَتَّالًا فاقتلوه، وإن كان غير قتال فذروه ولا تقتلوه. وأخرج البيهقي (3)، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن شيخٍ قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسلم قتل معاهدًا، فكتب: إن كانت طيرة في غضب فأغرم أربعة آلاف، وإن كان لصًّا عاديًا فاقتله. وأخرج (3) عن عمرو بن دينار، عن القاسم بن أبي بزة، أن رجلًا مسلمًا قتل رجلًا من أهل الذمة بالشام، فرُفِع إلى أبي عبيدة بن الجراح، فكتب فيه إلى عمر، فكتب عمر: إن كان ذلك منه خلقًا فقدِّمْه فاضرب عنقه، وإن كانت هي طيرة طارها فأغرمه ديته أربعة آلاف. فهذا يدل على أن معتاد القتل يقتل، وما قال مالك في القاتل غيلة
(أ) في جـ: وقال.
_________
(1)
البخاري 5/ 70 ح 2412، ومسلم 4/ 1843 ح 2372.
(2)
ينظر الأم 6/ 137، 7/ 323.
(3)
البيهقي 8/ 33.
كذلك (أ)، وهو يُفهَم من التعليل بقوله:[إن](ب) كانت طيرة في غضب. فالقاتل غيلة لم يكن طيرة في غضب، وكذا المُضْجِع له الذابح لم يكن طيرة في غضب، وقد عمل بهذا الهادي فيمن اعتاد قتل عبيده، أنه يُقتَل، وكذا في حق الأب إذا قتل ابنه وكان له عادة، ولكن قال الشافعي (1): قلنا: ولا يُعمَل بحرف من هذا؛ لأن هذه الأحاديث منقطعات أو ضعاف، أو تجمع الانقطاع والضعف جميعًا، وقد أخرج الطبراني عن الحسن بن ميمون (2) عن عبد (جـ) الله بن عبد الله مولى بني هاشم، عن أبي الجنوب الأسدي قال: أُتي علي بن طالب برجل من المسلمين قتل رجلًا من أهل الذمة. قال: فقامت عليه البينة، فأمر بقتله، فجاء أخوه، فقال: إني قد عفوت. قال: فلعلهم هددوك وفرقوك وقرعوك (د)؟ قال: لا، ولكن قتله لا يرد عليَّ أخي، وعوضوني ورضيت. قال: أنت أعلم، من كان له ذِمَّتنا، فدمه كدمنا، وديته كديتنا. كذا قال: حسن. في رواية أبان. وفي رواية غيره: حسين بن ميمون (3). وفي إسناده أبو الجنوب (4)، قال الدارقطني (5): هو ضعيف
(أ) ساقط من: جـ.
(ب) في الأصل: أو.
(جـ) في جـ: عبيد. وينظر تهذيب الكمال 20/ 213، 214.
(د) كذا في الأصل، جـ، وعند البيهقي: فزعوك. ولم ترد عند الشافعي.
_________
(1)
الأم 7/ 323.
(2)
الشافعي في الأم 7/ 321، والبيهقي 8/ 34 من طريق الحسن بن ميمون به.
(3)
الدارقطني 3/ 147، 148 ح 200.
(4)
عقبة بن علقمة اليشكري، أبو الجنوب، كوفي، ضعيف. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، بيِّن الضعف. التقريب ص 395. وينظر الجرح والتعديل 6/ 313، وتهذيب الكمال 20/ 213.
(5)
الدارقطني 3/ 148.
الحديث. قال الشافعي في القديم (1): وفي حديث أبي جحيفة عن علي رضي الله عنه: ما دلكم أن عليًّا (أ) يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ويقول بخلافه؟ انتهى.
وقوله: "تتكافأ دماؤهم". أي تتساوى في القصاص والديات. والكفء: النظير والمساوي. ومنه الكفاءة في النكاح؛ وهو أن يكون الزوج مساويًا للمرأة في حسبها ودينها ونسبها وبيتها، وغير ذلك، والمراد أنه لا فرق بين الشريف والوضيع في الدم، وهو على خلاف ما كان عليه الجاهلية من المفاضلة وعدم المساواة.
وقوله: "يسعى بذمتهم أدناهم". يعني أنه (ب) إذا أمَّن المسلم حربيًّا، كان أمانه أمانًا من جميع المسلمين، ولو كان ذلك المسلم امرأة، بشرط أن يكون المؤمن مكلفًا، فإنه يكون أمانًا من الجميع، فلا يجوز نكث ذلك.
وقوله: "وهم يد على من سواهم". أي هم مجتمعون على أعدائهم، لا يسعهم التخاذل، بل يعاون (جـ) بعضهم بعضًا على جميع الأديان والملل، كأنه جعل أيديهم يدًا واحدة، وفعلهم فعلًا واحدًا.
967 -
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن جاريةً وجِد رأسُها قد رضَّ بين حجرين، فسألوها: من صنع بك هذا؟ فلان؟ فلان؟ حتى
(أ) بعده عند البيهقي: لا. وينظر نيل الأوطار 7/ 17.
(ب) ساقط من: جـ.
(جـ) في جـ: يعادون.
_________
(1)
ينظر سنن البيهقي 8/ 34.
ذكروا (أ) يهوديًّا، فأومأت برأسها، فأخذوا اليهودي فأقرَّ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرَضّ رأسه بين حجرين. متفق عليه (1)، واللفظ لمسلم.
الحديث فيه دلالة على أن القتل بالمثقل (5) يوجب القصاص كالقتل بالمحدد (جـ)، وقد ذهب إليه العترة، والشافعي، ومالك، ومحمد بن الحسن، وأبو يوسف، وغيرهم؛ لظاهر (د) الحديث، والمعنى المناسب ظاهر قوي لصيانة الدماء من الإهدار، ولأن القتل بالمثقل (ب) كالقتل (هـ) بالمحدد في إزهاق الروح، فلو لم يجب القصاص أدى ذلك إلى أن يتخذ ذريعة إلى إهدار القصاص، وفات الغرض المقصود من إثبات القصاص، وهو الحياة التي قال فيها سبحانه وتعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (2). وذهب أبو حنيفة، والشعبي، والنخعي، إلى أنه لا قصاص في المثقل، واحتج بحديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرش (و) "(3). وفي لفظ آخر برواية أخرى (4) عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(أ) بعده في جـ: لها.
(ب) في جـ: بالمقتل.
(جـ) في جـ: بالحديد.
(د) في جـ: بظاهر.
(هـ) ساقط من: جـ.
(و) بعده في جـ: إلا السيف.
_________
(1)
البخاري، كتاب الديات، باب سؤال القاتل
…
12/ 198 ح 6876، ومسلم، كتاب القسامة، باب ثبوت القصاص في القتل
…
3/ 1299، 1300 ح 1672.
(2)
الآية 179 من سورة البقرة.
(3)
أحمد 4/ 272، والدارقطني 3/ 106، 107 ح 84.
(4)
البيهقي 8/ 42.
"إن لكل شيء خطأ إلا السيف -يعني الحديدة- ولكل خطأ أرش". وفي رواية أخرى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل شيء سوى الحديدة خطأ، ولكل خطأ أرش". أخرجه البيهقي (1). ومدار هذا الحديث على جابر الجعفي (2)، وقيس بن الربيع (3)، ولا يحتج بهما، ويعتذر عن هذا الحديث بأنه حصل من الرضخ الجرح، والأصح من مذهبه أنه يوجب القصاص، أو أن اليهودي كان عادته قتل الصبيان، فهو من الساعين في الأرض فسادًا، ويجاب عنه بأن الحديث المذكور قد عرف ضعفه، وهذا الحديث صحيح لا يقاومه ذلك، وما ذكر من الاعتذارات خلاف الظاهر، مع أن أبا حنيفة لا يقف على مفاد الحديث، فإنه يثبت القتل بالمحدد؛ من حديد أو حجر أو خشب، أو كان معروفًا بقتل الناس [بالمنجنيق](أ) أو بالإلقاء في النار، واختلفت الرواية عنه في مثقل الحديد كالدبوس (4)، وأما إذا كانت الجناية بما لا يقصد به القتل غالبًا وتعمد القتل به كالعصا والسوط واللطمة و [القضيب] (ب) والبندقة ونحوها؛ فقال مالك والليث والهدوية: يجب
(أ) في الأصل: بالنحسق. وكتب فوقه في جـ: بالخنق، وكتب بجواره حرف الطاء. والمثبت موافق لما في صحيح مسلم بشرح النووي 11/ 158.
(ب) في الأصل: النصب. وفي جـ: العصب. والمثبت من صحيح مسلم بشرح النووي 11/ 159.
_________
(1)
البيهقي 8/ 42.
(2)
تقدمت ترجمته في 3/ 108.
(3)
تقدمت ترجمته في 3/ 122.
(4)
الدبوس؛ كتَنُّور، واحد الدبابيس: للمقامع من حديد وغيره. التاج (د ب س).
فيها القود. وقال الشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم: لا قصاص فيه، وهو شبه العمد، وفيه الدية؛ مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة (1) في بطونها أولادها. أخرجه الشافعي (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن أبي ليلى (3): إن قتل بالحجر أو العصا؛ فإن كرر ذلك فهو عمد، وإلا فخطأ. وقال عطاء وطاوس (3): شرط العمد أن يكون بسلاح.
وقوله: قد رضَّ رأسهما بين حجرين. وفي رواية لمسلم (4): فقتلها بحجر فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق. وفي رواية (5): قتل جارية من الأنصار على حلي لها، ثم ألقاها في قليب، ورضخ رأسها بالحجارة، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات. والجمع بين الروايات، وهو أنه إذا وضع رأسها على حجر ورمى بحجر آخر فقد رجم، وقد رضَّ، وقد رضخ، وقيل: يحتمل أنه رجمها الرجم المعروف مع الرضخ؛ لقوله: ثم ألقاها في قليب. ويدل الحديث على أن الرجل يقتل بالمرأة، ويقتص منه أيضًا فيما دون النفس، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وظاهر قول البخاري أنه إجماع؛ لأنه قال (6): وقال أهل العلم: يقتل الرجل بالمرأة. وحكى ابن
(1) الخلفة؛ بفتح الخاء وكسر اللام: الحامل من النوق، وتجمع على خلفات وخلائف. النهاية 2/ 68.
(2)
الأم 6/ 8.
(3)
مصنف عبد الرزاق 9/ 271، 272 ح 17173، 17175.
(4)
مسلم 3/ 1299 ح 1672/ 15.
(5)
مسلم 3/ 1299 ح 1672/ 16.
(6)
البخاري 12/ 214.
المنذر (1) الإجماع على ذلك، وحكى القاضي أبو الوليد الباجي في "المنتقى"(2) عن الحسن البصري أنه لا يقتل الذكر بالأنثى، وحكاه الخطابي في "معالم السنن"(3)، ودليله مفهوم قوله تعالى:{وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} (4). ويرد عليه بقوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (5). وإن كان ذلك لا يستقيم إلا على القول بأن شرع من قبلنا يلزمنا ما لم ينسخ، وبالحديث المذكور، ويتأيد ذلك بالإجماع المذكور، أو بأنه قول الأكثر والمخالف نادر، وقد أخرج البيهقي (6)، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: كان من أدركت من فقهائنا الذين يُنتهى إلى قولهم؛ منهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار في مشيخة جلة سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل، وربما اختلفوا في الشيء، فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيًا، وكان الذي وعيت عنهم على هذه القصة، أنهم يقولون: المرأة تقاد من الرجل عينًا بعين، وأذنا بأذن، وكل شيء من الجراح على ذلك، وإن قتلها قتل بها. ورويناه عن الزهري وغيره. وروى سفيان الثوري عن المغيرة عن إبراهيم قال: القصاص بين الرجل والمرأة في العمد. وعن جابر عن الشعبي مثله، وعن جعفر بن برقان عن عمر بن
(1) الإجماع ص 71.
(2)
المنتقى 7/ 121.
(3)
معالم السنن 4/ 14.
(4)
الآية 178 من سورة البقرة.
(5)
الآية 45 من سورة المائدة.
(6)
البيهقي 8/ 40.
عبد العزيز مثله، قال البيهقي (1): وروينا عن الشعبي وإبراهيم بخلافه فيما دون النفس. وذهب القاسم والهادي والناصر وأبو طالب، ورواه ابن المنذر (2) عن علي رضي الله عنه بسند فيه انقطاع، وروي عنه مثل قول الجمهور، ورواه أيضًا عن عثمان البتي - إلى أن يقاد الرجل بالمرأة ويتوفى ورثته نصف ديته، قالوا: لتفاوتهما في الدية، وقد قال تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (3). والقصاص المساواة، والجواب عنه بما تقدم من الحديث، والتأييد بما تقدم ولم يذكر زيادة، والمساواة قد وقعت بالاقتصاص؛ لأن المراد المساواة في الجرح ألا يزيد المقتص على ما وقع فيه من الجرح.
ويدل الحديث على أنه يكون القود بمثل ما قتل به، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وهو متأيد بقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (4). وبقوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (5). وبما رواه البراء رضي الله عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: "من [عَرّض عَرّضنا] (أ) له (6)، ومن حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه". أخرجه البيهقي (7). وهذا فيما كان
(أ) في الأصل: غرض غرضنا.
_________
(1)
البيهقي 8/ 40.
(2)
الإشراف على مذاهب أهل العلم 3/ 64.
(3)
الآية 45 من سورة المائدة.
(4)
الآية 126 من سورة النحل.
(5)
الآية 194 من سورة البقرة.
(6)
أي من عَرَّض بالقذف عرضنا له بتأديب لا يبلغ الحد، ومن صرح بالقذف حددناه. النهاية 3/ 212.
(7)
البيهقي 8/ 43.
السبب الذي قتل به يجوز فعله، وأما إذا كان لا يجوز فعله كمن قتل بالسحر، فإنه لا يمكن فعله. واختلف مذهب أصحاب الشافعي فيما إذا قتل باللواط أو بإيجار (1) الخمر، فمنهم من قال: يسقط اعتبار المماثلة للتحريم كما في السحر. ومنهم من قال: يدس فيه خشبة، ويوجر الخل، وإذا اختار ولي الدم القتل بالسيف كان له. إلا أن بعضهم استثنى من قتل بالخنق، فقال: لا يعدل إلى السيف. وادعى أنه عدول إلى أشد، وأن الخنق يغيب الحس، فيكون أسهل، واختلف فيمن قتل بعصا فاقتص بالضرب بالعصا فلم يمت، هل يكرر عليه؟ فقيل: يكرر. وقيل: إن لم يمت قتل بالسيف. وكذا فيمن قتل بالتجويع. وذهبت العترة والكوفيون منهم أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يكون الاقتصاص إلا بالسيف، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا قود إلا بالسيف". وهو ضعيف أخرجه البزار وابن عدي (2) من حديث أبي بكرة، وذكر البزار الاختلاف فيه مع ضعف إسناده، وقال ابن عدي: طرقه كلها ضعيفة. وهو أيضًا على خلاف قاعدة الحنفية من أن آحادي السنة لا يخصص الكتاب ولا ينسخه، واحتجوا بالنهي عن المثلة، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا قتلتم فأحسنوا القتلة"(3). ويجاب عنه بأنه مخصوص بما ذكر من [الاقتصاص] " (أ).
ويدل قوله: فأقر. على أن الإقرار في القتل يكفي مرة واحدة؛ إذ لا دلالة على التكرير.
(أ) في الأصل: الاختصاص. وكتب في حاشيته: الاقتصاص. وأشار إلى أنها نسخة.
_________
(1)
الوجر: أن توجر ماء أو دواء في وسط حلق، وتوجَّر الماء: شربه كارهًا. اللسان والتاج (وجـ ر).
(2)
البزار 9/ 115 ح 3663، وابن عدي 7/ 2543.
(3)
سيأتي ح 1125.
968 -
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن غلامًا لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لهم شيئًا. رواه أحمد والثلاثة (1) بإسناد صحيح.
أخرجه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين.
الحديث فيه دلالة على عدم غرامة الفقير، إلا أنه قال البيهقي (2): إن كان المراد بالغلام فيه المملوك فإجماع أهل العلم على أن جناية العبد في رقبته، فهو يدل والله أعلم على أن الجناية كانت خطأ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يجعل عليه شيئًا؛ لأنه التزم أرش جنايته، فأعطاه من عنده متبرعًا بذلك، وقد حمله أبو سليمان الخطابي (3) رحمه الله على أن الجاني كان حرًّا، [و](أ) كانت الجناية خطأ، وكانت عاقلته فقراء، فلم يجعل عليهم شيئًا؛ إما لفقرهم، وإما لأنهم لا يعقلون الجناية الواقعة على العبد، إن كان المجني عليه مملوكًا. قال البيهقي: وقد يكون الجاني غلامًا حرًّا غير بالغ، وكاهما جنايته عمدا، فلم يجعل أرشها على عاقلته، وكان فقيرًا فلم يجعله في الحال عليه،
(أ) في الأصل، جـ: أو. والمثبت من معالم السنن وسنن البيهقي.
_________
(1)
أحمد 4/ 438، وأبو داود، كتاب الديات، باب جناية العبد يكون للفقراء 4/ 195 ح 4590، والنسائي، كتاب القسامة، باب سقوط القود بين الماليك فيما دون النفس 8/ 26 ح 4765، والحديث لم يخرجه الترمذي، وينظر تحفة الأشراف 8/ 193 ح 10863.
(2)
البيهقي 8/ 105.
(3)
معالم السنن 4/ 41.
أو رآه على عاقلته فوجدهم فقراء، فلم يجعله عليه لكون جنايته في حكم الخطأ، ولا عليهم لكونهم فقراء. والله أعلم. انتهى.
وقول البيهقي: ولم يجعل أرشها على عاقلته. هذا هو مذهب الشافعي، أن عمد الصغير يكون في ماله ولا تحمله العاقلة. وقوله: أو رآه على عاقلته. يعني مع احتمال أنه خطأ، وهو اتفاق، أو مع احتمال أنه عمد كما ذهب إليه العترة وأبو حنيفة ومالك. والله أعلم.
969 -
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما، أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني. فقال: "حتى تبرأ". ثم جاء إليه فقال: أقدني. فأقاده، ثم جاء إليه فقال. يا رسول الله، عَرَجْتُ. فقال:"قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك". ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه. رواه أحمد والدارقطني (1)، وأُعِلَّ بالإرسال.
الحديث من رواية عمرو بن شعيب، والإعلال فيها بالإرسال قد دفع بأنه [لا إرسال فيها](أ)، وأن عمرو بن شعيب لقي جده. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة (2): ثنا ابن علية عن أيوب عن عمرو بن دينار عن جابر. الحديث. وكذا أخرجه عثمان بن أبي شيبة (2) بالإسناد، قال أبو الحسن الدارقطني
(أ) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
أحمد 2/ 217، والدارقطني، كتاب الحدود والديات وغيره 3/ 88 ح 24.
(2)
الدارقطني 3/ 89 ح 27 من طريق أبي بكر وعثمان ابني شيبة.
الحافظ (1): أخطأ فيه ابنا أبي شيبة، وخالفهما أحمد بن حنبل وغيره فرووه عن ابن علية عن أيوب عن عمرو مرسلًا، وكذلك قال أصحاب عمرو بن دينار عنه وهو المحفوظ مرسلًا. وأخرج البيهقي (2) من حديث جابر بإسناد آخر، وقال: تفر به عبد الله الأموي عن ابن جريج، وعنه يعقوب بن حميد. وأخرج (2) من حديث جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تقاس الجراحات، ثم يستأنى بها سنة، ثم يقضى فيها بقدر ما انتهت إليه". وفي إسناده ابن لهيعة (3)، وكذا رواه جماعة من الضعفاء عن أبي الزبير عن جابر، ومن وجهين آخرين عن جابر، ولم يصح شيء من ذلك (4)، وروي من وجه آخر عن ابن عباس (2).
الحديث فيه دلالة على أنه لا يقتص في الجراحات حتى يحصل البرء من ذلك وتؤمن السراية، ولكنه غير واجب لتمكينه صلى الله عليه وسلم أن يقتص، وقد ذهب إلى هذا الشافعي، وذهب العترة وأبو حنيفة ومالك إلى أنه يجب الانتظار إلى أن يندمل الجرح وتؤمن السراية، قال الإمام المهدي في "البحر": وهذا الحديث معارض بقوله صلى الله عليه وسلم: "اصبروا حتى يستقر الجرح" الخبر. وهو أصرح ومطابق للقياس، ولعله خشي موت الجاني فعجل. انتهى.
(1) الدارقطني 3/ 89.
(2)
البيهقي 8/ 67.
(3)
تقدمت ترجمته في 1/ 175.
(4)
ينظر نصب الراية 4/ 376 - 379.
والخبر المذكور هو أن صفوان بن المعطل جرح حسان بن ثابت، فجاء رهطه من الأنصار ليقتص لهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اصبروا حتى يستقر الجرح، فإن اندمل أخذتم القصاص في الجرح، وإن صار نفسا أخذتم القصاص في النفس"(1). ولا يخفى أن [الوجوب](أ) لا يتم وأنه يكون محمولًا على الندب بقرينة التمكين من الاقتصاص في الحديث المذكور، فلا تتم المعارضة. وقوله: ومطابق للقياس. لم يظهر ما قيس عليه. وقوله: ولعله خشي موته. لا يخفى ما فيه من البعد، والله أعلم.
970 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة؛ عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقال حَمَل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، كيف نغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يُطلّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما هذا من إخوان الكهان". من أجل سجعه الذي سجع. متفق عليه (2).
وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس، أن عمر رضي الله عنه سأل من شهد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين، قال: فقام حمل بن
(أ) في الأصل، جـ: الجواب. والمثبت يستقيم به السياق، وينظر نيل الأوطار 7/ 175.
_________
(1)
عبد الرزاق 9/ 453، 454 ح 17990.
(2)
البخاري، كتاب الطب، باب الكهانة 10/ 216 ح 5758، ومسلم، كتاب القسامة، باب دية الجنين 3/ 1309، 1310 ح 1681/ 36.
النابغة فقال: كنت بين [يدي](أ) امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى. فذكره مختصرًا، وصححه ابن حبان والحاكم (1).
قولي: اقتتلت امرأتان. اسمهما مليكة بنت عويم، وأم عفيف بنت مسروح. فضربت أم عفيف مليكة. كذا في رواية الطبراني (2)، وفي رواية ابن عباس: أم عطيف (3). وبه جزم الخطيب في "المبهمات"(4)، وزاد بعض شراح "العمدة" (5): وقيل: أم مكلف. وقيل: أم مليكة.
وقوله: من هذيل. في رواية الطبراني (6): أن (ب) إحداهما عامرية. وفي رواية لمسلم (7): من بني لحيان. بكسر اللام وفتحها؛ بطن من هذيل.
وقوله: فرمت إحداهما الأخرى بحجر. زاد في رواية (8): فأصابت
(أ) ساقطة من: الأصل.
(ب) في جـ: في.
_________
(1)
أبو داود، كتاب الديات، باب دية الجنين 4/ 190 ح 4572، والنسائي، كتاب القسامة، باب قتل المرأة المرأة 8/ 21، 22، وابن حبان، كتاب الديات، باب الغرة، 13/ 378 ح 6021، والحاكم، كتاب معرفة الصحابة 3/ 557.
(2)
الطبراني في الكبير 17/ 141 ح 352.
(3)
الطبراني في الكبير 11/ 289، 290 ح 11767.
(4)
المبهمات ص 512، 513.
(5)
ينظر الفتح 12/ 248.
(6)
الطبراني في الكبير 4/ 10 ح 3483.
(7)
مسلم 3/ 1309 ح 1681/ 35.
(8)
البخاري 10/ 216 ح 5758.
بطنها وهي حامل. وفي رواية أبي داود (1): فضربت إحداهما الأخرى بمسطح. وعند مسلم (2) عن المغيرة بن شعبة: ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى، فقتلتها. وفي رواية (3): فضربت الهذلية العامرية بعمود فسطاط أو خباء. وفي حديث عويم (4): بمسطح بيتها.
وقوله: فقتلتها وما في بطنها. وفي رواية (5): فقتلت ولدها في بطنها. وفي رواية (6): فقتلتها وجنينها. وفي رواية (7): فطرحت جنينها. وفي رواية أبي داود (8): فأسقطت غلاما قد نبت شعره. وفي رواية لمسلم (9): في جنين امرأة سقط ميتًا.
وقوله: غرة؛ عبد أو أمة. بتنوين "غرة"، و"عبد" بدل، وهكذا ضبطه الجمهور، قال القاضي عياض (10): ورواه بعضهم بالإضافة. قال: والأول أوجه وأقيس. وذكر صاحب "المطالع"(11) الوجهين، ثم قال: الصواب
(1) تقدم في حديث الباب.
(2)
مسلم 3/ 1310 ح 1682/ 37.
(3)
الطبراني في الكبير 1/ 160، 161 ح 514.
(4)
الطبراني في الكبير 17/ 141 ح 352.
(5)
البخاري 10/ 216 ح 5758.
(6)
أبو داود 4/ 190 ح 4572، والنسائي 8/ 21.
(7)
البخاري 10/ 216 ح 5759، ومسلم 3/ 1309 ح 1681/ 34.
(8)
أبو داود 4/ 190، 191 ح 4574.
(9)
مسلم 3/ 1309 ح 1681/ 35.
(10)
كذا في شرح النووي 11/ 175، وفي مشارق الأنوار 2/ 131: وأكثر المحدثين يروونه على الإضافة، والأول الصواب.
(11)
ينظر شرح النووي 11/ 175.
رواية التنوين. ويؤيده ما في "صحيح البخاري"(1): قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة عبد أو أمة. و "أو" هنا للتقسيم لا للشك، قال الباجي (2): يحتمل أن يكون للشك، وأن المرفوع من الحديث (ألفظ: بغرة. وأ) لفظ: عبد أو أمة. شك من الراوي في المراد بها. قال الجوهري (3): كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله كما قالوا: أعتق رقبة. وأصل الغرة بياض في الوجه، ولهذا قال أبو عمرو (4): المراد بالغرة الأبيض منها خاصة. قال: ولا يجزئ الأسود. وقال: ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى زائدًا على شخص العبد والأمة لما نكَّرها، واقتصر على لفظ: عبد أو أمة. وهو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء أنه لا يتعين الأبيض، ويجزئ الأسود، وإنما المعتبر أن يكون قيمتها عشر دية الأم، أو نصف عشر دية الأب.
قال أهل اللغة (5): الغرة عند العرب أنفس الشيء، وأطلقت هنا على الإنسان؛ لأن الله تعالى خلقه في أحسن تقويم. وقال داود: إنه يحزئ ما يطلق عليه اسم الغرة كالفرس. وقد وقع في حديث أبي هريرد: عبد أو أمة أو فرس أو بغل (6). وكذا وقع عند عبد الرزاق (7) في رواية ابن طاوس عن أبيه
(أ - أ) سقط من: جـ.
_________
(1)
البخاري 12/ 247 ح 6905.
(2)
المنتقى 7/ 80.
(3)
الصحاح 2/ 768 (غ ر ر).
(4)
ينظر شرح مسلم 11/ 175.
(5)
تهذيب اللغة 16/ 69، وشرح النووي 11/ 176.
(6)
أخرجه أبو داود 4/ 192 ح 4579.
(7)
عبد الرزاق 10/ 57 ح 18339.
مرسلًا بلفظ: غرة عبد أو أمة أو فرس. وأشار البيهقي (1) إلى أن ذكر الفرس في المرفوع وهم، وأن ذلك أدرج من بعض رواته على سبيل التفسير للغرة، وذكر أنه في رواية حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاوس بلفظ: فقضى أن في الجنين غرة. قال طاوس: الفرس غرة. وكذا أخرجه الإسماعيلي (2) عن عروة بن الزبير، وكأنهما رأيا المعنى المشهور للغرة إنما هو في الفرس، وقد استعمل للآدمي كما في حديث الوضوء (3)، وقد تطلق على الشيء النفيس؛ آدميًّا كان أو غيره، ذكرا أم أنثى.
وعلى قول الجمهور أقل ما يجزئ من العبد والأمة، أن يكون سليما من العيوب؛ لأن الغرة الخيار، وزاد الشافعي اشتراط ألا ينقص عن سبع سنين، لأن من كان دون ذلك لا يستقل بنفسه. قال بعضهم: لا يؤخذ ما زاد على خمس عشرة سنة في الذكر، و [في](أ) الأنثى ما زاد على عشرين. والأظهر أنه يجزئ وإن جاوز الستين، ما لم يضعفا ويخرجا عن الاستقلال؛ لأن ذلك يجرى مجرى العيب.
والحديث فيه دلالة على أن الجنين إذا مات بسبب الجناية وجب فيه الغرة، وظاهره الإطلاق، سواء انفصل عن أمه وخرج ميتًا، أو مات في بطنها، ولابد أن يعلم كونه جنينًا، بأن يخرج منه يد أو رجل، وإلا فالأصل براءة الذمة وسقوط الدية، وإن كان الإمام المهدي صرح
(أ) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
البيهقي 8/ 115.
(2)
الإسماعيلي -كما في الفتح 12/ 249.
(3)
البخاري 1/ 234 ح 135، ومسلم 1/ 216 - 218 ح 246 - 248.
في "الأزهار"(1) على أصل الهدوية بأنه لا شيء فيمن مات بقتل أمه إن لم ينفصل، فهو مبني على أنه لم يتحقق ثبوت الجنين، وأما إذا تحقق ثبوته، وهو بخروج شيء منه، فالغرة لازمة فيه.
وظاهر ألفاظ الحديث أنه لا بد أن يكون قد تخلق وجرى فيه الروح ليتصف بأنه قتلته الجناية، والشافعية فسروه بما ظهر فيه صورة الآدمي؛ من يد أو أصبع أو غيرهما، وإن لم تظهر فيه الصورة، وشهد أهل الخبرة بأن ذلك أصل الآدمي، فحكمه كذلك إذا كانت تلك الصورة صورة خفية، وكذا إذا لم توجد فيه صورة خفية ولكنه أصل آدمى على ما هو غير الأظهر عندهم، والأظهر أنها لا تجب، وإن شك أهل الخبرة أنه أصل آدمي، لم يجب فيه شيء اتفاقا. والحديث ورد في جنين حرة، وأما جنين الأمة فلعله يخصص بالقياس على ديتها، وكما أن الواجب قيمتها في ضمانها، فيكون (أ) في جنينها الأرش، منسوب إلى القيمة، وقياسه على جنين الحرة، فإن اللازم فيه نصف عشر الدية، فيكون اللازم نصف عشر القيمة، وتأتي في أهل الذمة على الخلاف في الدية، وتجب الغرة عند الهدوية بعينها مقومة بخمسمائة، وعند الصادق والباقر الواجب عشر الدية، وقد روي ذلك عن علي.
قال الإمام المهدي: في الجمع بين العين والقيمة [جمع](ب) بين الأدلة
(أ) بعده في جـ: الواجب.
(ب) في الأصل: جمعا.
_________
(1)
السيل الجرار 4/ 427.
فوجب، ومهما أمكن العبد أو الأمة لم يلزم الولي قبول غيرهما؛ إذ هما الواجب كوجوب أجناس الدية، فلم يلزم قبول غيرهما، فإن تعذرا فوجهان؛ ذهب الإمام يحيى إلى أنه ينتقل إلى خمس من الإبل، إذ هي الأصل في الديات، وإذ روي عن عمر وعن زيد بن ثابت ولم يخالفا. وقيل: يعدل إلى القيمة كما إذا [أتلف عبدًا](أ)، والغرة لازمة لأجل الولد لا لأجل الأم، فلو احترجت الأم بالولادة لزم لها أرش الجراحة، وإن كان مجردا [لم تجب](ب) فيه حكومة. ويدل الحديث على أن اللازم في المرأة المذكورة هو الدية، ولا يجب القصاص، وهذا مما يستدل به من أثبت شبه العمد، أو أن ذلك [بحجر](جـ) أو عمود صغير لا يقصد به القتل بحسب الأغلب، فتجب فيه الدية على العاقلة ولا قصاص (د)، وبهذا التوجيه لا يتم احتجاج الحنفية بأنه لا يجب القصاص في القتل بالمثقل.
وقوله: وقضى بدية المرأة على عاقلتها. والمراد بالعاقلة هم العصبة، وقد جاء مفسرا بأنهم من عدا [الولد] (هـ) وذوي الأرحام؛ كما في حديث أسامة بن عمير عند البيهقي (1) فقال أبوها: إنما يعقلها بنوها. فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"الدية على العصبة، وفي الجنين غرة". وبهذا
(أ) في الأصل: تلف عبد.
(ب) في الأصل، جـ: وجب.
(جـ) في جـ: لحجر صغير.
(د) بعده في جـ: فيه.
(هـ) في الأصل: الوالد.
_________
(1)
البيهقي 8/ 108.
بوب البخاري (1): باب جنين المرأة، وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد.
وقوله: وورثها ولدها ومن معهم. يعني: أن المرأة التي قضى عليها النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة توفيت؛ فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها (أ) وزوجها، وأن العقل على عصبتها. وهذا لفظ مسلم [في] (ب) رواية. فعلى هذا فقوله: فورثها. الضمير يعود إلى القاتلة - ولدها ومن مع الولد، وهو الزوج، (جـ إلا أن النووي جـ) قال: إن الميتة هي المجني عليها. وتأول قوله: قضى عليها بالغرة. أي قضى لها، والضمير في قوله: والعقل على عصبتها. أي القاتلة، وفيه تعسف، والملجئ له التصريح في الروايات أنها ماتت المجني عليها، ولكن لا مانع أن تموت الجانية أيضًا عقيب الجناية، والله أعلم.
وفيه دلالة على أن الولد ليس (د) من العصبة، قال الشافعي (2): ولم أعلم مخالفا في أن العاقلة العصبة، وهم القرابة من قِبل الأب.
وقوله: فقال حَمَل بن النابغة. بفتح الحاء المهملة والميم، وهو ابن مالك بن النابغة، منسوب إلى جده في الحديث، وحمل هو زوج المرأة القاتلة وهو
(أ) في الأصل بدون نقط، وفي جـ: لبنتها.
(ب) في الأصل: وفي.
(جـ - جـ) في جـ: لأن الثوري. وينظر شرح مسلم 11/ 177.
(د) ساقط من: جـ.
_________
(1)
الفتح 12/ 252.
(2)
الأم 6/ 115.
من عصبتها، وجاء في رواية: أن القائل (أ) أبوها، وأنه قال: يعقلها بنوها.
وفي حديث عويم عند الطبراني (1): فقال أخوها العلاء بن مسروح: يا رسول الله، أنغرم. الحديث. وعند أبي يعلى (2) من حديث جابر: فقالت عاقلة القاتلة. ويمكن الجمع بين الروايات بأن يكون كل من أبيها وأخيها وزوجها قالوا ذلك؛ لأنهم كلهم من عصبتها.
وقوله: فمثل ذلك يطل. روي بالياء المضمومة على صيغة المضارع [المجهول](ب)، وتشديد اللام، ومعناه: يهدر ويلغى ولا يضمن. وروي بالباء الموحدة وتخفيف اللام على أنه فعل ماض من البطلان، وهو بمعنى الملغى أيضًا، وكلتا الروايتين في "الصحيحين" وغيرهما، قال النووي (3): وأكثر نسخ بلادنا بالمثناة، ونقل القاضي أن جمهور الرواة في "صحيح مسلم" ضبطوه بالموحدة. قال أهل اللغة: يقال: طُلَّ دمه. بضم الطاء، وأطل، أي هدر، وأطله الحاكم وطله أي أهدرها، وجوز بعضهم: طل دمه بفتح الطاء في اللازم، وأباها الأكثرون.
وقوله: "إنما هذا من إخوان الكهان". قال العلماء: إنما ذم سجعه لوجهين:
(أ) في الأصل بدون نقط، وفي جـ: القاتل.
(ب) ساقطة من: الأصل.
_________
(1)
تقدم ص 392 حاشية 3.
(2)
أبو يعلى 3/ 355 ح 1823.
(3)
شرح مسلم 11/ 178.
أحدهما: أنه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله. والثاني: أنه تكلفه في مخاطبته.
وهذان الوجهان من السجع مذمومان، وأما السجع الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات، وهو مشهور في الحديث فليس من هذا؛ لأنه لا يعارض [حكم الشرع](ب)، ولا يتكلفه، فلا نهي فيه، بل هو حسن. ويؤيده ما في بعض رواياته (1):"أسجع كسجع الأعراب؟ ". فأشار إلى أن بعض السجع هو المذموم لا كله، والله أعلم.
وحديث أبي داود (2) في سؤال عمر رضي الله عنه أخرجه أيضًا البخاري (3) من حديث المغيرة: أن عمر سأل عن إملاص المرأة، وهي التي يضرب بطها فتلقي جنينها، فقال: أيكم سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئًا؟ فقال المغيرة: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة، عبد أو أمة. فقال عمر: من شهد معك؟ فقام محمد بن مسلمة فشهد بذلك. وتفسير الإملاص في هذه الرواية أخص من قول أهل اللغة: إن الإملاص أن تزلقه المرأة قبل الولادة. هكذا نقله أبو داود في "السنن"(4) عن أبي عبيد، وهو كذلك في "الغريب" (5) له. وقال الخليل (6): أملصت المرأة والناقة: إذا رمت ولدها.
(أ) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
مسلم 3/ 1310 ح 1682/ 37، 38 من حديث المغيرة.
(2)
أبو داود 4/ 190 ح 4570.
(3)
البخاري 12/ 247 ح 6905، 6906.
(4)
أبو داود 4/ 190 عقب ح 4570.
(5)
غريب الحديث 3/ 377.
(6)
العين 7/ 131.
وقال ابن القطاع (1): أملصت الحامل ألقت ولدها. ووقع في بعض الروايات: ملاص. بغير ألف؛ كأنه اسم للمصدر المنسوب إلى الولد؛ يقال: ملاص الولد. أو اسم لتلك الولادة كالخداج. وقال هشام (1): الملاص الولد. ولعله بتقدير مضاف؛ أي خروج الولد. وقال صاحب "البارع"(1): الإملاص الإسقاط؛ وإذا قبضت على شيء فسقط من يدك، تقول: أملص من يدي إملاصا وملص ملصا.
971 -
وعن أنس رضي الله عنه أن الرُّبيِّعَ بنت النضر عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليهم العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا القصاص، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا، والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا أنس، كتاب الله القصاص". فرضي القوم، فعفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره". متفق عليه (2) واللفظ للبخاري.
الرُّبيع: بضم الراء والباء الموحدة المفتوحة وبعدها ياء مشددة مكسورة أخت أنس بن النضر، عمة أنس بن مالك، وفي "سنن البيهقي" (3): الربيع بنت معوذ. قال المصنف رحمه الله تعالى (4): وهو غلط، والمحفوظ أنها بنت النضر.
(1) الفتح 12/ 250.
(2)
البخاري، كتاب الصلح، باب الصلح في الدية 5/ 306 ح 2703، ومسلم، كتاب القسامة، باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها 3/ 1302 ح 1675.
(3)
البيهقي 8/ 39.
(4)
الفتح 12/ 215.
وقوله: كسرت ثنية جارية. في البخاري في كتاب [الديات](أ): لطمت جارية فكسرت ثنيتها. وفي رواية الفزاري (1): جارية من الأنصار. وفي رواية معتمر (2): امرأة بدل جارية. وهو [يبين](ب) أن المراد بالجارية المرأة الشابة، لا المرأة الرقيقة. ووقع في البخاري (3) في كتاب [الديات] (أ) أيضًا بلفظ: وجرحت [أخت](جـ) الربيع إنسانا (د). قال أبو ذر (4): كذا وقع، والصواب الربيع بنت النضر. وكذا قال الكرماني (5)، ثم قال: إلا أن يقال: هذه امرأة أخرى، لكن لم ينقل عن أحد. كذا قال. وقد ذكر جماعة أنهما [قصتان](هـ)، وكذا وقع في مسلم (6) أن أخت الربيع أم حارثة، وأنها قالت أم الربيع: يا رسول الله، أيقتص من فلانة؟ الحديث. وجزم ابن حزم (7) بأنهما [قصتان](و) صحيحتان وقعتا لامرأة واحدة؛ إحداهما أنها جرحت إنسانا
(أ) في الأصل، جـ: الجنايات. والمثبت من الفتح 12/ 187.
(ب) في الأصل كتب مكان هذه الكلمة رمز م، وفي جـ: تبين.
(جـ) في الأصل: بنت.
(د) في جـ: أسنانا.
(هـ) في الأصل: قضيتان.
(و) في الأصل، والمحلى: قضيتان.
_________
(1)
البخاري 8/ 274 ح 4611.
(2)
أبو داود 4/ 196 ح 4595 من طريق معتمر.
(3)
البخاري 12/ 214 معلقا عقب ح 6885.
(4)
الفتح 12/ 214.
(5)
الفتح 12/ 215.
(6)
تقدم تخريجه في حديث الباب.
(7)
المحلى 12/ 120.
فقضى عليها بالضمان، والأخرى أنها كسرت ثنية جارية فقضى عليها بالقصاص، وحلفت أمها في الأولى، وأخوها في الثانية. وقال البيهقي (1) بعد أن أورد الروايتين: ظاهر الخبر يدل على أنهما [قصتان](أ). قال المصنف رحمه الله (2): في [القصتين](ب) مغايرات؛ منها: هل الجانية الربيع أو أختها؟ وهل الجناية كسر الثنية أو الجراحة؟ وهل الحالف أم الربيع أو أخوها أنس؟
وقوله: فطلبوا. أي أهل الجانية، إليهم، أي أهل المجني عليها، [العفو](جـ) فأبوا، أي أهل المجني عليها - العفو بغير أرش، فعرضوا الأرش، فأبوا. زاد البخاري في باب الصلح لفظ: إلا القصاص (3).
وقوله: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص. فيه دلالة على الاقتصاص في العظم، فأما السن بكمالها ففي ذلك نص قوله تعالى:{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (4). وإن كان ذلك [حكاية](د) عن المكتوب في التوراة، فشرع من قبلنا يلزمنا إذا ورد على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم من غير إنكار له، كما هو المختار. وقد قام الإجماع على قلع السن بالسن في العمد، وأما الكسر فهذا الحديث
(أ) في الأصل، جـ:"قضيتان".
(ب) في الأصل: القضيتين.
(جـ) ساقطة من: الأصل، جـ، والمثبت من لفظ الحديث.
(د) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
البيهقي 8/ 39.
(2)
الفتح 12/ 215.
(3)
هذه اللفظة أخرجها البخاري في كتاب التفسير 8/ 177 ح 4500.
(4)
الآية 45 من سورة المائدة.
دليل عليه إذا عرفت المماثلة، وأمكن ذلك من دون سراية إلى غير الواجب، قال أبو داود (1): قلت لأحمد: كيف في السن؟ قال: تبرد. أي يبرد من سن الجاني بقدر ما كسر من سن المجني عليه. وقال بعضهم: الحديث محمول على القلع، وأنه أراد (أ) بقوله: كسرت. قلعت، وهو بعيد.
وقد قام الإجماع أنه لا قصاص في العظم الذي يخاف منه ذهاب النفس، [أو](ب) لم تتأت فيه المماثلة بألا يوقف على قدر الذاهب، وقال الشافعي والليث والحنفية: لا قصاص في العظم غير السن، لأن دون العظم حائل من جلد ولحم وعصب، [يتعذر](جـ) معه المماثلة، فلو أمكنت لحكمنا بالقصاص، ولكن لا يصل إلى العظم حتى ينال ما دونه مما لا يعرف قدره.
وقال الطحاوي (2): اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس، فيلحق به سائر العظام. وتعقب بأنه قياس مخالف للنص، فإن في هذا الحديث كسر الثنية، وأمر بالقصاص.
وقوله: أتكسر ثنية الربيع. قد يؤول هذا الإنكار بأنه لم يرد به الرد للحكم والمعارضة، وإنما أراد به أن يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم طلب الشفاعة منهم، وأكد طلبه من النبي صلى الله عليه وسلم بالقسم. وقيل: إن ذلك قبل أن يعلم أن القصاص
(أ) زاد في الأصل، جـ: به. والصواب حذفها.
(ب) في الأصل: إذ.
(جـ) في الأصل: متعدر. دون نقط.
_________
(1)
أبو داود 4/ 196 عقب ح 4595.
(2)
مختصر اختلاف العلماء 5/ 113.
حتم، وأنه مخير بينه وبين الدية أو العفو. وقيل: إنه لم يرد الإنكار، وإنما قاله توقعًا ورجاء من فضل الله أن يلهم الخصوم الرضا؛ حتى يعفوا أو يقبلوا الأرش، وقد وقع الأمر على ما أراد، فألهمهم العفو. وفي الحلف دلالة على أنه يجوز الحلف فيما يظن وقوعه.
وقوله (أ): "كتاب الله القصاص". المشهور الرفع على أنه مبتدأ وخبر، ويجوز النصب على المصدر والفعل محذوف أي كتب كتاب الله، والقصاص مفعول به لكتاب أو للفعل المقدر أو على الإغراء، والقصاص بدل من كتاب، أو منصوب بفعل محذوف، أو القصاص مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والمعنى في ذلك: حكم كتاب الله القصاص، فهو على تقدير حذف مضاف، وقيل: المراد بالكتاب الحكم. أي: حكم الله القصاص. وقيل: أشار إلى قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (1). وقيل: إلى قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (2). وقيل: إلى قوله: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (1).
وقوله: "إن من عباد الله" إلخ. هذا تعجب منه صلى الله عليه وسلم بوقوع مثل هذه؛ من حلف أنس على نفي فعل الغير مع إصرار الغير على إيقاع ذلك الفعل، وكأن قضية (ب) ذلك أن العادة أن يحنث في يمينه، فألهم الله الغير العفو، فبرَّ
(أ) ساقط من: جـ.
(ب) في جـ: قصته.
_________
(1)
الآية 45 من سورة المائدة.
(2)
الآية 126 من سورة النحل.
قسم أنس، وأن هذا الاتفاق وقع إكراما من الله لأنس ليبرَّ يمينه، وأنه من جملة عباد الله الذين يجيب دعاءهم، ويعطيهم مآربهم (أ).
وفيه جواز الثناء على من وقع له ذلك عند أمن الفتنة عليه، والله أعلم.
972 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل في عِمِّيَّا أو رِمِّيَّا، بحجر، أو سوط، أو عصا، فعقله عقل الخطأ، ومن قتل عمدا فهو قود، ومن حال دونه فعليه لعنة الله". أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد قوي (1).
الحديث أخرجهُ (ب).
قوله: "عِمِّيَّا" بكسر العين المهملة وتشديد اليم والقصر فِعِّيلَى من العمى، كالرِّمِّيَّا من الرَّمْي، والخِصِّيصى مِن [التَّخْصِيص](جـ)، وهي مصادر، والمراد أن يوجد بينهم قتيل فيعمى أمره، ولا يتبين قاتله، وقد استعمل العمياء في معنى غير جهالة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"ينزو الشيطان بين الناس فيكون دمًا في عمياء في غير ضغينة"(2). أي: في غير جهالة، من غير حقد وعداوة.
(أ) في جـ: إربهم.
(ب) بعده بياض في الأصل، جـ بمقدار سطر وربع.
(جـ) في الأصل، جـ: التخصاص. والمثبت من النهاية 3/ 305.
_________
(1)
أبو داود، كتاب الديات، باب فيمن قتل في عميا بين قوم 4/ 195 ح 4591، والنسائي، كتاب القسامة، باب من قتل بحجر أو سوط 8/ 39، وابن ماجه، كتاب الديات، باب من حال بين ولي المقتول وبين القود أو الدية 2/ 880 ح 2635.
(2)
أحمد 2/ 183، وأبو داود 4/ 188، 189 ح 4565.
الحديث فيه دلالة على أن من لم يعرف قاتله، أنه يجب فيه الدية، وتكون على العاقلة، وظاهره من دون أيمان القسامة، وهو قريب من مذهب الناصر، إلا أن الناصر يقول: الدية تكون في بيت المال. واحتج بما روي عن عمر (1) رضي الله عنه، أنه قتل رجل في الطواف، ولم يعرف قاتله، فاستشار عمر الصحابة، وكان فيهم علي رضي الله عنه، فأشار بأن ديته تكون في بيت المال. إلا أنه يحتمل أن يكون ذلك لكونهم غير محصورين، وروي مسدد في "مسنده"(2) من طريق يزيد بن مذكور أن رجلًا زحم يوم الجمعة فمات، فوداه علي من بيت المال. قال ابن بطال (3): قد اختلف في ذلك على عمر وعلي (4): هل تجب ديته في بيت المال [أو لا؟ وبه](أ) قال إسحاق. أي قال بالوجوب؛ وتوجيهه من حيث المعنى؛ أنه مسلم مات بفعل قوم من المسلمين، فوجبت ديته في بيت مال السلمين، ويحتج له بما ورد في قصة اليمان والد حذيفة أنه قتله بعض المسلمين، وهو يظن أنه من المشركين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم (5). ورجاله ثقات.
(أ) ساقطة من: الأصل.
_________
(1)
عبد الرزاق 10/ 51 ح 18317، وابن أبي شيبة 9/ 395.
(2)
مسدد -كما في المطالب 5/ 180 ح 2085.
(3)
شرح صحيح البخاري له 8/ 518.
(4)
في الفتح 12/ 218: قال ابن بطال: اختلف على وعمر. وفي شرح ابن بطال: اختلف العلماء فيمن مات في الزحام ولا يدري من قتله فقالت طائفة: ديته في بيت المال، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. شرح صحيح البخاري 8/ 518.
(5)
عبد الرزاق 3/ 175 ح 18724.
وذهب الحسن البصري إلى أن ديته تجب على جميع من حضر؛ وذلك لأنه مات بفعلهم، فلا يتعداهم إلى غيرهم، وقد يحتج له بما وقع في لفظ البخاري (1) أنه قال حذيفة: غفر الله لكم. يعني: أن ضمانه قد لزم الحاضرين بقوله: غفر الله لكم. في معنى: عفوت عنكم. والعفو إنما هو عن شيء قد استحق. ولا حجة في ذلك. وقول للشافعي أنه يقال لوليه: ادَّع على من شئت واحلف. فإن حلف استحق الدية، وإن نكل حلف المدعى عليه على النفي، وسقطت المطالبة، وتوجيهه أن الدم لا يجب إلا بالطلب، وقال مالك: إنه يهدر. وتوجيهه أنه إذا لم يعلم قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد. وذهبت الهدوية إلى أن الحاضرين الذين وقع بينهم القتل إن كانوا منحصرين لزمت القسامة، وجرى فيه حكمها من الأيمان والدية، وإن كانوا غير منحصرين كانت الدية في بيت المال، وهو أخذ من القولين الأولين بطرف من كل قول.
وقوله: "أو رميا بحجر" إلى آخره. تقدم الكلام في ذلك، وهو حجة أيضًا لمن يثبت شبه العمد.
وقوله: "ومن قتل عمدا فهو قود". يدل على أن موجب القتل العمد هو القود عينًا، وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة وأصحابه، ورواية ابن القاسم عن مالك وزيد بن علي والداعي والطبري وأحد قولي الشافعي ورواية عن أحمد، واحتجوا بما تقدم من حديث الربيع (2) حيث قال: "كتاب الله
(1) البخاري 12/ 211 ح 6883.
(2)
تقدم ح 971.
القصاص". وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (1). قالوا: فالواجب هو القصاص، وأما الدية فإنها لا تجب إلا إذا رضي الجاني، ولا يجبر الجاني على تسليم الدية، وذهب الهدوية والناصر وقول للشافعي ولأحمد ولمالك، وهو مذهب أبي ثور وداود وأكثر فقهاء المدينة من أصحاب مالك وغيرهم، ورواية أشهب عن مالك إلى أن موجب القتل أحد الأمرين؛ إما القصاص، وإما الدية، قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ إما أن يقيد، وإما أن يدي" (2). وقوله تعالى:{وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (1). قال الأولون: معنى: "بخير النظرين": أن ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية. ويجاب بأن التقييد خلاف الظاهر، ويجاب عنه بأنه أوجب المصير إليه الجمع بينه وبين المعارض له.
وقال في "الهدي"(3): في المسألة ثلاثة أقوال، وهي روايات عن الإمام أحمد:
أحدها: أن الواجب أحد شيئين؛ إما القصاص، أو الدية، والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء: العفو مجانًا، والعفو إلى الدية، والقصاص، ولا خلاف بين تخييره بين هذه الثلاثة، والرابعة: المصالحة إلى أكثر من الدية. فيه وجهان؛ أشهرهما مذهبا جوازه. والثاني: ليس له العفو على مال إلا الدية أو دونها. وهذا أرجح دليلًا، فإن اختار الدية سقط القود، ولم يملك طلبه بعد، وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك.
(1) الآية 178 من سورة البقرة.
(2)
سيأتي ح 976.
(3)
زاد المعاد 3/ 454.
والقول الثاني: أن موجبه القود عينًا، وأنه ليس له أن يعفو إلى الدية إلا برضا الجاني، فإن عفا إلى الدية ولم يرض الجاني فقوده بحاله، وهذا مذهب مالك في الرواية الأخرى وأبي حنيفة.
والقول الثالث: أن موجبه القود عينًا مع التخيير بينه وبين الدية، وإن لم يرض الجاني، فإذا عفا عن القصاص إلى الدية فرضي الجاني فلا إشكال، وإن لم يرض فله العود إلى القصاص، فإن عفا عن القود مطلقًا؛ فإن قلنا: الواجب أحد شيئين. فله الدية، وإن قلنا: الواجب القصاص عينًا. سقط حقه منها، فإن قيل: فما تقولون لو مات القاتل؟ قيل: في ذلك قولان؛ أحدهما: تسقط الدية. وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأن الواجب عندهم القصاص عينًا، وقد زال محل استيفائه بفعل الله تعالى، فأشبه ما لو مات العبد الجاني، فإن أرش الجناية لا ينتقل إلى ذمة السيد (أ)، وهذا بخلاف تلف الرهن و [موت](ب) الضامن؛ حيث لا يتلف الحق لثبوته في ذمةِ الراهن والمضمون عنه، فلم يسقط بتلف الوثيقة.
وقال الشافعي وأحمد: تتعين الدية في تركته؛ لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط، فوجا الدية لئلا يذهب حق الورثة من الدم والدية مجانًا، ولو اختار القصاص، ثم رجع إلى الدية والعفو عنه، ففيه وجهان؛ أحدهما: له ذلك؛ لأنه انتقال من أعلى إلى أدنى. وثانيهما: ليس له ذلك؛ لأنه لما اختار القصاص أسقط حقه من الدية، فليس له الرجوع إليها. وهذا الحديث -يعني:"فهو بخير النظرين"- لا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم:
(أ) في جـ: العبد.
(ب) في الأصل: ثبوت.
"من قتل عمدًا فهو قود". لأن هذا يدل على ثبوت القود بالقتل العمد، وذلك يدل على أن الخيرة له بين استيفائه هذا الواجب، وبين بدله، وهو الدية فلا تعارض. انتهى.
973 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك". رواه الدارقطني موصولًا ومرسلًا، صححه ابن القطان، ورجاله ثقات، إلا أن البيهقي [رجح المرسل](1)(أ).
الحديث من رواية سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا، قال البيهقي (2) رحمه الله: هذا غير محفوظ. وقد قيل: عن إسماعيل عن سعيد بن المسيب مرفوعًا. والصواب عن سفيان عن إسماعيل بن أمية، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل أمسك رجلًا وقتله الآخر، قال:"يقتل القاتل ويحبس الممسك". وعن سفيان عن جابر عن عامر عن علي رضي الله عنه أنه قضى بذلك. وكذلك رواه ابن المبارك عن معمر عن إسماعيل بن أمية، يرفعه قال:"اقتلوا القاتل واصبروا الصابر". يعني: احبسوا الذي حبسه.
الحديث فيه دلالة على أنه لا قتل على الممسك، والقود يلزم القاتل،
(أ) في جـ: صحح الإرسال. وأشار في الأصل فوق كلمة الإرسال أنه في نسخة: إرساله.
_________
(1)
الدارقطني، كتاب الحدود والديات وغيره 3/ 140 ح 175 - 177، والبيهقي، كتاب الجنايات، باب الرجل يحبس الرجل للآخر فيقتله 8/ 50، 51.
(2)
البيهقي 8/ 50.
ويلزم الممسك الحبس، وقد ذهب إلى هذا العترة والحنفية والشافعية، ولقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى} (1). وذهب مالك والنخعي وابن أبي ليلى إلى أنهما يقتلان جميعًا؛ إذ هما مشتركان في قتله، لأنه لولا الإمساك لما انقتل. وأجيب بأن النص منع الإلحاق، وأيضًا فإن حكم ذلك حكم الحافر للبئر والمردي إليها، فإن الضماق على المردي دون الحافر اتفاقًا، وذهب ربيعة إلى أنه يحبس الممسك حتى يموت. ومثله ذكر الأمير الحسين في "الشفا"، قال: لفعل علي رضي الله عنه. وظاهر هذا الخلاف أن ذلك واجب في ضمانه، وأجيب عنه بأن فعل علي رضي الله عنه إنما فعله للتأديب والتعزير، فعرض موته في أثناء الحال، وليس حبسه مقصودًا إلى أن يموت. والجمهور يحملون الحديث في حبس الصابر أنه يحبس تأديبًا، وهو موكول إلى نظر الإمام من غير تحديد، وهو خلاف ظاهر الحديث؛ فإن قوله:"يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك". من غير بيان، يَقْضي بما ذكره ربيعة، والتقييد زيادة بغير دليل. والله أعلم.
974 -
وعن عبد الرحمن بن البيلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلمًا بمعاهد، وقال:"أنا أولى من وفى بذمته". أخرجه عبد الرزاق هكذا مرسلًا، ووصله الدارقطني بذكر ابن عمر فيه، وإسناد الوصول واه (2).
تقدم الكلام في الحديث قريبًا (3).
(1) الآية 194 من سورة البقرة.
(2)
عبد الرزاق، باب قود المسلم بالذمي 10/ 101 ح 18514، مرسلًا، والدارقطني، كتاب الحدود والديات وغيره 3/ 134، 135 ح 165.
(3)
ينظر ما تقدم ص 374 - 381.
975 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قتل غلام غيلة؛ فقال عمر رضي الله عنه: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به. أخرجه البخاري (1).
الأثر أخرجه البخاري بأصح إسناد، ولم يصرح فيه بعدد القاتلين، وقد أخرجه ابن أبي شيبة (2) من وجه آخر (أ) أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء برجل. إلخ. و [أخرجه](ب)"الموطأ"(3) بسند آخر عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب، أن عمر رضي الله عنه قتل خمسة أو ستة برجل قتلوه غيلة، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعًا. وتمالأ بهمزة بعد اللام، أي توافق. وأخرجه قاسم بن أصبغ والطحاوي والبيهقي (4) عن ابن وهب، قال: حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حكيم الصنعاني حدثه عن أبيه، أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها، وترك في حجرها ابنًا له من غيرها غلامًا، يقال له: أصيل. فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلًا، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله. فأبى، فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر، والمرأة وخادمها، فقتلوه، ثم قطعوه
(أ) زاد في جـ: عن نافع.
(ب) في الأصل: أخرج.
_________
(1)
البخاري، كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل
…
12/ 227 ح 6896.
(2)
ابن أبي شيبة 9/ 347، 348.
(3)
الموطأ 2/ 871 ح 13.
(4)
قاسم بن أصبغ -كما في تغليق التعليق 5/ 251 - والطحاوي -كما في الفتح 12/ 228 - والبيهقي 8/ 41.
أعضاء، وجعلوه في عيبة -بفتح المهملة وسكون التحتانية ثم موحدة مفتوحة، وهي وعاء من أدم- وطرحوه في ركية -بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتانية، وهي البئر التي لم تطو- في ناحية القرية، ليس فيها ماء. [فذكر] (أ) القصة وفيه: فأخذ خليلها فاعترف، ثم اعترف الباقون فكتب يعلى -وهو يومئذ أمير- بشأنهم إلى عمر رضي الله عنه، فكتب عمر، فقتلهم جميعًا، وقال: والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين. وأخرجه أبو الشيخ في كتاب "الترهيب"(1) من وجه آخر.
وفي "فوائد أبي الحسن بن رَزْقويه"(2) بسند جيد إلى أبي المهاجر عبد الله بن عميرة من بني قيس بن ثعلبة قال: كان رجل يسابق الناس كل سنة بأيام، فلما قدم وجد مع وليدته سبعة رجال يشربون، فأخذوه فقتلوه. فذكر القصة في اعترافهم وكتاب الأمير إلى عمر وفي جوابه: أن اضرب أعناقهم، واقتلها معهم، فلو أن أهل صنعاء اشتركوا في دمه لقتلتهم. وهذه القصة غير الأولى، وسنده جيد.
وقوله: غِيلة. بكسر الغين المعجمة؛ أي سرًّا. والأثر فيه دلالة على أنه تقتل الجماعة بالواحد، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من فقهاء الأمصار، وهو مروي عن علي وعمر وابن عباس وابن عمر (3) وغيرهم، ويحتج لذلك بما
(أ) في جـ: يذكر. وغير منقوطة في: الأصل، والمثبت من الفتح.
_________
(1)
أبو الشيخ -كما في تغليق التعليق 5/ 251، والفتح 12/ 228.
(2)
الفتح 12/ 228 وفيه: الحسن بن زنجويه. وينظر السير 17/ 258، والتلخيص الحبير 2/ 24.
(3)
مصنف عبد الرزاق 9/ 475 - 479 ح 18069 - 18071، 18073 - 18079، 18082، ومصنف ابن أبي شيبة 9/ 347، 348.
روي عن عمر من الأثر المذكور، وما أخرجه البخاري (1) عن علي رضي الله عنه في رجلين شهدا على رجل بالسرقة، فقطعه علي رضي الله عنه، ثم أتياه بآخَر، فقالا: هذا الذي سرق، وأخطأنا على الأول. فلم يجز شهادتهما على الآخَر، وأغرمهما دية الأول، وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما. ولا فرق بين القصاص في الأطراف والنفس. وذهب الناصر والباقر والصادق وابن سيرين والإمامية، وروي في "البحر" ورواية عن مالك إلى أنه يختار الورثة واحدًا من الجماعة، ورواية عن مالك: يقرع بينهم؛ فمن خرجت عليه القرعة قتل، ويلزم الباقون الحصة من الدية. قالوا: لأن الكفاية معتبرة، ولا تقتل الجماعة بالواحد كما أن الحر لا يقتل بالعبد.
وأجاب في "البحر" عليهم، بأنهم لم يقتلوا لصفة زائدة في المقتول، بل لكون كل منهم قاتلا.
وذهب ربيعة وداود، وهو قول ابن الزبير والزهري، وروي عن جابر، إلى أنه لا قصاص على الجماعة، بل الدية رعاية للمماثلة، ولا وجه لتخصيص أحدهم.
وأجاب في "البحر" بأن هذا القول مخالف للإجماع، والأولى الجواب بأن حكم عمر في عصر الصحابة، ولا مخالف له، فصار إجماعًا.
وقال في "نهاية المجتهد"(2): عمدة من قتل بالواحد الجماعة النظر إلى
(1) البخاري 12/ 226 معلقًا.
(2)
الهداية في تخريج أحاديث البداية 8/ 429.
المصلحة، فإنه مفهوم أن القتل إنما شرع [ليقي] (أ) القتل كما نبه عليه الكتاب العزيز في قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} (1). وإذا كان ذلك كذلك، فلو لم يقتل الجماعة بواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن يتعمدوا بالجماعة، لكن للمعترض أن يقول: إن هذا إنما كان يلزم لو لم يقتل من الجماعة، فأما إن قتل منهم واحد، وهو الذي يظن إتلافه غالبا على الظن، فليس يلزم أن يبطل الحد، حتى يكون سببًا للتسلط على إذهاب النفوس، وعمدة من قتل الواحد بالواحد قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} . وأما قطع الجماعة بالواحد وكذا سائر الجروح، فذهب إليه الجمهور، وقال به مالك والشافعي، وقد تقدم الرواية عن علي رضي الله عنه، وقالت الحنفية: ذلك خاص بالنفس.
976 -
وعن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن قتل له قتيل بعد مقالتي هذه، فأهله بين خيرتين؛ إما أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا". أخرجه أبو داود والنسائي (2)، وأصله في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة بمعناه (3).
(أ) غير منقوطة في الأصل، وفي بداية المجتهد: لتقي.
_________
(1)
الآية 179 من سورة البقرة.
(2)
أبو داود، كتاب الديات، باب ولي العمد يرضى بالدية 4/ 170، 171 ح 4504، والنسائي 5/ 205 مطولًا دون محل الشاهد.
(3)
البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم 1/ 205 ح 112، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها 2/ 988، 989 ح 1355.
أبو شريح اسمه خويلد بن عمرو الكعبي الخزاعي؛ وقيل: اسمه عمرو بن خويلد. وقيل: كعب بن عمرو. وقيل: هانئ بن عمرو. والأول أصح وأكثر، أسلم قبل الفتح، مات بالمدينة سنة ثمان وستين، وروى عنه نافع بن جبير وسفيان بن أبي العوجاء وعطاء بن يزيد الليثي، وهو مشهور بكنيته، عداده في أهل الحجاز، وشريح بضم الشين المعجمة والحاء المهملة (1).
الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في اليوم الثاني لما قتلت خزاعة رجلا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية، اسم القاتل خراش بن أمية واسم المقتول ابن الأثوع بالثاء المثلثة والعين المهملة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء كلامه:"ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقله". ثم قال: "فمن قتل له
…
" الحديث. وقد جاء في رواية لأبي داود وابن ماجه وعلقه الترمذي من وجه آخر (2) عن أبي شريح بلفظ: "فإنه يختار إحدى ثلاث؛ إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه". أي إن أراد زيادة على القصاص أو الدية.
وقوله: "فأهله بين خيرتين". دليل على أن الخيار إلى ورثة المقتول، وقد تقدم الخلاف في ذلك.
(1) ينظر الاستيعاب 4/ 1688، وأسد الغابة 6/ 164، 165، والإصابة 7/ 204.
(2)
أبو داود 4/ 167 ح 4496، وابن ماجه 2/ 876 ح 2623، والترمذي 4/ 14، 15 عقب ح 1406.